قراءة جديدة في بنية الحركة الإسلامية المصرية
نحن ـ كباحثين ـ تلقينا بنية الحركة الإسلامية باعتبارها مسلمة تعبر عن واقع موجود وقائم، ومن ثم اتخذنا الحركة كمعطى موجود، ولم ندقق كثيرا في المنطلقات الرئيسية لبنيتها وتكوينها، اتخذناها كمسلمة دون أسئلة رئيسية حول أسسها ومنطلقاتها وفلسفة وجودها وجوهر تكوينها، كانت سطوة الوجود أقوي من أن نطرح أسئلة بشأن أسس ذلك الوجود، كما أن خطاب الحركة وفعلها كان هو اللافت للنظر لنا، ولابد من القول إن ما كنا نلاحظه لم يكن كافيا وحده لفهم تلك الحركة.
في السبعينيات كانت روح الإحياء الإسلامي عالية ومتدفقة، وكانت الثورة الإيرانية عنوانا لهزيمة نظام مستبد مرتبط بالغرب وأمريكا، بينما كانت صورة الخوميني الخلابة تعبر عن الصلابة وتقول إن الدين الإسلامي أصبح مرجعية للاحتجاج، وكانت الصحوة الإسلامية العامة في بداياتها، ولم تكن التنظيمات السرية أو الدولية قد اقتحمت بعد الحركة الطلابية الفطرية في الجامعات التي تعني عودة عامة للدين تقول بضرورة العودة أو الراجعية إلى خيار استقلال تلك الأمة عن خيارات الغرب التي كانت تبدو وكأنها خيار لا مفر منه، وفي الثمانينيات ورغم بوادر لظهور تيار عنفي ذات طابع جهادي، بيد أن وجه الحالة الإسلامية كان مدنيا في عمومه، لم يكن ظهور تأثير تيارات السرية والعزلة الشعورية وتعبئة كوادر الأسر والمكاتب الإدارية بأفكار مختلفة عن تلك التي كانت تسوق للمجتمع فيما بدا وكأن هناك وجهين للخطاب أحدهما للمجتمع وآخر للتنظيم وكوادره .
كان حضور جماعة الإخوان في البرلمان في انتخابات 2005مؤشرا على أنها تطرح نفسها كبديل للنظام، كما أشار هشام العوضي في دراسته "الإخوان المسلمون ومبارك 1982-2007..صراع على الشرعية"، كما كان النظام يستخدم الجماعة كفزاعة للغرب إما أنا أو الإسلام السياسي، ومع انفجار ثورة 25 يناير وسقوط مبارك، سمح للحالة الإسلامية بالوجود في أحزاب وقوي اجتماعية وسياسية بشكل لم يحدث من قبل في التاريخ السياسي المصري، بيد أن الأهم كان هو وصول أول رئيس منتخب لسدة الرئاسة في مصر، كما حاز الإسلاميون أغلبية مطلقة في البرلمان، بيد إن التجربة لم تكن موفقة من خلال الممارسة، وبدا لنا كباحثين أن تقديراتنا للظاهرة الإسلامية تحتاج لقراءة جديدة ومراجعة مختلفة، فالحالة الإسلامية في المعارضة بدت مختلفة عنها في الحكم، وجماعة الإخوان التي كانت منفتحة على رئة مدنية تتنفس منها قوة من مجتمعها وتعبر عن اعتدالها إذا بها تذهب للتحالف مع قوى إسلامية أكثر تشددا منها ذات طابع سلفي وجهادي، وحين حانت ساعة عزل مرسي وقبلها بأسبوع تحرك الإسلاميون جميعا رغم ما بينهم من خلافات نصرةً للرئيس حافظ القرآن الكريم وأمل الجميع في تطبيق الشريعة، وكان اعتصام رابعة الذي استمر لأكثر من أربعين يوما بدت فيه الحالة الإسلامية وكأنها تريد أن تحقق الثأر المؤجل مع الدولة والذي لم يتم عام 1954، وتم الفض بالقوة من جانب الدولة ـ كما كان متوقعا ـ وسقط الضحايا من الجانبين وانفتحت البلاد على مواجهة كسر عظام مفتوحة ..بيد أن العبرة الراسخة في هذه القصة من المواجهة بين الدولة وبين تنظيمات الإسلاميين أن الدولة هي التي ستنتصر في النهاية .. وبقدر أهمية الحاجة لحفظ مصر موحدة وجيشها موحد فإننا بحاجة إلى حماية أبناء تلك الحالة الإسلامية من الاندفاع إلى مواجهة هم خاسرون فيها بقراءة التاريخ والمستقبل.
نحاول إعادة قراءة المنطلقات والأفكار والتحولات التي واجهتها الحركة الإسلامية المصرية منذ قيامها ونشأتها وحتى اللحظة الراهنة، ونستشرف المستقبل الذي ستكون عليه الحالة الجديدة لتلك الحركة وهو بالضرورة لن يعود كما كان من قبل.
أولا- الانتقال من الدعويّ إلى السياسي
قدمت الحركة الإسلامية المصرية نفسها باعتبارها دعوة للخير وهداية للبشر، ولم تطرح نفسها كطرف في صراع سياسي على السلطة، وقد عرف المصريون الحركة الإسلامية في الريف وفي المدن جامعا للخير مفتاحا له، حيث يوجدون في مواطن الإجماع بالمعنى الاجتماعي والعرفي فحين يختلف الناس ويكونون بحاجة إلى من يحكم ويحقق المصالحة بينهم، فإن الحالة الإسلامية تكون حاضرة .
وقد بقيت جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها جماعة دعوية حتى عام 1938، وتوازى معها في الوجود الجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة وجمعية الشبان المسلمين، والذين ظلوا جميعا في المستوى الدعوي دون خوض العمل السياسي.
فالدعوة الجوهر الديني فيها غلاب، وغياب المطمع الدنيوي فيها غلاب، واجتماع الكلمة فيها غلاب، واقترابها من منهج الشريعة قوي، بينما السياسة حمالة مطامع وأوجه والدنيا حاضرة فيها بقوة والنزاع هو جوهرها بلا شك، وحين دخلت جماعة الإخوان السياسة تحولت إلى أداة في صراعاتها وتوازناتها التي يسيطر عليها في الواقع أهل السياسة والحكم، ويتم استخدام الحركات الوافدة إلى السياسة كأدوات فيها.
ومع اقتحام الإخوان المسلمين للسياسة تكون نزوع عميق داخلها بالنظر لذاتها باعتبارها جماعة الحق التي تملك المنهج الصحيح، وأن غيرها يجب أن يلتحق بها، الشعور بالتمامية والاصطفاء داخل الجماعة، وأنها وحدها حاملة الحق جاء بعد اقتحامها عالم السياسة، وهذه إحدى الملاحظات الضرورية ذات الطابع الإشكالي، وهي أن جماعة الإخوان ومع اقتحامها عالم السياسة بدأ يتكون لديها شعور بالاصطفاء والتمركز حول الذات، وأنها الجماعة حاملة الحق وقائدة التغيير، بينما المفروض أن السياسة تفتح آفاقا للاكتشاف أن أي حزب ليس هو وحده في مجال السياسة، وأنه مجرد متنافس مع أحزاب سياسية أخرى، نزعة الشعور بالاصطفاء والتمامية وامتلاك الحق تتلاشى مع دخول عالم السياسة الذي يقوم على فن العمل في حدود الممكن، إنه نزول من تعالي الدعوات إلى نسبية الممكنات وبناء التحالفات والتوافقات والانفتاح على الآخرين والواقع، سوف نلاحظ كذلك أن الإخوان المسلمين وبعد ثورة 25 يناير والاعتراف بهم كحزب سياسي ثم اقتحامهم عالم السياسة من أوسع أبوابه لتكون لذلك الحزب الأغلبية في البرلمان، ثم ليطرح هذا الحزب مرشحه لمنصب الرئاسة وفوزه فيها ليكون أول رئيس إخواني لمصر، يتجه للإعلان بأن نهاية التاريخ قد دانت له وأن تحقق فكرة التمكين للجماعة المصطفاة قد جاءت فلا يشاركها فيها أحد غيرها، اقتحم الإخوان عالم السياسة بروح الاصطفاء التي تجعلهم هم وحدهم من يريد اللـه أن يمن عليهم ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، فهم من يملكون الحق وغيرهم من أهل السياسة لا يستحقون أن ينالوا شرف التجاور مع الإخوان في حكومة ائتلاف، أو أن يعود الرئيس عما اعتبره شرعية اصطفاء وتمكين ليدعو الناس مرة أخرى إلى العودة إليهم في انتخابات رئاسية مبكرة تقي البلاد والعباد شرًا مستطيرًا وبلاء مبينًا.
ثانيا- العقيدة الجامعة وحلم الخلافة الضائعة
بين الدعوة والسياسة كان هناك عامل العقيدة، وكما نعلم فإن العقيدة هي خلاصة ما انتهى إليه علماء المسلمين من أن تلك هي عقيدة الأمة كلها وليست عقيدة جماعة منها دون بقيتها، فالعقيدة عامل مشاع بين الأمة جميعها، وهناك ما يعرف بأنه عقيدة أهل السنة والجماعة أي الأمة كلها، ومن هنا عرفنا مثلا العقيدة الواسطية والعقيدة الطحاوية، كما ظهرت كتب عديدة في العقيدة صاغها علماء الأمة الكبار في القدر وفي غيرها من القضايا الكلامية، أي أن العقيدة هي جماع القضايا التي تعتقدها الأمة في قضايا الإيمان والأسماء والصفات والقدر وخلق القرآن والجنة والنار والملائكة وهي ما تعرف بأصول الدين.
بيد أن ظهور جماعة الإخوان بعد سقوط الخلافة جعلها تطرح نفسها كما لو كانت بديلا عن الإسلام ذاته وليست بديلا عن مؤسسات الخلافة التي انهارت، لأن مؤسسة الخلافة قد تعرضت لعوامل التدهور، وهجمت عليها أسباب الانحطاط منذ مطلع القرن التاسع عشر وطرحت أفكار عديدة حول النهضة والتقدم والتخلف وجميعها حول قضية الإدارة، أي كيف ندير الدولة التي تحمي حدود دار الإسلام في مواجهة محاولة السطو والسيطرة عليه من قوى العالم الغربي، لم تطرح جماعة الإخوان نفسها كمؤسسة معنية بالنهوض الحضاري لأمتها، ولكنها اعتبرت نفسها حاملة بقاء الإسلام واستمراره وهنا يقول حسن البنا " أحب أن أقول لكم بكل وضوح إن دعوتكم هذه أسمى دعوة عرفتها الإنسانية، وإنكم ورثة رسول اللـه صلي اللـه عليه وسلم وخلفاؤه علي قرآن ربه وأمناؤه على شريعته وعصابته التي وقفت كل شيء علي إحياء الإسلام .. وإذا كنتم كذلك فدعوتكم أحق أن يأتيها الناس ولا تأتي هي أحدا وتستغني عن غيرها، إذ هي جماع كل خير وما عداها لا يسلم من النقص".
إذن فماذا كان الناس قبل الإخوان؟ وماذا شأن من لم ينضم إلى جماعة الإخوان؟، نحن أمام جماعة لأول مرة تطرح نفسها في مقام الإسلام ذاته بعد أكثر من ألف وأربعمائة قرن، لحد أن الدخول في الجماعة يملك على أعضائها أنفسهم فلا يستطيعون التمييز بين شعورهم بالانتماء للإسلام أو الانتماء للجماعة، وسوف نكشف هنا أن هذا الاعتقاد الذي أضفته الجماعة على ذاتها سوف يؤسس لظهور الجماعات الأكثر أصولية مثل جماعات التكفير في السبعينيات التي اعتبرت نفسها "جماعة المسلمين" واعتبر أميرها شكري مصطفى " نفسه قائما مقام النبي صلى اللـه عليه وسلم في التشريع والقضاء والتنفيذ معا.
ويقول حسن البنا لطلبة الإخوان "ليست الخصومة بينكم وبين الناس خصومة أشخاص ولا ذوات ولكنها خصومة عقائد ومناهج"، الفكرة العقدية عميقة في بنية جماعة الإخوان المسلمين، وليست العقيدة مجرد إيمان ذاتي، ولكنه شأن متجاوز ومهيمن على التكوين والبنى والمؤسسات، بحيث لا نجد مؤسسة أو بناءَ أو في الجماعة إلا والعمق العقدي الذي يعني كمال الطاعة وتمامها للمرشد والجماعة مسيطرا وشاملا على الوجدان والعقل، وهذا في الواقع معنى العبادة بمعناها الشرعي الذي يجب أن لا يصرفه العبد إلا للـه سبحانه وتعالى والطاعة بالمعنى الشرعي أيضا الذي يجب أن تصرف للنبي محمد صلى اللـه عليه وسلم.
هنا الإشكالية ذات الطابع الحلولي التي جعلت من الجماعة الجديدة وهي جماعة الإخوان وعاء التمثل للدين الصحيح، وأن مؤسسها هو من يقوم مقام النبي في التوجيه والإرشاد ووجوب الطاعة .
القدسية الدينية التي هي للدين الإسلامي وللنبي محمد صلى اللـه عليه وسلم حلت في الجماعة وإمامها وصرنا إزاء بنية مؤسسية ذات طابع حلولي مهيمن وشامل على الإنسان والفرد الذي يبايع إمامها بيعة دينية، وهو ما يعني فقدان الإنسان لإرادته الحرة في الاختيار، كما يعني وجود مؤسسة وسيطة بين الإنسان وبين اللـه لا يتحقق إيمانه إلا من خلالها، والإسلام يجعل العلاقة مباشرة بين الإنسان وبين اللـه، ويجعل من محمد صلى اللـه عليه وسلم مستحقا للطاعة فيما يتصل بالتشريع، بينما اجتهادات الصحابة لا تمثل إلزاما ويمكننا الاختيار بينها.
العقيدة وكتبها تعبر عن موقف أهل السنة الكلامي في مواجهة التيارات الكلامية الأخرى، وهي في النهاية موقف مدرسي، ولكنه ليس شرطا أن يكون معروفا لدى غالبية الأمة وهو ليس كذلك فعلا، فالمسائل الكلامية المختلفة ليست منتشرة بين الناس ولكنها تعبير مدرسي عن موقف أهل السنة في قضايا ذات طابع خلافي بينهم وبين تيارات إسلامية أخرى لها موقف كلامي مختلف .
هنا بنية الحركة الإسلامية التي جاءت بعد سقوط الخلافة ومع الإخوان المسلمين طرحت المسألة العقيدة عبر بنية جديدة هي الجماعة التي يمثلها الإخوان والتي جعلتها موضعا للتقديس، وأنها حاملة رسالة الإسلام دون غيرها، وأن إمامها هو حامل المهمة والدعوة في مقام النبي صلى اللـه عليه وسلم له حق السمع والطاعة المطلقة، حتى بدت الجماعة ومرشدها حائلا بين منتسبيها وبين الإسلام نفسه ونبيه صلى اللـه عليه وسلم.
لما انتقلت جماعة الإخوان إلى العمل السياسي حملت معها عقيدتها، ونحن نعلم أن المصالح هي التي تحكم السياسة بين العقيدة هي التي تسيطر على الجماعات الدعوية، فانتقال جماعة الإخوان إلى السياسة بروح العقيدة هالها أن الناس لا يطيعونها كما يطيع أعضاؤها، ولا يسمعون كما يسمع أعضاؤها، بيد إن تمرد الناس عليها حال دون قدرتها على التعامل مع الواقع عبر أدوات السياسة وذلك أن العمقين العقدي والحلولي في الجماعة كبّلا قدرتها على التصرف والحركة والاجتهاد، فالعقيدة إيمان وصلابة والسياسة اجتهاد ومواقف متغيرة وحركة، وسطوة العقيدة على الجماعة في عالم السياسة بعد 25 يناير هو الذي حال دون قدرتها علي التصرف .
ثالثا- الفقه والفكر الحركي للجماعة
الفقه الحركي الذي سعت الجماعة لتأسيسه عبر قراءتها للفقه والسيرة والأصول مختلف تماما عن الفقه الإسلامي، الفقه الإسلامي مستمد من الشريعة وقام عليه علماء كبار أسسوا له مثل الإمام الشافعي (150ه -204ه - 767م -820م )، الذي كتب الرسالة ليبين كيفية فهم الشريعة وأصولها ووضع ضوابط لكل ذلك، ولم يكن يقصد وضع مذهب، ولكن من جاء بعده انحازوا لمنهجه في فهم الشريعة وأسسوا المذهب الشافعي وطبقاته ورجاله، وهكذا بقية المذاهب الإسلامية ثم شاعت هذه المذاهب بالاختيار في أوساط الأمة كلها كطريقة لفهم الدين وممارسة الشريعة، وهنا أقول إن الشافعي كمجتهد كان يجتهد لأمته ولم يكن يجتهد في مواجهتها، وكذا بقية الأئمة الأربعة الكبار، كلهم كان يجتهد للتيسير على الأمة ولم يكن يجتهد في مواجهتها، فلم نر أبدا أحدا من هؤلاء الأئمة ينتصب لتكفير جموع الناس، ولكنه كان يجتهد لوضع ضوابط للتكفير تحول بين متطرفي طلبة العلم وانطلاقهم في أعراض الناس كالذئاب المنطلقة في الغنم، وكانوا جميعا يقولون بقاعدة البراءة الأصلية، وأن الناس جميعهم مسلمون بقولهم شهادة أن لا إله إلا اللـه وأنا محمدا رسول اللـه، فقط مع ظهور الفكر الحركي داخل الحالة الإسلامية بدأت بدعة تكفير عوام المسلمين، لأن عقد الإسلام لهم انخرم بسبب أوهام رفعها هؤلاء من ذلك مثلا القول بالتحاكم إلى الطاغوت، والتحاكم إلى مؤسسات دولهم، بل اعتبار أن العاملين في تلك المؤسسات كفار، وقد فعل ذلك بكل جرأة سيد إمام الشريف في كتابه "الجامع في طلب العلم الشريف" مثلا، بل إنني قرأت لبعض المولعين بهذه الفقه الحركي أنه حكم على أغلب الشعب السوداني بالكفر، لأنه شارك في العمليات الانتخابية، ذلك أن المشاركة في العملية الانتخابية وفق منظري الفقه الحركي هي كفر باللـه.
يقول الفقه الحركي: إن الدولة الإسلامية واجب، وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أي أنه يفترض واجبا حركيا ثم يرتب عليه واجبات أخرى مثل وجوب التنظيم، ثم يفترض أن يكون التنظيم سريا حتى لا يتم كشفه من الدولة التي يعتبرها التنظيم وأعضاؤه والجماعة التي يمثلها دولة جاهلية وهنا تصبح السرية واجبًا هي الأخرى.
فرض الفقه الحركي لواجبات يخاطب بها أعضاء التنظيم هو عمل تشريعي يقوم به غير مختصين في التشريع، لأنه يترتب على اجتراح واجب تخاطب به حتى أعضاء جماعتك هو قيامك بعمل لا يجوز لأحد القيام به سوى الشارع وهو اللـه، فالمجتهدون يحددون مستويات الأحكام بالوجوب والإباحة والندب والكراهة وفق النصوص وليس بمجرد أهوائهم، وقد استخدم شكري مصطفى "من قبل قاعدة صحيحة تقول "من لم يكفر الكافر فهو كافر"، هنا المقصود الكافر المجمع على كفره والذي كفّره القرآن كما في حالة النمرود وفرعون وهامان وقارون وغيرهم ممن كفّرهم القرآن بشكل قطعي، لكنه نقل هذه القاعدة حتى كفر الناس جميعا، فكان يقول الحاكم كافرا فإذا لم تكفره فأنت كافر، ثم يأتي لشخص آخر ويقول له إن فلانا لم يكفر فلانا الذي لم يكفر الحاكم فهل تكفره فإذا لم يكفره فهو كافر، وهكذا في دورة تكفير مجنونة حتى كفر الناس جميعا، بل إن بعض المكفراتية هؤلاء كان يكفر نفسه ويذهب ليغتسل ويعود ليدخل الإسلام مرة أخرى وهذا من سخافات فكر الحركيين.
التنظيمات السرية الإسلامية في مجتمعات أغلبيتها مسلمة هي لغو من لغو الحركيين، لأن الناس نستصحب لهم أصل الإسلام وهم مسلمون، فلماذا نكون تنظيمات سرية من أجل إقامة دولة إسلامية تبذل فيها الأرواح وتمتهن المهج ويقتل الشباب المتحمس لإقامة خلافة إسلامية لن تعود، نحن بوضوح لا نريد دولة إسلامية وإنما نريد دولة عادلة تقيم الحق والقسط بين الناس وتحقق لهم الكرامة والحرية والمساواة، هذا الدين قام على البساطة والفطرة والوضوح، فأي خفاء أو سرية أو تداول للمعلومات بين فئة قليلة وكأنها ستأتي بالنصر المبين لا مستقبل لها، إن هذا الدين ليس سرا ، وفعل السر والعلانية هو في العبادة والإنفاق وليس في التنظيمات التي يقودها مجموعات في الغالب تكون مخترقة وتضيع الأرواح والأعمار والنفقات والأيام والسنون بلا تحقيق للمقصود.
هذا الفقه الحركي دخيل على بنية التكوينات الاجتماعية الإسلامية، ولم يظهر إلا مع جماعة الإخوان المسلمين حين عمدت إلى تأسيس التنظيم الخاص للجماعة وكان منتسبوه يبايعون علي المصحف والسيف، وقام هذا التنظيم بأعمال عنف مروعة منها قتل الخازندار وقتل النقراشي وغيرها من العمليات التي طالت بعض أعضائه.
الفقه الحركي هو فقه موازٍ للفقه الشرعي، بيد إن منتجيه هواة وغير متخصصين، وإذا كان فقه الشريعة يدعو إلى مكارم الأخلاق وإلى الالتزام بالشريعة في العبادات والمعاملات فإن الفقه الحركي يأخذنا إلى متاهات المواجهة مع مجتمعاتنا وحكوماتنا ، وتحت عنوان الجهاد يعمد شباب الحالة الإسلامية إلى الاندفاع وراء ذلك النوع من الفقه ليهدر حياته وحياة غيره من المسلمين، وفي النهاية يقول "يبعثون علي نياتهم"، كيف لنا أن نهدر الأنفس المعصومة والتي الأصل فيها الحرمة والتحرز وعدم الاقتحام، ثم نحتج بحديث آحاد ورد في أحاديث آخر الزمان، لعمري إنه لاستهتار وهوى وعدم مسئولية وعدم إنسانية في وقت واحد.
رابعا- الآخر في فكر الجماعة
الموقف من الآخر بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين شديد الغرابة فهي تظهر استعلاءً واستغناءً، استعلاءً علي غيرها من الجماعات واستغناءً عمن يغادرها من كبار قياداتها حتى لو كان له اليد البيضاء الأثيرة في تأسيس الجماعة، وتكفي الإشارة هنا إلي التخلص من وكيل الجماعة ومؤسسها الحقيقي أحمد السكري حين اختلف مع المرشد الأول، وأيضا التخلص من وكيلها الثاني إبراهيم حسن حين اختلف مع المرشد حول قضية أخلاقية وهي قضية عبد الحكيم عابدين، بالإضافة إلى اختلافهما مع المرشد حول مسار الجماعة السياسي وطرح صيغة تكون فيها الجماعة رديفا دعويا للحزب الأكبر في البلاد وهو حزب الوفد الذي يكون قائما على أمر السياسة.
يقول حسن البنا "هذه دعوة لا تقبل الشركة، إذ إن طبيعتها الوحدة فمن استعد لذلك فقد عاش بها وعاشت به، ومن ضعف عن هذا العبء سيكون من المخلّفين ويقعد مع القاعدين ويستبدل اللـه لدعوته به قومًا آخرين، نحن ندعو الناس إلى مبدأ واضح محدد مسلم به منهم جميعا". وفي موضع آخر يقول في مذكراته "على الأخ المسلم أن يتعرف غايته تماما، وأن يجعلها المقياس الوحيد فيما بينه وبين الهيئات الأخرى، ويجب على الإخوان المسلمين إذا أيدوا هيئة من الهيئات أن يستوثقوا أنها لا تتنكر لغاياتهم وأهدافهم في أي وقت من الأوقات". ويقول في موضع آخر "... ونحن مؤمنون بأن دعوتنا عامة محيطة لا تغادر جزءًا صالحًا من أي دعوة إلا ألمت به وأشارت إليه".
وحين طرحت مسألة الوحدة والاندماج بين جماعة الإخوان وبين حركة مصر الفتاة التي غيّر مؤسسها أحمد حسين اسمها للحزب الوطني الإسلامي، بحيث يكون الحزب التعبير السياسي عن الجماعة التي يقتصر عملها على الدعوة ، بيد أن حسن البنا رفض تلك الوحدة ورأى أن الجماعة أكبر من أن تنضم إلى مصر الفتاة ، وحين اعتبر المرشد الأول للجماعة أنه لا تنافس بين الإخوان والشبان المسلمين، فإن ذلك بسبب أنه رأى أن الشبان المسلمين تخدم على مقاصد الجماعة، فأي كيان يتعاون معه الإخوان ذلك لأنهم يرونه أداة تخديم على أهدافهم، أما أن يكون في موضع المنافسة الحقيقية معهم فإنهم لا يقبلون العمل معه، وإذا قبلوا فإن ذلك يكون على أرضيتهم ووفق خطتهم وأجندتهم، وهكذا كان دأب الجماعة دائما وأبدا مع القوى الاجتماعية والسياسية المصرية قبل ثورة 25 يناير حتى فقدت هذه القوى ثقتها في الجماعة وإمكان التحالف أو التعاون معها، وليس أدل على ذلك من تركهم الثوار في الميدان والذهاب للتفاوض مع عمر سليمان قبل أن يسقط مبارك، كما أن شباب الإخوان الذين قرروا المشاركة في الثورة قد تم فصلهم لأنهم لم يرجعوا إلى مكتب الإرشاد أولا، وسوف نجد موقف الجماعة حاسما مع مجموعة حزب الوسط التي قررت أن تنشئ حزبا سياسيا فقد سحبت توكيلات المؤسسين للحزب من الإخوان، ومن ثم فقد الحزب شرط تأسيسه لأن هذه المجموعة قررت وحدها دون العودة لمكتب الإرشاد أن تنشئ حزبا سياسيا. وقد فصلت جماعة الإخوان عبد المنعم أبو الفتوح حين قرر دون العودة للجماعة أن يطرح نفسه مرشحا للرئاسة بعد ثورة 25 يناير، كما فصلت من قبله نائب المرشد محمد حبيب وغيره من القيادات الكبيرة مثل إبراهيم الزعفراني لمطالبتهم بإصلاحات داخلية.
وحين وصل الإخوان للسلطة فإنهم تحالفوا مع قوى أكثر يمينية وتشددا، وذلك لأنهم رأوا أن تلك القوى ستكون أدواتها في المواجهة الكبرى القادمة التي كان الإخوان يدركون أنها قادمة لا محالة، فكرة الاستغناء والاستعلاء ظلت هي المهيمنة على الجماعة حتى بعد وصولها إلى السلطة، ولم تقبل بتنازلات لما اعتبرته شرعية نالتها بتوفيق إلهي ومن المستحيل التفريط فيها.
خامسا- الصوفية الحصافية
أسس حسن البنا جماعة الإخوان وعمره بعد لم يتجاوز الاثنين والعشرين عاما، كان قد تخرج في كلية دار العلوم وعين مدرسا للخط العربي بإحدى مدارس الإسماعيلية، لكنه كقادم من الطريقة الصوفية الحصافية شعر بأنه مثقل بعبء تاريخي ينقذ به الإسلام والعالم من الخطر المحدق به، ومن هنا كانت دعوته للجماعة التي بدأت بثمانية من متواضعي التعليم، هنا فكرة الكاريزيما التي سيطرت على "جهيمان العتيبي" والتي قادته إلى الدعوة للمهدي المنتظر محمد بن عبد اللـه " والتي قادت إلى مواجهة داخل الحرم المكي، وهي نفسها التي دفعت عبد اللطيف موسى "إلى مواجهة داخل مسجد بن تيمية في غزة وراح ضحيتها أكثر من عشرين شخصًا، وهي نفسها فكرة شكري مصطفى عن نفسه الذي رأى أنه شخص استثنائي في التاريخ، وأن محنة الإسلام تفرض عليه تأسيس جماعة المسلمين الجديدة التي تسير نفس سيرة النبي صلى اللـه عليه وسلم، ذلك أن كل ما على وجه الأرض ليس له صلة بالإسلام، وهي نفسها التي قادت محمد بن عبد الوهاب إلى النظر لنفسه باعتباره مكتشفا للإسلام من جديد، وأن كل ما على وجه البسيطة قد علا نجم الشرك فيه، لا بد من القول إن هناك طابعا مهدويا كامنا داخل جماعة الإخوان المسلمين استلهمه حسن البنا حين رأى نفسه مهدي هذه الأمة، وأنه حامل رسالة إنقاذها، وقد ارتبط به مريدوه، فقد حاول أن يعيد العلاقة بين الشيخ والمريد داخل الجماعة كما عرفها في الطرق الصوفية التي تقلب فيها، هذه النزعة المهدوية هي التي جعلت أتباع الجماعة يعتقدون في رجعة الرئيس مرسي بعد القبض عليه وعزله من السلطة في 3 يوليو، وكان على منصة رابعة من الوعاظ من أقسم أن من يشك في عودة مرسي فإنه يشك في إيمانه وأنه لا بد عائد، هذه الطبيعة المهدوية هي التي تجعل الجماعة حتى الآن تمضي إلى نهاية الشوط في المواجهة مستحضرة روح الملاحم الكبرى وأحاديث آخر الزمان.
فنموذج حسن البنا كمؤسس لحركة اجتماعية يعد جديدا في الاجتماع الديني الإسلامي الذي يقوم على إنتاج طبقة العلماء عبر معاناة قاسية أشبه بمعاناة السائرين على طريق الوصول في المنحى الصوفي، يتخصص الطالب في علم ويظل يتعلم في تخصصه حتى ينال شهادته بعد امتحان قاسٍ لا ينال فيه شهادة العالمية الأزهرية إلا بعد امتلاك أدوات العلم الحقيقية من ناحية، وتعرضه للاختبار الذي يذهب عنه غروره وتعاليه ويجعله يعرف موقعه الحقيقي ضمن طبقات متصلة من العلماء، سوف نجد لأول مرة حركة اجتماعية إسلامية لا يكون تخصص مؤسسها العلمي هو الأساس في تأسيسها وإنما الواقع المحيط بالعالم الإسلامي، وهو ما سيفتح الباب واسعا لحركات أخرى تكون الجماهير وتأثيراتها ومنازع السياسة وأهواؤها وليس التخصص العلمي للعالم هو الأساس في حركتها، سيكون التسييس وصخب الجماهير فاتحة لحركات أخرى أكثر تطرفا مثل الحركات الجهادية والتكفيرية التي يكون منزع السياسة فيها هو الغلاب، ومنزع الجماهير التي لها الصوت العالي وليس الخلوص إلى النصوص ومعرفة مقاصد الشريعة والشارع هو الأساس .