التنوع والتباين: قراءة في بنية الاقتصاد العربي لعام 2014
يحتل الاقتصاد العربي مكانة مهمة في الاقتصاد العالمي، حيث تمد الدول العربية العالم بما يعادل ثلث إمدادات النفط العالمية، وتحتوي أراضيها على ما يقرب من ثلثي الاحتياطي العالمي من النفط، الذي لا يزال حتى الآن المصدر الرئيسي للطاقة في العالم. كذلك فإن المنطقة العربية يمثل مستوردا رئيسيا للسلع الغذائية والسلع المصنوعة بشكل عام. وتتوسط المنطقة العربية طرق التجارة العالمية البحرية والجوية، إذ تقع بها ممرات بحرية حيوية مثل قناة السويس ومضيق هرمز ومضيق باب المندب ومضيق جبل طارق. كما تطل على بحريْن من بحار العالم المهمة هما البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر.
وقد أسهمت المنطقة العربية في حضارة العالم مساهمة تاريخية فاعلة خلال العصور الوسطى، لكنها الآن أصبحت موطنا للنزاعات والحروب ومصدرا من مصادر تهديد الاستقرار في العالم، خصوصا بعد تفكك عدد من الدول المهمة فيها مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن، وضعف بنية الدولة في بقية المنطقة على وجه العموم. وقد خضعت المنطقة في العصر الحديث لسيطرة بريطانيا وفرنسا اللتين قسّمتا المنطقة فيما بينهما قبل نهاية الحرب العالمية الأولى. وبمقتضى اتفاقية سايكس- بيكو وقعت مناطق وولايات شرق وشمال البحر المتوسط تحت اللسيطرة الفرنسية باستثناء فلسطين في المشرق التي خصعت للإنتداب البريطاني وليبيا في المغرب التي خضعت للنفوذ الإيطالي. كما سيطرت بريطانيا على العراق ومصر والسودان ومنطقة الخليج العربي، لتضمن بذلك أمان طرق التجارة إلى ومن الشرق الأوسط، إضافة إلى السيطرة على مناطق الإمدادات النفطية الرئيسية.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية حصلت الدول العربية على استقلالها تدريجيًا، بينما كانت مصر قد حصلت على استقلال جزئي (1922) بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وقيام ثورة 1919. وقد تلازم استقلال ما بعد الحرب العالمية الثانية ببداية تجربة مبكرة للتعاون الاقتصادي بين تلك الدول حديثة الإستقلال. وتعتبر تجربة التعاون الاقتصادي الإقليمي العربي واحدة من أقدم التجارب العالمية. فهي تجربة سابقة على موجة التحرر الوطني في العالم العربي، كما أنها بدأت في سياق تجربة شاملة للتعاون السياسي والإقتصادي والدفاعي في إطار مؤسسي جامع هو جامعة الدول العربية.
وقد جاءت هذه التجربة في ذروة معركة تاريخية حول "طبيعة الهوية" لشعوب المنطقة، وهل تقوم هذه الهوية على أسس "الرابطة الإسلامية" أم على أسس "الرابطة العربية". وجاء تأسيس "جامعة الدول العربية" ليجسد انتصارا بائنا لقوى "الرابطة العربية"، التي تقوم على الخصائص اللغوية واللسان المشترك، بصرف النظر عن غير ذلك من مقومات النسيج الاجتماعي في المنطقة. ولكن حصاد التعاون الإقليمي العربي عموما، بما في ذلك التعاون الاقتصادي لا يزال هزيلا جدا بكل المقاييس، سواء بالقياس إلى طموحات المشروع العربي نفسه، أو بالقياس إلى ما أحرزته تجارب التعاون أو الإندماج في أقاليم أخرى من العالم. ويتضاءل هذا الحصاد إلى أدنى مستوى إذا ما قارنا التجربة العربية بالتجربة المقابلة في أوربا الغربية، وهي التجربة التي نشأت بعد التجربة العربية بنحو عقد كامل من الزمان.
وتواجه تجربة التعاون العربي في الوقت الحاضر تحديات متنوعة على مستويات متعددة، في عصر يبدو فيه العالم وكأنه تجاوز المنطقة العربية بمسافة بعيدة، مما يجعل المنطقة العربية تبدو وكأنها أصبحت حجر عثرة يعوق التقدم العالمي. فالعالم تقدم على صعيد تشابك العلاقات، وعلى صعيد انسجام منظومة القيم، وعلى صعيد تسوية الصراعات، وأصبح الطريق ممهدا لقيام عصر جديد من السلام العالمي، يقوم على أساس التعاون الإنساني ضد الكوارث الطبيعية والبشرية ولحماية البيئة والمحافظة عليها، ولزيادة مستويات الرفاهية والقضاء على التفاوت الحاد في توزيع الدخل بين الفئات الاجتماعية المختلفة.إن المنطقة العربية التي لا تزال في صراع مع نفسها، وفي صراع مع العالم من حولها، تبدو وكأنها أصبحت خارج إطار الصورة، تعيش في عصر غير ذلك الذي ينتمي إليه العالم. وتواجه تجربة التعاون العربي، إضافة إلى ذلك انعكاس "أزمة الهوية" مؤسسيا على الوحدات السياسية العربية "الدول" وعلى مؤسسات ما يسمّى العمل العربي المشترك "جامعة الدول العربية". إن أزمة مشروع التعاون العربي تتجلى إذن في طبيعة علاقة هذا المشروع بنفسه (صراع الهوية) وبمؤسساته (تدهور دور مؤسسات الجامعة العربية) وبعلاقته مع العالم (غلبة الصراع على التعاون).
وسوف أحاول في هذا المقال وصف وتحليل خصائص البنية الداخلية للاقتصاد العربي من حيث التنوع والاختلاف، وموقع أو مكانة هذا الاقتصاد داخل بنية الاقتصاد العالمي، مع التركيز على العوامل والمقومات ذات الصلة، إنقطاعا أو اتصالا، بظاهرة العولمة التي لم تعد خيارا يمكن الأخذ به أو رفضه، وإنما هي أصبحت ظاهرة غير قابلة للرجوع عنها أو الانقلاب عليها، فهي الآن بحق (irreversible) على مستوى العالم ككل، كما أنها أيضا ظاهرة شاملة لا تقبل التجزئة. وبناء على ذلك فإنني سأحاول أولا وقبل كل شيئ النظر في المقومات الأساسية لاقتصاد الدول العربية، والتحديات الرئيسية التي تواجه هذه الدول، سواء على صعيد علاقتها بالعالم أو على صعيد إعادة المسار الاقتصادي إلى المسار الصحيح الذي يحقق التنمية والاستقرار، ويساعد على "دمج الاقتصاد العربي" في الاقتصاد العالمي، على أسس التكافؤ وتبادل المصالح والمشاركة في تحقيق الرفاهية والسلام.
أولاً- التنوع والتباين في بنية الاقتصاد العربي
نقصد بالاقتصاد العربي هنا مجموع المتغيرات الإقتصادية للدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، والتي تقع جغرافيا بين سواحل الخليج العربي شرقا وسواحل شرق المحيط الأطلنطي غربا، وبين الحدود التركية وسواحل البحر المتوسط شمالا، والصحاري الأفريقية جنوبا. وهذه المنطقة تتنوع فيها الثروات والموارد، وتختلف فيها النظم والسياسات إلى درجة التصادم! فإلى جانب المزارع والوديان الخضراء إلى مناطق النفط والغاز الثرية، تتعايش الصحارى القاحلة والمناطق شديدة الفقر. وإلى جانب أنظمة حكم تحاول التقدم نحو تحول ديمقراطي، تقوم أنظمة ملكية أوليجاركية تسيطر على الثروة وعلى السلطة في بلدانها. وإلى جانب مناطق شديدة الكثافة في السكان، تتعايش مناطق تعيش على استيراد العمالة من الخارج، ويعتبر السكان الأجانب بالنسبة لها شريان الحياة الذي لا تستطيع أن تعيش بدونه. لدينا إذن في هذه المنطقة من العالم التنوع والاختلاف اللذان أفرزا قدرا هائلا من التباين في توزيع الثروة وفي معدلات النمو والرفاهية الاقتصادية والاجتماعية.ومن الملاحظ أنه على الرغم من الدور الإيجابي الذي تلعبه بعض المتغيرات الاقتصادية على المستوى الإقليمي، مثل انتقال العمل وما يصاحبه من تحويلات مالية من الدول المضيفة إلى الدول الأم، ومثل التحويلات الرسمية التي تتدفق من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة أو متوسطة الدخل، من خلال مؤسسات التنمية الإقليمية أو المحلية، مثل صناديق التنمية في الدول العربية النفطية، فإن التباين في مؤشرات النمو الاقتصادي يزداد حدة سنة بعد سنة.
وقد أدى هذا التباين من الناحية العملية إلى بروز ثلاثة أقاليم فرعية، يتميز كل منها بمزايا تختلف عن الآخر. وأوضح القائمون على إعداد تقرير البنك الدولي عن توقعات النمو في العالم (Global Economic Prospects) عام 2014 أن العالم العربي أصبح ينقسم من الناحية الاقتصادية إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى، تضم دول مجلس التعاون الخليجي الست، ليس لأنها تجتمع في إطار مؤسسي واحد، ولكن لأنها انضمت إلى نادي الدول المرتفعة الدخل، بعيدا إلى أعلى عن غيرها من الدول العربية، خصوصا بعد ان انضمت سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية أخيرا إلى هذا النادي.
المجوعة الثانية، وتضم الدول العربية النامية المتوسطة الدخل أو الفقيرة المستوردة للنفط، وتضم مصر والأردن ولبنان والمغرب وتونس وجيبوتي وفلسطين. وباستثناء جيبوتي فإن هذه المجموعة تتمتع بتقارب بين مستويات النمو والدخل وبتنوع ملموس في قطاعاتها الإنتاجية. وهي جميعا مستورد صافٍ للنفط والغاز.
أما المجموعة الثالثة، فإنها تضم الدول العربية النامية المصدرة للنفط، وتضم العراق والجزائر وليبيا وسوريا واليمن. وباستثناء اليمن وسوريا، فإن بقية دول المجموعة تتقارب فيما بينها في مستويات النمو والدخل ومؤشرات التنمية البشرية بشكل عام.
ونتيجة لهذا التقسيم، الذي اعتمده البنك الدولي أخيرا في إحصاءاته، فإنه أصبح من الصعب أن نتعامل إجمالا مع مؤشرات النمو والمتغيرات الاقتصادية بدون التمييز بين هذه المجموعات الثلاث. ومن نافلة القول هنا؛ إن التعامل مع الاقتصاد العربي وكأنه كتلة واحدة متجانسة، سوف يؤدي إلى الكثير من الإستنتاجات الخاطئة. فالقول مثلا بأن الصادرت النفطية هي المحرك الرئيسي للنمو ينطبق على الإمارات ولكنه لا ينطبق على المغرب. ولهذا فإنه بينما قد ترحب دول مثل المغرب وتونس بانخفاض أسعار النفط، فإن بلدانا أخرى مثل السعودية والكويت واليمن تعتبر أن انخفاض أسعار سلعة التصدير الرئيسية لها بمثابة متغير سلبي، يترك أثره الضار على النمو وعلى مستوى الرفاهية. ومع ذلك، فإن بلدانا مثل الأردن ولبنان ومصر، قد تهتز لانخفاض أسعار النفط، ليس لأنها تحصل على إيرادات صافية كبيرة من تصديره، ولكن لأنها تعتمد على الدول النفطية من ثلاثة جوانب، الأول باعتبارها (أي الدول النفطية) أسواقا للتصدير، والثاني باعتبارها دولا مضيفة لفائض العمل، ومن ثم مصدر لتحويلات العاملين، وثالثا باعتبارها مصدرا مهما من مصادر التدفقات الرأسمالية الرسمية (المعونات) والخاصة (الاستثمارات).
ثانياً- مؤشرات وملامح التباين والاختلاف
وبصرف النظر عن الإحباطات والقصور في أداء مشروع الاندماج الاقتصادي العربي (منطقة التجارة الحرة العربية - مجلس الوحدة الاقتصادية العربية- اتفاقية أغادير- اتفاقيات تيسير الاستثمار والنقل والتجارة وغيرها)، فإن ما يمكن تسميته بـ "التضامن العربي في مواجهة التهديدات المشتركة" قد لعب دورا مهما على مدار العقود الماضية منذ الاستقلال وحتى الآن في مساعدة الدول العربية في ثلاثة وجوه رئيسية هي:
- تحمل أعباء التحديات العسكرية والسياسية، (مثل تلك الناتجة عن الصراع العربي الإسرائيلي) أو تلك الناتجة عن الضغوط الدولية المختلفة من خارج المنطقة، مثل الضغوط الإيرانية (احتلال الجزر الإماراتية والحرب العراقية الإيرانية).
- تعزيز القوة التفاوضية العربية، وهو ما تجلى في "الحوار العربي - الأوربي"، والحوارات مع دول وأقاليم العالم الأخرى (الحوار العربي –الياباني، والعربي الهندي، والعربي الروسي، والعربي اللاتيني) وغيرها.
- توظيف هذه القوة التفاوضية الإضافية واستخدامها لتحقيق قدر من التوازن في عقد ترتيبات تجارية متعددة الأطراف مع العالم، حتى وإن كانت مثل هذه الترتيبات تجري في نطاق أقاليم فرعية على مستوى العالم العربي، أو حتى على المستوى الثنائي، كما هو الحال في اتفاقات الشراكة التجارية و في ترتيبات جذب الاستثمارات الأجنبية.
إن تفاوت الثروة ومعدلات النمو، واختلاف طبيعة هياكل الإنتاج وأهداف السياسات الإقتصادية، لم تؤد جميعها أو أي منها إلى الخصم من القدرات العربية الإقتصادية، ولم نشهد على مدار العقود الماضية أنه تم توظيفها توظيفا سلبيا في صراعات أو في نزاعات قائمة أو محتملة بين الدول العربية وبعضها البعض. قد تكون مزايا التباين قد أتاحت لدولة أو أكثر تحقيق قدر أكبر من المكاسب في علاقاتها بالدول العربية أو على المستوى العالمي، لكننا لم نستطع أن نرصد أن مثل هذه المزايا قد تم استخدمها من جانب طرف للخصم من قوة طرف آخر على مستوى العلاقات الثنائية أوالإقليمية أو الدولية.
وربما تقدم بعض الأرقام هنا صورة عن مدى التباين الاقتصادي بين الدول العربية
- تبلغ مساهمة الدول العربية ما يقرب من 3.8% من قيمة الإنتاج الإجمالي في العالم (2013) ولكننا إذا استبعدنا دول مجلس التعاون الخليجي الست، فإن هذه النسبة تنخفض إلى 1.7% تقريبا.
- يبلغ متوسط الدخل الفردي في دول مجلس التعاون الخليجي الست نحو 43.8 ألف دولار سنويا، وهو ما يعادل نحو 10 أمثال متوسط الدخل الفردي في بقية الدول العربية. ولكن على الرغم من ارتفاع متوسط الدخل الفردي في دول الخليج، فإن متوسط الدخل الفردي في الدول العربية عموما، بما فيها دول الخليج، يقل عن متوسط الدخل الفردي على مستوى العالم بنسبة 32%. وتعكس هذه المقارنة ليس فقط مقدار التفاوت داخل العالم العربي، ولكن أيضا مقدار التفاوت السلبي بين الدول العربية ككل وبين العالم.
- تعاني الدول العربية المستوردة للنفط عموما من انعدام أو انخفاض معدلات التوازن في معاملاتها الخارجية، وينعكس ذلك سلبا على موازينها التجارية والمالية في صورة عجز ومديونية، في حين إن الدول المصدرة للنفط، خصوصا دول مجلس التعاون تتمتع بفوائض تجارية ومالية تساعدها على تحقيق مستويات أعلى من الرفاهية داخليا، والقدرة على الاستثمار في الخارج. لكن هذه المزايا التجارية والمالية التي تتمتع بها الدول العربية المصدرة للنفط سرعان ما تتبخر في حال انخفاض الأسعار. ويقدر البنك الدولي (2013) إنه إذا انخفضت أسعار النفط من مستوياتها الحالية إلى 80 دولارا للبرميل، فإن ذلك سيؤدي إلى تخفيض معدلات النمو في الدول العربية النامية المصدرة للننفط بنسبة 1.8% بينما على العكس من ذلك سيساعد على زيادة النمو في الدول العربية المستوردة للنفط بنسبة 0.5% من إجمالي الناتج المحلي، وتحسين موازين المعاملات الجارية بالنسبة نفسها.
أما على المستوى العالمي، فإن الاقتصاد العربي يكتسب أهميته الرئيسية من قوته النفطية وربما المالية إلى حد ما. ذلك إن قيمة إجمالي الإنتاج المحلي للدول العربية، بما فيه من نفط وغاز ومعادن، يكاد يعادل إنتاج دولة أوروبية واحدة هي ألمانيا، ويقل عن إنتاج دولة آسيوية واحدة هي اليابان بنحو 32% ويعادل ما يقرب من 20% من إنتاج الولايات المتحدة! وسوف نحاول من خلال الجدول التالي تقديم أو عرض الملامح الرئيسية التي يتسم بها الإقتصاد العربي في علاقته بالاقتصاد العالمي. وسوف نقتصر في هذا الجدول على عدد من المتغيرات الأساسية مثل السكان والناتج الصادرات والواردات، لبيان الصورة الحقيقية لوزن الاقتصاد العربي داخل الاقتصاد العالمي أو ما يشبه "بصمة اقتصادية" نتعرف منها على حال الاقتصاد العربي.
نصيب الدول العربية % من العالم |
البيان |
5.2 |
من إجمالي سكان العالم |
3.8 |
من إجمالي الإنتاج العالمي 40% منه عبارة عن إنتاج صناعات استخراجية |
56.8 |
من الاحتياطي العالمي المؤكد من النفط |
28.4 |
من الاحتياطي العالمي المؤكد من الغاز |
32 |
من إنتاج النفط العالمي |
17.1 |
من الإنتاج العالمي من الغاز |
7.2 |
من إجمالي الصادرات السلعية العالمية، منها 76.5% عبارة عن صادرات نفط وغاز ومعادن |
4.4 |
من إجمالي الواردات السلعية العالمية منها 63% من السلع المصنوعة و20% سلع زراعية 16% وقود ومعادن |
(مسحوب من بيانات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وصندوق النقد العربي،
وتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي عن التنافسية، متوسط عامي 2012 و2013)
ثالثاً- ضعف القدرة على التنافس
وإلى جانب ضعف مكانتها الإقتصادية العالمية في الوقت الحاضر، فإن الدول العربية تفتقر إلى مقومات المنافسة التي يمكن أن تساعدها في المدى القصير على تعزيز مكانتها العالمية. ويقرر خبراء البنك الدولي وصندوق النقد أن تحقيق نمو حقيقي في الأجلين المتوسط والطويل سيتوقف جوهريا على إدخال إصلاحات هيكلية وسياسية تساعد على التخلص من اختناقات التنمية الحالية. وقد أظهرت استبيانات المنتدى الاقتصادي العالمي (2013/2014) أن انعدام كفاءة أجهزة الإدارة الحكومية والفساد وعدم استقرار السياسات الاقتصادية كانت عوامل مشتركة في جداول معوقات ومشاكل التنافسية في الدول العربية. وليس من المتوقع أن تنجح الدول العربية في تعزيز مكانتها التنافسية مع استمرار هذه المعوقات والمشكلات. وفوق ذلك فإن تحقيق معدلات مرتفعة للتنمية يعتبر تحديا رئيسيا من التحديات التي تواجه الاستقرار، وذلك بسبب الارتفاع الحاد في نسبة البطالة بين الشباب.
وطبقا لتقرير صندوق النقد الدولي عن توقعات النمو (أكتوبر 2014) فإن معدل البطالة بيين الشباب في منطقة الشرق الأوسط عموما (الدول العربية إضافة إلى إيران) يرتفع إلى 20% حسب الأرقام الرسمية، بما يجعل هذه المنطقة أسوأ مناطق العالم على الإطلاق فيما يتعلق بالبطالة عموما، حيث يصل معدل البطالة إلى ثلاثة أمثال المعدل العالمي، ويزيد في أوساط الشباب (15- 25 سنة) على وجه الخصوص.
ويقدر البنك الدولي في تقريره عن توقعات النمو في العالم (يونيو 2014) أن الدول العربية تحتاج إلى توفير 28 مليون فرصة عمل على الأقل خلال السنوات السبع المقبلة، وذلك للمحافظة على معدلات التشغيل الحالية. وهذا يعني عمليا أن الدول العربية ينبغي عليها أن توفر 4 ملايين فرصة عمل سنويا على الأقل حتى تتمكن من وقف ارتفاع معدلات البطالة عن مستوياتها الراهنة التي تبلغ (حسب الإحصاءات الرسمية) أكثر من 13% في مصر وما يتراوح بين 20% إلى 30% في بلدان مثل العراق واليمن وموريتانيا. إن تحقيق معدلات أعلى من النمو أصبح التحدي الرئيسي الذي يواجه الاقتصاد في الدول العربية، ليس لغرض زيادة المكانة والقدرة على المنافسة، ولكن الأهم من ذلك لتجنب مخاطر استمرار القلاقل الاجتماعية والثورات في الداخل.
وهذا التحدي لن يكون أبدا بالشيء السهل بدون إدخال إصلاحات مؤسسية هيكلية، وإصلاحات في السياسات الاقتصادية، والقضاء على الفساد وتطوير كفاءة الإدارة الحكومية. وتشير معدلات النمو الاقتصادي في الدول العربية خلال الفترة منذ بداية القرن الحالي إلى أن دول المنطقة العربية (النفطية وغير النفطية) حققت معدلات نمو متواضعة قياسا إلى احتياجاتها التنموية. وبلغ متوسط معدل النمو في دول المنطقة ككل خلال الفترة من عام 2000 وحتى 2009 ما يقرب من 4.2% سنويا في المتوسط. وتراجع هذا المعدل إلى 2.9% سنويا في المتوسط منذ عام 2010 وحتى الآن. وتبدو الإشارات في الأفق وكأنها تخبرنا أن الدول العربية لن تتمكن من تحقيق معدلات النمو المتوقعة في السنوات المقبلة إذا استمرت أسعار النفط عند مستوياتها الحالية أو إذا انخفضت عنها.
وقد بنى خبراء البنك الدولي تقديراتهم للنمو على افتراض أن متوسط أسعار النفط سيبلغ نحو 102.8 دولار للبرميل في العام الحالي (2014) وأنها ستنخفض بنسبة 3.4% فقط في العام المقبل 2015 لتبلغ 99.3 دولار للبرميل في المتوسط على مدار العام. لكن مؤشرات الأسعار حاليا وصعوبات النمو في عدد من أقاليم العالم بما في ذلك اليابان ربما تدفع إلى الاعتقاد بأن متوسط أسعار النفط سينخفض عن تقديرات البنك، وهو ما سينعكس بالضرورة على تقديرات النمو في الدول النفطية، حيث إن عائدات تصدير النفط تمثل المحرك الأساسي للتنمية في هذه الدول.
كذلك فإن استمرار المنافسة من إمدادات وصادرات الولايات المتحدة من الغاز ومن الزيت الصخري (shale oil) واتساع نطاق اعتماد شركات النفط العالمية على تكنولوجيا الحفر الأفقي، واتجاه هذه الشركات إلى تكريس جزء كبير من استثماراتها للحفر في المياه العميقة، من شأنها أن تنتج تحولا في تجارة النفط والغاز في العالم بعيدا عن أوبيك ولصالح الإمدادات من دول مثل الولايات المتحدة والمكسيك وأستراليا. ويبدو من نتائج الاجتماع الوزاري الأخير لمنظمة أوبيك ( فيينا في 27 نوفمبر 2014) أن منظمة الدول المصدرة للنفط أصبحت في الوقت الحاضر، وربما ستكون في السنوات المقبلة أكثر حرصا على نصيبها من السوق (market share)، على عكس ما كانت الحال عليها في فترات سابقة عندما كانت أشد حرصا على المحافظة على مستوى معين في الأسعار. وكان قرار أوبيك بعدم تخفيض الإنتاج على الرغم من تدهور الأسعار دليلا على ذلك التحول في سياسة أوبيك.
إن هذا الاتجاه النزولي لأسعار النفط، في حال استمراره، من المرجح أن يؤثر سلبا على الدول العربية النامية غير النفطية وليس النفطية فقط، وذلك بسبب الآثار السلبية التي سيتركها انخفاض أسعار النفط على تحويلات العاملين وعلى مساعدات التنمية الرسمية وكذلك على فرص التصدير وفرص العمل. وعلى الرغم من أن الدول العربية النامية غير المصدرة للنفط تستطيع توفير ما يقرب من 3.5 مليون فرصة عمل جديدة سنويا إذا حققت معدلات نمو لا تقل عن 5% سنويا، فإنه من المشكوك فيه كثيرا أن تتمكن الدول العربية من تحقيق معدل النمو هذا في الأجل المتوسط اعتمادا على حركة المتغيرات الاقتصادية فقط.
ومن المتوقع أن يبلغ المعدل النمو السنوي للنمو في الدول العربية النامية (المستوردة الصافية للنفط) في السنوات القليلة المقبلة ما يتراوح بين 2% إلى 3.5% في أحسن التقديرات. وكانت هذه الدول قد سجلت معدلات نمو متواضعة جدا أو انكماشا منذ بداية ثورات الربيع العربي (- 0.8% في عام 2011 و – 0.1% في عام 2013) و نموا بنسبة 0.6% في عام 2012 مع توقعات بتحقيق نمو بنسبة 1.9% بنهاية العام الحالي 2014. وهذا يعني أن نجاح تفعيل العوامل الأخرى غير الاقتصادية (مثل تحقيق الاستقرار السياسي وتنفيذ إصلاحات تشريعية وإدارية ومؤسسية) سيكون العامل الحاسم في تحريك النمو الاقتصادي من منطقة الانكماش أو الركود إلى منطقة النمو المطلوب لتقديم فرص عمل جديدة، أو بمعنى أدق لتقديم "أمل" إلى الملايين من الشباب الغاضب في العالم العربي.
رابعاً:- حتمية الإصلاحات الهيكلية
من الواضح أن الدول العربية إذا تركت المتغيرات الإقتصادية لتعمل طبقا لظروف السوق المحلية والعالمية، فإن ذلك لن يؤدي أبدا إلى إنتاج الآثار المطلوبة لتحقيق القدرة على التنافس، ولزيادة فرص التشغيل والتنمية، ولتوجيه دفة الحياة إلى حالة من الاستقرار تعين على تحقيق السلام الاجتماعي وإنتاج القدر اللازم من ثمار التنمية التي تساعد على تحقيق قدر ضروري من الرفاهية الاجتماعية، أو على أوجه أدق، القدر الضروري من توفير مقومات انطلاق النمو. إن كل المتغيرات الاقتصادية قد دخلت منطقة تكاد تكون مغلقة. فالحاجة إلى تحقيق التوازن عن طريق تخفيض الاستثمار والإنفاق العام، تستفز معدل البطالة الذي يزيد يوما بعد يوم. والحاجة إلى تطوير القدرة على المنافسة بزيادة التقدم التكنولوجي والتجديد تصطدم بتدهور نظام التعليم والتدريب. والرغبة في جذب المستثمرين الأجانب أو زيادة معدلات الاستثمار الخاص بشكل عام تتضاءل أمام الفساد المترامي في أركان الإدارة الحكومية. والعجز عن تطوير البنية الأساسية المنهارة يؤدي عمليا إلى تخفيض القدرة على الإنتاج وتحقيق النمو. لقد دخلت اقتصادات الدول العربية النامية في مصيدة "الحلقة المفرغة الخبيثة" التي يستحيل الخروج منها بدون إصلاحات سياسية وهيكلية وتشريعية.
إن بعض المحللين، وإلى حد كبير صناع السياسة الاقتصادية والسياسيين يريدون إلقاء اللوم على الاقتصاد والادعاء بأن زيادة الإنتاج أو تحقيق معدلات أعلى من التنمية هو الحل. والحقيقة أن هذا الإدراك لأولوية الإقتصاد على السياسة في الوقت الحاضر يفتقر إلى الوعي بأن أزمة الاقتصاد هي أزمة مشتقة من أزمة السياسة. لقد فر السائحون الأجانب، وللسياحة أهمية كبرى في دول مثل مصر ولبنان والأردن والمغرب وتونس، لأن تلك البلدان تعاني من انعدام الأمن. وهرب المستثمرون الأجانب لأن تلك البلدان تعاني من انعدام القانون. وتوقف المستثمرون المحليون عن العمل لعدم الثقة في المستقبل. وبسبب الفساد والمحسوبية انتشرت حالة من عدم الرضا في أوساط قوة العمل الرئيسية، الشباب، بحيث تراجع كثيرا الدافع إلى العمل أو الإجادة فيه. إن هذه هي حالة من الشلل المعنوي والمادي، لن يستطيع الاقتصاد أن يتغلب عليها بدون إصلاحات سياسية ومؤسسية وتشريعية.
إن الطريق إلى بناء علاقات اقتصادية صحيحة وصحية داخل بنية الاقتصاد في الدول العربية، وبين الدول العربية وبين العالم الخارجي، يستلزم أيضا، بعد الإصلاحات السياسية والمؤسسية والتشريعية، إعادة النظر في بنية الاقتصاد العربي، بما يؤدي إلى تحويل هذه البنية من مجرد الاعتماد على القطاعات الاستخراجية الأولية إلى القطاعات الصناعية والتكنولوجية المتقدمة. بمعنى آخر فإن استمرار اعتماد الدول العربية على الطابع "الريعي" لاقتصادها، من شأنه أن يكرس ضعف مكانتها على المستوى العالم، والأخطر من ذلك أن تتعرض الدول العربية للمزيد من القلاقل والثورات.
وليس
هناك من سبيل إلى تغيير بنية الاقتصاد العربي إلا من خلال تفعيل العوامل الإيجابية
غير الاقتصادية، مثل متغيرات التعليم والتدريب والصحة والتكنولوجيا والتجديد والابتكار.
وهذا أيضا لن يتحقق مع استمرار الاختناقات السياسية الراهنة. وسوف يؤدي الإخفاق في
إزالة هذه الاختناقات إلى المزيد من عدم الاستقرار واستمرار القلاقل. علينا أن
ندرك أن طبيعة المتغيرات الاقتصادية لا تستطيع فعل السحر في أنظمة سياسية مغلقة أو
تعمل بآلية "إدارة الأزمة" والإهتمام بمحاولة "ترحيل الأزمات أو دفعها إلى الأمام"
أكثر من الاهتمام بحل هذه الأزمات، ونقل المجتمع بأكمله إلى حالة جديدة من الرضا
عن طريق المشاركة الحقيقية والكف عن إعادة إنتاج الفشل.
هذا المقال جزء من دراسة مطولة نشرت في مجلة أفاق سياسية