من الانتفاضات الشعبية إلى تهديد كيانات الدولة: (1-2) حال الأمة العربية 2013-2014
تمثل هذه الدراسة عرضًا مطورًا ومحدثًا لأهم نتائج الكتاب الجماعي الذي شارك فيه عدد من الباحثين العرب ونشِرَ ضمن سلسلة الكتب السنوية التي يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، والذي قمت بتحريره([1]). والحقيقة، أن الكتب السنوية في هذا المجال تواجه تحدي الجمع بين سمتين: فهي من ناحية، ينبغي أن تكون "صورة فوتوغرافية" لأهم التطورات التي شهدتها المنطقة العربية خلال فترة محددة. وهي من ناحية أخرى، ينبغي أن تكون "مشهدًا في شريط فيلم أو فيديو" تضع أحداث تلك الفترة في سياق تاريخي أوسع يعود إلى ما قبلها ويستشرف ما بعدها. فالتحولات في الأنظمة الاجتماعية لا تحدث في عام واحد، ولكنها تنمو وتتطور على مدى سنوات.
وفي هذا السياق، تعرض الدراسة لأحداث الفترة محل البحث وفقًا لإطار يبدأ بالمعطيات الخارجية العالمية والإقليمية، فالتفاعلات العربية العربية، ثم التغيرات السياسية والاقتصادية، ثم تركز على عدد من بؤر التوتر الساخنة.
أولا: النظام العالمي
يمثل تحليل النظام العالمي المقدمة الطبيعية لتحليل أوضاع المنطقة العربية أو غيرها من مناطق العالم، وذلك لأن هذا النظام يعد السياق الخارجي الذي تمارس فيه الدول سياساتها الخارجية، ومن ثم يفرض عليها "قيودًا" ويوفر لها "فرصًا".
يوضح تحليل العلاقات بين القوى الكبرى إلى أن النظام العالمي ما زال في طور التحول، وأنه لم يستقر على شكل محدد بعد وإنما يشهد تفاعلات متشابكة ومتداخلة من التعاون والتنافس والصراع. فمن ناحية، تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على موقعها "المنفرد" على قمة العالم، والتي نجحت في شغله منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية مستغلة في ذلك قدرتها العسكرية الهائلة ذات الامتداد العالمي، والتي لا تدانيها أو تقاربها فيها أي دولة أخرى. كما تستغل أن الاقتصاد الأمريكي ما زال هو الاقتصاد الأكبر حجمًا رغم تراجع نصيبه النسبي من الناتج العالمي الإجمالي، وأنها ما زالت المركز الرئيسي للابتكار والتطوير التكنولوجي.
ومن ناحية أخرى، فقد تهدَّد هذا الموقع المتميز للولايات المتحدة بسبب عدة تطورات أبرزها ازدياد الوزن الاقتصادي لدول أخرى تأتي في مقدمتها الصين وروسيا والهند وتنامي مساهماتها في الناتج العالمي الإجمالي ومشاركتها في حجم التجارة العالمية، وحركة الاستثمار العالمي، وتصاعد القدرات العسكرية لها، وخصوصًا الدور الصيني في آسيا.
وقد أدى هذا الوضع إلى نوع من الالتباس في توصيف النظام العالمي الراهن فلا هو بنظام القطب الواحد ولا هو بنظام تعدد الأقطاب، وفيه تتسم العلاقات بين أطرافه الكبرى بالتداخل والترابط وتصاعد مساحة المصالح الاقتصادية المشتركة، مما يفرض قيدًا على سلوكها تجاه بعضها البعض. وعلي سبيل المثال فإن التوسع في فرض عقوبات اقتصادية على دولة ما قد يؤدي إلى إلحاق الأذى بالطرف الذي فرض تلك العقوبات على هذا الطرف أو حلفائه. وفي ضوء ذلك، يمكن فهم حدود السلوك الأمريكي والأوربي والروسي في معالجة الأزمة الأوكرانية.
وظهر هذا الالتباس في مواقف الدول الكبرى تجاه المنطقة العربية. فرغم الاختلافات الواضحة بين موقف واشنطن وموسكو تجاه الأزمة السورية، فإن ذلك لم يمنع من تعاونهما بشأن تفكيك السلاح الكيماوي السوري، وتعاونهما في الدعوة إلى مؤتمر جنيف 2. بينما اختلف موقف الدولتين تجاه النظام الجديد في مصر بعد ثورة 30 يونيو، ووفر هذا الوضع الملتبس "فرصًا" للدول العربية، فقامت السعودية والإمارات والكويت بالدعم المالي والسياسي لمصر في تعارض واضح مع موقف الولايات المتحدة، والتزمت إحداها بتمويل صفقة السلاح التي أبرمتها مصر مع روسيا. وعبرت السعودية بشكل واضح عن مخاوفها تجاه الاتفاق الأمريكي الغربي مع إيران بشأن برنامجها النووي وتأثيراته على الأمن والتوازن الإقليمي في الخليج. وفي هذا السياق، تنامت العلاقات العربية مع روسيا والصين والهند.
ثانيا: تأثير دول الجوار الجغرافي
وعلى مستوى دول الجوار الجغرافي، وهى إيران، وتركيا، وإثيوبيا، فقد تباين دورها وتأثيرها، وإن كانت جميعها قد حققت مكاسب في علاقاتها مع الدول العربية. فشهدت إيران في المرحلة التي أعقبت انتخاب حسن روحاني رئيسًا للجمهورية تغيرًا في خطابها السياسي الذي أصبح يركز على مبادئ الاعتدال والواقعية والابتعاد عن المزايدات الإيديولوجية. وكان من شأن هذا التغير بدء مباحثات سرية بين الولايات المتحدة وطهران بوساطة عُمانية، أسفرت عن المكالمة التليفونية الشهيرة بين أوباما وروحاني في سبتمبر 2013، ثم في إبرام الاتفاق المرحلي بشأن البرنامج النووي الإيراني في نوفمبر من نفس العام، واستمرت المباحثات للوصول إلى اتفاق نهائي على طول عام 2014 دون نجاح، وفي نوفمبر تم الاتفاق على تمديد أجل المباحثات 6 شهور أخرى.
ونتج عن هذا التطور إلغاء بعض العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، وتطوير علاقات التجارة والاستثمار مع بعض الدول الأوربية. نجحت إيران في تحقيق ذلك دون التنازل عن حقها في تطوير التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية، ودون تهديد لعلاقتها مع روسيا والصين، كما وفّر لإيران ثقة أكبر بالذات، وأوجد البيئة المناسبة لدور خليجي وإقليمي أكثر نشاطًا، مستفيدة في ذلك من اختلاف مواقف الدول العربية إزاءها، وفي ضوء ذلك يمكن فهم – إلي جانب عوامل أخرى - التقارب المتزايد بين مصر وكل من السعودية والإمارات والكويت والبحرين، والمناورات العسكرية المشتركة بينها.
أما بالنسبة لتركيا، كانت حصيلة سياساتها الداخلية والخارجية مختلطة. فقد أدت مظاهرات تقسيم – جيزي، والكشف عن فضيحة الفساد المالي التي طالت عددًا من الوزراء وكبار المسئولين، و التدخل الحكومي السافر في شئون القضاء والشرطة للتأثير على مسار التحقيق، والقيود التي فرضتها الحكومة على حرية تداول المعلومات على الفضاء الإلكتروني إلى أزمات وتوترات سياسية في الداخل والخارج.
كما أدت الانتكاسة التي أصابت السياسة الخارجية التركية نتيجة فشل سياساتها في سوريا ومصر وتوتر علاقاتها مع السعودية إلى تراجع دورها الإقليمي وقوتها الناعمة، وانحصار ومحاولاتها لإعادة بناء "العثمانية الجديدة". فمن السعي إلى تحقيق هدف "صفر مشكلات Zero Problems" كانت النتيجة "صفر أصدقاء Zero Friends". حاولت أنقرة تجاوز ذلك بتجديد علاقاتها مع إيران، ولكن الثانية حرصت على إبقاء تلك العلاقات في حدود دون زيادة.
مع ذلك، وبسبب مهارات أردوغان السياسية وقدرات حزبه التنظيمية وتفتت خصومه الحزبيين فقد تمكن من تجاوز هذه الأزمات وفاز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات البلدية في مارس 2014، ثم فاز في الانتخابات الرئاسية في أغسطس 2014 وتولى منصب رئيس الجمهورية، واستمر أردوغان الشخصية النافذة في النظام التركي رغم أن الدستور يركز السلطة في شخص رئيس الوزراء وليس رئيس الدولة.
كما نجح في صياغة موقف سياسي غامض إزاء تنظيم داعش، وذلك استجابة للمصالح الوطنية التركية، فجمع هذا الموقف بين وجود صلات تعاون قديمة مع داعش ضد النظام السوري، وتبنّي تركيا شعار مكافحة الإرهاب دون مشاركة جادة في مقاومته، والتخوف من ازدياد دور الأكراد في العراق وسوريا وتأثيره على وضع الأكراد في تركيا.
أما بالنسبة لإثيوبيا، فقد طوّرت دورها الأفريقي على الصعيدين العسكري والسياسي، فانتشرت قواتها في الصومال وعلى الحدود بين دولتي السودان كجزء من قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي. وقامت أديس أبابا بدور الوسيط في الخلاف الحدودي بين السودان وجنوب السودان وفي الخلاف داخل جنوب السودان بين الرئيس ومعارضيه. نجحت أيضًا في الاستمرار في بناء سد النهضة الذي تعتبره عنوانًا لتقدمها ونهضتها على الرغم من كل الاعتراضات المصرية والتدخلات العربية لضمان عدم وجود تأثير سلبي على الموارد المائية التي تصل مصر. ومع أنها تبنت في عام 2014 نهجًا أكثر واقعية، وقبلت من حيث المبدأ قيام مكتب استشاري عالمي بتقييم النتائج المترتبة على بناء السد فإن عملية بناء السد لم تتوقف.
من الواضح أن الدول الثلاث قد حققت مكاسب على حساب الدول العربية، فنجحت إيران في الوصول إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي، واستمرت مباحثات الاتفاق الثاني دون أن يكون على جدول أعمالها تبعات لذلك على الوضع الإقليمي في الخليج، وتخوف أغلب الدول الخليجية من "تمدد" دورها كما نجحت في ضمان استمرار النظام السوري، وفي زيادة نفوذها في اليمن من خلال الحوثيين، وإن كانت قد تعرضت لانتكاسة في العراق بسبب هشاشة وضعف النظام الذي تؤيده. واستطاع النظام التركي تجاوز أزماته، واستمر في موقفه المعارض للنظام الجديد في مصر. ونجحت أثيوبيا من جانبها في تنفيذ خطة بناء السد دون تقدير للمخاوف المصرية بهذا الشأن.
ثالثا- النظام العربي : العلاقات العربية العربية
وعلى مستوى العلاقات العربية العربية أو بالأحرى النظام العربي، فإن تحليل هذه العلاقات يبين استمرار الأنماط الرئيسية لعمل مؤسسات النظام مع حدوث تغييرات في التحالفات بين دوله.
كان من مظاهر ذلك استمرار الانقسامات بين الدول أعضائه، وتكاثر قوى عدم الاستقرار بداخلها، والمفارقة بين تعثر عمليات الاندماج والتكامل على المستوى الرسمي وازديادها على المستوى غير الرسمي، والانتقائية وعدم التماثل في مواقف النظام تجاه الانتفاضات والثورات العربية، وظهور مركز ثقل جديد لصنع القرار المؤسسي وهو مجلس التعاون الخليجي.
وبالنسبة لأداء جامعة الدول العربية، فقد اتسم باستمرار الأنماط التي سادت في السنوات السابقة، وأهمها الحفاظ علي الأوضاع القائمة وعدم الرغبة في التجديد المؤسسي، وكان مآل مشروعات تطوير الجامعة في قمة الكويت في مارس 2014 هو الإرجاء وطلب مزيد من الدراسة، واتسمت قرارات مجلس الجامعة تجاه القضايا المثارة بالعمومية والحرص على "التوافق الشكلي" وانطبق ذلك على تعامل المجلس تجاه سوريا وليبيا وفلسطين ولبنان واليمن، وكذلك تجاه قضيتي التعاون العربي الأفريقي والمجتمع المدني العربي.
من ناحية أخرى، بدت ملامح تشكل "تحالف عربي جديد" في ضوء آثار الانتفاضات والثورات في عددٍ من دول المنطقة، وتمدد دور مجلس التعاون الخليجي، ورئاسة قطر للقمة العربية في عام 2013 مما أعطى لها دورًا متميزًا في قيادة العمل العربي، وبينما أدى ذلك إلى زيادة دور المجلس في توجيه النظام العربي، فإن الخلافات التي نشبت بين قطر وكل من السعودية والإمارات والبحرين فرضت حدودا على هذا الدور. من التطورات المهمة أيضا تغير جدول أعمال النظام العربي لتحتل قضية مكافحة الإرهاب الأولوية الرئيسية خاصة بعد سيطرة داعش على مساحات كبيرة في العراق وسوريا وسعيها لإيجاد موطئ قدم لها في لبنان واليمن ومصر وغيرها من البلاد العربية.
تمت هذه التفاعلات في بيئة اتسمت بازدياد مخاوف وتحفظات دول الخليج - ما عدا قطر وسلطنة عمان - تجاه الولايات المتحدة، ومدى الركون إليها في مواجهة التهديدات الإقليمية خاصة مع تطور علاقاتها بإيران، في هذا السياق، ازداد الإدراك بالاحتياج المتبادل والمصلحة المشتركة بين هذه الدول ومصر.
رابعا: تطور الأوضاع السياسية
وعلى مستوى تطور الأوضاع السياسية برزت أزمات المرحلة الانتقالية في دول الثورات والانتفاضات في مصر وتونس واليمن وليبيا. وأشارت التغيرات الدرامية التي شهدتها هذه البلاد إلى معاناتها من أزمات حادة ومتزامنة ومترابطة، مما جعل المرحلة الانتقالية التي تمر بها تتسم بالصعوبة والتعثر وامتداد حالة عدم اليقين. وتمثلت أبرز تلك الأزمات في: استمرار حالة الانفلات الأمني مع تصاعد أعمال الإرهاب، وتفاقم حدة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وتدهور قدرة الهيئات الحكومية على تنفيذ السياسات العامة المرتبطة بمصالح المواطنين، وأزمة العلاقات المدنية – العسكرية، وما يقترن بها من مخاطر "عسكرة السياسة" و "تسييس الجيش"، وازدياد الاختراق الخارجي وتهديد الأمن الوطني والقومي.
وأتت هذه الأزمات في سياق أزمة بنيوية رئيسية تتعلق بالفاعلين السياسيين في هذه الدول، وهي غياب أو ضعف القدرة على بناء التوافق الوطني بشأن أولويات المرحلة الانتقالية وأساليب إدارتها. ولم تنجح النخب السياسية التي تصدرت المشهد في تلك المرحلة في مد الجسور بين بعضها البعض، وإنشاء التحالفات أو "الكتلة التاريخية" الضرورية لإتمام عملية الانتقال. تثير هذه الأزمات خمس قضايا ترتبط ببناء الديمقراطية وإدارة عملية الانتقال.
1- التزامن بين معضلتي بناء مؤسسات الدولة الوطنية وتأسيس الديمقراطية. ففي حالتي ليبيا واليمن فإن هناك أخطارًا محدقة على وجود الدولة وكيانها يمكن أن تفضي إلى التفكك والتقسيم، وفي حالة مصر فإن أعمال الإرهاب والعنف تفرض على مؤسساتها الحكومية تحدي تفاقم المشاكل الاقتصادية كالبطالة والتضخم والفقر وتضع قيدا على حركتها، وفي حالة تونس التي أنجزت انتخاباتها البرلمانية والرئاسية فإنها تواجه تحدي مواجهة نفس المشاكل القائمة في مصر. وفي كل الحالات تبرز أهمية الإصلاح المؤسسي على أساس ديمقراطي.
2- إن الديمقراطية لا تتوقف عند المفهوم "الإجرائي" لها والذي يتمثل في إصدار الدستور الجديد وعقد الانتخابات. ومع التسليم بأهمية الدستور والانتخابات كمرتكزين لنظام الديمقراطي إلا أنهما بمفردهما ليسا كافيين لتحقيقه، فمن المهم أن يصدر الدستور بشكل توافقي، وأن يتم احترامه في الممارسة من جانب الفاعلين الرئيسيين، كما أن "شرعية الصندوق" يجب أن تعززها وتؤكدها "شرعية الإنجاز".
3- إن الأسلوب الأمني لا يكفي بمفرده لمواجهة أفكار التطرف وأنشطة الإرهاب، بل يتطلب الأمر إستراتيجية متكاملة تأخذ في اعتبارها تجفيف المنابع المادية والفكرية، وتحقيق التنمية في المناطق الفقيرة والمهمشة ومعالجة المظالم والاختلالات التي تعانيها بعض الأقاليم أو الجماعات، ومشاركة المواطنين في هذا الجهد.
4- إن الأحزاب والحركات الإسلامية سوف تظل قائمة على الساحتين السياسية والاجتماعية ومن المهم أن يتم إدماجها في العملية السياسية بشرط التزامها بقواعد الدستور والقانون وبمبادئ الديمقراطية وتداول السلطة من خلال انتخابات دورية حرة ونزيهة. وينطبق ذلك بنفس الدرجة على الأحزاب والقوى الليبرالية والقومية واليسارية.
5- احتمالات ازدياد التدخل الخارجي لتوجيه عملية الانتقال الديمقراطي، وإعادة بناء مؤسسات الدولة مستغلة الثغرات التي أوجدتها الأزمات الداخلية وعدم التوافق السياسي. ويترتب على ذلك أن تتم عملية إعادة البناء بما يضمن مصالح الدول الأجنبية. أما بالنسبة لبقية الدول العربية فقد شهد أغلبها مبادرات للإصلاح السياسي والتطور الديمقراطي وفقا لخمسة مؤشرات، هي: الإصلاح الدستوري، والمشاركة السياسية، وضمان الحقوق والحريات العامة، وسيادة حكم القانون والقضاء، ونزاهة العملية الانتخابية.
ومع أنه من الصعوبة بمكان إطلاق حكم إجمالي على ما تحقق في هذه الدول، ومدى تقدمها على طريق الانتقال إلى الديمقراطية بسبب التباين الكبير في سياقها الاجتماعي والسياسي، كان التقدير أن هذه الإصلاحات ظلت في مجملها ذات طبيعة جزئية، ولم تغُص في عمق المشكلات السياسية والاجتماعية كما أنها قابلة للنكوص والارتداد. ويعود هذا التقييم إلي عدة أسباب تتمثل في:
· الفهم الخاطئ من جانب النخب الحاكمة لطبيعة الحركات الاحتجاجية والحراك الاجتماعي، والذي اعتبرته معظمها حركات شبابية وقتية وطارئة، أو أنها نتيجة تدخلات خارجية لتنفيذ "أجندات أجنبية".
· عجز فكر النخب الحاكمة عن التكيف مع متطلبات الدولة الوطنية الحديثة، ومن ذلك فكرة خضوع الدولة – والحاكم - للقانون وخضوعها للمحاسبة. ففي عدد من هذه الدول، يتمتع رئيس الدولة بسلطات واسعة غير خاضعة للرقابة الدستورية، ويحظى بحصانه دينية أو قداسة سياسية.
· الإخفاقات التي اعترت نظم ما بعد الانتفاضات والثورات وانزلاق بعضها إلى صراعات مسلحة، وتزايد النزعات الانفصالية فيها، واجتذاب التدخل العسكري الخارجي، واستمرار الاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار الاجتماعي والتدهور الاقتصادي، وترتب على ذلك أن هذه النظم قدمت نموذجًا سلبيًا لا يغري الآخرين بالتشبه أو الاقتداء به.
· تفشّي مظاهر التطرف والإرهاب واستمرار النزاعات الداخلية المسلحة في سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان والصومال وغيرها مما أعطى للنظم الحاكمة مبررًا لتعطيل مسار الإصلاح السياسي، وإعطاء أسبقية لمكافحة الإرهاب.
· ضعف القوى المعارضة وعجزها عن طرح بدائل وسياسات بشكل واقعي يوازن بين الموارد والإمكانات.
والملاحظة العامة على الأوضاع السياسية العربية سواء في الدول التي شهدت ثورات وانتفاضات أو تلك التي لم تختبرها هي، ضعف الثقة السياسية وتراجع القدرة على بناء التوافق الوطني ومن مظاهر ذلك أزمة الثقة السياسية التي تظهر على عدة مستويات: بين النظم الحاكمة وقوى المعارضة، وبين قوى المعارضة الدينية والمذهبية وتلك المدنية، وبين قوى المعارضة السياسية وتنظيمات المعارضة المسلحة. وبالتأكيد فإن استمرار أزمة الثقة السياسية تؤدي إلى عدم الاتفاق على القواعد المنظمة للعملية السياسية وصعوبة إقامة تحالفات مستقرة بين الفاعلين السياسيين.
أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة*([1])
(2) صدر الكتاب في مايو 2014 و شارك في كتابة فصوله: د. إبراهيم نصر الدين، ود. إيمان رجب، د. حسنين توفيق إبراهيم، د. كمال خلف الطويل، أ. ماجد كيالي، أ. محسن عوض، د. محمد السعيد إدريس، د. محمد سعد أبو عامود، د. محمد نور الدين، د. معتز سلامة، د. منير الحمش. ولا تعبر الآراء الواردة في هذه الدراسة بالضرورة عنهم.