إمكانية الصعود الكوني: النمور الآسيوية وقيادة العالم: دراسة للصين واليابان
تعد كل من الصين واليابان من أكبر القوى الاقتصادية في العالم على نحو عام؛ وفي القارة الآسيوية على نحو خاص؛ إذ تعتبران من دول النمور الآسيوية التي حققت خلال فترة لا تزيد على ثلاثة عقود من الزمان نقلة اقتصادية هائلة فأصبحت الصين القوة الثانية في العالم؛ واليابان القوة الثالثة، وهو إنجاز اقتصادي كبير دفع العديد من العلماء في مجال العلاقات الدولية والمهتمين بالأمن القومى ووضع الإستراتيجيات العسكرية والأمنية يطرحون عددًا من التساؤلات يأتي فى مقدمتها التساؤل حول إمكانية أن يكون لكل منهما دور كبير في إطار النظام العالمي السائد في ظل الجدل المثار حول بنيان هذا النظام، ونمط توزيع القدرات فيه، وما إذا كان هذا التوزيع سيؤدي إلى هيمنة أي منهما (قطبية أحادية ) أو الاثنتين (قطبية متعددة). وهو التساؤل الذي تحاول الدراسة الإجابة عنه من خلال محورين أساسيين:
أولا- الصين وإمكانية الصعود الكوني
في إطار الصعود الكبير الذي حققته الصين خلال العقود الثلاثة السابقة يلحظ المحلل أنه صعود اقتصادي تميز بالسلمية، وقام على مبادئ أساسية تعد ركائز ثابتة طالما استندت عليها سياسة الصين الخارجية في المجالين الإقليمي والدولي منذ استقلالها الحديث عام 1949، تتمثل هذه المبادئ في مبادي خمسة هي: الاحترام المتبادل لسيادة الدولة الوطنية ووحدة أراضيها، وعدم اعتداء دولة أخرى أو التدخل في شئونها الداخلية، والتعامل على أساس المساواة والمنفعة المتبادلة بين الدول، والحفاظ على التعايش السلمي والاستقرار على المستوى العالمي. حيث استمدت الصين من هذه المبادئ أهدافا متعددة سعت لتحقيقها بما يتوافق مع اعتبارات المصلحة القومية العليا لها.
وعليه اتجهت الصين خلال العقدين الأخيرين لبذل جهود دؤوب في مجال دفع السلام والتنمية في عديد من أنحاء العالم، حيث تحولت الدبلوماسية الصينية إلى أداة إيجابية فاعلة في تعزيز دور الصين السياسي والاقتصادي والثقافي على المستوى الكوني، بالشكل الذي جعل الصين تأخذ زمام المبادرة في السعي لإقامة علاقات خارجية جيدة ومتنوعة مع دول وشعوب العالم وهو مايبدو من ناحيتين:
الناحية الأولى: تطوير الصين لعلاقاتها الخارجية بالقوى الكبرى في النظام الدولي القائم، ويأتي في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية على وجه خاص، ودول الاتحاد الأوربي.
الناحية الثانية: تدعيم الصين لعلاقاتها الخارجية بدول العالم النامي من خلال بناء علاقات تعاون متنوعة مع عديد من دول آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وهي العلاقات التي تأخذ شكلين أساسيين، يبدو الأول من خلال العلاقات الثنائية، ويتمثل الثانيفي العلاقات الجماعية سواء من خلال طرف ثالث، أو عبر التعاون مع عدد من مؤسسات العمل المشترك، ويأتي في مقدمتها منتدى التعاون الصيني الأفريقي، ومنتدى التعاون الصيني العربي فضلاً عن البريكس أخيرًا.
إذ ترى الصين في الدول النامية على نحو خاص أداة مهمة تساعدها على طرح مفهوم جديد للأمن يؤمّن صعودها السلمي كقوة دولية ويمنحها صك الشرعية من المجتمع الدولي يساعدها على إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب يسعى لتحقيق العدالة والمساواة بين الجميع، وعليه فإن هناك مصالح قومية وإستراتيجية ملحة تكمن وراء الاهتمام الصيني بالدول النامية تتعلق بقدرتها على الحفاظ على استدامة تنميتها الاقتصادية، وبالتالي استقراها السياسي بما يؤمّن حصول الصين على احتياجاتها من الموارد اللازمة للتنمية، وإيجاد سوق وفرص استثمارية هائلة حيث تهتم بالشركات الصينية لكي تكون قادرة على منافسة الشركات الأجنبية متعددة الجنسية، وتدعم الاستثمار خارج الصين، وتسعى لجذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية بتوفير البيئة الملائمة مع الأيدي العاملة الرخيصة والمدربة، حيث نجحت في إقامة المدن الصناعية العملاقة، وهي تعد الآن من أكبر الدول المتلقية للاستثمارات العالمية.
كما أنه وفي المجال السياسي تسعى الصين إلى أن يكون لها دور إيجابي فاعل تجاه عديد من القضايا والمشكلات الدولية والإقليمية، كما اتجهت إلى تسوية عديد من خلافاتها ونزاعاتها الحدودية مع العديد من دول آسيا الوسطى، كما سعت إلى تشكيل لجان تنسيق وتشاور مع دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا واليابان وفرنسا بشأن عدد من قضايا النزاع فيأفريقيا، وأمريكا اللاتنية، وفي هذا الصدد اتجهت لإعادة هيكلة صنع سياساتها تجاه القارة الإفريقية بدءًا من عام 1997 بإنشاء عدد من الإدارات الخاصة في وزارات التجارة الخارجية والتعليم والزراعة والدفاع الوطني، وكذلك إنشاء عدد من المراكز والمعاهد البحثية والتعليمية المختصة بالدراسات الأفريقية بهدف تنمية العلاقات المتنوعة مع هذه الدول.
كما اتجهت الصين ومن خلال علاقاتها السياسية بعديد من دول أمريكا اللاتينية إلى محاولة الوصول إلى نوع من التوافق السياسي معهم فيما يخص قضايا النظام الدولي، وهذا وإن وجد نوع من الاختلاف بين الصين وبعض دول أمريكا اللاتنية مثل المكسيك بسب تزايد الفائض في الميزان التجاري بين البلدين لصالح الصين، بالإضافةإلى تزايد المنافسة بينهما في الاستحواذ على السوق الأمريكي خاصة في مجالات الملابس الجاهزة والسلع المصممة، وعلما بأن السياسة الصينية تركز في إطار علاقاتها الخارجية خاصة بالدول النامية على تقديم نفسها كدولة نامية تسعى للمشاركة في رسم السياسات العالمية في إطار نظام دولي متعدد القطبية يتسع ليشملها مع دول أخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، حيث تركز على الأدوات الاقتصادية في المقام الأول تليها الأدوات السياسية والثقافية، ومن هنا يرفض قاداتها فكرة أن تكون الصين القطب الواحد المهيمن على العالم.
أما فيما يتعلق بردود الفعل الدولية على سياسة الصين،فيمكن القول إن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا على سبيل المثال قد رحبتا بالدور السياسي الذي تقوم به الصين تجاه العديد من الملفات مثل المشكلة النووية الكورية، الأزمة الإنسانية في دارفور، إلا أنهما لا ترحبان بالطبع بالدور الصيني المتصاعد في المجال الاقتصادي لأسباب معروفة تتصل بالتنافس الاقتصادي، فضلا عن عدم اطمئنانهم لقوة المؤسسة العسكرية الصينية التيتعد من أكبر المؤسسات العسكرية في العالم بفضل ما تتميز به من تفوق عددي، ونوعي من حيث التسليح الإستراتيجي والتقليدي، وهي تكاد تكون الدولة الوحيدة التي قامت بنشر أسلحة نوورية، ويمكن لقوتها النووية ردع القوة الأمريكية. هذا على الرغم من أن الصين لم تسعَ في سياستها الخارجية دومًا إلى تحقيق أهداف توسعية أو عدوانية، إذ تتبع سياسة تقوم على التهدئة وعدم التصعيد، كما أشار قادتها مرارا فإنها تخلت عن خيار البدء باستخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها إلا في حالة الاعتداء عليها، أو في حالة إعلان تايوان استقلالها السياسي عن الصين.
وبناء على ماسبق وفي إطار الحديث حول وضع الصين المتعاظم في النظام الدولي،يثار العديد من السيناريوهات منها السيناريو الذي يروّج لحدوث عدد كبير من التغيرات في مجال السيادة على العالم، وذلك بدءا من عام 2021 منها تعدد الأقطاب بسيادة الولايات المتحدة الأمريكية أو حرب باردة بين الولايات المتحدة والصين، أو تعدد الأقطاب بقيادة الصين، أو حرب باردة بين دول آسيا والصين والتجمع الآسيوي، أو الوصول إلى تفاهمات بين الصين والولايات المتحدة حول زعامة وقيادة العالم العالم.
أما عن من سيتولى قيادة العالم فهو أمر سيرتبط على نحو بعيد بحجم التغير السياسي الداخلي في الصين، فضلا عن مستقبل اليابان، وروسيا وإمكانية الصعود الاقتصادي والعسكري للهند .هذا وإن اتجه عدد كبير من المهتمين بالشأن الصيني لترجيح احتمال أن يكون القرن الواحد والعشرون قرن الزعامة الصينية، وإن ذهب عدد آخر لإضافة الولايات المتحدة معها.
ثانيا- اليابان وإمكانية الصعود الكوني
إذا كانت اليابان قد تراجعت منذ فترة من كونها القوة الاقتصادية الثانية في العالم إلى القوة الثالثة، إلا أن هذا الأمر ليس إيذانا بتراجع اليابان، وبالتالي تراجع التحليلات التي تبحث فيإمكانية الصعود الكوني الياباني، فاليابان كانت ولا تزال قوة اقتصادية هائلة طالما حرصت علىألا تكون عسكرية، تماشيا مع المادة التاسعة من الدستور الياباني الذي ينص نصًا صريحًا على عدم احتفاظ اليابان بقوة بحرية أو برية أو جوية، الأمر الذي جعلها عضوا مسالما في المجتمع الدولي تلتزم منذ خمسينيات القرن الماضي بثلاثة مبادئ أساسية وهي:
1. التعاون الأمني الوثيق مع الولايات المتحدة الأمريكية حيث ترتبط معها بميثاق للأمن والتعاون المشترك.
2. العلاقات التجارية والاستثمارية الجيدة مع دول العالم والتي تلبي احتياجاتها.
3. توثيق التعاون الدولي من خلال الأمم المتحدة وعديد من وكالاتها المتخصصة.
ووفقا لهذه المبادئ السابقة انطلقت اليابان في المجالين الإقليمي والدولي لتقوم بعديد من الأدوات أبرزها:
أ. الأدوات الدبلوماسية ممثلة فيسفاراتها وقنصلياتها فيأنحاء العالم، والتي عملت من خلالها على كسب درجة كبيرة من الثقة، والتفاهم مع عديدمن دول العالم، بالشكل الذي أدى لترسيخ علاقات ‘يجابية معها في إطار تَبنّي سياسة النهوض السلمي.
ب- الأدوات الاقتصادية والتي تتمثل في المساعدات الاقتصادية والمنح المقدمة للدول النامية فضلا عن مساعدة الدول التي تتعرض للكوارث، وتعد اليابان من هذا المنطلق في مقدمة الدول المانحة على مستوى العالم، وتعد من أهم الأهداف التي تقوم عليها سياستها للمساعدات، أن تستخدم المساعدة الأهداف التنمية الحفاظ على البيئة، وللأغراض السلمية، ولضمان حقوق الإنسان.
وقد حققت هذه الأدوات عديدًا من النتائج الإيجابية، إذ رسخت من وضعها العالمي وعملت على تحقيق مصالحها الاقتصادية، وحافظت على الثوابت السلمية، وجعلتها ذات دور مؤثر في مجموعة الثماني وفي عدد من مؤسسات العمل المشترك مثل بنك التنمية الآسيوى، والإيباك، والآسيان على سبيل المثال لا الحصر.
وفي إطار المكانة الكبيرة، والإمكانات المتعاظمة لليابان كان أن آثار المهتمون بالشأن الياباني تحليلات عدة تركزت على إمكانية أن تصبح قوة عسكرية، وتتخلى بهذا عن المادة التاسعة من الدستور، على أساس أن الذراع العسكريةتعد مطلبا أساسيا للدفاع عن التقدم الاقتصادي، وهي الناحية التى أوجدت ثلاثةتيارات أساسية تسود داخل اليابان.
التيار الأول: يسود لدى التيار القومي اليميني الياباني ويمثل مدرسة مهمة، ويرى أن يكون لليابان دور بارز في الشئون العالمية بكلأبعادها السياسية والاقتصادية، والأمنية، حيث تصبح اليابان وفقا لهذا دولة كبرى ذات مسئوليات عالمية وتتخلص من كل القيود التي فُرضت عليها عقب الحرب العالمية الثانية، والتي تتمثل بصفة أساسية في الستور الذي وضعته قوات التحالف بأمر من الجنرال ماك آرثر، الحاكم العسكريالعام في اليابان، والتي تمنع استخدام القوة العسكرية أو شن حرب أو امتلاك سلاح نووي أو الحصول عليه، وهى نواحٍ تعيق بناء قدراتها العسكرية.
التيار الثاني: يسود لدى التيار التقليدي المحافظ وهو يتكون من مسئولين وأكاديميين، ويرى أن يكون لليابان دور محدد للغاية في الشئون العالمية، وهو بالتالي لايحبذ امتلاك اليابان لسلاح نووي أو قدرات عسكرية.
التيار الثالث: يتبناه الحزبان الرئسيان في اليابان ومعهما فئة التكنوقراط، ويرى أن تكون اليابان دولة مدنية عالمية تحقق التنمية بكلأبعادها، ولا تتجه إلى تنمية قدراتها العسكرية، حيث تعمل على المشاركة النشطة في تحقيق السلام العالمي من خلال إستراتيجية عالمية تحمي حقوق الإنسان، تسعى لإحلال السلام، وتقدم يد المساعدة للدول الفقيرة، وتسهم في حماية البيئة، بالإضافة إلى العلاقات الجيدة مع الولايات المتحدة.
ويعد هذا التيار الثالث، وهو السائد حاليا في اليابان، وهو الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات من عدد من المحليين عن إمكانات الصعود الكوني الياباني في ظل افتقادها للمعيار العسكري، وهو التساؤل الذي اختلفت إجابات المحللين عنه بين من رآها استحالية، ومن ذهب إلى أنه وإن كان معيارا مهما إلا أنه لم يعد ذا تأثير كبير، الذي كان عليه قبل تصفية الاستعمار، ذلك أن حيازة العدد الأكبر في الكم والكيف من الجنود والعتاد لا يعني أن خيار القوة العسكرية هو الأول والأهم، ذلك أن المعيار الاقتصادي معيارمهم أضحى يفرض نفسه اليوم أكثر من أي وقت مضى، حيث يتناول عديد من المحللين فكرة الحرب الاقتصادية، فضلا عن ظهور تهديدات جديدة تواجه الدول في عالم اليوم، ولايجدي معها الحل العسكري التقليدي مثل الصراعات العرقية، والتهديدات البيئية، وتهريب المخدرات، والإرهاب.
كما أن التقدم التقني الياباني يمكن تحويله بإضافات بسيطة من قوة سلمية إلى قوة عسكرية، هذا وإن رأى عدد من المهتمين بالعلاقات الدولية أنه عند التساؤل من ستكون له القوة الكبرى في النظام الدولي الجديد، وهل يمكن أن تكون لليابان هذه القوة أو إحدىالقوى؟ فإنه تتم الإجابة بأن اليابان وإن كانت لا تزال تتمتع بكل الإمكانات الاقتصادية التي تؤهلها لأن تكون القوة الأولى في العالم، إلا أنها لا تملك كل أدوات ومعايير القوة الأخرى وخاصة العسكرية، هذا فضلا عن تعرض نموذجها الاقتصادي إلى العديد من المشكلات الداخلية التي تحتاج إلى إعادة نظر واجبة من جانبها لكي تلحق بقوة مثل الصين أو الاتحاد الأوربي، حيث إنهما تسيران سيرا حثيثا في مجال بناء قوة متكاملة سياسية، واقتصادية، وعسكرية تضع نصب أعينهما السعي لاحتلال المركز الأول في العالم، وعليه فإذا أخذنا في الاعتبار أن الأوضاع الدولية قد تحمل بعضَ ما لا يمكن تصوره، فإن الوضع الدولي القائم يشير إلى أن في الأمد منظورًا،فقد يتبلور نظام دولي متعدد الأقطاب يتكون من الولايات المتحدة، والصين، ودول الاتحاد الأوربي، واليابان في إطار تعددية قطبية تعيد للأذهان النظام الدولي السائد خلال القرن التاسع عشر.
وإلى أن تحدث الهيمنة على العالم لأحد الطرفين أو لكليهما أو للآخرين معهما، يثير عديد من المحللين احتمالات سيطرة أي منهما في القارة الآسيوية، حيث تتم الإشارة إلى أنه وعلى مدى العقدين القادمين ستكون الهيمنة بالمشاركة لكل منهما، لكن مع تصادمات متكررة، وعليه ستزيد الصين من دورها السياسي والإستراتيجي في شئون القارة الآسيوية، وستعمل اليابان على الحفاظ على تفوقها التكنولوجي والمالي، إلا أن هذه القيادة المشتركة ربما تنتهي بالهيمنة الصينية الاقتصادية على المنطقة، بما يؤدي وخلال عقد من الزمان إلى أن تصيح الصين قائدا آسيويا اقتصاديا بامتياز مما يؤهلها نحو قيادة عالمية.
هذا جزء من مقال مطول منشور فى العدد الجديد من مجلة أفاق سياسية.
*مدير مركز الدراسات الآسيوية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ جامعة القاهرة