سيناء: الخطر يأتي من الشرق ( 2-4 )
الثلاثاء 14/يناير/2014 - 03:30 م
د/ محمد عفيفى*
تكاد تُجمع معظم مصادر تاريخ مصر القديم أن مصر في عصر الدولة القديمة (2900 إلى 2300 ق.م.) عاشت فترات من الهدوء الطويل، إذ لم يعكر صفوها هجمات خارجية تُذكر، إلا في أواخر عهد الدولة القديمة، أي أيام الأسرة السادسة، وهي أخر أسرة في هذه الدولة. وربما أتاح لها هذا الهدوء الامكانيات والوقت الذي وفرته لإقامة هذا المجد الكبير الباقي حتى الآن.. الأهرامات.
لكن الخطر الخارجي الأول والكبير سيأتي من الشرق في عهد الأسرة السادسة، حيث تعرضت الحدود الشرقية لهجمات جماعات كبيرة من البدو الساميين، الذين عبروا صحراء سيناء في محاولة للوصول إلى الدلتا، الأراضي الزراعية الخصبة، أو الجنة الموعودة عند هؤلاء البدو.
وتختلف المصادر حول أصول هؤلاء الغزاة، فالبعض ينسبهم إلى مجموعة البدو الرحل في فلسطين وسوريا، الذين تجمعوا في كيانات كبيرة لأول مرة، وقصدوا النزول إلى مصر الخضراء. وبعض المصادر الأخرى ترجع أصول هؤلاء الغزاة إلى بلاد سومر، بلاد الرافدين.
على أية حال اجتاح هؤلاء الغزاة سيناء وشكلوا خطرًا كبيرًا على الدلتا، وعلى الحضارة المصرية المستقرة الراقية ومظاهرها المختلفة، لكن الجيش المصري كان لهم بالمرصاد. إذ خرج الجيش المصري بقيادة القائد الشهير "أوني"، ليواجه هؤلاء الغزاة عند الحدود الشرقية للدلتا، ونجح هذا الجيش في تأديب هؤلاء الغزاة والحاق هزيمة نكراء بهم. وهنا سيدرك القائد أوني ألف باء سياسة مصر الخارجية تجاه الشرق: إن تأمين الحدود الشرقية لا يبدأ من سيناء، ولكن فيما وراء سيناء. ولذلك سيطارد الجيش المصري هؤلاء داخل سوريا الجنوبية حتى يستطيع تأمين سيناء البوابة الشرقية لمصر.
ويذكر لنا عالم المصريات"عبد المنعم أبو بكر" الأنشودة المصرية التي تغنى بها المصريون بمناسبة عودة جيشهم المنتصر من سيناء:
هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا
بعد أن مزق بلاد سكان الرمال
هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا
بعد أن خرب بلاد سكان الرمال
هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا
بعد أن دمر حصون الأعداء
هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا
بعد أن قتل عشرات الآلاف من الجنود
هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا
بعد أن أحضر معه آلافًا من الأسرى
ومنذ ذلك الوقت ستدرك الدولة المصرية أن الخطر يأتي دائمًا من الشرق، لذلك ستراقب العسكرية المصرية الأحوال في منطقة سوريا الجنوبية (بلاد الرمال)، لتحول مبكرًا دون أي هجمة جديدة تعبر سيناء وتصل إلى الدلتا، لذا سيقوم "أوني"، بحوالي خمس حملات تأديبية، كانت بمثابة ضربات استباقية، حتى يحول دون تجمع البدو من جديد في كيانات تسمح لهم باجتياح سيناء من جديد. إن سيناء هي البوابة الشرقية لمصر، وأمن سيناء يبدأ من فلسطين، سوريا الجنوبية.
لكن الغزو الأكبر والأشهر في التاريخ القديم سيأتي بعد ذلك، على يد الهكسوس، الرعاة. إذ استغل هؤلاء حالة الاضطراب والثورة التي سادت مصر في أواخر عصر الدولة الوسطى، ونجحوا في اجتياح سيناء حوالي عام 1700 ق.م.، والوصول إلى الدلتا.
ويرى المؤرخون أن هناك العديد من العوامل الداخلية التي ساعدت الهكسوس على هذا الاجتياح الخطير. لكن أهم العوامل التي ساعدت على هذا الاجتياح، امتلاكهم لهذا السلاح الجديد الخطير "العربة الحربية"، التي يجرها حصان والتي شبهها البعض بسلاح المدرعات، هذا السلاح الذي سيقدر لسيناء أن تعرفه بعد ذلك في معارك شرسة على رمالها.
على أية حال كان هذا الغزو البدوي الشرس ضربة شديدة للحضارة المصرية الزراعية المستقرة، تركت آثارًا لا تُمحى من ذاكرة المصريين، كما أخرت التقدم السريع لمظاهر الحضارة المصرية القديمة.
ومعلومٌ لنا جميعًا الدور الهام الذي سيلعبه البطل المصري الشهير "أحمس" في النهوض من طيبة "الأقصر"، لتطهير مصر من دنس الهكسوس. لكن اللافت للنظر أن ملك الهكسوس الذي احتل شمال مصر، سيحاول الاتصال بأعداء مصر في الجنوب (بلاد كوش)، ليحدث تحالف بينهما يضع مصر بين فكي الكماشة، والغريب أن هذه السياسة هي ما تتبعه إسرائيل الآن، وريثة الهكسوس، في تغلغلها في منابع النيل، والتحالف مع قوى إفريقية مناوئة لمصر، لتشتيت قوى مصر ووضعها بين فكي الكماشة من جديد.
وسيفلح أحمس في تكليل جهود أبيه "سقنن رع"، وأخيه "كاموزة" بالنجاح؛ وسيطرد الهكسوس من الدلتا، وتهرع فلولهم هاربةً عبر أودية سيناء، لكن أحمس، من جديد، سيتبع آليات الاستراتيجية المصرية، أن أمن سيناء يبدأ من فلسطين. لذلك سيطارد البطل أحمس فلول الهكسوس على أراضي فلسطين، وسيبدأ أحمس، منذ ذلك الوقت، في وضع أسس الإمبراطورية المصرية؛ إن أمن مصر يقتضي تواجدًا مصريًا في منطقة سوريا الكبرى، من هنا ستصل هذه الإمبراطورية في العهود التالية إلى أعالي الفرات. وهي نفس السياسة التي سيتبعها بعد ذلك معظم الدول الكبرى التي قامت في مصر لا سيما الدولة الأيوبية ودولة سلاطين المماليك ودولة محمد عليّ، وحتى جمال عبد الناصر من خلال الوحدة بين مصر وسوريا.
الخطر الآشوري:
عظم دور أشور في بلاد الرافدين، وبالتالي تطلعت إلى مد نفوذها في بلاد الشام ومنافسة مصر، التي كانت في تلك الأوقات تمر بلحظات ضعف شديدة. وستدرك مصر أطماع أشور، ومدى الخطر الآشوري الذي لن يتوانى عن غزو مصر. ولذلك ستلجأ مصر إلى سياسة استباقية لحماية حدودها الشرقية، فحدود مصر، كما أرستها التقاليد السابقة، لا تبدأ من سيناء ولكن تبدأ من سوريا، وسيناء خط أحمر، لأن عبوره يعني الوصول إلى وادي النيل.
ستلجأ مصر إلى مساعدة الولايات السورية الموالية لها وإمدادها بالسلاح والعتاد لمواجهة الأخطار الآشورية. لكن الخطر الآشوري سيزداد قوة وسيجتاح بلاد الشام وذلك في عهد الملك الآشوري الشهير "سرجون الثاني" الذي تولى الحكم في عام 722ق.م. وهنا تدرك مصر أهمية المواجهة، وعدم ترك سيناء فريسة سهلة يقتحمها العدو الآشوري ليخترقها سريعًا ويصل إلى الدلتا. لذلك سيخرج الجيش المصري مع بعض الكتائب الفلسطينية لمواجهة الخطر الآشوري في منطقة متقدمة عند رفح، وبالفعل ستنجح هذه القوات في رد الخطر الآشوري ودحره، لكن الكر والفر بين آشور ومصر سيستمر زمنًا؛ وستنجح آشور في حوالي عام 670 ق.م. في مواجهة مصر. سينجح الملك الآشوري "آشور أخي الدين" في ابتكار حيلة لاختراق الدفاعات المصرية، حيث يختار طريقًا وعرًا غير مؤهل وسط سيناء. من هنا ينجح آشور، باستخدام الأسلوب الاستراتيجي المتكرر لأعداء مصر؛ وهو اختراق سريع وحاسم لصحراء سيناء لمواجهة القوات المصرية شرق الدلتا، ومدى تأثير ذلك على نفسية وتماسك المصريين. وهي نفس خطة شارون ـ كما أشرنا في الجزء الأول ـ في الثغرة أثناء حرب 1973؛ اختراق سريع وسري لسيناء للوصول إلى شرق الدلتا، لتهديد وادي النيل.
على أية حال وصل الجيش الآشوري إلى شرق الدلتا، واضطر الجيش المصري إلى الانسحاب جنوبًا. وهكذا تقع مصر من جديد تحت حكم الأعداء، نتيجة نفس السيناريو المتكرر. وسيستمر حكم الآشوريين لمصر إلى أن ينجح القائد المصري "بسامتيك" في طرد الآشوريين نهائيًا من مصر حوالي عام 640 ق.م.
الغزو الفارسي:
علا نجم دولة فارس في بلاد الشرق وورثت تقريبًا مجد آشور، وبالتالي ظهر النزاع التقليدي بين بلاد الرافدين ومصر. وفي عهد واحد من أهم ملوك فارس وهو "قمبيز"، بدأ الحلم يداعب الفرس في غزو مصر والوصول إلى نهر النيل.
وفي الحقيقة تردد قمبيز كثيرًا في القيام بغزو مصر، فمصر دولة ليست كأي دولة، على الرغم من أنها كانت في ذلك الوقت تمر بلحظات ضعفها الأخير، ونهاية مجد الفراعنة الأقدمين. وساعد على تردد قمبيز قلة المعلومات لديه عن مصر ودروبها وأحوالها الداخلية، كما أن الجيش الفارسي لم يكن معتادًا على حروب الصحراء، فمعظم حروبه كانت تدور على الأراضي السمراء وليس الصفراء؛ كما كان قمبيز يخشى وعورة دروب سيناء، وعدم قدرة الجيش الفارسي على التعامل معها، لكن القدر سيكون في صف قمبيز، إذ سينضم إليه أحد المرتزقة (الإغريق) اليونانيين الذين عملوا في مصر من قبل، هذا القائد "فانيس" سيلعب على نفس السيناريو القديم لغزو مصر، وإحراز اختراق سريع لصحراء سيناء والوصول إلى الدلتا، سيرشد فانيس الجيش الفارسي إلى أهم الطرق الصحراوية التي يسلكها، كما سيلجأ إلى استمالة بعض البدو الرحل الذين يعرفون مسالك الصحراء للعمل كدليل للجيش في عبور سيناء، وسيوفر الماء والغذاء الضروريين للجيش أثناء اختراقه لسيناء.
وبالفعل سينجح الجيش الفارسي في الوصول إلى الدلتا في عام 525 ق.م.، لتبدأ صفحة جديدة في تاريخ مصر، هي الاحتلال الفارسي لها. والغريب أن يُطلق اسم "قمبيز" ، وهو الملك الفارسي الذي غزا مصر، على أحد شوارع القاهرة، ولا ندري ما الظروف التي دعت المحليات إلى تلك التسمية، ولكنه في الحقيقة أمر يدعو إلى السخرية.
على أية حال لن تهدأ المقاومة المصرية ضد الفرس، وستتوالى الثورات المصرية ضدهم. وستتغير الأمور في منطقة الشرق الأوسط بصعود النجم الساطع "الإسكندر المقدوني"، القائد الإغريقي الذي سيُعرف بعد ذلك باسم (الإسكندر الأكبر)، وسيكون له مع مصر شأن كبير.
الغزو المقدوني لمصر:
ومن جديد ستصبح مصر مطمعًا للقوة الصاعدة في الشرق، قوة الإسكندر الأكبر، الذي سينجح في تأديب الفرس، وكان من الطبيعي، لكي يُثبت قوته في الشرق، أن يضم مصر إلى إمبراطوريته الشرقية. وربما يرجع ذلك إلى الصلات القديمة بين بلاد الإغريق ومصر، حتى إن الأسطورة المصرية أوردت أن الإسكندر هو سليل الفراعنة، نتيجة تناكح ملك من ملوك الفراعنة فر هاربًا من الفرس إلى بلاد الإغريق، مع أم الإسكندر سرًا.
على أية حال قرر الإسكندر الأكبر في عام 332 ق.م. غزو مصر وطرد الفرس منها، وضمها إلى التاج المقدوني. وسيكرر الإسكندر نفس السيناريو اختراق سريع وحاسم لصحراء سيناء، هذه المرة عن طريق الفرما، والوصول سريعًا إلى شرق الدلتا ومنها إلى منف، ليؤكد بعد ذلك سيطرته على مصر، ويصل إلى سيوة هناك فرعونًا على مصر. وتدخل المحروسة من بعده في حقبة طويلة هي التي يطلق عليها المؤرخون "مصر في عصر البطالمة"، يتم فيها تلاقح الحضارة المصرية القديمة مع الحضارة الإغريقية، وإن بقيت الحضارة المصرية هي الحضارة المهيمنة حتى على الغزاة الإغريق.
الخطر الصليبي:
عرفت العصور الوسطى موجة من أشد موجات الحروب دمارًا واستمرارًا، وهي الحروب التي عُرفت تجاوزًا باسم "الحروب الصليبية" والصليب منها براء، إذ أجمع أغلبية مؤرخي الحروب الصليبية على أن الدافع وراء هذه الحروب لم يكن هو الدافع الديني أو شعار استرداد بيت المقدس من أيدي المسلمين، كما رفعه باباوات روما آنذاك، لكن الدافع الأساسي والحقيقي يعود لأسبابٍ اقتصادية. وليس هنا مجال الدخول في تفاصيل الدوافع الحقيقية لهذه للحروب، ولكن تجدر الإشارة إلى الأزمات الاقتصادية التي كان يعاني منها نظام الاقطاع في أوربا، فضلاً عن رغبة العديد من القوى الأوربية في الوصول والسيطرة على طرق التجارة الشرقية ونهب كنوز الشرق.
وربما تحتفظ الذاكرة الجمعية المصرية بذكريات حملة لويس التاسع على مصر وهزيمته في موقعة المنصورة وسجنه في دار ابن لقمان، لكن الكثيرين منا لا يدركون أن سيناء قد تعرضت أيضًا للخطر الصليبي، وأن هناك العديد من الذكريات الحية حتى الآن تشهد على امتداد أطماع الخطر الصليبي إلى شبه جزيرة سيناء. فنتيجة تجاور مملكة بيت المقدس الصليبية للحدود المصرية وشبه جزيرة سيناء، أدركت القوى الصليبية مدى الأهمية الاستراتيجية لسيناء، فضلاً عن استخدامها كورقة ضغط على مصر لتحجيم دورها في بلاد الشام، ولا أدل على ذلك من مقولة أحد ملوك مملكة بيت المقدس أنه يفكر في مد نفوذ مملكته من فلسطين إلى وادي النيل عبر غزة (سيناء)، ويذكرنا هذا بمخطط إسرائيل الكبرى وشعارها المرفوع دائمًا "من النيل إلى الفرات".
ولعل من أهم الذكريات الحية على الخطر الصليبي في سيناء، هذه القصة التي روتها لنا حوليات تاريخ العصور الوسطى عن الملك الصليبي "بردويل"، الذي عقد العزم على غزو مصر من فلسطين ولجأ إلى نفس السيناريو التاريخي المتكرر؛ اختراق سريع لسيناء والوصول إلى الدلتا، وزحف الملك بردويل عبر سيناء. وتقول القصة أنه توفى نتيجة أكلة سمك مسمومة من (بحيرة البردويل) في شمال سيناء، وتربط القصة بين هذا الملك واسمه الذي أصبح علمًا على البحيرة التي عُرفت، وفقًا لهذا المصدر، منذ ذلك الوقت باسم بحيرة البردويل.
وربطًا بين الماضي والذكريات الحية الآن في سيناء، تذكر بعض مصادر العصور الوسطى محاولة أخرى لغزو مصر عن طريق اختراق أودية سيناء، حيث تذكر هذه المصادر أن المكان الذي يسمى الآن "الأربعين" في سيناء تعود تسميته لقصة هلاك أربعين فارسًا صليبيًا في هذا المكان أثناء محاولة العبور إلى شرق الدلتا.
هكذا يتضح لنا أن الخطر الصليبي لم يكن بعيدًا عن سيناء، وأن حلم الوصول إلى نهر النيل قد راود القوى الصليبية في فلسطين، مثلما تجلى هذا الحلم بعد ذلك في الأطماع الصهيونية.
العثمانيون فى مصر:
مع نهايات العصور الوسطى، ومع مطلع القرن السادس عشر أصبح العثمانيون بمثابة القوة الإقليمية الأولى في منطقة الشرق الأوسط، ومن هنا ظهرت بوادر الصراع بينهم وبين دولة سلاطين المماليك التي كانت تحكم مصر وبلاد الشام. ونعرف جميعًا قصة خروج السلطان الغوري إلى بلاد الشام لمواجهة الخطر العثماني، وهو ما حدث بالفعل في موقعة مرج دابق (1516) التي انهزم فيها السلطان الغوري، وبالتالي دخلت بلاد الشام في حوزة الدولة العثمانية، وهنا كانت الخطوة الثانية للعثمانيين هي غزو مصر. وتذكر المصادر التاريخية أن السلطان سليم العثماني تردد كثيرًا في قبول فكرة فتح مصر، بسبب خوفه مما سيتعرض له جيشه من مخاطر أثناء اجتياز صحراء سيناء، بما في ذلك خطر هجوم البدو على مؤخرة جيشه والاستيلاء على ما لديهم، أو حتى مشكلة امتداد خطوط مواصلات من بلاد الشام عبر صحراء سيناء وصولاً إلى مصر والمشاكل المتعلقة بذلك من ناحية توفير المؤن والعتَّاد، ولا سيما أن الجيش العثماني لم يكن معتادًا على حروب الصحراء. حتى إن السلطان سليم وصل إلى قناعة مفادها أن سهولة فتح بلاد الشام يجب ألا تؤخذ مقياسًا في فتح مصر، لكن العديد من العوامل والظروف دفعت السلطان سليم دفعًا إلى القبول في النهاية بفكرة فتح مصر.
وعلى الجانب الآخر كانت مصر في حالة حراك شعبي وعسكري شديد، إذ وصل إلى سُدة الحكم السلطان "طومان باي" ابن أخ السلطان الغوري، وأخذ السلطان "طومان باي" على عاتقه مهمة مواجهة العثمانيين والدفاع عن مجد السلطنة المملوكية. وكانت فكرته هي الخروج إلى سيناء لإقامة خط دفاع أول عن مصر، لكن أمراء المماليك رفضوا ذلك ولم يرضوا بترك القاهرة والخروج إلى الصحراء لمواجهة العثمانيين، وأصروا على البقاء في القاهرة ومواجهة الجيش العثماني عند الريدانية (منطقة العباسية الآن)، وفشل السلطان طومان باي في إقناعهم بمواجهة العثمانيين في العمق وفي منطقة أبعد ما تكون عن القاهرة، حتى يكون هناك خط دفاعي أول. وفي الحقيقة كان إصرار المماليك على عدم الخروج والتحصن فقط عند الريدانية، هو أول خطوات الهزيمة للجيش المملوكي.
على الطرف الآخر، العثماني، ترتب على عدم خروج الجيش المملوكي إلى سيناء، سرعة اختراق الجيش العثماني للحدود المصرية. إذ نجح "سنان باشا" العثماني، على رأس أربعة آلاف جندي، في اقتحام غزة في 21 ديسمبر 1516، وعلى إثر ذلك وصل السلطان سليم إلى غزة، وتجمعت معظم قوات العثمانيين فيها، وزحف السلطان العثماني، ليصل إلى خان يونس في 9 يناير 1517، وبنفس السهولة وصل في اليوم التالي إلى العريش. وفي خلال أيام قليلة عبر الجيش العثماني سيناء ليصل يوم 13 يناير إلى منطقة "بئر العبد" ومنها يبدأ في الوصول إلى شرق الدلتا، حيث وصل إلى منطقة الصالحية يوم 16 يناير، وأخيرًا إلى بلبيس يوم 18 يناير.
هكذا استطاع السلطان العثماني تحقيق أولى خطوات النصر من خلال الاقتحام السريع. بمقاييس ذلك العصر، لشبه جزيرة سيناء والوصول إلى شرق الدلتا، الأمر الذي سهل عليه مواجهة المماليك على أطراف القاهرة، وصعِّب على المماليك المواجهة، حيث كان خط الدفاع الأول هو صحراء العباسية، ومن ثم كان من السهل اجتياح القاهرة، وهو ما حدث بالفعل يوم الجمعة 23 يناير، حيث قُرِّئت الخطبة باسم السلطان سليم من على مساجد القاهرة، إعلانًا بدخول مصر في حوزة الدولة العثمانية.
توضح هذه القصة كيف أن خط الدفاع الأول عن مصر يبدأ من شبه جزيرة سيناء، وأن التقاعس عن حمايتها يسهل للأعداء سرعة الاختراق والمواجهة على أرض الدلتا وتعرض القاهرة للخطر الكبير. ولعل اليوم لا يشبه البارحة.
*رئيس قسم التاريخ بآداب القاهرة، وخبير بالمركز العربى للبحوث.