الشعور السلبي: تقييم أداء حكومة إبراهيم محلب (1-2)
استطاعت الحكومة الحالية، وهي الثانية التي يشكّلها المهندس إبراهيم محلب، رئيس مجلس إدارة شركة "المقاولون العرب" إحدى كبرى الشركات المصرية، تحقيق عدد من الإنجازات المهمة، على عكس ما يعتقد البعض. وعلى الرغم من أن بعض هذه الإنجازات تم بناؤها على قاعدة الثقة في القيادة السياسية للرئيس عبد الفتاح السيسي، وعلى المساعدات الاقتصادية الخليجية، فإنه سيظل يحسب لهذه الحكومة إنها استطاعت أن تبدأ برنامجا للإصلاح المالي لقيَ رضا صندوق النقد الدولي والمؤسسات الاقتصادية العالمية، وهو ما انعكس في تحسين درجة التصنيف الائتماني لمصر من "سلبي" إلى "مستقر" ولو أن مصر لا تزال على الرغم من ذلك بعيدة بعض الشيء عن أن تصبح بلدا جاذبا للاستثمار طبقا لتقدير مؤسسات التقييم الائتماني في العالم مثل موديز وفيتش وستاندارد آند بوورز.
كذلك فإن إقدام الحكومة على اتخاذ اجراءات جريئة لتخفيض العجز المالي في الميزانية، لاقى ترحيبا من صندوق النقد الدولي، الذي أعرب مرارا عن قلقه من اتساع نطاق العجز في الميزانية حتى تجاوز 12% من إجمالي الناتج المحلي وكاد يصل إلى 14% لو لم تبدأ الإجراءات الإصلاحية في إطار سياسات اقتصادية ملائمة قادرة على كبح جماح هذا العجز. وقد استطاعت الحكومة بجرأة بالغة أن ترفع أسعار الوقود بهدف محاصرة الزيادات الكبيرة في الدعم، ومنها دعم الطاقة على وجه الخصوص الذي كان كان يبتلع ما يقدر بنحو 17% من الإنفاق في الميزانية. كذلك أدخلت الحكومة نظاما جديدا لدعم السلع التموينية، شجعت به المستهلك المتلقي للدعم أن يتحول اختياريا إلى نظام للدعم النقدي، يستفيد منه أصحاب البطاقات التموينية بقيمة 15 جنيها للفرد المقيد في البطاقة بحد أقصى أربعة أفراد للأسرة الواحدة. وبذلك تحول بعض المستهلكين من السلع التموينية التقليدية إلى سلع أخرى، مستفيدين من الدعم النقدي الذي تتضمنه البطاقة التموينية. وساعد هذا النظام، مع النظام الجديد لتوزيع الخبز الذي كان يقاومه أصحاب المخابز بكل قوة، أن يكسر حلقة الوسطاء وما يتسرب من خلالها من دعم إلى غير المستحقين، وكذلك ما كان ينطوي عليه النظام السابق لتوزيع الخبز من إهدار في الموارد التي تستوردها البلاد من الخارج مثل القمح والدقيق.
أولا- الاستجابة لمطالب فئوية
كذلك قدمت الحكومة، في تعديلات الميزانية السابقة، وفي الموازنة المالية للعام الحالي، عددا من المزايا لفئات كانت تطالب منذ فترة بإصلاح أوضاعها الوظيفية والاجتماعية مثل المعلمين والأطباء وأصحاب معاشات الضمان الاجتماعي وغيرهم. وعلى سبيل المثال فإن موازنة 2013/2014 تضمنت زيادات في المصروفات بنسبة 19.3% لتلبية احتياجات اجتماعية واجتماعية مهمة. وتضمنت الميزانية زيادة في قيمة الأجور والتعويضات والمزايا للعاملين في الأجهزة الحكومية بنسبة 25% وتوزعت هذه الزيادة على النحو التالي:
- زيادة بنسبة 22.8% للمكافآت وحوافز الإثابة .
- زيادة المرتبات للموظفين الدائمين بنسبة 10.3%.
- زيادة البدلات النوعية بنسبة 28%.
- زيادة البدلات النقدية بنسبة 51.8%.
- زيادة قيمة الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية بنسبة 16%.
كما تضمنت موازنة السنة الحالية (2014/2015) 33 مليار جنيه لتغطية تكاليف تطبيق الحد الأدنى للأجور (18.3 مليار) وعلاوة الأعباء الوظيفية للمعلمين (7.2 مليار جنيه) والبدل المهني للأطباء (7.6 مليار جنيه) وزيادة قيمة معاشات الضمان الاجتماعي وإضافة فئات جديدة من المستفدين (6 مليارات جنيه) إضافة إلى 10 مليارات جنيه موزعة على 4 سنوات لتغطية تكاليف تثبيت العمالة المؤقتة ونقلها جميعا إلى الباب الأول في الميزانية.
ومن الناحية الاقتصادية البحتة تبدو حكومة المهندس إبراهيم محلب وكأنها تقوم بعمل ما يتعين عليها عمله، من أجل إصلاح الخلل في منظومة الأجور والدعم، وإعادة التوازن إلى المالية العامة للدولة. وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير خصوصا في موازنة السنة المالية الحالية. وبسبب ذلك فإن الحكومة حصلت على قبول دولي لا بأس به. وتمثل هذا القبول في ثقة عدد من المنظمات الدولية والإقليمية، أهمها طبعا صندوق النقد الدولي ومؤسسات التنمية الإقليمية العربية، التي تشارك بكثافة في تمويل عدد من المشروعات الكبيرة في مصر، مثل مشاريع الكهرباء والمياه والصرف والتشييد، إلى جانب تمويل خطوط لتدفق التجارة بين مصر والعالم.
كذلك فإنه لا يجب أن يغيب عن الأذهان أن هذه الحكومة تستظل بظل عدد كبير من المشروعات القومية العملاقة، التي يقود تنفيذها رئيس الجمهورية، كانت قد تضمنها برنامجه الرئاسي، ومن أهمها مشروع ازدوج مجرى قناة السويس من الإسماعيلية إلى بورسعيد وتنمية إقليم القناة بأكمله على الضفتين، والمشروع القومي لاستصلاح 4 ملايين فدان، ومشاريع ممر التنمية وتطوير شبكات النقل والطرق. وقد استنهضت هذه المشروعات، خصوصا مشروع قناة السويس همم الناس، حتى إن المصريين قدموا أكثر من 62 مليار جنيه خلال أقل من عشرة أيام للاكتتاب في شهادات الاستثمار التي أصدرتها هيئة قناة السويس لتمويل المشروع. وقد كان هذا الإقبال على التمويل علامة قوية على الثقة في القيادة السياسية للبلاد في الوقت الحالي.
وتظهر متابعة اجتماعات المهندس إبراهيم محلب مع الوزراء سيطرة عدد من الموضوعات الحيوية على نشاط الحكومة. وقد كانت الأولوية التي تقدمت على ما عداها هي الأمن ومكافحة الإرهاب، وتلاها موضوع الطاقة وتوفير الكهرباء ثم مكافحة الفساد والإصلاح التشريعي. وقد أقرت الحكومة خلال اجتماعاتها الأسبوعية عددا من مشاريع القوانين أو تعديلاتها، تضمنت إقرار قوانين للكيانات الإرهابية وقصر الخطابة على خريجي الأزهر ومكافحة التحرش الجنسي، وكذلك دخال تعديلات على قوانين العقوبات والرشوة والفساد وتنظيم الجامعات والمرور وغيرها. كذلك اهتمت حكومة المهندس إبراهيم محلب بتسوية المنازعات مع عدد مهم من المستثمرين، ونجحت في عقد صفقات تسوية استردت عن طريقها مبالغ كبيرة من الأموال من شركات كانت قد خالفت عقودها. وقد أرادت الحكومة بذلك أن ترسل رسالة طمأنة إلى المستثمرين الأجانب والعرب، استعدادا للمؤتمر الاقتصادي الكبير الذي من المقرر أن يعقد في مارس 2015.
ثانيا- مصادر الشعور السلبي
وكان من المفترض أن تؤدي هذه الإنجازات التي حققتها حكومة محلب إلى زيادة شعبيتها ورفع مستوى الثقة بها. لكن مظاهر عدم القبول وانتشار الانتقادات الموجهة للحكومة ولأدائها، وفشل الحكومة في أن تحقق شعبية في أي مكان تقريبا، من شأنه أن يجعلنا نتساءل عن الأسباب التي أدت إلى ذلك. ولعل من المفيد هنا أن نذكر بأن العوامل الاقتصادية وحدها لا يمكن أن تصنع النجاح السياسي! وهناك ما يسميه علماء الاجتماع في الغرب (feel-good factor) وهو شعور جمعي إيجابي دافئ تجاه حكومة أو سياسة بعينها، يساعد على نجاح السياسة حتى لو كانت هناك صعوبات أو عقبات تواجهها أو تضحيات يتعين دفعها. ونستطيع أن نقرر جميعا أن المصريين على الرغم مما لاقوه من مصاعب في الحصول على الكهرباء في صيف عام 2014، فإنهم كانوا راضين وكانوا يبذلون جهدا للتعاون مع القيادة، حبا في هذه القيادة وإيمانا بها. كان هذا الشعور الدافئ يساعد الناس على العمل والمضي في حياتهم بدون ضجر، على عكس ما كانت عليها الحال في العام الماضي. وبدلا من أن يحصل محلب على هذا الشعور في صفه، فإنه في حقيقة الأمر وجده يعمل ضده، بحيث يمكن القول إن محلب يواجه شعورا سلبيا في الشارع (negative feeling) تجاه سياساته بشكل عام، حتى وإن كان البعض قد استفاد منها.
وقد نجد بسهولة أن المواطنين الذين يكنّون حبا للرئيس عبد الفتاح السيسي، لا يمنحون رئيس حكومته نفس الشعور. وربما فشل المهندس إبراهيم محلب في التواصل السريع مع الناس. وقد وقعت خلال الأشهر المنقضية منذ تولى إبراهيم محلب رئاسة الوزارة أحداث جسام، تركت جروحا عميقة لدى المواطنين على الصعيد الإنساني. ومن هذه الأحداث سقوط بعض الأطفال قتلى في المدارس بسبب الإهمال في رعايتهم أو في صيانة الأبنية التعليمية. ومنها أيضا حوادث المرور القاتلة التي راح فيها عشرات الضحايا. وجاءت أحكام البراءة لمبارك وولديه وزمرته الأمنية أخيرا لكي تزيد حدة هذا الشعور السلبي تجاه الحكومة.
لكن محلب فوق ذلك يدفع فاتورة ثقيلة لإهمال سبقه بعقود. فهو توجه إلى المحلة في بداية رئاسته للحكومة في محاولة لتهدئة العمال، وقد أجابوا له طلبه، لكنه فشل في أن يجيب لهم طلباتهم. وهو تجاهل العمال في مواقع أخرى مهمة مثل شركة الحديد والصلب، أو غيرها من شركات قطاع الأعمال العام التي تعاني من الفساد. وهو فشل في تقديم سياسة زراعية قوية لمساندة الفلاحين، بل إنه على العكس مما كان يطمح إليه الفلاحون، عمد إلى زيادة أسعار الأسمدة، وأدخل حالة من الرعب في قلوب الفلاحين من تطبيق قانون الضرائب العقارية على مساكنهم وعلى مباني حظائر تربية المواشي والدجاج! ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل إن رئيس الوزراء الذي ذهب يوما ما إلى سوق العبور لمحاولة إقناع تجار السوق بالتخفيف عن المستهلكين وعدم المبالغة في زيادة الأسعار، فشل عمليا في إقناع المواطنين بأنه قادر على حمايتهم من غول التضخم والغلاء.
كذلك فإن حكومة محلب وهي تقدم على تنفيذ إصلاحات مالية، لم تعمل بنصيحة صندوق الدولي التي تطلب من صناع الإصلاحات أن يوفروا للفئات الفقيرة والضعيفة اجتماعيا شبكات ملائمة للأمان الاجتماعي، وتصميم إجراءات لحماية الفقراء وأصحاب الدخول المحدودة من الآثار السلبية لبعض الإصلاحات الاقتصادية. ومن ذلك على سييل المثال ضرورة تقديم تعويضات مبكرة للفقراء عن رفع اسعار الطاقة وعن ارتفاع أسعار السلع الأساسية الذي يرتبط بإعادة هيكلة الدعم السلعي. إن هؤلاء الفقراء يشعرون إنهم يدفعون الآن ثمن الإصلاح لفائدة غيرهم، خصوصا أنهم ليسوا من الفئات التي حصلت على مزايا زيادة الأجور والمزايا في الميزانية. إن ملايين الأسر في مصر دفعت ثمنا باهظا لارتفاع فاتورة الطاقة والسلع الأساسية وتكاليف النقل والسكن وغيرها. ونحن نعرف أن هناك فئات واسعة من المواطنين، ربما تزيد عن نصف قوة العمل في مصر، لا تستفيد شيئا من المزايا التي تقدمها الدولة في الميزانية مثل الحد الأدنى للأجور والعلاوات الاجتماعية العينية والنقدية المختلفة. وهذه الأسر التي تعيش خارج نطاق الاقتصاد الرسمي تدفع ثمن الإصلاح ولا تستفيد به.
أضف إلى ذلك صعوبات الحياة اليومية في المرور وارتفاع ضحايا حوادث الطرق والقطارات، واستمرار تراكم أكوام القمامة في الشوارع، وصعوبات الحياة في العشوائيات التي لم تتحسن كثيرا على الرغم من كل الوعود. لكن كل ذلك قد تكون الحلول له سهلة وربما في متناول اليد، لكن يعطلها الفاسدون وأصحاب المصالح، إلا المشكلة الكبرى، أو هي على الأصح أم المشاكل التي تعاني منها مصر اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، ألا وهي مشكلة البطالة. في نظر الناس، رئيس الوزراء مسئول عن توفير فرص العمل الضرورية للشباب الباحث عن عمل، للخريجين الذين استثمر فيهم أهلهم وبذلوا الغالي والرخيص، متمنين يوما يرون فيه هؤلاء الأبناء والبنات وقد أمنوا على مستقبلهم في وظائف لائقة، تجعلهم قادرين على بدء حياة مستقلة، وبناء أسر جديدة تتمتع بالقدر الملائم من الرفاهية، وليس باقتسام نقمة الشقاء.
وأعتقد أن مشكلة البطالة هي الغول الحقيقي الذي يهدد أي حكومة في مصر. كما أن عشوائية الأسواق وتحكم تجار الجملة الجشعين في أسعار السلع الحيوية، وضعف النمو، وانخفاض مستوى الشعور بالأمان العام، وانتشار الفساد الحكومي، وغياب القانون، تمثل كلها ظواهر حياتية أساسية تغذي الشعور السلبي تجاه حكومة محلب.
ثالثا- البطالة
طبقا لتقديرات البنك الدولي فإن البطالة هي إحدى المعضلات الإقتصادية التاريخية التي تواجه الدول العربية ومنها مصر. ويقدر خبراء البنك أن هذه المعضلة تستلزم رفع متوسط معدلات النمو في دول المنطقة إلى ما يتراوح بين 5% إلى 6% على الأقل لكي يصبح الاقتصاد قادرا على توفير فرص العمل للداخلين الجدد إلى سوق العمل سنويا. وتشير تقديرات خبراء البنك إلى أنه سيتعين على دول المنطقة توفير ما يقرب من 28 مليون فرصة عمل خلال السنوات السبع المقبلة للمحافظة على المعدلات الحالية للبطالة بدون ارتفاع. غير أن التجربة التاريخية في مصر تشير إلى أن الاقتصاد فشل خلال العقدين الأخيرين على الأقل في توفير فرص العمل اللازمة لاستيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل، وهو ما يترجم نفسه في زيادة معدل البطالة عاما بعد عام. وبالرجوع إلى أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإننا نجد أن متوسط معدل البطالة السنوي خلال الفترة منذ 1993 وحتى 2014 يبلغ نحو 10.6%. وسجل الإقتصاد أقل معدل للبطالة خلال هذه الفترة في الربع الثاني من العام 1999 بنسبة 8.1% وهي نسبة مرتفعة بكل المقاييس حتى بالمقارنة إلى مستهدفات النمو في مصر، والتي كانت تحرص دائما على استهداف معدلات للبطالة لا تزيد في المتوسط على 5% سنويا.
وقد ساءت الأمور كثيرا بسبب عدم استقرار النظام السياسي، وانتشار حالة من الفراغ الأمني تسببت في إبطاء النمو الاقتصادي بشكل عام، وإلى تشريد مئات الآلاف من العاملين من وظائفهم، وهو ما جعل "الوظيفة الحكومية" بمثابة الملاذ الأخير لتحقيق "الأمان الاجتماعي" لأي شخص يبحث عن فرصة عمل. وبسبب تدهور الحالة الأمنية والاقتصادية فإن معدل البطالة الرسمي ارتفع إلى أعلى مستوى له منذ أكثر من 50 عاما. ويبلغ معدل البطالة حاليا حسب تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء 13.4% وهو ما يعني أن ما يقرب من 3.7 مليون مواطن في سن العمل لا يجدون قوتهم. والأخطر من ذلك أن البطالة تتركز في الفئات العمرية الفتية والشابة التي تتوفر لها أقصى طاقات العطاء، ناهيك أن معظم هؤلاء هم من خريجي الجامعات والمعاهد الفنية والمدارس المتوسط. وتقدر الإحصاءات الرسمية أن 70% من العاطلين عن العمل في مصر تتراوح أعمارهم بين 15 إلى 29 عاما، وهو "العمر الإنتاجي الأمثل"، وأن النسبة الأعظم من هؤلاء هم من المتعلمين.
إن ارتفاع معدل البطالة في مصر إلى مستواه الحالي يمثل وصمة في جبين كل من يدّعي أن "الإنسان هو هدف التنمية"! فالحقيقة أن الإنسان في مصر هو "ضحية" نمط التنمية الحالي وليس هدفه بأي وجه من الوجوه. وينطوي زيادة معدل البطالة على اتساع معدلات الفقر والتفاوت الاجتماعي وانخفاض مستوى الصحة العامة بين العاطلين وأسرهم. ومن السهل جدا أن نقرر أن هناك علاقة بين اتساع نطاق الفقر من 15% إلى 26.5% خلال نحو عقد ونصف العام من الزمان وبين ارتفاع معدل البطالة إلى مستواه الحالي.
لقد ارتفع معدل البطالة من بداية عام 2000 حتى الآن بنسبة 41% في حين ارتفع معدل الفقر بين المصريين خلال الفترة نفسها زاد بنسبة 71%! وليس هناك من سبيل لتخفيض مستويات الفقر الحالية، وتقريب نسبة التباين بين فئات الدخول المختلفة بدون تغيير نمط وأهداف التنمية بحيث يستهدف ذلك تحقيق مستويات أعلى من التشغيل، وتوزيع الدخول بطريقة تحقق المزيد من العدالة بين فئات الدخل المختلفة. ويجب أن نقرر هنا أن حكومة المهندس إبراهيم محلب ورثت وضعا شديد الصعوبة من حكومات سابقة، وأن تلك الحكومات جميعا وبلا استثناء منذ سقوط حكم حسني مبارك لم تتقدم بشجاعة لمواجهة مشكلة البطالة. وهي في أحسن الأحوال حصرت هذه المشكلة في نطاق الإستجابة لتثبيت العمال المؤقتين أو تعيين بعض حملة الماجستير والدكتوراه الباحثين عن عمل.
ومن المؤسف أن نجد أن مؤسسات الدولة نفسها تتاجر بغرض بحاجة العاطلين إلى فرص العمل للتربح من هذه الحاجة! وهذا يؤخذ على حكومة محلب. فالإعلان عن وظائف جديدة في وزارات مثل العدل أو التعليم أو غيرهما، يجذب مئات الآلاف من طالبي العمل الذين يتقدمون لشغل هذه الوظائف المتاحة التي يتم الإعلان عنها. وهم في سبيل ذلك يتكبدون مشقة السفر وتكاليف دفع الرسوم، وهي جباية صارخة قذرة لمصلحة الصناديق الخاصة ويتم توزيع النسبة الأعظم من إيراداتها على كبار الموظفين من دم وعرق الغلابة المحتاجين إلى فرصة عمل. وقد عرض المواطنون خلال الأشهر الماضية نماذج كان يتعين التحقيق فيها، تثبت تربّح أجهزة في الدولة من حاجة العاطلين إلى الوظائف. وحيث إن الدستور ينص على أن العمل حق، فما يجب أبدا أن تفرض الدولة رسوما على استمارات التقدم لشغل الوظائف. هذه إهانة لمصر وللمصريين ولدستورهم. فلماذا لا تغضب الناس إذن ولا تشعر بالمرارة؟!
إن الارتفاع المستمر لمعدل البطالة (بصرف النظر عن التغيرات الإحصائية الفصلية الطارئة) منذ بداية القرن الحالي، والذي ازدادت حدتة منذ ثورة يناير وحتى الآن، إنما يعكس أيضا هدرا غير محدود للثروة البشرية التي تمتلكها البلاد. فهؤلاء الذين يتم الاستثمار فيهم خلال مراحل التعليم المختلفة هم الثروة الحقيقية التي تحتاجها مصر. وهم بعد تخرجهم يكونون في مرحلة "العمر الإنتاجي الأمثل" و"نضج قدراتهم الإنتاجية". لكننا للأسف نهدر هذه الثروة بعدم توظيفها، وبانعدام القدرة على تدريبها وإعادة تأهيلها. إن تدهور نظام التعليم والتدريب قصة أخرى في هذا السياق.
والأخطر من كل ذلك أن البطالة وعدم الحصول على فرصة عمل ملائمة يؤدي عمليا إلى "قتل الأمل" و"تدمير الطموح" لدى الشباب، الذي يتميز أول ما يتميز بالأمل وبالطموح. تخيل أنك واحد من خريجي الجامعة أو المعاهد أو المدراس الفنية، وانتهى بك الحال لأن تعمل مساعدا لنجار مسلح أو مساعدا لتاجر فاكهة وخضروات على فرش في الشارع! وقد رأيت محاسبين من خريجي كليات التجارة يمسكون حسابات تجار خضار وفاكهة على الأرصفة ويساعدونهم في عملهم! تصور أنك خريج إحدى دور العلم وانتهت بك الحال لأن تعمل على عربة "درة مشوية" أو على "نصبة شاي"! أو أن سبل الحياة انسدت كلها أمامك ولم تجد لنفسك موردا للرزق غير أن تعمل "سرّيحا" ببضاعة مهربة، تدور على المقاهي لمحاولة تصريفها بعمولة هزيلة! أمثال هؤلاء ليسوا نسبة قليلة من خريجي الجامعات والمعاهد العليا والمدارس الفنية في مصر. ومن الطبيعي أن يشعر هؤلاء بالمرارة، وهم يرون تجاهلا مقيتا من جانب السياسيين وحكام البلد. ومن الطبيعي أن ينال المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء قسطا من هذه المرارة.
رابعا- اقتصاد متخلف
سوف أنتقل إلى المعضلة الثانية الكبرى التي تواجه حكومات ما بعد الثورة، ومنها بالقطع حكومة المهندس إبراهيم محلب، والتي فشلت جميعا في تقديم حلول لها، وإن كان بعضها قدم بعض "المسكنات" بقصد تهدئة حدتها، ألا وهي مشكلة "الغلاء" التي نعبر عنها اقتصاديا وإحصائيا بمعدل التضخم. ولكنني قبل أن أتناول هذه المعضلة وكيف فشلت حكومة محلب، ومن سبقها في التصدي الحقيقي لها، سوف أتناول قضية "النمو"، كقضية مفصلية ترتبط بغيرها من الظواهر الاقتصادية والاجتماعية تأثيرا وتأثرا. إن ارتفاع معدلات النمو يعني الكثير من فرص العمل، ووفرة المنتجات، وزيادة الدخول، وهو ما نسميه إجمالا "الرواج الاقتصادي".
ويعني "الرواج" حالة توحد بين الرفاهية وبين الشعور بالأمل في آن واحد. من منا لا يتذكر حالة الأسواق في الأرياف والمدن المحيطة بعد موسم قطن وفير؟! كل الناس كانت تشعر بالرواج، الفلاح والتاجر والصانع أو الحرفي وغيرهم، الكل يشعر بالرواج. ويخلق الرواج حالة "الشعور الإيجابي" تجاه الحياة ككل، ولم لا، وهذا الموسم يرتبط أيضا بالزواج وبالشروع في تكوين أسر جديدة، هذا يخطب هذه، وهذه تزف إلى ذاك. إنها حالة الرواج التي تدور فيها الثروة الجديدة بين الناس. الآن غابت مواسم الرواج. ليس بسبب القلاقل وعدم الإستقرار، ولكن بسبب الفشل في إدارة الاقتصاد، من جانب صناع السياسة وأصحاب القرار.
لقد غابت قوانين السوق، على الرغم من عيوبها، وفقدنا آليات "السوق" في إدارة الاقتصاد. وغابت عن السياسة مقومات الرشادة والاستقرار، فتحولت "رأسمالية الدولة" إلى نظام كسيح تسيطر عليه بيروقراطية فاسدة ومستبدة. هذا ما كان منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، فكانت النتيجة أن الاقتصاد راح ينزف، وأن الرواج راح يتبخر من موسم إلى موسم، حتى حل محله الركود. وكان من نتيجة ذلك أن كثيرا من قوى السوق والدولة، انتقلت إلى أساليب وحيل "الفهلوة" في كسب الرزق وفي الإدارة. أضعنا خلال أقل من عقدين من الزمان مقومات التراكم الرأسمالي الذي حققته مصر خلال فترة ما بين الحربين العالميتين وما بعدهما. ثم راحت الدولة "الفاسدة الفاشلة" في تسيير الحياة والمحافظة على السلطة بطريقة الاستدانة من الخارج، واعتصار الناس، واستنزاف مجهودهم وثرواتهم.
ولولا شطب ديون مصر تقريبا في أوائل التسعينيات، في إطار ترتيبات تمت من خلال "نادي باريس" للدول الدائنة، ولولا ما حصلت عليه مصر من منح وقروض بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، ولولا ما حصلت عليه مصر من مساعدات من أشقائها العرب منذ هزيمة يونيو 1967 (التي انقطعت مؤقتا خلال فترة القطيعة والمقاطعة)، ولولا ما حصلت عليه مصر من منح وقروض من الإمارات والسعودية والكويت في السنوات الأخيرة، لكانت الحال الآن غير الحال! لقد كانت المساعدات الخارجية التي حصلت عليها مصر، تقديرا لدورها الإستراتيجي وأهميتها المحورية في سياسات المنطقة ومصيرها، بمثابة "الريع الإستراتيجي" الذي وفر للاقتصاد ما يمكن تشبيهه بجهاز المساعدة على الحياة (life-support machine) خلال عقود ممتدة من الزمن. ولكي تتمكن من رؤية الصورة على حقيقتها، ما عليك إلا أن تفعل الآتي: إخصم قيمة المساعدات السوفيتية والمساعدات الأمريكية والمساعدات العربية والديون المشطوبة والمنح من الاتحاد الأوربي والدول الصناعية الغربية من قيمة الدخل القومي لمصر خلال الستين عاما الأخيرة، عندها ستحصل على الصورة الحقيقية القاتمة التي تجسد فشل السياسة الاقتصادية للدولة المصرية خلال تلك العقود.
الآن نحن، كلنا حكاما ومحكومين، في مواجهة لحظة الحقيقة. في السنوات الخمس الأخيرة هبط متوسط معدل النمو الحقيقي إلى 2.68% تقريبا سنويا، ويغطي هذا المعدل بالكاد احتياجات النمو السكاني الذي سجل خلال الفترة نفسها (2009/2010 – 2013/2014) معدلا بلغ 2.44% في المتوسط سنويا. ومعنى ذلك أن الاقتصاد كان وسيظل، إذا استمر هذا المعدل على حاله، عاجزا عن إطعام الناس، وعن توفير فرص عمل لهم، وعن تقديم الإمكانات الملائمة لإسكانهم وتعليمهم وتدريبهم وعلاجهم ورعايتهم إجتماعيا. نحن في حاجة إلى تحقيق معدلات للنمو تصل إلى 7% سنويا لمنع تدهور الوضع الحالي. وإذا أردنا تحسين الحال، فلا مناص من رفع معدل النمو إلى ما يترواح بين 9% إلى 10% سنويا. لا طريق غير ذلك.
ويعتقد صناع السياسة الاقتصادية في مصر، ليس الآن فقط ولكن منذ عقود، أن تنمية مصر سيقوم بها الأجانب! هذا لن يحدث أيها السادة، فكل تجارب التنمية في العالم تؤكد أن قاطرة التنمية الأولى هي الاستثمارات المحلية وما الاستثمارات الأجنبية إلا العنصر المكمل. هذا تثبته الآن تجربة دولة مثل فيتنام، وهكذا تثبت الصين وكوريا، ومن قبلها اليابان. صحيح أن فترات تاريخية معينة سجلت دورا مهما في تنمية بعض مناطق العالم، مثل برنامج مارشال الأمريكي للمساهمة في إعادة بناء أوربا بعد الدمار الذي تعرضت له خلال الحرب العالمية الثانية، لكن حتى هذا البرنامج وغيره، كان يعتمد على قوة إرادة محلية في البلدان المعنية، واستثمارات محلية واسعة، مصممة على تحقيق التنمية.
ونستطيع أن نسجل مع الأسف، أن التنمية في مصر، سواء في فترات سيادة إستراتيجيات "رأسمالية الدولة" في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، أو إستراتيجيات "رأسمالية السوق" منذ منتصف السبعينيات حتى الآن، كانت (باستثناءات محدودة) ذات طابع ريعي، مربوطة بتأثير متغيرات خارجية أكثر من استنادها على مقومات داخلية صلبة. ويكفي أن نعرف أنه في ذروة مرحلة التنمية في الستينيات وفق إستراتيجية "إحلال الواردات" (imports substitution) تعرضت مصر لأزمة طاحنة في موازين التجارة والمدفوعات، تسببت في اختناقات حادة في قنوات التنمية، وهو ما أدى عمليا إلى تواضع حصاد خطة التنمية الخمسية الأولى، ثم إلى تخفيض سقف أهداف خطة التنمية الخمسية الثانية، حتى قبل وقوع حرب يوينو 1967 والهزيمة التي لحقت بالجيش المصري وقتها.
لقد كانت ولا تزال أهم مصادر تحقيق التراكم الرأسمالي في مصر هي: إيرادات قناة السويس، وعائدات السياحة، وتحويلات المصريين العاملين في الخارج، وصادرات المواد الأولية التي لا يزال أهمها حتى الآن القطن والسلع الزراعية إضافة إلى صادرات النفط والغاز. وهي كلها تقريبا "مصادر ريعية" تعتمد على مزايا طبيعية مثل الموقع والتاريخ والشواطئ والشمس الساطعة والموارد الطبيعية في باطن الأرض، التي لا دخل للإنسان بصناعتها أو إنشائها. إسأل نفسك: هل اختلفت الصورة كثيرا من عقد تنموي إلى آخر، وستدرك أن "إعادة إنتاج الفشل" كان عنوان كل إستراتيجيات التنمية في مصر منذ أوائل النصف الثاني من القرن الماضي حتى الآن. المهندس إبراهيم محلب، يتحمل إذن مسؤولية حال لم يصنعها هو. ولكن المصريين الذين قاموا بثورة لتغيير النظام، ونجحوا فقط حتى الآن في إزاحة بعض الأشخاص، لا يزال عليهم أن يعملوا من أجل تغيير النظام بأكمله، ومن ثم تغيير سياساته، بما في ذلك سياسات التنمية.
ونظرا لأن المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء وصناع السياسة الاقتصادية العاملين معه مشغولون هذه الأيام في الإعداد لمؤتمر اقتصادي عالمي في ربيع العام المقبل (مارس على الأرجح) لمساعدة مصر، فإنه يجب أن يعلم أن المستثمرين الأجانب، أفرادا ومؤسسات وحكومات، لن يستثمروا في مصر إلا إذا اقتنعوا أن مصر جادة في الاستثمار في نفسها! وأذكر هنا تعليقا قاله واحد من سفراء الولايات في دول الخليج، في مؤتمر انعقد لحث المستثمرين الأجانب على الاستثمار هناك قال فيه: نعم سنأتي..بكل تأكيد، وذلك عندما نراكم أنتم تستثمرون في بلادكم!
إننا بعد عقود من "الانفتاح"، إلى أقصى درجة، لا نستطيع حتى الآن أن نشير بواحد من أصابعنا إلى صناعة قائدة أو مهمة ساهم المستثمرون الأجانب في إقامتها في مصر، ربما صناعة المنظفات! إننا نعيش في اقتصاد يقوده الاستهلاك المحلي (أكثر من 75% من حجم الاقتصاد) وليس الصادرات أو التجديد التكنولوجي. إننا نعيش في اقتصاد لا يزال يقبع في الحلقة الصناعية المتخلفة، حيث تحقق من خلال صادرات الغزل والنسيج، والملابس والمفروشات أفضل أداء له على سلم التجارة الدولية، حيث يقف على الدرجة الـ 27 والـ 38 على التوالي بين أهم مصدري العالم (تقرير التنافسية العالمية الأخير). لكنه يقف على درجة ما دون ذلك بكثير في غير تلك من الصناعات أو الصادرات. ففي صادارت الأغذية المصنعة تحتل مصر المكانة الـ 44 عالميا، وفي صادرات السلع الزراعية مثل البطاطس والموالح وغيرها تحتل مصر المكانة نفسها أيضا.
(جدول-1:مكانة مصر التصديرية)
المجموعة التصديرية |
الترتيب العالمي |
السلع الزراعية |
44 |
الأغذية المصنعة |
44 |
المنتجات الخشبية |
59 |
الغزول والمنسوجات |
27 |
الملابس الجاهزة |
38 |
المنتجات الكيماوية |
49 |
المنتجات الجلدية |
60 |
الصناعات الأساسية |
48 |
المعدات الإلكترونية |
48 |
(المصدر: إحصاءات الأونكتاد 2012:Trade Reform Index pp. 169-170)
ومن المثير للعجب أن المملكة العربية السعودية تتقدم عليينا عالميا في صادرات الأثاث والصناعات االخشبيية! وأن المغرب تحتل المكانة رقم 21 في تصدير الملابس الجاهرة على مستوى العالم متقدمة علينا بـ 17 درجة! وهي لا تملك تلك الصناعة العريقة ولا القطن الذي نفاخر به العالم. كذلك تتقدم علينا تونس في مجال صادرات الصناعات الجلدية بنحو 30 مركزا. وتتقدم علينا الإمارات في المنتجات االكيماوية والصناعات الأساسية ومعدات النقل وصناعة تكنولوجيا المعلومات. إن أشقاءنا يتقدمون علينا لأنهم يحسنون استثمار مواردهم. ويجب أن نعمل على أن نمنحهم الفرصة ليفاخروا بنا في بعض المجالات المتقدمة كما نفاخر بهم.