سؤال المستقبل: جامعة الدول العربية.. إلي أين؟
تميز
النظام الدولي المعاصر باتساع العلاقات الدولية وتطورها وتداخل المصالح المشتركة
بين الدول بشكل متزايد. وكان من نتيجة التطور الهائل في مختلف العلوم، خاصة في
مجال وسائل المواصلات والإتصالات الدولية، أن فرض ذلك على المجتمع الدولي أن يضع
الوسائل الكفيلة بتنظيم العلاقات بين الدول. وهو ما تطلب البحث عن وسائل يمكن
بواسطتها أن تنظم تلك العلاقات من خلال إنشاء مؤسسات دولية تتولى تنظيم المصالح المشتركة
بشكل يحقق المنافع المتبادلة للجميع ويحافظ على سلمية تلك العلاقات. وقد كان أفضل
ما تم التوصل إليه فى هذا الصدد هو إنشاء
الأمم المتحدة التى كانت نواة للتنظيم الدولى المعاصر، ثم تتابعت هذه الظاهرة وانتشرت.
وإذا
كانت جامعة الدول العربية أسبق فى نشأتها من الأمم المتحدة كنواة للتنظيم
الإقليمى، وإذا كانت منذ ذلك الحين تضطلع بتنظيم العمل العربى المشترك، فإن رياح
التغيير التى جرت فى المنطقة العربية قد أثرت بصفة رئيسية على عمل تلك المنظمة.
الجامعة والثورات العربية:
من المعلوم أن عدداً كبيراً من الدول العربية قد شهد
حركات احتجاجية سرعان ما تحولت إلى ثورات، أدت إلى تغيير الخريطة السياسية فى المنطقة، ولم تكن
جامعة الدول العربية منها ببعيد. لكن يُلاحظ أن الجامعة لم تلعب دوراً
بارزاً إبان الثورة التونسية في ديسمبر 2010، أو الثورة المصرية في 25 يناير 2011، أو حتى الثورة اليمنية، فكان خطابها مرتكزاً على الدعوة إلى وقف العنف، والتوافق الوطني. بل إنها تركت"الأزمة اليمنية" التي استمرت قرابة عام تُحل في إطار "مجلس
التعاون لدول الخليج العربية" وغابت الجامعة عن مشهد التفاوض أو المبادرات المطروحة آنذاك.
غير أن هذا
الأمر لم يدم طويلاً إبان إندلاع الثورة الليبية التى أكدت فيها الجامعة على شرعية مطالب الثائرين، بالإضافة إلى وقف مشاركة وفد حكومة ليبيا فى المنظمة وصولاً إلى طلب الجامعة من مجلس الأمن، فرض منطقة حظر جوي على حركة الطيران العسكري الليبي، وإقامة مناطق آمنة، شكلت كلها رأس الحربة في صياغة مشهد التدخل العسكري لإسقاط النظام الليبي.
ليس ثمة شك فى أن الأحداث فى ليبيا قد اختلفت كثيراً عن
نظيرتها في مصر وتونس، كما كانت التطورات على الساحة الليبية أسرع وأعقد وأعنف.
حيث احتكم الوضع فى ليبيا إلى السلاح بعد أقل من أسبوع، وتم استدعاء القوات
المسلحة للتعامل مع المدنيين بعد مرور فترة زمنية قصيرة. كما كان موقف المجتمع
الدولى بشأن ليبيا مختلفاً أيضاً عن مثيله فى كل من مصر وتونس، فقد استوجب تطور
الأحداث فى ليبيا تغيراً فى موقف القوى والمؤسسات الدولية والإقليمية حتى انتهى
الأمر بقرارات فرض العقوبات والتدخل العسكرى.
وعلى الجانب الأخر،
يُلاحظ أن تحولاً كبيراً طرأ على سلوك المنظمة تجاه الأزمة السورية. حيث بدأت تمارس دوراً فعلياً في الأزمة
السورية في أوائل أغسطس 2011،
أي بعد مرور حوالي خمسة شهور
على اندلاع الثورة السورية في 15 مارس 2011. وبالتالى فقد خرجت الجامعة من عزلتها والتى نتجت عن تمسكها بمبدأى السيادة
المطلقة وخصوصية الشؤون الداخلية، مدفوعة بتحركات مجلس التعاون الخليجى والتى راحت
تحث الجامعة علي تبنى مواقف جديدة عليها تخرج عن الأطر القانونية والسياسية التى
ظلت تحكم عملها لأكثر من ستة عقود.
وعلي الرغم من ذلك،
فقد كشفت التجربة التي مرت بها جامعة الدول العربية في الثورة السورية، ولا زالت، عن
مظاهر ومؤشرات قصور سياسي ومهني. فعلى سبيل المثال، اللجنة التي شكلتها الجامعة
لتقصي الأوضاع في سوريا، والتي رأسها الفريق مصطفى الدابى، أواخر 2011 أوائل 2012،
لم تكن محل رضا من قوى الثورة في سوريا، ومن بعض الدول العربية التي أعلنت سحب
مندوبيها منها، وذلك على أثر تقرير اللجنة الذي اعتبره الكثيرون، ومنهم فصائل الثورة
والمعارضة في سوريا، منحازًا إلى جانب النظام. كذلك فإن موافقة الجامعة علي تعيين
الأخضر الإبراهيمي، كممثل خاص مشترك لسكرتير عام الأمم المتحدة وأمين عام
جامعة الدول العربية، لم يأت بأي جديد، حيث إن أوراق اللعبة بمجملها في يد القوى
الكبرى التي تتصارع علي الأرض السورية وهو ما كشف عنه مؤتمر جنيف "2"،
والذى تعثر هو الأخر في إيجاد حل للأزمة.
ملاحظات علي الجامعة:
اتخذت
جامعة الدول العربية عدداً من المواقف من الثورات العربية، كان أبرزها فى الحالتين
الليبية والسورية، لأن الجامعة، كعادتها، تفاجأت بما حدث في تونس ومصر، كما أنها
تركت أزمة اليمن تحل برعاية مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وبالتالي كان موقفها
واضحاً في الحالتين الليبية والسورية:
1. الجامعة العربية انطلقت فى قرارتها ومبادراتها بشأن
الحالتين الليبية والسورية من دوافع سياسية محوطة بحسابات إنسانية، مع تجاهل تام
للأسس القانونية الحاكمة فى ميثاق الجامعة، وفى عدة وثائق ومرجعيات عربية أخرى،
تتضمن الالتزام بابقاء الخلافات العربية داخل المظلة العربية وتجنب اللجوء إلى
تقليص أو تجميد العلاقات الثنائية على مختلف الأصعدة، وعدم اللجوء إلى الحملات
الإعلامية المضادة وعدم المشاركة فى العقوبات الاقتصادية، وفى أى نوع من أنواع
الحصار الذى يفرض على أية دولة عربية.
2. أن الجامعة العربية سارعت بمنح غطاء سياسى لتدخل حلف
الأطلنطى عسكرياً في الحالة الليبية، مع استنفاد الآليات العربية الممكنة لتسوية
الصراع وحماية المدنيين، ثم راحت أيضاً فى هذه الحالة تناقض موقفها المبدأى المعلن
على مستوى وزراء الخارجية العرب فى أغسطس 2011 بشأن إبقاء التسوية فى إطار المظلة
العربية، واستبعاد التدويل، وممانعة أي تدخل عسكري أجنبي في سوريا، ولجأت في يناير
2012 إلى مجلس الأمن الدولى، لتطرح عليه فكرة تشكيل قوة عربية أممية للتدخل فى
سوريا. وبصرف النظر عن الأسباب الحقيقية وراء استجابة مجلس الأمن وحلف الأطلنطى
للتدخل فى الحالة الليبية، وامتناعهما عن التدخل فى الحالة السورية، يبقى هناك
تساؤل مهم عن أسباب تجاهل الجامعة العربية لفكرة تشكيل قوات عربية خالصة، على غرار
ما سبق وقامت به فى لبنان.
3. قامت الجامعة باتخاذ اجراءات غير مسبوقة، وعلي غير نص من
ميثاق الجامعة، وذلك بمنع ممثلي كل من ليبيا وسوريا من المشاركة فى اجتماعات مجلس
الجامعة العربية، وهو ما أدي – فضلاً عن مخالفته للنصوص- إلي افتقاد قنوات التواصل
والضغط المباشر على كلا النظامين، وإلى تغييب عنصر التوازن والتدقيق فى مصادر
المعلومات المتاحة عن التطورات الميدانية والسياسية. ويشير الاستباق بقرار منع
ممثل سوريا من المشاركة فى اجتماعات الجامعة، قبل انتظار نتائج بعثة المراقبين
العرب، إلى رغبة البعض فى تجاوز التدقيق فى استقصاء المعلومات والتفسيرات من
المصادر المباشرة.
4. جاء موقف الجامعة العربية من جماعات الثوار والمعارضين
السياسين فى كل من ليبيا وسوريا متعجلاً للغاية، حيث تبين أن الجامعة لم يكن لديها،
فى بدايات تعاملها مع المسألتين، مصادر معلومات خاصة بها، أو مصادر مستقلة تستقى
منها البيانات الدقيقة عن التطورات الميدانية، وعن الخلفيات التنظيمية والعقائدية
لجماعات الثوار والقوى المعارضة فى البلدين وأجنداتها ومشروعاتها السياسية
البديلة.
5. أن الجامعة العربية لم تقم، بعد سقوط النظام القديم فى
ليبيا، بأية أدوار عملية لمساعدة الشعب الليبى فى إعادة بناء المؤسسات، وتأمين
الحدود، وإجراء ما يلزم من مصالحات وطنية، وتركت ذلك كله فى أيدى الخبراء
الغربيين. كما يلاحظ عدم كفاية الخطوات العملية التى قامت بها الجامعة لإغاثة
اللاجئين، وعلاج المصابين السوريين، أو التحضير لإجراءات حصر وتوثيق الخسائر التى
تعرضت لها المدن السورية، أو الإعداد لخطط إعادة البناء بعد توقف القتال.
مستقبل الجامعة في ظل
التحولات الجديدة:
ليس ثمة
شك فى أن مستقبل جامعة الدول العربية سيتأثر بما أسفرت عنه ثورات الربيع العربي من
أثار إيجابية وسلبية علي السواء. وأن ما اتخذته الجامعة من إجراءات وما لم تتخذه
منها فى شأن هذه الثورات سينعكس علي هذا المستقبل بشكل أساسي.
وإذا كانت الجامعة قد واجهت عدة أزمات كبيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي، حيث عجزت منذ تأسيسها عن إنشاء كيان عربي متماسك وقوي قادر على الصمود في مواجهة الأزمات التي تعصف بالعلاقات بين الدول العربية، وذلك لأسباب متعددة، منها ما يتعلق بميثاقها وطبيعة العلاقة بين الأعضاء، وطبيعة المصالح الإقليمية والدولية.. الخ. وقد ساهمت هذه الأسباب في ضعف أداء جامعة الدول العربية، وساعدت في إفراغ ميثاقها من محتواه، مما أدى لحالة من التدهور والتبعثر في العلاقات العربية -العربية، بسبب طغيان الإرادة القطرية للدول الأعضاء على الإرادة العربية
الجامعة والموحدة، مما انعكس على أدائها في معظم القضايا العربية الهامة.
وإذا كانت، كمنظمة إقليمية قد تعرضت لما شهدته المنطقة العربية من تحولات كبرى من شرقها إلى غربها، حيث لم يكد
العالم العربي يفيق من أزمة احتلال العراق وقرب انسحاب القوات الأمريكية منه حتى
أقبل على عصر الثورات العربية وما يحمله من تداعيات مفصلية على المنطقة بكاملها؛
فقد تغير النظام المصري ودخلت ليبيا في أزمة وحرب أهلية بتدخل عسكري- أجنبي فيها
كان للجامعة دور فيه، بالإضافة إلى تغير النظام في تونس وترنح أنظمة أخرى من
المرجح أن تسقط هي الأخرى كما في سوريا، مع انفصال ونشوء دولة جديدة جنوب السودان
واقتطاع جزء هام من الوطن العربي. في حين أن أزمات كبرى من المتوقع نشوبها في
المستقبل القريب أيضاً مع السقوط المحتمل للنظام السوري وإغواء أكراد سوريا
للانضمام إلى أكراد العراق لإنشاء دولة جديدة لهم، غير عربية أيضاً، بضغط على
الدول العربية وغير العربية مثل تركيا وإيران. فإن هذا كله لا ينفي إمكانية إصلاح
الجامعة والعمل علي التغلب علي ما يعترض عملها من معوقات.
وفى إطار ما
تقدم يمكن طرح تصورين أساسيين لمستقبل الجامعة:
·
الأول في سيناريو الإصلاح؛ حيث إن منظومة العمل العربي المشترك لا ينبغي أن تظل حبيسة مفاهيم وأطر وهياكل لا تتغير ولا تتطور مع تغير العلاقات الدولية وٕالا أصيبت بالجمود وعدم الفعالية .وعليه فإن تطوير وتحديث هذه المنظومة من حيث المفاهيم وآليات العمل أصبح ضرورة ملحة لتحسين الأداء وبلوغ الأهداف المرجوة،
وقد كان واضعو الميثاق علي دراية بهذه الحقيقة فضمنوه المادة "19" التي نصت على مبدأ التطوير وحددت آلية تعديل الميثاق، ومن هنا لم تغب مبادرات وأفكار واقتراحات التطوير عن الجامعة منذ التوقيع على ميثاقها في العام 1945 م، غير أن معظم تلك المحاولات قد أخفق إخفاقاً كبيراً
.وقد
كان من بين تلك المبادرات إعلان قمة تونس 2004 الذى طرح عدداً من النقاط للإصلاح،
من بينها: تطوير العمل العربي المشترك وفق برامج ومشاريع إصلاحية تنسيقية في مختلف المجالات "السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والدفاعية والعسكرية....إلخ." إنشاء محكمة عدل عربية للنظر في مختلف القضايا العربية الهامة من الناحية القانونية، وٕانشاء
برلمان عربي انتقالي واعتماد نظامه الأساسي، وإنشاء هيئة لمتابعة تنفيذ القرارات والالتزامات وتعديل الفقرة " 2" من المادة " 6" بشأن التصويت في الحالات الخاصة بالاعتداء على دولة عضو، واعتماد نص جديد للمادة
" 7" من الميثاق بشأن تعديل آلية اتخاذ القرارات. تطوير معاهدة الدفاع العربي المشترك، وٕانشاء جيش عربي مشترك، وتطوير المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وتطوير عمل المنظمات والمجالس الوزارية المتخصصة، ودراسة مشكلات الأزمة المالية للمنظمة.
·
أما السيناريو الثانى فيتمثل في الاتجاه إلى التجمعات العربية الفرعية " مجلس التعاون
الخليجى؛
فمما لا شك فيه أن ضعف جامعة الدول العربية وتأخرها في التعاطي مع التغيرات السياسية العربية الراهنة وخاصة حالتي"
اليمن والبحرين " وعجزها في الحالة السورية قد أعطى انطباعاً أنها غير مؤهلة سياسياً من حيث الآليات والأدوات ،
وهو ما فتح المجال أمام مبادرات إقليمية ودولية عديدة في هذا الشأن. ومن ثم فقد
تصاعد دور مجلس التعاون الخليجي في التغيرات السياسية العربية وخاصة في قضيتي "اليمن والبحرين"، في ظل الضعف والوهن الذي أصاب جامعة الدول العربية مما يقودنا إلى القول بأن مجلس التعاون قد أدرك جيداً درجة الضعف والشلل الذي
أصاب جامعة الدول العربية، وعليه فقد بدأ يبرز دوره بإسناد ودعم وتوجيه غربي في محاولة للحلول محل الجامعة، ومن ثم إحكام السيطرة على القرار السياسي العربي الرسمي من خلال احتواء دور جامعة الدول العربية في مختلف القضايا العربية المستقبلية.
وفي نهاية المطاف يمكننا القول إن الجامعة العربية تعاني قصورًا حقيقيًا على جميع الأصعدة، وأنه لا بد من عملية الإصلاح، فأهم خطوة يمكن القيام بها هي ضرورة تعديل الميثاق، لأنه قاصر لعدة مبررات؛ أهمها أنه لم يعد يساير متطلبات وواقع النظام الإقليمي العربي والتحولات الراهنة وتحديات النظام الدولي، كما أن تعديله سوف يغني الواقع عن المبررات التي تحتكم إليها الدول عقب كل فشل، فهو الركيزة الأساسية التي يبني عليها العمل المشترك، حيث إنه من غير المعقول بناء نظام فعال، على نمط الاتحاد الأوروبي، والجامعة تعاني قصورًا هيكليًا يفتقر إلى سلطة ملزمة.
وبالتالى تتضح الخطورة هنا من إمكانية انهيار جامعة الدول العربية واستبدالها بتجمع عربي فرعى
آخر، قد يكون مجلس التعاون الخليجي أو الاتحاد المغاربي أو الاستجابة للمبادرة اليمنية التي تدعو لاتحاد عربي موسع أو غيرها من الأفكار ذات الصلة.
* مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة.