الهند وأمريكا.. تداعيات التصعيد ومستقبل العلاقة!
الرؤية الشاملة لمعنى التوتر فى العلاقات بين الهند
والولايات المتحدة تتجاوز كشف النقاب عن أزمة اعتقال الدبلوماسية الهندية فى
ديسمبر الماضى، وتتضمن أبعاداً أخرى من بينها الخلافات التجارية بين الطرفين،
فضلاً عن طبيعة التباين فى النظرة لبعض القضايا الدولية والإقليمية، وفى مقدمتها
الحياد الهندى بشأن الأزمة السورية، والدعم الضمنى أو من وراء ستار للبرنامج
النووى الإيرانى.
لذلك، وبخلاف ما كان متوقعاً فى لقاء وزير الخارجية
الأمريكى جون كيرى ونظيره الهندى على هامش منتدى دافوس مطلع فبراير الجارى،
والاتفاق على تجاوز خلاف اعتبرته واشنطن عارضاً فى العلاقات والالتفاف عليه، ربما
تدب برودة مؤقتة فى أوصال العلاقات الهندية الأمريكية قبيل نهاية فترة حكم حزب
المؤتمر، والذهاب إلى الانتخابات العامة فى مايو القادم.
خلفية العلاقات:
بدأ التحسن التدريجى فى العلاقات الأمريكية الهندية فى
العام الأخير من عهد الرئيس كلينتون، والتى توجها بالتقارب مع الهند التى نجحت فى
القفز على اختبار صاروخ نووى فى العام 1998تسبب فى غضب الإدارة الأمريكية.
غير أن العلاقة البينية شهدت تطوراً ملحوظا خلال إدارة
الرئيس بوش الابن، بإبرام اتفاقية دفاع في عام 2005، واتفاق التعاون النووي المدني التاريخي في 2008 الذى
يُعَد حتى الآن محور التحول الذي شهدته العلاقات بين البلدين، وسمح هذا الاتفاق
للهند بالدخول إلى النادى النووى العالمى، على الرغم من رفضها توقيع معاهدة حظر
انتشار السلاح النووى.
وتوثقت العلاقات بين
البلدين مع مجئ الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض، فقامت البلدان بتعميق التعاون في
مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والتعليم وزيادة التعاون العسكري والسياسي مما يعكس
رؤية كل منهما للأخرى كشريك استراتيجي مهم.
والأرجح أن الولايات
المتحدة أولت أهمية كبيرة للهند كسوق لإمدادها بالمواهب التكنولوجية ، بينما راهنت
الهند على قيام واشنطن بتوسيع نطاق الاستثمار في البنية التحتية
والتكنولوجيا الزراعية، وتوسيع صادراتها للولايات المتحدة. ووصل حجم التبادل التجارى بين البلدين إلى
ما يقرب من 60 مليار دولار، ويتوقع ارتفاعه إلى نحو 150 مليار دولار خلال السنوات
الست القادمة.
,ومع أوباما
تم إحراز تقدم على جبهات أخرى، أهمها مجال
التعاون العسكرى، فتم إبرام سلسة من الاتفاقيات التسليحية، فضلاً
عن إجراء تدريبات عسكرية مشتركة فى العام 2009.
الأزمة
الدبلوماسية: وفتور العلاقة
أثارت الأزمة الدبلوماسية التى خلفتها عملية اعتقال
دبلوماسية هندية فى نيويورك فى 12 ديسمبر الماضى، واحتجازها بتهمة التحايل فى طلب
تأشيرة الدخول توتراً غير مسبوق فى العلاقة بين البلدين.
وعلى الرغم من خصوصية أزمة الدبلوماسية
الهندية التى جرى تفتيشها وتجريدها من ملابسها فى سابقة هى الأولى من نوعها بين
البلدين، إلا أن ثمة إشكاليات أخرى تلت الأزمة، وأضفت على العلاقة مزيداً من
التعقيد والارتباك، أولها فرض غرفة التجارة الأمريكية فى 10 فبراير الجارى إجراء
تجارياً إلزامياً على الهند بشأن حقوق الملكية الفكرية، وهى خطوة يمكن لها أن توقف
دخول الكثير من السلع الهندية إلى السوق الأمريكية، وثانيهما طلب الغرفة التجارية
الأمريكية وكذلك جماعات تجارية أمريكية من بينها جماعات تمثل صناعة الأدوية
والصناعات التحويلية بتصنيف الهند ضمن أسوأ دول تخرق حقوق الملكية الفكرية، وهو
تصنيف يمكن أن يؤدى إلى فرض عقوبات تجارية على الهند وينال من الصورة الذهنية
للهند فى المحافل الدولية.
توتر العلاقة والتداعيات:
الأرجح أن هذه
الأجواء التى خلفتها الأزمات المتوالية طوال الشهور الثلاث الماضية ألقت بظلال
قاتمة على العلاقات، وقطعت تحسناً بين البلدين فى إطار توجه أمريكى نحو التركيز
على آسيا، لاسيما وأن رد الفعل الهندى جاء سريعًا بسحب البطاقات الدبلوماسية من موظفي
القنصليات الأمريكية في الهند التي تسهل دخول وحركة تنقل حامليها في المطارات
الهندية وأماكن عامة أخرى، كما قامت برفع الإجراءات الأمنية التي تضعها لحماية
السفارة الأمريكية في العاصمة نيودلهي.
وراء
ذلك تصاعدت الاحتجاجات الطلابية والشعبية فى الهند ضد الولايات المتحدة، وهو الأمر
الذى دفع وزير الخارجية الهندى إلى مطالبة واشنطن بالاعتذار عن طريقة معاملة الدبلوماسية.
وأخذت
الأمور منحى أكثر توتراً بعد أن طلبت نيودلهى من واشنطن فى مطلع يناير الماضى سحب
دبلوماسى من سفارتها فى الهند، وهو ما اعتبرته الأخيرة "طرداً" ناهيك عن
تقديم واشنطن قبل أيام ثانى شكوى فى الهند إلى منظمة التجارة
العالمية تتهم فيها الهند بانتهاك قواعد السياسة العامة فى مجال الطاقة الشمسية.
تهدئة أمريكية
تعتقد الإدارة الأمريكية أن الخلافات الثنائية التى
خلقت أزمة ممتدة بين نيودلهى وواشنطن لم تعد هى محور الاتصالات
المتنامية، وإنما الأزمات التى تعج بها المنطقة بدءاً بأزمة
إيران نفسها وبرنامجها النووى وصولاً إلى القضية الأفغانية وقرب
حلول رحيل القوات الأمريكية من كابول بنهاية العام 2014 ومروراً بمواجهة النفوذ
الصينى. ولا يعنى ذلك أن الخلافات الثنائية التى طفت على السطح مؤخراً
فقدت أهميتها أو وجدت حلاً.
فى هذا السياق كان الحرص الأمريكى على تهدئة الأزمة مع
الهند، وكان بارزاً،هنا، محاولة مستشارة الأمن القومى الأمريكي سوزان رايس تلطيف
الأجواء بين البلدين قائلهة، إنه علي حكومة أمريكا والهند عدم السماح للنزاع بشان
دبلوماسية هندية عرقلة المستقبل الذي نعمل بجد علي بنائه.
من
جهتها سعت الخارجية الأمريكية إلى تهدئة الخواطر الهندية وسط إجراءات للتعاطى مع
تداعيات أزمة الدبلوماسية، وقرار غرفة التجارة الأمريكية بفرض التزام تجاري على واردات
الهند.
والمؤمل
أن تنهى تصريحات مسئولى الإدارة الأمريكية حالة التوتر والاحتقان المتصاعد بين
البلدين، والتأسيس لتفاهمات جديدة بينهما تسمح بتجاوز الخلافات العالقة.
مستقبل العلاقة
على الرغم من أن الوضع السياسى وصل إلى ذروة التأزم بين البلدين،
ودخول المناخ مرحلة الشحن، وتخلله تصعيد فى التصريحات السياسية الهندية التى تحمل
نبرة تحد، إلا أن السياق الطبيعى للعلاقات لا ينذر بتفاقمها، لاسيما وأن ما يجمع
نيودلهى وواشنطن أكثر مما يفرقهما. فليس من مصلحة الدولتين تعقيد العلاقة.
والمتابع
للتطورات السياسية والأمنية وللحركة الميدانية بين البلدين يدرك منذ فترة أن هناك
شيئاً يتحرك ويكبر مستنداً إلى حالات التقارب السياسى إزاء القضايا الإقليمية
والدولية وبسبب تنامى معدلات التبادل التجارى والعسكرى إلى مستويات غير مسبوقة.
وإذا
كان رد الفعل الهندى على سلسلة الإجراءات الأمريكية سواء بحق الدبلوماسية أو ما
يخص ما تعتبره نيودلهى تعنتاً تجارياً، فإن الموقف المرن للإدارة الأمريكية يبدو
قادراً على إنهاء التوتر العارض فى العلاقة.
والأرجح
أن واشنطن تبدو أكثر حرصاً على استقرار علاقاتها مع الهند فى الوقت الراهن، وربما
أكثر من أى وقت مضى فى ظل تصاعد الصراع على مستقبل منطقة جنوب
آسيا وعلاقاتها بالعالم. وفى القلب من هذا الصراع تأتى العلاقة
بين محور الصين وكوريا الشمالية فى مواجهة التحالف الذى يضم الولايات المتحدة
وكوريا الجنوبية، ويسعى لإيجاد توازن مع النفوذ الصينى فى آسيا.
فى المقابل فإن نيودلهى تدرك أهمية الشراكة مع الولايات
المتحدة التى منحت الهند أسراراً غير مسبوقة فى مجال التكنولوجيا النووية، وأصبحت
واشنطن مزوداً مهماً للأسلحة المتطورة إلى نيودلهى.
وإذا كانت الهند تحتفظ بعلاقات وثيقة مع كل أطراف
اللعبة، وتسعى إلى إيجاد موطئ قدم لها بما تملكه من مقومات بشرية ومادية
وجيوبولتيكية، فإن واشنطن بدورها بنت علاقاتها مع الهند على هذا الأساس، فغضت
الطرف عن مصالح الهند أو طموحاتها فى المنطقة.
والأرجح أن كلا البلدين بحاجة إلى بعضهما، فواشنطن من
جهتها لا يمكنها تجاوز الدور الهندى فى إطار جهودها لتقليم أظافر كوريا الشمالية
من جهة ومن جهة ثانية الحد من طموحات الصين التى باتت تقترب من صناعة قطبية ثنائية
طالما افتقدها العالم طويلاً.
أما الديمقراطية الأقدم، فلا تزال بحاجة إلى استثمارات
الولايات المتحدة لتعضيد اقتصادها، واستغلال النفوذ الأمريكى، إقليمياً ودولياً،
فى مواجهتها الساخنة مع باكستان وإقليم كشمير.
لذلك إذا كان من نتيجة للتصريحات الايجابية سواء للإدارة الأمريكية أو حتى
الهندية التى جاءت من وراء ستار تفادياً للسخط الشعبى حول الأزمة ، فهي أن
العلاقات بين البلدين ستعود إلى طبيعتها، وربما تشهد مزيداً من التطور الايجابى
خلال الفترة المقبلة. فقد وضعت هذه التصريحات، حداً للتكهنات القائلة بأن فتوراً
سيعتري العلاقات بين البلدين لبعض الوقت، على الأقل بسبب الأزمة الدبلوماسية أو
الخلافات التجارية.
·
باحث بمؤسسة الأهرام