شبكات التواصل الاجتماعى.. تحقيق الذات بعيداً عن الجغرافيا
الأحد 26/يناير/2014 - 03:33 م
د. شريف درويش اللبان*
تقوم مواقع الشبكات الاجتماعية على شبكة الويب بتسهيل التفاعل الشخصي بصورة متزايدة عبر العالم. وقد تضمنت قائمة الشبكات الاجتماعية حول العالم حوالي 50 شبكة اجتماعية تضم كل منها أكثر من ملايين المستخدمين المسجلين. ويؤكد الخبراء في مختلف البلدان والأقاليم الثقافية على ربط شبكات اجتماعية معينة بمناطق ودول معينة، فموقع "فيس بوك" مرتبط بالولايات المتحدة الأمريكية، و"أوركوت" بالهند، و "ميكس" باليابان، و "لونارستورم" LunarStorm بالسويد، و "بيبو" Bebo بالمملكة المتحدة، و "فريندستر" بجنوب شرق آسيا، و "هاي فايف" بالبرتغال وأمريكا اللاتينية، و "ساي وورلد"Say world بكوريا.
ويثير الاستخدام المتزايد والمتسارع لمواقع الشبكات الاجتماعية في مناطق العالم المختلفة تساؤلات حول مدى تأثير استخدام هذه المواقع على المعايير والممارسات المهنية في مجال الاتصال والإعلام . لذا، فقد أجريت عدداً من البحوث في هذه السبيل يناقش بعضها حقوق الخصوصية التي يمكن أن يتمتع بها مستخدمو هذه المواقع، ومدى تطور الإطار التشريعي التي يمكن تفسير هذه القضية من خلاله، فيما ركزت أبحاث أخرى على الفوائد التي يجنيها المستخدمون لبعض المواقع المهتمة بمجال المال والأعمال ، وتتناول أبحاث أخرى سلوكيات مستخدمي هذه الشبكات في أثناء وجودهم عليها، بما في ذلك تأثيرات هذه السلوكيات على بيئة العمل.
إن بناء المساحات الافتراضية Architecture of Virtual Spaces يشبه كثيراً بناء المساحات المادية الحقيقية Physical Spaces، وهو ما يوحي على الفور ويمكن أيضاً من خلق مناخ للتفاعل. وقد ارتبط بناء المساحات على شبكة الإنترنت بمجموعة من السلوكيات يمكن النظر إليها على أنها قامت بتحرير التعبير Liberating Expression من الأغلال التي كانت تكبله، وذلك عن طريق المجهولية Anonymity التي يمكن من خلالها عدم الإفصاح عن الهوية الحقيقية للفرد، أو محاكاة الحياة الحقيقية في البيئة الافتراضية Virtual Environment. وهكذا، فإن البحوث الأولى قامت بدراسة كيفية تأثير المعالم البنائية للمساحات الافتراضية على تقديم الذات Self-Presentation والتعبير عن الذات. ومؤخراً، ركزت البحوث على العناصر التصحيحية والبنائية للشبكات الاجتماعية على الإنترنت، التي يتم توظيفها لدعم مشاركة الاتصال، ودعم العلاقات الاجتماعية لهذا الجيل عن طريق الإنترنت، وتعزيز الاتصال الفعال.
إن الهوية Identity والمجتمع Community قدمتا لفترة طويلة مفاهيم محورية مثيرة لباحثي وسائل الإعلام الجديدة. وبالتمكين من التعبير عن الهوية Identity Expression والبناء المجتمعي Community Building، صممت مواقع الشبكات الاجتماعية، بصفة مبدئية، لتتمحور حول الجمهور؛ فموقع Facebook في الوقت الراهن يتكون من 47 ألف كلية ومدرسة ثانوية وموظفين وشبكات إقليمية، ويتعامل مع 600 مليون بحث عن أفراد أو أصدقاء قدامى، وأكثر من 30 بليون صفحة يتم مشاهدتها شهرياً.
إن تطبيقات الشبكات الاجتماعية على الإنترنت تتيح للمستخدمين أن يقوموا بخلق ملامحهم الشخصية Profiles من خلال البيانات التي يكتسبونها، وعرض الصور، والاتصال بالأصدقاء الذين التقوهم على الإنترنت أو في الواقع الحقيقي بعيداً عن الإنترنت ، ومشاهدة البيانات الشخصية للآخرين، لذا يُعد موقع فيس بوك في المرتبة السابعة من حيث الجماهيرية والتفضيل لمستخدمي شبكة الإنترنت.
ويتيح موقع "لينكيد إن" LinkedIn للمستخدمين خلق بيانات شخصية مبنية على خلفياتهم الوظيفية أو المهنية، ليتم ربط هذه البيانات بوسائل اتصال مهنية Professional Contacts سواء داخل أو خارج الشبكات المهنية. لذا يأتي موقع LinkedIn متأخراً كثيراً في التصنيف عن فيس بوك ، حيث يمثل المرتبة 193 في ترتيب المواقع من حيث جذب مستخدمي الشبكة، محققاً 500 مليون صفحة يتم مشاهدتها خلال الشهر.
وفي الآونـــة الأخــيـرة، تم استنســـــاخ ما يطـلــق عليه "فيــــس بــوك للقـلــــــــــة" "A Facebook for the Few" من خلال صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، ومن هنا تم إنشاء موقع "سمول وورلد" Small World وهو شبكة اجتماعية خاصة يمكن للفرد أن ينضم إليها فقط، إذا وجهت له دعوة من قبل الأعضاء. ويخدم Small World جمهوراً أقل عمومية، لذا فإن ترتيبه 9571 وفقاً لتقارير المرور إلى الإنترنت.
وعلى الرغم من أن مواقع الشبكات الاجتماعية تعمل على تمكين الأشخاص من تقديم أنفسهم Self-Presentation وبناء روابط اتصالية بينهم ، لكنها تصبح ناجحة عندما تستخدم معالم بنائية لخلق أكواد رمزية Symbolic Codes يمكنها تسهيل الاتصال وخلق ثقافة الواقع الافتراضي Culture of Real Virtuality.
إن البحوث التي أجريت على مواقع الشبكات الاجتماعية تدرس طريقة تكوين هذه الشبكات والحفاظ عليها، بحيث تدعم الروابط الاجتماعية القائمة والجديدة. وغالباً ما تكون وحدة التحليل في هذه البحوث التفاعل أو الصلة بين الأفراد Interaction or Relation التي يتم قياسها بالروابط Ties التي تقام بواسطة الأفراد محققة علاقة , وقد تكوّن وحدة التحليل أنماط التبادل Types of Exchanges، أو تكرار الاتصال Frequency of Contact، أو مدى قوة الروابط Strength of Ties، أو الحميمية Intimacy، أو العناصر الكيفية للعلاقات، أو حجم الشبكات، والانتشار المحلي أو الإقليمي أو العالمي للشبكات، علاوة على عديد من المتغيرات الأخرى.
وقد توصلت الدراسات التي أجريت على "نتفيل" Netville، وهي ضاحية متصلة بالإنترنت أشبه بقرية للإنترنت أو قرية ذكية تقع على حدود العاصمة الكندية تورنتو، إلى أن التفاعل على الإنترنت غالباً ما يخدم كتفاعل بديل للاتصال الشخصي التقليدي بدرجة تجعل له تأثيراته الإيجابية على العلاقات الاجتماعية.
وتمثل مواقع الشبكات الاجتماعية امتداداً طبيعياً للعلاقات الاجتماعية الحقيقية، حيث إنها تربط شبكات الأفراد الذين قد لا يتشاركون المكان نفسه، ومن هنا يمكن تعريف مواقع الشبكات الاجتماعية على أنها: "خدمات توجد على شبكة الوب تتيح للأفراد بناء بيانات شخصية Profile عامة أو شبه عامة خلال نظام محدد، ويمكنهم وضع قائمة لمن يرغبون في مشاركتهم الاتصال ورؤية قوائمهم أيضاً للذين يتصلون بهم، وتلك القوائم التي يصنعها الآخرون خلال النظام".
وعلى معظم مواقع الشبكات الاجتماعية، لا يبحث المستخدمون عن لقاء أشخاص جدد، ولكن يبحثون عن دعم الاتصال بالمجموعة القائمة من الأصدقاء والمعارف. وهكذا، فإن تقديم (البروفايل) وعرض قائمة الأصدقاء والاتصالات وتبادلها مع الآخرين بشكل عام وعلني يشكل القاعدة الأساسية للتفاعل على مواقع الشبكات الاجتماعية. وهكذا، فإن هذه المواقع تدعم الأنماط المتباينة من التفاعل حتى لو اختلفت وتنوعت المواقع. وعلى سبيل المثال، فإن مواقع الشبكات الاجتماعية مثل "فريندستر" www.friendster.com ، و "ماي سبيس" www.myspace.com، و"فيس بوك" www.facebook.com لها تأثير كبير على توجه معظم مواقع الشبكات الاجتماعية الأخرى.
وتعمل الشبكات الاجتماعية على تعزيز الشخصية الاجتماعية للبيئات الافتراضية وذلك من خلال دعم التفاعل الذي بدأ شخصياً , وتم تأسيسه على معايير التفاعل اليومي التي تم تكييفها للنظم المعمول بها على الإنترنت. ووجد البعض أن الأفراد يرسلون إشارات وذلك لخلق نوع من الثقة والهوية في الاتصال على مواقع الشبكات الاجتماعية. فالبروفايل والاتصالات المعروضة تمثل مجموعة من الإشارات للجماهير المحتملة، والتي يتم تفسيرها من قبل المشاهدين، لكي تعكس المصداقية والثقة في المعلومات التي يتم مشاهدتها. ومن هنا، فإن تصميم الموقع يدعم تطور ثقافة معينة أو سلوكيات معينة وأساليب محددة في تقديم الهوية.
ويوظف عدد من الباحثين بنية مواقع الشبكات الاجتماعية كنقطة بداية لمناقشة وبحث الأفكار المتصلة بها، فقد تتبع البعض أنماط المعلومات الشخصية التي من المحتمل بدرجة أكبر أن يتم إفشاؤها على مواقع الشبكات الاجتماعية، مشيرين إلى أن الاختلافات البنائية فيما بين هذه المواقع (مثل فريندستر، ماي سبيس، فيس بوك) قد أسهمت في وجود ميول أو تباينات في إفشاء المعلومات الشخصية، في حين أن البعض الآخر بحث كيف أن الأفراد يفشون المعلومات ويحمون الخصوصية على موقع فيس بوك ، ليجدوا أن معظم المستخدمين يشاركون بعضهم البعض المعلومات الشخصية ويقوم قليل من المستخدمين بتعديل إعدادات الخصوصية Privacy Settings بغية تحقيق مزيد من الحماية.
وفي غياب مفاتيح كافية للعلاقات، يأخذ الأفراد في مواقع الشبكات الاجتماعية زمام المبادرة من أجل تطوير شفراتهم الخاصة لما قد يفضلونه أو لا يفضلونه فى الاتصال، وبما يعكس اهتماماتهـم وعمـق ارتباطهـم بالآخـرين، وذلك عندما يقدم هؤلاء الأفراد أنفسهم على هذه المواقع، فعملية قبول الصداقة أم لا أمر محـســوم في مـواقــع عــديـدة بواسـطــة السـمــاح للانضـمــام إلى قـوائم الأصـدقــاء، كـمــا يتم التمـيــيـز بين الأصدقاء المقربين "Top" or Close Friends وأصدقاء العمل أو الأصدقاء الذين يتمتعـون بمزايا أقل من حيث الوصول المحدود للمعلومات الشخصية.
وفي الشبكات الاجتماعية التي تتمركز حول الذات Ego-Centered Networks بصفة خاصة، فإن الأفراد في مركز شبكاتهم الخاصة يقومون بمهمة تكييف معايير الشبكة Network Norms لكي تناسب السياقات الشخصية والثقافية والاجتماعية. وعلاوة على ذلك، غالباً ما يفسر مستخدمو موقع الشبكة الاجتماعية المفاتيح التي وضعه الأشخاص في البروفايل الخاص بهم، كالوسائل الموضوعة على "حوائط" الفيس بوك Facebook Walls أو صور الأصدقاء الأعضاء كمدخل للتعرف على شخصية العضو. وفي سياق أبعد ما يكون بشكل ملحوظ عن السياق الغربي Non-Western Context مثل موقع "ساي وورلد" http://www.us.cymorld.com، فإن معالم بنية موقع الشبكة الاجتماعية قد تم تكييفها، لكي تضاهي المعايير الثقافية للمستخدمين ونمط العلاقات لدى الكوريين.
إن مواقع الشبكات الاجتماعية تمكن من الاتصال من خلال دوائر متسعة من الوسائل بشكل غير مسبوق، وهو ما يعمل على الدمج Convergence ما بين أنشطة عديدة منفصلة من بينها البريد الإلكتروني ، الرسائل ، بناء مواقع الوب ، كتابة اليوميات ، تحميل ألبومات الصور أو ملفات الموسيقى أو الفيديو. ومن وجهة نظر المستخدم، وأكثر من أي وقت مضى، فإن استخدام وسائل الإعلام أصبح يعني خلق المضمون كما يعني الاستقبال ، وذلك مع إتاحة الفرصة لسيطرة المستخدم فيما وراء اختيار المضمون المعد سلفاً , والمنتج لجمهور عريض . وتغيرت لغة العلاقات الاجتماعية وأعيد تشكيلها من جديد، بحيث يستطيع الأفراد بناء "البروفايل" الخاص بهم، وجعله عاماً أو خاصاً ، كما يستطيعون التعليق على أو إرسال الرسائل إلى أصدقائهم المقربين "Top Friends" على "حائطهم"، ويمكنهم إعاقة Block أو إضافة Add أفراد إلى شبكتهم.
ويبدو للعديدين أن خلق المحتوى على الإنترنت وإتاحته من خلال شبكة يصبح بالتدريج وسيلة مكملة لهوية الفرد، وأسلوب حياته، وعلاقاته الاجتماعية. وتركز التقديرات المتفائلة على النواحي الجديدة للتعبير عن الذات ، والقدرة على التعايش المجتمعي ، والاهتمام بالمجتمع وقضاياه ، والإبداع والثقافات الجديدة. ويناقش البعض أن خلق المحتوى الشبابي سوف يواجه السيطرة التقليدية للمنتجين على المستهلكين، ويعمل على تسهيل وتيسير خلق ثقافة مستحدثة بين الشباب، سواء على المستوى المحلي أو الدولي.
ويأمل صانعو السياسات أن تتطور مهارات التعليم الإعلامي من خلال قيام مواقع الشبكات الاجتماعية بالتحول إلى دعم التعلم والمشاركة عبر الإنترنت وحماية الشباب من مخاطر الإنترنت المرتبطة بالتقديم العدواني للذات والاتصال المسيء بالآخرين؛ فالخطاب الإعلامي غالباً ما يعكس الأسلوب الذي يعيشه الفرد في مثل هذا العالم المختلف عن العالم الحقيقي.
وتعكس المخاوف من وسائل الإعلام أوجه القلق المتزايدة لدى الجمهور تجاه الشبكات الاجتماعية. ومن بين العناوين الجاذبة للقراءة في صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية، التي توحي بأن "جيل ماي سبيس" My Space Generation ليس لديه إحساس بالخصوصية أو الخجل: "الجيل المصدوم من العثور على الحرية على الإنترنت: أطفال عصر الإنترنت مستعدون لتعرية أجسادهم وأرواحهم بطريقة لم يستطع آباؤهم وأمهاتهم أن يفعلوها مطلقاً".
وثمة عنوان آخر يقول: "أطفال اليوم: ليس لديهم شعور بالخجل، وليس لديهم شعور بالخصوصية". وعلاوة على ذلك، فإنه من المعتقد أن الشبكات الاجتماعية تتسم بالنرجسية كلية، فهذه المـواقـع تركـز على الـذات وتنظـر إلى الــذات فحسب. وباختصار، قد يُنظر إلى هذه الشبكات على أنها مضيعة للوقت ، وتؤدي إلى العزلة الاجتماعية ، والأسوأ أنها قد تسمح للشواذ جنسياً بإغواء الأطفال في غرف نومهم أو قد تجذب المراهقين إلى الانضمام لاتفاقات على الانتحار في الوقت الذي يعتقد فيه الأبوان أنهم يقومون بأداء واجباتهم المدرسية.
وعلى أية حال، ففي عصر الحداثة، يُفهم "تحقيق الذات" من خلال الموازنة بين الفرص والمخاطر. وتنشأ كل من الفرص والمخاطر لأن تحقيق الذات يعد عملية اجتماعية. وتتشكل الذات في الأساس من خلال التفاعل مع الآخرين، لذا فإنه بالنسبة لشباب اليوم، يتضمن تحقيق الذات بصورة متزايدة نوعاً من المفاوضات أو السجال بين الفرص (بالنسبة للذاتية والحميمية والحياة الاجتماعية) والمخاطر (بالنظر للحفاظ على الخصوصية، وتجنب سوء الفهم، وسوء الاستخدام) عند استخدام الاتصال عبر الإنترنت.
___________________________________
*أستاذ الصحافة وتكنولوجيا الاتصال
كلية الاعلام – جامعة القاهرة