المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

حول سياق الإنتاج: تجديد الخطاب الديني أم تغييره

الثلاثاء 20/يناير/2015 - 10:54 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. محمود عبد الله

يظل مطلب التجديد حاضرا في المشهد الحالي، نظرا لما تعانيه عملية التغيير التي يمر بها المجتمع من عثرات، كان للثقافة فيه دور أكبر وأقدر على عرقلة إمكانية إحداث تغييرات عميقة في طبيعة المجتمع، تسهم في ترقية وضعيته، ولا تكرّس لتبعيته لغيره. ولعل تجديد الخطاب الديني في مقدمة المطالب الأساسية لبناء عملية تنمية حقيقية منجزة ولها آثارها الموحية. وهي مسألة تحيط بها إشكاليات أساسية، تتعلق بعضها بطبيعة السياق التاريخي الذي يمتد منذ أمد غير بعيد، بداية من السعي لإصلاح الأزهر وتحويله من مؤسسة تقليدية، تعيد ترديد مقولات الماضي، إلى مؤسسة يخرج منها الإصلاحيون والمجددون القادرون على مواجهة معضلات الواقع المعيش بحلول مبدعة، يمكن أن تنال تقديرا وتعين في حركة التغيير المستمرة والمتدفقة. وإلى جوار ذلك تأتي إشكالية العالم الديني الأوحد، وإشكالية الاقتصاد الثقافي.

شهدت السنوات الأخيرة تراجع دور رجل الدين الرسمي، القادم من المؤسسة التقليدية الرسمية، وتفكك المرجعية إلى مرجعية عديدة.

أولا: إشكالية المنهج

إن أصالة المعالجة العلمية للدين تتطلب الوعي بمقتضيات الواقع المعاصر ومعطياته، وما طرأ من تغيرات أصابت السياق المعرفي المنتج للخطاب العلمي. ولعل أهم ما يلفت الانتباه في هذا الصدد ما طرأ على علم التفسير من نقلات منهجية تدعو الباحثين في فروع المعرفة المختلفة للاستفادة من المناهج الحديثة وتطويعها تطويعا ينقل المعرفة ويجدد دمائها. وليس المشتغلين بعلوم الدين بعيدين عن هذا التقدم الهائل الذي طال علم التفسير في الغرب، وجعله يفتح آفاقا جديدة. حيث بدأ علم التفسير على يد شلاير ماخر معتنيا بدراسة الكتاب المقدس، ومؤسسا لهذا العلم الجديد، ثم تطور به الحال حتى وصل إلى اللحظة الراهنة التي يستفاد فيها من نتائج العلوم الاجتماعية والإنسانية والسياسية، ولا يقف الأمر عند باب القراءة المنغمسة في الحواشي والتقليد و"القلقلة".

ومن الملاحظ أن مراحل النهضة المصرية والعربية قد شهدت هذا التفاعل الجاد والتداخل المعرفي المجدد، ولعلي أضرب مثلا هنا بنموذج واحد دال وهو حالة علي عبد الرازق الذي استطاع في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، أن يفيد من مفاهيم علم السياسة في زمانه، ليتناول واحدة من أكثر القضايا حساسية وتأثيرا وهي قضية الخلافة، والتأسيس الإسلامي لطريقة الحكم.

بينما تفضي اللحظة الراهنة إلى الغياب الملحوظ للعلوم الاجتماعية والإنسانية عن المجهودات المبذولة للمعنيين بالشأن الديني، وتأتي عادة المساهمات من خارج المؤسسة الدينية الرسمية، وبالتحديد من المشتغلين بمقاربات معرفية من الجامعات المدنية، كما هو الحال في إسهامات كل من حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد، وعلي مبروك، على سبيل التمثيل لا الإجمال.

ولعل هذا ليس برأي نابع فقط من ضعف ووهن المؤسسة الدينية الرسمية، واستعصاء تغييرها على مر الزمن، وتغيير خطابها المحافظ التقليدي، الذي يرجح التقليد على التجديد. بل إن المرجح لدي هو أزمة التعليم الرسمي ككل، وتراجع مستوى الخريجين منه. فجميع عناصر العملية التعليمية تحتاج منا إلى إعادة نظر، سواء اتصل الأمر بطبيعة النظام التعليمي أو المناهج التي يتم تدريسها، أو آلية التدريس، ووسائله، أو العاملين فيه وأحوالهم.        

أن عملية ضبط المجال العام الذي تنشأ فيه هذه الخطابات، وتتغذى عليه من المهام التي تتطلب جهودا مضنية من المهتمين والمنشغلين بالشأن الديني،

ثانيا: انهيار نموذج عالم الدين الأوحد

كذلك فإن مطلب المنهج ضروري لإحداث النقلة المعرفية المرادة، ذلك أن الانتقال من التمجيد والتبجيل المسبق إلى النقد والمراجعة والتدقيق، مسألة تتطلب مراجعة المنهجيات التقليدية والاعتماد على الاستفادة من منجزات ونتائج المعرفة في العلوم الاجتماعية والسياسية والطبيعة. إذ كيف يستطيع عالم دين أن يواجه إشكالية اقتصادية وهو على غير دراية بعلم الاقتصاد الحديث، وما يدور بداخله من صراعات أيديولوجية، عليه أن يتخذ منها موقفا، وكيف له أن يعالج موضوعا طبيا، وهو على غير معرفة بتطورات الموضوع وآثاره العضوية والنفسية على الفرد، كيف له أن يباشر موضوعا سياسيا، وهو على غير دراية بالعلاقات الدولية وبالمفاهيم الأساسية والنظريات الحاكمة في علم السياسة، ألسنا هنا في حاجة لمراجعة مفهوم رجل الدين الكلي، العلامة القادر على صنعة الإفتاء في كل الموضوعات وهو على غير دراية بها، وبتكوينها المعرفي.

 

ثالثا: تفكيك المرجعية

سؤال المرجعية سؤال مهم في معرض الحديث عن الخطاب الديني. حيث شهدت السنوات الأخيرة تراجع دور رجل الدين الرسمي، القادم من المؤسسة التقليدية الرسمية، وتفكك المرجعية إلى مرجعية عديدة.

 لقد ظهرت على ساحة السوق الثقافي ألوان متنوعة من الخطاب الديني، بداية من خطاب الوعاظ الجدد، الذين يحملون نبرة أبناء الشرائح الجديدة من الطبقة الوسطى التي تسعى للتوافق مع الحداثة عبر أخلاقيات تقليدية، ومثل هذا الخطاب وسيلة لتأسيس حضور الإسلام السياسي في شرائح اجتماعية جديدة.

وأمام هذا الخطاب الجديد يأتي الخطاب السلفي ليكون المعبر عن الشرائح الاجتماعية الدنيا، بلغة خطابه العامية، وموضوعاته التي تلقى رواجا بين الفلاحين وأبناء المجتمعات المنغلقة على ذاتها.

ثم يأتي وجه ثالث للخطاب، وهو الخطاب الذي تسعى لتقديمه القنوات الفضائية الخاصة في صورة الخطاب المعتدل، الذي يعتمد على مشتغلين فيه من أبناء الأزهر.

وأخيرا يتجلى في الزوايا والعشوائيات خطاب رابع، لا هو بالسلفي، ولا بالتقليدي، ولا بخطاب الوعاظ الجدد، لكنه أقرب إلى خطاب الجماعات الإسلامية، خطاب تحريضي وسياسي بامتياز.

ولعل تعدد أشكال الخطاب يجعل من عملية التجديد أو التغيير مسألة صعبة المنال، أي أن عملية ضبط المجال العام الذي تنشأ فيه هذه الخطابات، وتتغذى عليه من المهام التي تتطلب جهودا مضنية من المهتمين والمنشغلين بالشأن الديني، سواء في المجتمع العام، أو المجتمع المدني، أو في المؤسسات القومية التابعة للدولة.

مفهوم اقتصاد الثقافة مفهوم حديث ظهر مع محاولة البريطانيين تحويل الثقافة إلى سلعة قابلة للتداول والتربح

رابعا: اقتصاد الثقافة

مفهوم اقتصاد الثقافة مفهوم حديث ظهر مع محاولة البريطانيين تحويل الثقافة إلى سلعة قابلة للتداول والتربح. ولذلك ارتبط المفهوم بمفهوم الصناعات الثقافية. فهناك صناعات عديدة تعتمد على الرموز الثقافية، تختلف فيما بينها من جهة الرواج وحمولتها الرمزية، بداية من صناعة الأدب، والموسيقى، والفنون الجميلة، وفنون الأداء، وصناعة الأزياء، والحرف التقليدية، وغيرها من أشكال الصناعات والفنون.

والواقع أن هناك صعوبة بالغة في تصنيف الصناعات الثقافية، فهناك مثلا التصنيف الذي اعتمدته الحكومة البريطانية ـ حكومة حزب العمال الجديد ـ عام 1998، معتبرة إياها نتاج مجموعة من الممارسات والتطبيقات الثقافية والتكنولوجية، وتشمل على صناعات: الإعلان، والعمارة، وسوق الأنتيكات والفن(النحت، اللوحات، والخرائط)، الحرف التقليدية، والتصميم، والأزياء، والسينما، وألعاب شغل الفراغ، والموسيقى، وفنون الأداء، والنشر، والبرامج الحاسوبية، والبث الإذاعي والتليفزيوني.

بينما يوجد نموذج آخر للتصنيف، وهو نموذج الحلقات المركزية، ويشمل على التالي:

-       حلقة الفنون الإبداعية المحورية: الأدب، الموسيقى، فنون الأداء، الفنون المرئية.

-       حلقة الصناعات الثقافية المحورية الأخرى: السينما، والمتاحف، والمعارض الفنية، والمكتبات وفن التصوير.

-       حلقة صناعات ثقافية عامة: خدمات تراثية، وسائط النشر والطباعة، التسجيل الصوتي، والبث التليفزيوني والإذاعي، الفيديو وألعاب الحاسب الآلي.

-       حلقة الصناعات ذات الصلة: الإعلان، العمارة، والتصميم، والأزياء.

ومع أهمية هذه التصنيفات لكنها وليدة سياقها الثقافي، ونتاج السياسات المتبعة، ورؤية الحكومات للفنون والنتاجات الرمزية.

والواقع أن الثقافة الدينية هي الأخرى تتحرك داخل سوق ثقافي عام، ويتم تبادلها بين الفاعلين، عبر شبكة واسعة، يتسع مداها من المبادرات الرسمية، وانتهاء إلى المبادرات الفردية والجماعية.

ويبدو أننا أمام شكلين من أشكال الاقتصاد، أولهما اقتصاد رسمي يخضع للضوابط والمعايير العامة الرسمية، وداخل هذا الاقتصاد تتواجد مؤسسات قومية تدير رأسمال الثقافة الدينية، وتحدد في ضوئه حدوده ومقاصده، ويؤسس لمعناه ومنتهاه، كما له قواعده المعرفية، وفاعلوه الأساسيون، وقنواته التي يتمكن من خلالها الترويج لأفكاره وتصوراته ورؤاه حول ما يجب أن يكون.

وثانيهما هو الاقتصاد غير الرسمي للثقافة الدينية، الذي يخرج عن طوق السياسة العامة، ولا يخضع لضوابط المؤسسة الدينية الرسمية، ولا تملك حق تنظيمه، ويعتمد مثل الاقتصاد غير الرسمي، على العمل في الهوامش الحضرية، من خلال الترويج وبيع المنتجات الثقافية على الأرصفة، وفي الميادين، وفي المواصلات العامة، وفي المصالح الحكومية. وهو لا يبيع فقط الأفكار، مبسطة وميسرة لجمهور المتلقين، بل ويبيع لهم الرموز الملازمة له، من أدوات لازمة وميسرة لحضوره: العباءات والأسدلة والنقاب والحجاب والمسابح والأبخرة والسواك، وغيرها من الرموز المصاحبة.     

وأمام هذا الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي، يمكننا الحديث عن اقتصاد افتراضي، لا يستهدف الربحية، لكن منطقه في الربحية يعتمد على زيادة أعداد المتلقين والمنتسبين للزمرة أو الجماعة الدينية. ويشمل هذا الاقتصاد هو الآخر على نمطين: مستوى رسمي معبر عن المؤسسات الدينية الرسمية، مثل مواقعها الإليكترونية التي تعرف بها وبمنجزاتها، ولإصداراتها؛ ومستوى مبادرات الجماعات الدينية غير الرسمية، مثل الصفحات والمنتديات المعبرة عن تيارات دينية خارج عباءة الأزهر والأوقاف، وفي المقابل يوجد مستوى ثالث وهو المعتمد على انتهاك حقوق الملكية، مثل بعض المواقع والمنتديات والصفحات التي تنشر أعمالا دينية لشيوخ غير محسوبين على المؤسسات الدينية الرسمية.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟