المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

صراع هويّات أم سلطة؟: اليمن بين سندان الحوثيين ومطرقة القاعدة

الأربعاء 17/ديسمبر/2014 - 10:40 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. أحمد موسى بدوي

 متسارعة هي الأحداث في اليمن، ومع كل حدث تتكشف علاقات سياسية وطائفية معقدة. خلال الأشهر الماضية سيطر الحوثيون في سهولة ويسر على المحافظات الزيدية، وزحفوا صوب المحافظات الشافعية السنيّة بجسارة تبدو غير مفهومة، إلى أن تفشت أسرار تحالفهم مع علي عبد اللـه صالح. ثم يدخل تنظيم القاعدة مسرح العمليات، بتحالف آخر مع القبائل السنية لوقف التمدد الحوثي. أطراف خارجية متورطة وأخرى مترقبة في مشهد معقد يحتاج إلى الفهم. وربما يكون البحث في سوسيولوجيا الدين في اليمن، مدخلا ملائما لذلك، ومن هذه الزاوية يحاول المقال تتبع الحالة الدينية اليمنية، بمكوّناتها القديمة (الشافعية والزيدية) ومكوناتها الحديثة (السلفية الوهابية) وانعكاسات هذه الحالة على الوضع السياسي الراهن.

من المعروف أن السلفية الأولى نشأت كظاهرة فكرية في العصر العباسي، بسبب حالة من التوتر الفكري، حين امتدت رقعة الدولة الإسلامية، واحتاج الإسلام إلى منهجية لتبليغ الدعوة في هذه الأرجاء الشاسعة بما تذخر من تنوع ثقافي وحضاري، ودب خلاف عميق بين فريقين: الأول هو المتفلسفون المتكّلمون، وعلى رأسهم المعتزلة، ويرى أن الاحتكام إلى النصوص لا يجدي مع الذين لا يؤمنون بحجّيتها، ما يتطلب أدوات فكرية عقلانية تصلح لكل ألوان الجدل والبرهنة. أما الفريق الثاني فيتزعمه الإمام أحمد بن حنبل، الذي تمسك بحجية النص والمأثورات. وانتصر الخليفة المتوكل للفريق الثاني، فقرر إقصاء المعتزلة من المناصب الدينية الرئيسية، وتولية أتباع ابن حنبل بدلا منهم.

والمتتبع للحركة السلفية في التاريخ الاسلامي، يكتشف أن انتعاش السلفية يرتبط دائما بالخطر الخارجي أو التفكك الداخلي للدول الإسلامية، فحين دب الضعف في كيان الدولة المملوكية، وصارت نهبا لصراعات الداخل، ومطمعا للخارج (الاجتياح التتري والصليبي)، انتعشت السلفية في هذه اللحظة التاريخية، على يد ابن عقيل وابن تيمية ثم ابن القيم. ناهجين النهج الحنبلي. ثم ينزوي الفكر السلفي خلال عصر الدولة العثمانية في مراحل قوتها، ويظهر من جديد على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، وتتأسس الدولة السعودية على مرجعيته، ولأول مرة في التاريخ الإسلامي، ينفرد المذهب الحنبلي تقريبا في نسخته الوهابية، بدولة إسلامية كبيرة، تمثل مركز العاطفة الدينية الإسلامية.

أن انتعاش السلفية يرتبط دائما بالخطر الخارجي أو التفكك الداخلي للدول الإسلامية

أولا- الوهابية، الشافعية، الزيدية، أية علاقة

تجاوزت الدعوة الوهابية محيطها الجغرافي وبيئتها المحدودة إلى كل الأقطار الإسلامية المشرقية والمغربية، عبر مرحلتي تطور: الأولى بدأت مع التعرف على النسق الفكري الوهابي خلال مواسم الحج، ثم جاء تطورها الحاسم خارج الجزيرة العربية، عن طريق انتشار المراكز الإسلامية ذات المرجعية الوهابية – المموّلة من دول وأثرياء الخليج- في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، وحتى في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية.

ومن المعروف أن المجتمع اليمني استقر عقائديا على اعتناق أحد المذهبين الشافعي أو الزيدي، وكلاهما لا يلتقيان مع المنهج السلفي الوهابي. وبعيدا عن الدعوة الوهابية، فقد عرف اليمن عددا من العلماء الذين قدموا إسهامات بالغة الأهمية في التعايش بين المكون السني والشيعي في اليمن، ويأتي على رأس هؤلاء الشيخ محمد بن علي الشوكاني، الذي وقف على مسافة متساوية من المذهبين الشافعي والزيدي. قدم الشوكاني خلال عمله بالقضاء محاولة أصيلة، لتوحيد المرجعية التشريعية والقانونية لأهل اليمن، ومع ذلك لم يقطع الصلة بالوهابية في بعض جوانبها، ومن أسف أن المنهج الشوكاني، لم يتطور بعد ذلك بسبب جملة من العوامل لا يتسع المقام لذكرها، يأتي على رأسها، انشغال اليمن بالصراع على السلطة، والتمدد الوهابي.

لا غرابة أن يكون اليمن من أوائل المجتمعات التي تأثرت بهذا المد الوهابي، سواء في مراحله المبكرة أو في مرحلة انتشاره المؤسسي. فقد سعت الدولة السعودية إلى فرض المكون الفكري الوهابي على أجيال عديدة من اليمنيين، بحرصها على استقبال الطلاب اليمنيين في المدارس والجامعات السعودية، وتوسعها في بناء المراكز الدينية والمدارس في اليمن. بالإضافة إلى قطاعات عريضة من اليمنيين الذين اتبعوا النهج الوهابي بشكل عفوي،  نتيجة العمل والسفر إلى السعودية، وهو ما جعل من الممارسات السلفية الوهابية اليومية أمرا غير مستهجن، بل مرغوب فيها داخل هذه القطاعات، ولا نبالغ إن قلنا إن هذه الممارسات، باتت  في وقت من الأوقات دالة على إظهار التمايز، وتعزيز المكانة الاجتماعية  للقادمين من السفر. في كل الأحوال، كانت المرجعية الوهابية تنتشر وتكتسب أتباعا لها.

أن المجتمع اليمني استقر عقائديا على اعتناق أحد المذهبين الشافعي أو الزيدي، وكلاهما لا يلتقيان مع المنهج السلفي الوهابي

ثانيا- ظهور السلفية الوهابية وتهديد الهوية الزيدية

الحقيقة أن النموذج الذي روّجت له السعودية، هو نموذج سلفي مهادن للنظم الحاكمة، فالسلفية الدعوية، وأحيانا تسمى بالسلفية العلمية، أو السلفية التقليدية الماضوية، ويمثلها في اليمن أتباع مُقبل هادي الوداعي ( توفي في 2001). تركز على مسائل تنقية العقيدة من شوائب الشرك والبدع والخرافات، ويعتقدون دائما أنهم الفرقة الناجية، لا تربطهم بالفرق الإسلامية المتنوعة –القديمة والحديثة- سوى علاقات الخصومة والاختلاف. ومع ذلك فإنهم يعيشون بأمان في كنف أي نظام حاكم، بسبب مواقفهم الرافضة للحداثة السياسية بكل أشكالها، فإنشاء الأحزاب والمجالس النيابية، أو جمعيات الدفاع عن الحقوق، أو تنظيم المسيرات والمظاهرات المعارضة للنظام الحاكم، كلها كيانات وفاعليات محرمة شرعا من وجهة نظرهم، وتعد – من وجهة نظرهم- مُنازعةً لولي الأمر حقه في الحكم. وهذا أقصى ما يبتغيه أي نظام حاكم.

لكن على المستوى الاجتماعي الديني، أثار الظهور السلفي الوهابي في اليمن، مخاوف الطائفة الزيدية، على أساس أن نقاط الخلاف بين الزيدية والسلفية الوهابية جوهرية أساسية، بينما نقاط الخلاف بين الشافعية والوهابية، فرعية ثانوية، وهنا يولد الخوف بين أتباع الطائفة الزيدية، من فقدان الهوية الدينية، وتتولد من الخوف ردود أفعال مقاومة لهذا المد الوهابي، يمكن أن يتطور من صراع فكري إلى صراع اجتماعي وسياسي ممتد.

وهو ما حدث بالفعل، وقبل ظهور تنظيم القاعدة في اليمن، حين أسس مقبل الوداعي في عام 1981، دار الحديث بمنطقة دماج في محافظة صعدة. وقد مُوّلت هذه الدار تمويلا خارجيا سخيا، فغدت قبلة الدارسين ليس من داخل اليمن فقط، وإنما من مختلف أرجاء العالم. هذا المتغير أثار حفيظة ومخاوف الطائفة الزيدية، لماذا؟ لأن محافظة صعدة إحدى أهم المحافظات الزيدية، حتى إنها توصف تاريخيا بأنها "كرسي الزيدية" وتقطنها عائلات هاشمية وغير هاشمية ينتمون جميعا للمذهب الزيدي.

 ومن الطبيعي أن يثير تأسيس دار الحديث في هذه المحافظة بالذات، عددا لا نهائيا من ردود الأفعال الغاضبة والخائفة من المحاولات المباشرة لطمس الهوية الزيدية. ومن هنا نشأت ظاهرة الحوثيين. لمقاومة السلفية الوهابية المدعومة من النظام الحاكم، ثم ما لبث أن تحولت إلى صراع عسكري مستمر حتى قيام ثورة 2011.

نجح أسامة بن لادن في تأسيس قاعدة اليمن لاستقبال آلاف المجاهدين العرب، عبر مفاوضات مثمرة مع القبائل اليمنية

ثالثا- تحولات السلفية الوهابية في اليمن

على أية حال ظل الشيخ الوداعي، مهيمنا بكاريزميته وشخصيته التصادمية، على الحركة السلفية الوهابية في اليمن، إلى أن تغيرت الأحوال السياسية بتوحيد شطري اليمن عام 1990. وفي محاولة لمواكبة هذا الحدث الكبير، طالب بعض أتباع الوادعي، بانتهاج رؤى فقهية جديدة، تبيح لهم الانخراط في العمل السياسي، على غرار قيام حركة الإخوان المسلمين بتأسيس حزب التجمع اليمني للإصلاح. وبطبيعة الحال شن الوداعي هجومًا ضاريًا على هؤلاء الأتباع، في خطبه وتسجيلاته وكتبه، ولكنه لم يستطع في النهاية أن يوقف حركة التاريخ، فظهرت السلفية السياسية، وأحيانا يطلق عليها السلفية الجديدة في اليمن، ورمزاها جمعيتا (الحكمة اليمانية الخيرية والإحسان الخيرية) وذراعهما السياسي حزب السلم والتنمية، واتحاد الرشاد اليمني.

 

رابعا- ظهور تنظيم القاعدة على خشبة المسرح

 قادت السلفية الوهابية، مع التيارات الجهادية الراديكالية، حركة الجهاد ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، كان تورط الأنظمة العربية في هذه الحرب من الأخطاء الفادحة المتكررة في التاريخ العربي. فلم تكن سوى حرب بالوكالة، استُخدم فيها الشباب العربي، بأموال عربية، وقودا في الصراع البارد بين الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي.

بعد انسحاب السوفيت، وانتهاء الحرب الباردة، دخل الأفغان في طور جديد من الصراع على السلطة لا محل فيه للمجاهدين العرب. آلاف من العرب المتشبّعين بفكرة الجهاد، أصحاب الخبرة والعدة والعتاد والتمويل، يبحثون الآن عن ساحة جديدة للمعركة، وقد أوجدها أسامة بن لادن في الجزيرة العربية، والعراق والشام، ومناطق متفرقة من الشمال الأفريقي وصولا إلى قلب أفريقيا.

  كانت اليمن المحطة الأولى للعائدين من أفغانستان، لأسباب عدة منها: (1) أن عددًا كبيرًا من اليمنيين وخاصة من الجنوب، كانوا ضمن المجاهدين في أفغانستان، ويحلمون بالعودة إلى موطنهم للجهاد ضد الحكم الاشتراكي (قبل توحيد شطري اليمن). (2) سهولة الانتقال إلى الأراضي اليمنية عبر البحر. (3) إمكان الاحتماء والاختفاء في التضاريس الوعرة لليمن. وقد نجح أسامة بن لادن في تأسيس قاعدة اليمن لاستقبال آلاف المجاهدين العرب، عبر مفاوضات مثمرة مع القبائل اليمنية، وأموال ضخت لكل الأطراف من أجل إنفاذ التوطين، وأصبح اليمن الجنوبي القاعدة الجديدة للعرب الأفغان، كما أنها بدأت تستقطب كوادر جديدة من داخل التيار السلفي اليمني. وطوال الوقت حرصت القاعدة على توثيق علاقتها بالفضاء القبلي الشافعي المحيط. ولم يطل الوقت حتى بدأت القاعدة في ممارسة أعمالها ضد المصالح الغربية والأمريكية في المنطقة.

ظلت القاعدة في اليمن، تمتلك أدوات البقاء، ولكنها لا تمتلك أدوات الهيمنة على المجتمع اليمني، لعدة أسباب: (1) المكون العقائدي الشافعي الزيدي في اليمن لا يسمح بظهور وغلبة تنظيم القاعدة ذي المرجعية الوهابية الجهادية. (2) أن التطور في الحركة السلفية اليمنية، وانفتاح بعض فصائلها على الحداثة السياسية، يقوضان انتشار التنظيم، ويخفضان من شعبيته. (4) أن النظام الحاكم قبل وبعد ثورة فبراير2011، يعتبر التخلص من التنظيم ضمن أهدافه المعلنة. (3) انعدام الاستقرار في اليمن، بسبب وجودها ضمن مرمى الحرب العالمية على الإرهاب بعد أحداث سبتمبر2001.

ظلت القاعدة في اليمن، تمتلك أدوات البقاء، ولكنها لا تمتلك أدوات الهيمنة على المجتمع اليمني

خامسا- القاعدةوفرصة الدفاع عن الهوية السنية

إذا كانت الحركة الحوثية قد نشأت ـ كما ذكرنا ـ كرد فعل على محاولة طمس الهوية الزيدية، فإن التاريخ يعيد نفسه، بتحول الجاني إلى مجنيٍّ عليه. ويمارس الحوثيون تهديدًا مباشرًا للهوية السنية.

فعبر الشهور الستة الماضية، استطاع الحوثيون بسط الهيمنة، على المحافظات الزيدية الثلاث (عمران، الجوف، صنعاء)، ثم السيطرة على المحافظات ذات الغالبية الزيدية ( حجة، المحويت، وذمار)، وهو أمر مفهوم منطقيا، من زاوية أن الحركة الحوثية، تمددت في المحافظات التي تتمتع فيها بظهير اجتماعي غالب. أما سعيها للتمدد إلى المحافظات الشافعية الخالصة (الحديدية، تعز، البيضاء)، والمحافظات ذات الغالبية الشافعية (مأرب، إب)، فلابد أن يثير ردود أفعال لصد هذا التوسع غير المفهوم وغير المبرر، والذي أصبح يمثل تهديدا واضحا للهوية السنية، ويعيد اليمن إلى أجواء ما قبل الجمهورية. ولا يمكن أن يتم هذا التوسع بالطريقة التي شاهدها العالم، إلا إذا كانت هناك ترتيبات وتحالفات تمت على الأرض بين الحوثيين، والقبائل الموالية  لعلي عبد اللـه صالح.

وهنا تولد لحظة تاريخية جديدة، يمارس فيها تنظيم القاعدة، دور البطل المدافع عن الهوية السنية، وهو ما حدث، بتحالف القبائل السنية المهددة مع القاعدة. وهذا الوضع أفاد تنظيم القاعدة بلا شك، فقد تحول التنظيم من عبء أمني على المجتمع اليمني، إلى فاعل رئيسي في الحفاظ على الهوية الطائفية لقطاع كبير من اليمنيين السُنَّة.

إجمالا، لقد غذّى الصراع السياسي والطائفي بعضه بعضا، والخاسر هو المواطن اليمني الذي انتفض في 2011 ضد الفقر والجهل والمرض والاستبداد، ولم يجن ثمرة هذا الانتفاض حتى الآن. بل على العكس، يجري توريطه في فتنة طائفية الكل فيها خاسر. لا أحد يستطيع التكهن بمستقبل اليمن، في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، ولا نملك سوى إثارة الأسئلة من قبيل: ما وضع المؤسسة العسكرية بعد أن تشتت ولاؤها بين النظام القائم، ونظام علي عبد اللـه صالح؟ ما مستقبل عملية التحول الديمقراطي في حال غلبة الحركة الحوثية ومن يواليها ويحالفها؟ وما مستقبل عملية التحول الديمقراطي في حال غلبة تنظيم القاعدة ومن يواليه ويحالفه؟ وكيف تتعامل القوى الإقليمية والدولية مع هذا الوضع المتناقض والفوضوي.

(*) شكر واجب

أشكر الدكتور عادل الشرجبي، الباحث السوسيولوجي اليمني المقدر، على أفكاره الذي طرحها في نقاشنا حول هذا الموضوع، وعلى تفضله بمراجعة هذا المقال وإبداء الملاحظات عليه.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟