البحث عن المكانة: نظام عالمي جديد بدوْر روسي مؤثر
تتسارع التطورات الدولية التي تشير إلى تغيّر جوهري في هيكل النظام الدولي نحو مزيد من التعددية على الصعيدين الاقتصادي والإستراتيجي، وعكست قمة العشرين الأخيرة في أستراليا ومن قبلها قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (آبيك) في بكين، تحديًا واضحًا للنظام أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة، وتحركًا جادًا نحو تغييره من جانب مجموعة من الدول تتقدمها روسيا والصين. وهو أمر يبدو طبيعيًا، فتتبع تاريخ العلاقات الدولية وتطورها يؤكد أن سيطرة أي قوة على قمة النظام الدولي مهما طالت مدتها إلى زوال.
أولا: ملامح وأبعاد التغير في النظام العالمي
وقد استطاعت مجموعة من القوى العائدة والصاعدة تحجيم الولايات المتحدة وإعاقة حركتها في مواقف عدة كان من أبرزها أزمة أوسيتيا الجنوبية عام 2008 والأزمة السورية التي بدأت في مارس 2011 ثم الأزمة الأوكرانية التي بدأت نهاية 2013 وما زالت تلقى بظلال واضحة ليس فقط على العلاقات الروسية الغربية وإنما على مجمل النظام الدولي، الذي يشهد تغيرات جوهرية تتمثل أبرز ملامحها في ثلاثة أبعاد أساسية.
أولها، أن خريطة القوى الاقتصادية امتدت خارج أوربا والولايات المتحدة، ويميل ميزان القوة الاقتصادية بوضوح لصالح القارة الآسيوية في ضوء الأجيال المتتابعة من النمور الآسيوية. ففي آسيا ثاني أكبر اقتصاد عالمي ممثلًا في الصين التي تنافس بقوة للصعود للمركز الأول. وإلى جانب الصين واليابان يوجد في آسيا عشرة من أكبر عشرين اقتصادًا في العالم، حيث حققت دول مثل الهند وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا طفرات تنموية واضحة. صحيح أن بعض هذه الدول غير راغب في ترجمة قوته الاقتصادية إلى قوة عسكرية، وتظل خريطة القوى العسكرية لا تتطابق تمامًا مع تلك الاقتصادية الكبرى. إلا أن عددًا من الدول الآسيوية تعمل جاهدة في هذا الاتجاه، فالصين تعتبر ثاني أكبر إنفاق عسكري عالميًا، بفارق كبير، بعد الولايات المتحدة، وتنمو بها الصناعات العسكرية وتتطور التكنولوجيا في هذا المجال بثبات. وهناك أربع دول ذات قدرات نووية عسكرية في آسيا وهي الصين والهند وكوريا الشمالية وباكستان، ودول لديها قدرات نووية للاستخدامات السلمية فقط ومنها اليابان وكوريا الجنوبية.
إن القرن الحادي والعشرين هو القرن الآسيوي، والنظام الدولي يشهد تحولًا إلى هيكل متعدد القوى بصبغة آسيوية واضحة. يعزز هذا التراجع النسبي في القدرات الأمريكية لأسباب عدة أهمها تفاقم مشكلاتها الداخلية الاقتصادية في ضوء الأزمة المالية منذ عام 2008، وتلك الاجتماعية بعد أن طفت قضية التمييز العنصري ضد السود في عدد من الولايات الأمريكية، إلى جانب فشلها في إدارة حملاتها العسكرية في أفغانستان والعراق، وكذلك في الملف السوري، وتعثر حملتها ضد داعش، وتراجع الثقة والمصداقية في الرئيس أوباما بعد عجزه عن إدخال كثير مما أعلنه حيز التنفيذ، يتزامن هذا مع تصاعد الأزمات في الاتحاد الأوربي، واتجاه بريطانيا للانسحاب من الاتحاد. إن العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين شهد بدء حقبة جديدة في العلاقات الدولية تتضمن تحولًا تدريجيًا إلى نظام دولي متعدد القوى حيث تتراجع الهيمنة الأمريكية، وتلعب روسيا والصين وعدد آخر من الدول دورًا مهمًا وفاعلًا في الشئون الدولية والإقليمية.
ثانيها، إرهاصات انقسام دولي جديد بين كتلتين مرة أخرى بمعطيات وأسس جديدة يغلب عليها الطابع المصلحي البراجماتي، حيث الانضمام إلى أي من الكتلتين طوعي على أساس تقارب المصالح والرؤى وليس أيديولوجيًا قصريًا. وتضم الكتلة الأولى الولايات المتحدة وشركاءها في أوربا وآسيا. وتضم الثانية روسيا والصين وشركاءهما في آسيا وأمريكا اللاتينية من الدول غير الراضية عن السياسات الأمريكية وتتطلع لوضع أفضل في النظام الدولي. وتعد مجموعة البريكس التي تضم روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا ويبلغ إجمالي ناتجها المحلي 21% من حجم الاقتصاد العالمي، وتمتلك ما بين 30% إلى 60% من المخزون العالمي لمختلف الموارد، ومنظمة شنغهاي للتعاون والتنسيق الأمني التي تضم روسيا والصين ودول آسيا الوسطى، حجر زاوية لهذا المحور الذي سيمتد لجذب شركاء إقليميين في منطقة الشرق الأوسط وغيرها.
وقد عكست قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (آبيك) الأخيرة في نوفمبر ببكين أحد أبعاد هذا الانقسام، حيث ركزت الولايات المتحدة على مبادرتها بعنوان "الشراكة عبر المحيط الهادئ" التي تستهدف إقامة منطقة تجارة حرة بين 12 دولة فقط وهي: أستراليا والولايات المتحدة وبروناي وتشيلي وكندا وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا وبيرو وسنغافورة وفيتنام واليابان، وتستبعد منها روسيا والصين. في حين هاجمت روسيا المبادرة واعتبرتها محاولة جديدة من الولايات المتحدة الأمريكية لبناء هيكلية تعاون اقتصادي إقليمية تعود بالمنفعة عليها، واعتبرت أنه من المستبعد إقامة تعاون اقتصادي تجاري فاعل بين دول المجموعة في غياب لاعبين إقليميين كبيرين مثل روسيا والصين. وإنه على دول (آبيك) جميعًا وعددها 21 دولة بحث كيفية بلورة منطقة تجارة حرة كبرى فيما بينها، وهو ما تدعمه بكين بشدة.
كما تعتبر الطفرة الكبيرة في التعاون الإستراتيجي بين روسيا والصين مؤشرًا مهمًا على الاستقطاب الدولي الجديد، فقد كان لقاء زعيمي البلدين في نوفمبر 2014 على هامش قمة منظمة دول آسيا والمحيط الهادي هو الخامس خلال عام 2014، وتخلل ذلك وأعقبه زيارات عدة لمسئولين من الجانبين، كان من أبرزها زيارة رئيس مجلس الدولة الصيني "لي كه تشيانج" إلى روسيا خلال الفترة ما بين 12 و14 أكتوبر 2014، والتي وقع خلالها 38 اتفاقية مشتركة للتعاون في مختلف المجالات. وتعوّل روسيا كثيرًا على الصين في إطار توجهها لتنويع أسواق الطاقة الروسية حتى لا تكون رهينة للتهديدات الغربية بتخفيض واردات الطاقة من روسيا، وكان من بين الاتفاقات الموقعة بين البلدين اتفاق حكومي بشأن إمدادات الوقود الأزرق عبر أنبوب "قوة سيبريا" وهو الخط الشرقي لتوريدات الغاز الروسي إلى الصين، الذي سيزوّد مناطق الصين الشرقية الصناعية بالغاز، وهي اتفاقية ضرورية ومكملة للمضي قدما في تنفيذ اتفاق توريد الغاز الروسي لمدة 30 عاما بقيمة 400 مليار دولار الذي تم توقيعه بين الطرفين في مايو 2014. كما اتفق البلدان على مقايضة عملتي البلدين، الروبل واليوان، واستخدامهما في الحسابات التجارية الثنائية بديلًا عن الدولار. وسيكون لهذا تداعياته بالتأكيد على الاقتصاد الأمريكي خاصة في حال نجاح التجربة وتوسيع نطاقها لتشمل دولا أخرى غير راضية عن النظام الاقتصادي والمالي الحالي، نظام "بريتون وودز" الذي وضعته الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون منتصف الأربعينيات من القرن الماضي.
ونظام الكتل الجديد ليس نظامًا جامدًا كسابقه خلال الحرب الباردة، ولكنه يتسم بالمرونة بحكم أساسه المصلحي وبعده عن الأيديولوجيات والقوالب الجامدة. ولذا فإن الدول المنتمية لإحدى الكتل قد ترتبط بشراكات وعلاقات تعاون وتفاهمات مع الدول في الكتلة الأخرى وفقًا لتوافق المصالح بين الجانبين.
ثالثها، إن روسيا تعتبر قاطرة معسكر التحدي للولايات المتحدة، وذلك بعد ما يزيد على عقد من انهيار القدرات الروسية وانكفاء موسكو على أزماتها الداخلية المتفاقمة، وما اقترن بذلك من تراجع في دورها الإقليمي ومكانتها الدولية، وقبولها بقيادة الولايات المتحدة للعالم في إطار نظام دولي أحادي القطبية. فقد خرجت روسيا من الحرب الباردة مهزومة سياسيًا ومنهارة اقتصاديا، وأكد القادة الروس مرارًا أنه لا عودة للشيوعية وصراع النفوذ، وسلموا بالنهج الأمريكي في إدارة الأزمات والقضايا الدولية والإقليمية، والذي انطوى في الكثير من الحالات على مساس بالمصالح الروسية، وأبرزها الضربات الأمريكية عام 1999على صربيا حليف روسيا وامتدادها العرقي والديني والثقافي في أوربا، والتي دخلت روسيا الحرب العالمية الأولى دفاعًا عنها. كما قبلت موسكو بتمدد النفوذ الأمريكي في الجمهوريات السوفيتية السابقة، والذي وصل حدًا غير مسبوق من التغلغل العسكري والاقتصادي لم يكن متصورًا في منطقة كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي، ولا تزال تمثل المجال الحيوي لروسيا الاتحادية.
إلا أن قبول روسيا بالزعامة الأمريكية لم يكن عن قناعة أو رضا مطلق بوضع روسيا ودورها، وما كان صمت روسيا عن الهيمنة الأمريكية سوى ستار مرن يخفي عزم وإصرار الرئيس الروسي بوتين على إعادة روسيا لمكانتها ووضع حد للتهديد الأمريكي للمصالح الروسية متى سنحت الفرصة وسمحت القدرات الروسية بذلك. وعقب عقد طاحن من الانهيار الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي خلال التسعينيات، بدأت روسيا في استعادة عافيتها، ومع نهاية العقد المنصرم كانت روسيا قد عادت لمصاف القوى الكبرى الفاعلة والمؤثرة اقتصاديًا وعسكريًا. وأخذت تعد العدة لتغيير قواعد إدارة العلاقات مع الغرب التي لا تتفق مع المصالح والمكانة الروسية، وفى مقدمتها إنفراد الولايات المتحدة باتخاذ القرار الدولي، وفرض الإرادة الأمريكية على الدول والشعوب، وتسيير الأزمات والقضايا الدولية والإقليمية وفق مسار أوحد يتفق والمصالح الأمريكية وحسب. هذا في الوقت الذي شعرت فيه واشنطن بنشوة النصر واعتبرت أن تصدّرها قمة النظام الدولي أمرًا غير قابل للتحدي أو التغيير.
ثانيا- مواجهات روسيا مع الولايات المتحدة
وكان طبيعيًا أن يؤدي ذلك إلى مواجهة بين الجانبين خاصة مع إدراك موسكو أن مهادنة الولايات المتحدة لها ليس لإدماجها في المنظومة العالمية والقبول بها كفاعل، وإنما لتحجيمها وتحويلها لتابع. وقد طفت هذه التناقضات على السطح مع بدء واشنطن نشر درعها المضاد للصواريخ في شرق أوربا، في التشيك وبولندا على بعد كيلومترات من الحدود الروسية. فقد اعتبرت روسيا أن الدرع الأمريكية تمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، وتهدف إلى حرمانها من القدرة على توجيه الضربة الثانية الرادعة للولايات المتحدة في حال قيام الأخيرة بالهجوم عليها، ومن ثم يترك روسيا دون قوة ردع حقيقية تضمن أمنها وسلامة شعبها.
إلا إن التحدي الروسي الحقيقي لواشنطن برز خلال أزمة أوسيتيا الجنوبية 2008 التي صمدت خلالها روسيا في وجه الضغوط الأمريكية، وتعمق تحديها لواشنطن خلال الأزمة السورية منذ عام 2011 التي جاء الموقف الروسي منها مغايرًا للتوقعات، وأقرب للمواقف السوفيتية زمن الحرب الباردة، عندما كانت موسكو تقف بحسم في مواجهة واشنطن لحماية مصالحها وحلفائها. وكانت المبادرة التي أطلقتها موسكو لتدمير الأسلحة الكيماوية السورية مقابل وقف الضربة العسكرية الأمريكية وعقد مؤتمر جنيف2، وانحياز غالبية أعضاء قمة العشرين لها ضد واشنطن، ناقوس خطر بالنسبة للنفوذ والهيمنة الأمريكية في المنطقة، حيث بدت روسيا وكأنها تقود مسار الأحداث بعد أن سلمت القوى الدولية والإقليمية الأخرى بالرؤية الروسية القائمة على ضرورة الانتقال السلمي للسلطة كطريق وحيد لتسوية الأزمة السورية واحتواء تداعياتها الكارثية. وتظل الأزمة الأوكرانية التي بدأت في نوفمبر 2013 هي الكاشفة والمؤكدة لهذا التغيير، وكان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، درة أوكرانيا، صفعة قوية للغرب أدرك على إثرها ما أصبحت عليه روسيا من قوة ومكانة، وما تتطلع إليه في المستقبل.
وفي محاولة أمريكية للضغط على روسيا لتغيير موقفها من الأزمة الأوكرانية قامت بخلط ما هو سياسي بما هو اقتصادي وعسكري، حيث قام الغرب بفرض حزم متتالية من العقوبات على موسكو لم يسبق لها مثيل منذ الحرب الباردة، استهدفت قطاعات رئيسية في الاقتصاد الروسي هي الطاقة وصناعة الأسلحة والقطاع المالي، وطالت شخصيات روسية سياسية واقتصادية بارزة وشركات وبنوك. كما أعلن البنتاجون تجميد التعاون العسكري مع روسيا، وتم تجميد اجتماعات مجلس روسيا ـ الناتو والتعاون بين الجانبين، واستبعدت روسيا من حضور قمة "الثماني الكبار" الأخيرة لتعود مجموعة "السبع" مرة أخرى. ومن الواضح أن الهدف من العقوبات ليس المساعدة في تسوية الأزمة الأوكرانية وإنما النيل من قوة روسيا الصاعدة ووضعها كعملاق للطاقة، يؤكد ذلك أن العقوبات الغربية الجديدة ضد روسيا تعيق عمليات تطوير واستخراج النفط من الحقول الصعبة، كما أنها تقوض عددًا من المشاريع في قطاع الطاقة خاصة مشاريع التنقيب في القطب الشمالي. وأيضًا تضييق الخناق على قوتها البحرية التي من المتوقع أن تتنامى بعد ضم القرم، وحصول روسيا على منفذ دائم على المياه الدفيئة.
إن الولايات المتحدة تحاول إحكام الخناق على روسيا، ورغم أن العقوبات يتم فرضها تحت غطاء معلن وهو "ضلوع موسكو في الحرب في أوكرانيا"، فإن الأمر يتجاوز الأزمة الأوكرانية إلى الصراع حول مكانة الدولة القائد في النظام الدولي، والتي تحاول واشنطن باستماتة الحفاظ عليها دون منازع في مواجهة الطموح الروسي المتزايد الذي أصبح واقعًا يهدد الانفراد الأمريكي في إدارة الشأن الدولي والإقليمي، ويطرح مصالح ومواقف مختلفة وربما متناقضة مع تلك الأمريكية تعرقل أجندتها الدولية وتحد من حرية حركتها.
وفي خطوة لم يتوقعها الغرب اتخذت روسيا مجموعة من الإجراءات ردًا على العقوبات الغربية تضمنت حظر استيراد المنتجات الزراعية والمواد الخام والأغذية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وكندا والنرويج وأية دولة قررت فرض عقوبات ضد هيئات أو شخصيات روسية. ويظل الاتحاد الأوربي هو الأكثر تضررًا من هذه العقوبات، خاصة ليتوانيا وبولندا وألمانيا والنرويج، ومن المتوقع أن تبلغ الخسائر الأوربية من العقوبات الروسية ما قيمته 12 مليار يورو سنويًا، إلى جانب تردي أوضاع العاملين بقطاع الزراعة وما لذلك من تداعيات اجتماعية.
يتزامن ذلك مع تصاعد المواجهة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي في ضوء استمرار سيطرة عقلية الحرب الباردة ونمط تفكيرها وسياستها إزاء موسكو على واشنطن وحلفائها، واتجاه الحلف لتعزيز إمكانياته الدفاعية بالقرب من الحدود الروسية في شرق أوربا وخاصة بولندا، وفي مياه البحر الأسود والبلطيق، وسعيه لتقويض النفوذ الروسي واقتلاعه من أوكرانيا وغيرها من الجمهوريات السوفيتية السابقة ونشر صواريخ عابرة للقارات في أوكرانيا، ودعوتها للمشاركة في المناورات العسكرية للحلف، ودعم القدرة القتالية للجيش الأوكراني لجعلها تتفق مع مقاييس الحلف تمهيدًا لضمها لعضويته. ولا تتصور موسكو أن يضم الحلف كييف التي كانت يومًا ما عاصمة روسيا، وأن يقف الحلف بقواته وترسانته العسكرية على أبواب موسكو. فأوكرانيا امتداد طبيعي لموسكو وسقوطها في الفلك الأورأطلنطي يعني خسارة روسيا لمجالها الحيوي كله، وإحكام طوق واشنطن حولها.
ورغم التوتر الشديد والمتزايد الذي يكتنف العلاقات بين روسيا والغرب على خلفية الأزمة الأوكرانية، يستمر حرص الطرفين على عدم بلوغ الأمر حد المواجهة المباشرة أو الصدام المسلح بينهما. وقد يلجأ الطرفان إلى العقوبات الاقتصادية والتجارية، وقد تحدث مواجهات دبلوماسية بينهما داخل مجلس الأمن، ويصل الأمر حد التراشق اللفظي والاتهامات المتبادلة في كثير من الأحيان، دون أن يُترجم ذلك كله إلى مواجهة عسكرية بين الطرفين يخرج منها الجميع مدمرًا ومهزومًا. إلا أن الحرص على تجنب المواجهة المباشرة أدى إلى عودة الحرب بالوكالة مرة أخرى بين الغرب وموسكو كما كانت عليها الحال زمن الحرب الباردة، حيث كانت الحرب بالوكالة سمة مميزة لها وكثيرًا ما كانت المواجهة السوفيتية الأمريكية تقوم بها أطراف أخرى كما حدث في كوريا وفيتنام وأفغانستان وأنجHYPERLINK "http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D9%86%D8%BA%D9%88%D9%84%D8%A7ولا وغيرها، وهي أوضح ما يكون في الأزمة الأوكرانية حيث تدعم روسيا قوات الدفاع الذاتي في الشرق الأوكراني، في حين يدعم الغرب كييف سياسيًا وعسكريًا.
إنه صراع الإرادات وحرب تكسير العظام بين روسيا والغرب، ومن الواضح أن محاولات الغرب للتحكم في المارد الروسي الذي فاق من غفوته لم تكلل بالنجاح، وسيدرك الغرب عاجلًا أم آجلًا أنه لا يمكن عزل روسيا وأنها أصبحت أقوى وأكبر من أن تقاد أو تكون تابعًا، وأن السبيل الوحيدة للتعامل معها هو من منطلق الاحترام المتبادل والشراكة، وأن التحول إلى عالم متعدد القوى أصبح حقيقة لا يمكن تجاهلها، والقطبية الواحدة أصبحت من الماضي. كما ستأخذ روسيا وقتًا حتى تستعيد بعض الثقة في الولايات المتحدة ونيّات واشنطن تجاهها، وسيظل التناقض الإستراتيجي وأزمة الثقة هو السمة الغالبة للعلاقات بين الجانبين في المستقبل المنظور.
وسيلقي ذلك بظلال واضحة على العديد من الأزمات الإقليمية في منطقتنا وخارجها، ولن تكلل الكثير من الخطط الأمريكية بالنجاح نتيجة الهوّة في المواقف بين واشنطن وموسكو، وصمود الأخيرة بقوة في وجه السياسة الأمريكية. وقد كان هذا التأثير أوضح ما يكون على مسار الأحداث في سوريا، وفي تعثر التحالف الدولي ضد داعش التي تشكك روسيا في نيّاته وأهدافه الحقيقية، وترى أنه قد يستهدف قصف مواقع في سوريا، ودعم بعض القوى داخلها تمهيدًا لتقسيمها إلى دويلات. ويؤدي هذا إلى إطالة أمد الأزمات وتعقدها، واستمرار حالة عدم الاستقرار وتفاقمها.
*أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة
*متخصصة في الشأن الروسي