تركز الثروة.. الأبعاد والتداعيات
الإثنين 27/يناير/2014 - 02:55 م
أحمد دياب
في تقريرها الأخير الذي أصدرته، عشية انعقاد منتدى الاقتصاد العالمي في مدينة "دافوس" السويسرية في الأسبوع الثالث من يناير الجاري، ذكرت منظمة "أوكسفام" الخيرية البريطانية، في تقريرها الأخير حول قضية التفاوت واللامساواة في الثروة حول العالم، أن 85 ثريا في العالم- لا يتجاوزن عدد ركاب حافلة من طابقين- يكتنزون ثروات تعادل ثروة نصف سكان العالم مجتمعين، أي ما يعادل 3.5 مليارات شخص، حيث إن نصف ثروة العالم التي تبلغ 110 تريليونات دولار يتمتع بها 1% في المائة من السكان، وهو ما يفوق بخمس وستين مرة ثروة نصف سكان العالم الأقل فقرا، موضحة أن دخول هؤلاء الأشخاص بلغت 240 مليار دولار في السنة الماضية، مضيفة: أن"210 أشخاص (ثروتهم 1.7 تريليون دولار) انضموا العام الماضي إلى نادي المليارديرات الذي تتجاوز ثروتهم مليار دولار والذي يتألف من ألف و426 شخصا لديهم ثروة تبلغ 5.4 تريليون دولار"، أي ثروة تزيد على ميزانية الولايات المتحدة التي بلغت 8 .3 تريليون دولار عام 2013.
الأبعاد والدلالات
طبقاً لتقرير منظمة "أوكسفام"، فإن مشكلة التفاوت واللامساواة عالمية، وفجوة التفاوت الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء آخذة في الاتساع في كل من البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء، فنحو 70% من الناس يعيشون في بلدان تتسع فيها الهوة بين الأغنياء والفقراء في الثلاثين عاما الأخيرة. ففي المملكة المتحدة، تعود اللامساواة سريعاً إلى مستويات لم تشاهد منذ أيام الروائي تشارلز ديكنز (1812-1870). وأصدر "مركز تحليل الإحصاء الاجتماعي" في كلية لندن للاقتصاد في أكتوبر 2013، دراسة لفتت الانتباه إلى واقع أنه إذا استمر المعدل الحالي للتفاوت الاجتماعي، فإن المملكة المتحدة ستعود بحلول العام 2025 إلى مجتمع عدم المساواة في القرن التاسع عشر. وفي الولايات المتحدة، فإن شريحة الـ 01 .0% من عِلية السكان، ازداد نصيبها من الدخل القومي، بنسبة أربعة أضعاف، ليبلغ مستويات غير مسبوقة. فإن أغنى 400 أميركي يملكون أصولا أكثر مما يملك 150 مليون أميركي مجتمعين يمثلون أسفل الهرم. كما يشير إحصاء لتقرير معهد السياسة الاقتصادية الأميركي إلى أن 10 في المئة من الأميركيين حصلوا على 100 في المئة من معدل نمو الدخل بين عامي 2000 و2007. وفي عام 2009، حصل الـ5 في المئة الأكثر ثراء على 63.5 في المئة من ثروة الأمة، بينما الغالبية الساحقة التي تؤلف 80 في المئة حصلت على 12.8 في المئة فقط، ويمتلك أغني واحد في المائة من السكان 38 في المائة من الثروة المالية الأميركية، في حين أن أقل 60 في المائة دخلا لا يمتلكون سوي 2.3 في المائة، وذهب 95 في المائة من إجمالي الدخول الجديدة من عام 2009 حتى عام 2012 إلي أغني واحد في المائة من السكان، في حين شهد عشرات الملايين من العمال الأمريكيين انخفاضا في دخولهم.
أما في روسيا، ففي 14 أكتوبر/تشرين الأول 2013، كشف بنك "كريدي سويس" السويسري، في تقرير له عن دخول وثروات سكان دول العالم، أن روسيا تتصدر التصنيف العالمي من حيث التفاوت في توزيع الدخول والثروات، إذ اتضح أن 35 في المئة من ثروات سكانها البالغ عددهم نحو 143 مليون نسمة تعود لـ 110 أشخاص فقط، فيما يبلغ متوسط المؤشر العالمي في هذا المجال 1 في المئة ـ 2 في المئة فقط. وحسب الاقتصادي الروسي المعروف، ميخائيل ديلياغين، يعيش نحو 80 في المئة من سكان روسيا عملياً "عند خط الفقر"، ويتراوح التفاوت في توزيع الدخول والثروات بين 16 و20 مرة بين الفقراء والأغنياء، وذلك حسب البيانات الرسمية. أما المصادر غير الرسمية فتشير إلى أن هذا التفاوت لا يقل عن خمسين مرة، وفي الصين(الشيوعية) يكسب 10% من سكان البلاد، ما يقارب 60% من الدخل. ويوجد 3 .1 مليون مليونير(1 في المائة من السكان)، منهم 122 مليارديراً. ويماثل معدل اللامساواة الآن في الصين، مثيله في جنوب إفريقيا، التي تعتبر الآن أكثر الدول لا مساواة على وجه الأرض، وهي أكثر لا مساواةً مما كانت عليه عشية نهاية عهد التمييز العنصري.
الأسباب والدواعي
بعد نجاح الثورة الشيوعية في روسيا عام 1917، بذلت جهود نشطة في كل مكان من أجل تجنب تكرار النموذج الروسي، وهكذا أصبحت النقابات العمالية مشروعة وجزءاً من المؤسسة، ودخل اليسار إلى البرلمانات، وأطلق عدد من المبادرات من أجل الاستجابة لمطالب الطبقات الشعبية. وما من حزب يميني في السلطة حاول يوماً تقليص هذه المكاسب الاجتماعية، وأقصى ما استطاعت أحزاب اليمين فعله كان أبطاء هذه المكاسب. غير أن الحرب العالمية الثانية غيرت المشهد العالمي بصورة درامية، وزرعت بذور الحرب الباردة. وبعد إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عام ،1945 ليكونا حارسين للنظام النقدي العالمي، أنشئت الأمم المتحدة عام 1945 باسم "الحوكمة" العالمية. وقيم "الحوكمة" العالمية كان لها مضمون اجتماعي بارز جداً، أصبح متضمناً في الدساتير الوطنية. وقائمة هذه القيم كانت طويلة، وقد شملت العدالة الاجتماعية، والمساواة، والمشاركة الشعبية، وحقوق العمال، وحقوق الإنسان، وارتقاء النساء، والتعليم للجميع، وأعطت سياسة الرفاه الاجتماعي في الغرب، خلال سنوات الحرب الباردة، أعطت في القرن العشرين مثالا تعلّم منه العالم كيف يبني دولا مزدهرة تتمتع برفاه اجتماعي عال وبنية تحتية ورعاية صحية على أعلى المستويات.
لكن مع انهيار جدار برلين، انبثق عالم جديد، والمنتصر كان الرأسمالية، وليس الغرب. والعولمة أصبحت تفهم على أنها حرية كاملة للرساميل والاستثمارات، ما يوفر اليسر للناس وفقاً لـ "نظرية التدفق البطيء"، أو نظرية “اقتصاد التنقيط” (وهي نظرية Trickle-dowm theory في الولايات المتحدة، التي يتبناها المدافعون عن، أو المطالبون بخفض الضرائب عن كبريات الشركات والمصالح. وحجتهم في ذلك أن الأغنياء في المجتمع سيكون لديهم فائض يستثمرونه في مشاريع جديدة تخلف فرصاً للعمل وتخفض البطالة، وأن جزءاً من هذا الفائض سيصل بالتالي تنقيطاً إلى شرائح الفقراء وذوي الدخل المحدود. ولكن النتيجة لم تكن ظهور مشاريع جديدة، بل إن معظم الشركات الكبرى استغلت الفائض الناتج عن تخفيض الضرائب للاستحواذ على شركات ومصانع صغيرة، ولم تخلق بالتالي أي فرص عمل).
النتائج والتداعيات
غير أن عواقب وتداعيات التفاوت واللامساواة كثيرة، فتركز الثروة بإفراط غير فعال اقتصادياً ويشلّ مقدرة العالم على خفض الفقر. والقول بأن خلق الثروة لقلة من الناس لا بُدّ أن ينفع الكثيرين غير صحيح علي الإطلاق، وقد كتب الفائزان بجائزة نوبل للاقتصاد، الأمريكيان بول كروغمان (2008) وجوزيف ستيغليتز (2001)، بإسهاب حول مسألة كيف يوقف جور التفاوت الاجتماعي التنمية ويتسبب بأزمات اقتصادية. ووثق كروجمان كيف أن تزايد التفاوت الاجتماعي ترافق مع الأزمتين الاقتصاديتين الكبريين عامي 1929 و2008. فتركز الثروة في أيدي القلة العليا، يخفض النشاط الاقتصادي إلى حدّه الأدنى، ويجعل مشاركة الآخرين أمراً عسيراً: فمن الملاذات الضريبية (تضم 32 تريليون دولار) إلى قوانين العمل الضعيفة، يفيد الأكثر ثراء من نظام اقتصادي عالمي مُصاغ على هواهم. فحتى السياسات غدت خاضعة لسيطرة المفرطين في الثراء، الأمر الذي يؤدي إلى سياسات "تعود بالنفع على القلة الأكثر ثراءً لا على الأغلبية الفقيرة، حتى في الدول الديمقراطية. كما أن الثروة المفرطة غير مبررة أخلاقياً، وتؤدي إلى التوتر سياسياً، والتفرقة والتفكك اجتماعياً. وكان تقريرا حديثاً للمنتدى الاقتصادي العالمي "دافوس" اعتبر أن اتساع التفاوت في الدخول هو ثاني أكبر المخاطر التي تتهدد العالم في الأشهر الـ12 إلى الـ18 المقبلة.
غير أن أهم العواقب والتداعيات تكمن في انهيار الثقة والتعاون والعمل الاقتصادي الفعال في البلدان والمجتمعات، وقد يكون هذا الانهيار محتوماً بقدر ما هو عميق. وعلي نحو ما توصل إليه بالوثائق عالم الاقتصاد إدوارد جليزر وزملاؤه بجامعة هارفارد، فإن اللامساواة غالباً ما تمد كلا الفريقين – الأثرياء والفقراء – بالدافع والحافز علي تقويض المؤسسات الحاكمة الفعالة، ليلحق الضعف بالمجتمع كله. إذ قد يحفز التفاوت علي تدمير المؤسسات بطريقتين تتميز كل منهما عن الأخرى بوضوح:
الأولي، طريقة "روبن هود"، إذ قد يعيد المعدمون والفقراء توزيع ما لدي الأثرياء والمقتدرون عن طريق العنف أو العملية السياسية أو غيرهما من الوسائل. بيد أن إعادة توزيع الثروة بهذه الطريقة، لجسر اللامساواة، تخل بحقوق الملكية الفردية وتقوض استثمارات الأثرياء.
الثانية، طريقة "الملك جون"، إذ قد يعيد المقتدرون والأثرياء ما يملكه المعدمون والفقراء – علي قلته – عن طريق الانحراف بالمؤسسات التشريعية والسياسية والتنظيمية كي تعمل لصالحهم، لكن إعادة التوزيع بهذه الطريقة قد تجعل حقوق الملكية الفردية لأولئك الذين يشغلون مواقع أدنى – بمن فيهم المستثمرين الصغار- غير آمنة وتعرقل استثماراتهم.