التحولات في البنية والوظيفة: المجتمع المدني بعد الثورات في مصر (1-2)
إن عنوان هذه الدراسة الذي يشير إلى "التحولات في بنية ووظائف المجتمع المدني بعد الثورات المصرية"، يتضمن بالفعل موضوعات مهمة للغاية في إطار دراسة التغيرات في بنية النظام العالمي والإقليمي والمصري، والذي تتوجه نحوه مجلة "آفاق سياسية"، ولعل الملاحظات الأولية التالية تفسر جانبًا من مصادر أهمية تناولنا للموضوع:
· إن الملاحظة الأولى، تؤكد على أن تحليل المجتمع المدني – سواء قبلنا بالمفهوم أو كان لدينا بعض التحفظات عليه- هو اقتراب تحليلي مهم لفهم أبعاد التغير في النظام السياسي وتفاعلات الدولة مع المجتمع المدني من جانب، والأخير – أي منظمات المجتمع المدني- مع المجتمع من منظور قدراته الاستجابية، ومن منظور علاقته بالقوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية (التيارات الفكرية والقوى السياسية الصاعدة أو تلك التي تخرج من المشهد العام، والعلاقة بالسوق الذي تم إغفال تفاعلاته مع منظمات المجتمع المدني لفترة طويلة).
· الملاحظة الثانية، تشير إلى أن النظام العالمي والإقليمي، قد أثر إلى حد كبير في صياغة ملامح منظمات المجتمع المدني. وتبدو لنا "الحالة المصرية" "نموذجية" لدراسة تأثير النظام العالمي (وبدرجة أقل النظام الإقليمي) في صياغة بنية منظمات المجتمع المدني، والأهم صياغة جانب من وظائف المجتمع المدني، بل يمكن أن نذهب إلى أن "ترويض الدولة"، (من جانب بعض القوى الكبرى) بعد ثورة 30 يونيو يعتمد – ضمن أدواته- على المجتمع المدني خاصة من منظور القضايا الحقوقية والحريات والديمقراطية. صحيح أن "ترويض" الدولة المصرية للمجتمع المدني هو بُعد آخر مهم يثير لدى البعض قضية "انحسار العمل العام"، ويثير لدى البعض الآخر "مقايضة الحرب على الإرهاب" من جانب الدولة بجانب من الحريات، إلا أن الصحيح أيضا أن السنوات الأربع السابقة (وبعد ثورة يناير 2011) قد شهدت تسارعًا غير مسبوق في سعيِ النظام العالمي للتأثير في حراك القوى السياسية والفكرية في مصر، من خلال المجتمع المدني، ومن منظور الديمقراطية والحريات.
· الملاحظة الثالثة التي تتكامل مع ما سبق تشير إلى أن العولمة، بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية (بما فيها الثقافة والتكنولوجيا)، قد "هزت" عرش مفهوم سيادة الدولة من جانب والأمن القومي من جانب آخر. وفي هذا السياق نكتفي بالإشارة إلى معركة التشريع الجديد للمجتمع المدني (أو صياغة قانون جديد للجمعيات الأهلية)، وهي معركة "قديمة جديدة" بدت واضحة مع مطلع الألفية الثالثة، وشهدت تدخلات أساسية من جانب قوى كبرى (الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوربي) ومؤسسات تمويل كبرى، للتأثير في توجهات التشريع وبعض بنوده (فتح باب التمويل بشكل رئيسي). وهو ما يعد بالمعايير التقليدية تدخلا في سيادة الدولة. على الجانب الآخر فإن المتغيرات المتسارعة، والتي ترتبط ببنية النظام العالمي والنظام الإقليمي، قد طرحت بوضوح قضايا تمس الأمن القومي في مصر، ومن منظور المجتمع المدني. ونكتفي في هذا السياق بالإشارة إلى الدعم المادي والتقني لمجموعات من الشباب ومنظمات المجتمع المدني للتأثير في أحداث الثورة وما بعدها في المرحلة الانتقالية، وما بعد ثورة يونيو، مثل هذه التدخلات قد فجرت الساحة بقضايا واتهامات ثم محاكمات، دارت بشكل رئيسي حول "تهديد الأمن القومي" المصري. هناك مخاطر رئيسية "للعب بورقة الأمن القومي" وتوظيفها لتحقيق مصلحة الأطراف المتشابكة، وهو ما سنأتي إليه فيما بعد بشيء من التفصيل.
· الملاحظة الرابعة: إننا بحاجة إلى "وقفة تقويمية" تسعى إلى مراجعة المشهد بأكمله، منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وعلى وجه الخصوص بعد الثورات المصرية (في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين). بعبارة أخرى أننا في حاجة إلى "مراجعة نقدية" تستهدف "التجديد الفكري" وإعادة النظر في الفرضيات والأدبيات الغربية والعربية، بخصوص المجتمع المدني في مصر والمنطقة العربية. واللافت للاهتمام هو صدور عدة أعمال في السنوات الأربع السابقة – ومصدرها الغرب- تنتقد وتراجع مفاهيمها عبر مقارنتها بالواقع، بينما في المنطقة العربية لم تصدر مثل هذه المراجعات (باستثناء العمل العلمي للكاتبة قنديل، أي دور يلعبه المجتمع المدني؟ قراءة نقدية 2012)، ولم تعقد الجماعة الأكاديمية ورش عمل تستهدف المراجعة النقدية. هذه المراجعة لا تعني فقط رصد الإخفاقات أو النجاحات، وإنما الإجابة عن أسئلة مهمة، منها:
- إذا كان المجتمع المدني "ظاهرة اجتماعية بامتياز"، هل يمكن أن نستورد نظريات وأفكارا أو رؤى لتطبيقها في مصر؟
- إذا كان الغرب قد خسر الرهان على أن المجتمع المدني هو الذي سيحقق الديمقراطية، كيف يراجع نفسه؟ وما البدائل أمامه؟
- هل مقولة إن كل دولة تضع مجتمعها المدني صحيحة؟
- هل يمكن أن نتحدث عن الإصلاح ومواجهة تحديات التنمية البشرية، اعتمادا على بنية تقليدية للمجتمع المدني والدولة؟
- هل توافر مجرد "البنية" لبعض منظمات المجتمع المدني، يسمح لنا بالقول إنها تمتلك الثقافة المدنية والقيم المحركة في اتجاه التنمية والديمقراطية؟
إننا لدينا رصيد علمي تراكم على مدى عقدين، عن المجتمع المدني في مصر والمنطقة العربية، وهذا الرصيد إضافة إلى الواقع وتفاعلاته مع النظامين العالمي والإقليمي، يشجعنا على المراجعة والقراءة النقدية.
إننا نستهدف في هذا المقال، آخذين الملاحظات السابقة مجتمعة في اعتبارنا، مناقشة التحولات في بنية ووظائف المجتمع المدني بعد الثورات المصرية، للكشف عن عمق التفاعلات بين هذه الظاهرة الثقافية والاجتماعية – أي المجتمع المدني- والنظام العالمي والإقليمي والمصري، متسلحين برؤية نقدية لمراجعة:
تحولات في بنية المجتمع المدني،
تحولات في الوظائف (إن وجدت)،
تفاعلات السياسة مع المجتمع المدني،
تفاعلات النظام العالمي مع اللاعبين actors في الساحة المصرية.
أولا- المشهد العام الحالي
إن المشهد العام الحالي يتسم بعدم اليقين uncertainty من جانب، ويتسم بالسيولة من جانب آخر.. نحن نشهد لحظة تاريخية دقيقة، بعد الثورة الأخيرة (يونيو 2014) والتي تبعها نظام انتقالي ترأسه رئيس المحكمة الدستورية العليا، ثم عدة حكومات متتابعة، ودستور جديد صاغته "لجنة الخمسين"، وانتخاب رئيس الجمهورية. إن الاضطرابات الداخلية نتيجة مظاهرات إزاحة جماعة الإخوان المسلمين من السلطة، حل محلها كيانات وأعمال إرهابية تستهدف الأمن والقائمين عليه والمجتمع ككل، الحرب ضد الإرهاب أضحت إحدى علامات أو ملامح هذه المرحلة. إن التحالفات والائتلافات العربية في النظام الإقليمي تشهد تغيرات في مواجهة الكيانات الإرهابية عبر القومية، وتسعى مصر بقوة لاستعادة توازنها إقليميا وعالميا.. إن الضغوط الاقتصادية ومعاناة المواطن المصري هي جبهة رئيسية داخلية.. الأمن الداخلي أفضل نسبيا ويحاول التقاط أنفاسه... مسرح الثقافة والقيم هو جبهة أخرى، تتداخل فيها المصالح السياسية مع الاقتصادية، التدهور القيمي أصبح مصدر مخاطر ويصاحبه عدم احترام القانون، ومساحات كبيرة من عدم الالتزام وصعوبات لإنفاذ القانون، هي مرحلة تتسم بأنها "رخوة" تمتد من مؤسسات الدولة إلى مؤسسات المجتمع، ومنها المجتمع المدني، تتصارع فيها النخب السياسية والفكرية، ويتدهور مستوى الخطاب الإعلامي، ويفقد المجتمع ثقته في رموزه الثقافية والوطنية وسط مساحة كبيرة من تبادل الاتهامات بالخيانة والعمالة للبعض، أو على أقل تقدير اتهامات بالنفاق وتبدل المواقع وفقًا لرؤية المكاسب. وبإيجاز شديد هي لحظة تاريخية يتصارع فيها الأمل مع اليأس، وتتبدل فيها مواقف الأفراد والجماعات والمنظمات، وتتناقض "المصلحة القومية"، مع مصالح فئات وقطاعات وتيارات سياسية (دينية أو غير دينية). نحن إزاء مرحلة يصعب فيها التنبؤ بالمستقبل، وهي مرحلة تتسم بالسيولة وتشهد تغيرات في "أوزان الفاعلين"، لكنها ترفع شعار "تحيا مصر والحرب ضد الإرهاب".
إذا كان ما سبق هو إيجاز شديد لملامح المشهد العام في مصر اللحظة الحالية، وإذا كان المجتمع المدني – وهو جزء رئيسي من المجتمع- هو كيان ثقافي واجتماعي بامتياز، فإن ذلك يعني أنه "لم يهبط علينا من الفضاء"، ومن ثم فإن جانبًا من ملامح هذه المنظمات وتوجهاتها، يصبح "محصلة" للبيئة الثقافية والاقتصادية والسياسية السائدة.
إن أحد الملامح العامة التي يشهدها ما توافق حوله بالمجتمع المدني أو الجمعيات الأهلية تتمثل في الخلط الواضح بين العمل السياسي وقطاع مهم من المنظمات (خاصة الحقوقية وبعض المنظمات التنموية). إن تركيز قطاع من المنظمات على قضايا حقوق الإنسان لا يعني تسييس المنظمات الأهلية، وإنما التسييس يعني اتخاذ ساحات بعض هذه المنظمات "منابر" للمعارضة السياسية، ويعني أيضا النشاط السياسي لبعض القوى السياسية، ويعني إضفاء السمة السياسية والصراع مع الدولة على قضايا أو موضوعات قد لا تكون سياسية. من نماذج الأولى توجد عشرات من المنظمات تعمل وكأنها حزب سياسي تدافع عن تيارات دينية بعينها (جماعة الإخوان المسلمين وتيارات سلفية)، وذلك في الساحة الداخلية أو الخارجية. ومن نماذج الثانية، أنه بدعوى الحفاظ على استقلالية المنظمة وحرياتها، ترفض هذه المنظمات – وهي مشهرة وفقا لقانون الشركات المدنية- إعادة توفيق أوضاعها لكي تعمل كمنظمة غير ربحية تستهدف النفع العام، وفقا لقانون الجمعيات الأهلية (رقم 84 لسنة 2002). والأكثر من ذلك نزوع البعض منها في صراعه مع الدولة حول القانون، نحو الاستقواء بالخارج، وعقد مقابلات مع شخصيات دولية (منها أخيرا الأمين العام للأمم المتحدة نوفمبر 2014)، أو المشاركة في اجتماع المجلس الدولي لحقوق الإنسان، وإصدار بيانات تتهم السلطات المصرية "بتقويض استقلالية منظمات المجتمع المدني" وتطبيق قانون الجمعيات الأهلية عليها (وهو أمر يعكس نظرة استعلاء لا مبرر لها). ومن ثم فإن الصراع بين الطرفين، الدولة ومجموعة من منظمات المجتمع المدني، والقائم بالأساس على مفهوم المراقبة والمحاسبة (وهو يمس التمويل الأجنبي بشكل أساسي) يتم توظيفه سياسيا داخل مصر وخارجها.
إن تسييس العمل الأهلي من جانب بعض المنظمات المدنية، تقابله أيضا "ظاهرة تديين العمل الأهلي"، وعلى وجه الخصوص العمل الخيري. إن الآلاف من الجمعيات الأهلية القاعدية أو الجذورية grass roots organizations قد وظفت العمل الأهلي لصالح تعبئة الموالين لهم، وكما سنأتي فيما بعد عند تناولنا "للبنية"، فإن الجمعيات هذه تتبع بشكل مباشر أو غير مباشر تيارات دينية وسلفية، وبعضها صنع لنفسه قواعد شعبية من الفقراء، من خلال تقديم مساعدات خيرية أو من خلال خدمات صحية، في ظاهرة يتم التعبير عنها بـ "تسليع الفقراء"، أي اعتبارهم سلعة، تمكن من حشد أصواتهم في الانتخابات والمظاهرات والاحتجاجات. وقد يكون الجدير بالإشارة إليه أن آلاف المنظمات الأهلية التي تم تسجيلها بعد ثورة يناير، كانت جمعيات خيرية دينية، تركزت في الوجه القبلي، وفي أكثر المحافظات فقرًا.. لقد تم تسجيل ما يقرب من 4500 منظمة أهلية بعد عام ونصف العام فقط من ثورة يناير 2011، أكثر من نصفها (2600 منظمة) تابعة مباشرة لجماعات وتيارات دينية، وبعضها ثبت أنها تتلقى الملايين من بعض المؤسسات في دول الخليج (وتم إخضاعها للرقابة والمحاسبة من جانب الجهات المسئولة).
إن السائد حاليًا في ملامح منظمات المجتمع المدني في مصر، "حالة من الوهن والخمول"، فالمنظمات الحقوقية (والتي لا تزيد على 360 منظمة) هي متفرغة لإصدار البيانات وإدارة معركتها مع الدولة، والمنظمات التنموية تأثر بعضها بمراقبة التمويل الأجنبي وانسحاب بعض المنظمات الأجنبية من مصر أخيرا (حجم التدفق الرسمي المعلن عنه رسميا من جانب وزارة التضامن الاجتماعي هو 8 ملايين جنيه مصري أي أكثر من مليون دولار بقليل خلال عام 2014)، ومن جانب آخر فإن المنح الفردية والتبرعات من مؤسسات خاصة مالية (البنوك أبرزها)، قد تراجع إلى حد كبير. كما أن منح القطاع الخاص – التي تدخل ضمن ممارسات المسئولية الاجتماعية social responsibility – قد اتخذ أخيرا أبعادًا دعائية وإعلامية، بالإضافة إلى ميل هذه المؤسسات الخاصة إلى تأسيس أذرع اجتماعية لها (مثل فودافون، اتصالات، موبينيل، وغيرها...)، ووفقا لرؤيتها تنشط مؤسساتها الأهلية في مجالات بعينها مثل تدريب وتأهيل الشباب، ومن الصعب تقييم أدائها في غياب التفاصيل عن برامجها، إلا أن أحد أهم أسباب "حالة الوهن" التي أشرنا إليها لوصف المجتمع المدني، قد يكون افتقاد الثقة بين المجتمع وبين المنظمات الأهلية، وهي محصلة طبيعية لهذا المناخ "المشحون" بقصص الفساد والتربح من العمل الأهلي (راجع على سبيل المثال التركيز الإعلامي على فساد مؤسسات رعاية الأيتام أخيرًا).
ولكي نتبين التأثير المهم لعامل الثقة بين المواطن والعمل الأهلي، نشير إلى أن 70% من مجمل التبرعات التي مولت الصرح الضخم لمستشفى سرطان الأطفال، كانت أقل من مائة جنيه مصري (نحو 15 دولارًا أمريكيًا)... ثقة المواطن المصري في أن تبرعاته مقدمة إلى مؤسسة تدار بشكل محترم للغاية، وتتطور بصفة مستمرة، تدفعه وهو ينشد "النزاهة" والشفافية والنفع العام نحو المزيد من العطاء والدعم لها.
إن الأسباب الأخرى التي تفسر حالة "الوهن" هذه في المجتمع المدني تتمثل في تراجع العمل التطوعي – وهو أحد الملامح العامة التي أثبتتها البحوث والدراسات من قبل- إلا أن هذا التراجع الحاد حاليا مصدره الضغوط الاقتصادية المتزايدة، وتعقد وتشابك المتغيرات الاجتماعية والثقافية، وانسحاب "الشباب" إلى الفضاء الافتراضي، والشعور العام بعدم جدية كثير من المنظمات الأهلية (والتي وصلت مع نهايات عام 2014 إلى 46.200 منظمة)، إذن يصعب القول إن إشكالية التمويل وحدها هي المسئولة عن تراجع العمل العام في منظمات المجتمع المدني، ولعل مقولة أن "المنح السخية لا تصنع المجتمع المدني" الصحي الذي يتسم بالفاعلية والكفاءة، هي مقولة صحيحة تماما. وعلى الجانب الآخر فإن مقولة "المجتمع المدني الصحي القوي يوجد في دولة قوية" هي أيضا مقولة صحيحة.
إن المشهد الحالي يرصد صعوبات كثيرة تعاني منها الائتلافات والتحالفات بين منظمات المجتمع المدني، ومصدرها الرئيسي عدم التوافق بين الأطراف، منها ائتلافات الشباب، والتي تم تسجيل عدد كبير منها في مختلف المحافظات، وفقا لقانون الجمعيات الأهلية، وبعد ثورة يناير. ائتلافات أخرى كانت تتسم بالفاعلية، وفقا لتقييمها (منها ائتلاف أسوان الذي نشط في مجال صحة السكان في قرى ومراكز لم تتوافر بها خدمات صحية)، إلا أنه توقف تمويلها من هيئة المعونة الأمريكية وتراجع دعم وزارة الصحة لها، ومن ثم "تفككت أوصالها" وتجمدت أنشطتها في هذا المجال الخدمي المهم.
الأمر الآخر الذي يرتبط بما سبق، أن المشهد الحالي عام 2014، يسجل لنا ارتباط ما هو خاص بما هو عام، بسبب تداخلات المصالح الشخصية لأفراد وجهات، مع مفهوم النفع العام والمصلحة العامة، والأخير سمة رئيسية مفترضة في العمل الأهلي. إن بعض هذه المنظمات تتحرك وكأنها جماعة مصالح Interest groups وليس منظمة في المجتمع المدني وبعضها الآخر يدار "بشكل عائلي"، وهي سمة كانت قائمة في العمل الخيري (في بعض محافظات الوجهين القبلي والبحري بسبب العصبية والقبلية، وميل أفرادها لكسب الأصوات في الانتخابات). إلا أن السمة العائلية هذه امتدت إلى بعض المنظمات الحقوقية في القاهرة (وهي معروفة للمراقبين والمتابعين)، وهو أمر يزيد من إشكاليات الإدارة الرشيدة وممارسة الديمقراطية والشفافية، في منظمات تعلن نضالها الحقوقي ولصالح الديمقراطية.
هناك تفاوتات كبيرة بين المنظمات الأهلية، ومع تأكيدنا على ضرورة عدم التعميم، فإنه يمكن القول إن هذه المنظمات (46.200 منظمة عام 2014) بعضها نشط للغاية، وعلى الجانب الآخر بعضها لا يزيد على "لافتات ومقرات". البعض من المنظمات ضخم، وله فروع، يصل عدد العاملين فيها لعدة آلاف، والبعض متوسط أو صغير. في مصر توجد منظمات تمويلها ضخم ومتنوع، وحتى هذه اللحظة، وتنشط في مجالات حقوقية وتنموية، وأخرى تلهث وراء التمويل... بإيجاز لا يمكن التعميم ونحن نرصد اتجاهات عامة، إلا أن وراءها قدرًا من عدم العدالة الاجتماعية، للتفاوتات الضخمة فيما بينها ولاستهداف مؤسسات التمويل الأجنبية – ولعدة سنوات- منظمات بعينها ومجالات نشاط بعينها. (هيئة المعونة الأمريكية ركزت لأكثر من 10 سنوات على 73 منظمة فقط نشطة في مجال الحقوق والعنف ضد المرأة والديمقراطية) في النهاية أصبحنا أمام بنية مشوهة للمجتمع المدني، لا تتسم بالتوازن الوظيفي والجغرافي، وبدت أنها تعميق لتفاوتات طبقية هي قائمة بالفعل في المجتمع.
إن محصلة المشهد العام تقول لنا عدة أمور نوجزها كما يلي:
· تعقد المشهد العام وتفاعل المتغيرات الخارجية مع الداخلية، يفسر لنا بعض ملامح المجتمع المدني.
· إن الخطاب الأخلاقي لبعض منظمات المجتمع المدني (وللدولة أيضا) لا يجعل الحياة أكثر ديمقراطية وأكثر نزاهة.
· إن الرهان الغربي على المجتمع المدني (أو قل بعض منظماته) لم يحقق الديمقراطية المنشودة.
· إن المجتمع المدني الصحي، الذي يتسم بالفاعلية، لا يمكن أن تحققه المنح السخية.
· إن التحدي الأكبر الذي يواجه مصر، هو تحدٍ ثقافي تنموي وتنويري، فالتغيير المنشود يستلزم بيئة ثقافية وقيمية وتغيير جوهري في التعليم، ينعكس إيجابا على المواطن ومنظمات المجتمع المدني، ويحدث تحول في عقلية وثقافة الأجهزة الحكومية.
· إن منظمات المجتمع المدني، هي جزء من المجتمع ككل، ومن ثم فقد أصابها "الوهن" هي الأخرى، وبمثل ما أصاب الدولة من عدم قدرة على إنفاذ القانون.
هذا المقال جزء من دراسة منشورة في العدد الـ 13 من مجلة أفاق سياسية