بدأ الحديث عن العدالة الانتقالية في مصر, عندما كانت ثورة25 يناير في عنفوانها أوائل عام2011, حيث جري الحديث عن تقديم كل من ارتكب جريمة في حق مصر وشعبها الي المحاكمة في اطار العدالة الانتقالية.
وهي تعني اقامة نظام قضائي خاص تتم من خلاله محاكمة الذين أجرموا في حق هذا الشعب ممن تولوا المناصب العليا في البلاد, سواء كانت الجريمة سياسية مثل تزوير الانتخابات أو احتكار الحكم لفئة بعينها أولحزب معين, واستغلال مناصبهم لاصدار قوانين أو اتخاذ اجراءات تكفل ذلك, كما تشمل الجرائم التي تتم المحاكمة عليها اساءة استخدام السلطه ضد المعارضين السياسيين باعتقالهم دون تهمة محددة, أو تعذيبهم, أو قتلهم خارج القانون, بالاضافة الي جرائم نهب المال العام والتربح باستغلال النفوذ, أو مساعدة الغير علي التربح, وغيرها من الجرائم التي ساهمت في مضاعفة معاناة المواطنين وافقارهم, وزيادة الدين العام بالتوسع في الاقتراض من الخارج أو الداخل بلا مبرر.
ويتطلب تطبيق العدالة الانتقالية تكوين هيئة خاصة كجزء من النظام القضائي المطلوب للكشف عن الحقيقة فيما جري ارتكابه من جرائم, واتاحة الفرصة لمن شارك في هذه الجرائم للمعاونة في كشف الحقيقة بالاعتراف بدوره في هذه الجرائم مقابل تخفيف العقوبة أو العفو اذا قبل بذلك الضحايا وتقديم معلومات عمن أمر بارتكاب هذه الجرائم واسهامه في فضح الانتهاكات التي تمت في حق الشعب وتقديمهم للمحاكمة. وبعد كشف الحقيقة وتحديد الجرائم التي ارتكبت والمسئولين عنها. تتم المحاكمات علي أساس عادل يتيح لهم الدفاع عن أنفسهم, ويصدرالعقاب اللازم بحقهم, وتتحمل الدولة مسئولية جبر الضرر للضحايا بتعويضهم عما لحق بهم من أذي. وهكذا فان مرحلة كشف الحقيقة التي تعقبها مرحلة توقيع العقاب وجبر الضرر تهيئ الفرصة للمجتمع لمرحلة ثالثة وهي المصالحة الوطنية بمعني اجراء حوار وطني شامل حول قواعد العيش المشترك في وطن واحد بين الجميع, والتي يتعين أن تكون في اطار المنافسة السياسية السلمية ونبذ العنف واعتماد الحوار كآلية لحل الخلافات, بحيث يقوم هذا كله بالاستفادة من الدروس والعبر التي تم استخلاصها من التجربة المريرة التي عاني منها الشعب في ظل النظام الاستبدادي واحتكار السلطة وتزوير الانتخابات ونهب ثروات البلاد وحرمان المعارضين السياسيين من حقوقهم المشروعة. جدير بالذكر أنه لايمكن بدون تطبيق العدالة الانتقالية وفق هذا التصور اتمام عملية التحول الديمقراطي من النظام الاستبدادي الي النظام الديمقراطي المنشود, لأن العدالة الانتقالية بمراحلها الثلاث شرط ضروري لتطهير المجتمع من النتائج المترتبة علي الجرائم التي ارتكبت في حق الشعب.
كان المقصود منذ البداية أن تطبق العدالة الانتقالية علي المسئولين في عهد مبارك, لكن التأخر في تطبيقها حتي الآن يتطلب أن تشمل أيضا المحاسبة علي الجرائم التي ارتكبت في ظل حكم المجلس الاعلي للقوات المسلحة وحكم الاخوان المسلمين وما بعد30 يونيو. فهل يمكن أن يتحقق ذلك؟ لقد تراجعت حركة الثورة كثيرا, وها نحن مقبلون علي مرحلة جديدة قد يعود فيها بعض أركان نظام مبارك الي الحياة السياسية بالفوز في انتخابات مجلس النواب القادم. ويزداد الموقف تعقيدا بتقاسم السلطة في المرحلة القادمة بين أطراف تنتمي الي العهود المطلوب تحقيق العدالة الانتقالية علي من تولي الحكم فيها. ورغم الجهود التي تبذلها وزارة العدالة الانتقالية واعداد مشروع قانون العدالة الانتقالية والمفوضية, فان فرص تمريرها في مجلس النواب القادم ضعيفة للغاية, وستضيع بذلك فرصة استكمال التحول الديمقراطي, ويظل الأمر معلقا الي أن تستأنف حركة الثورة مسيرتها مرة أخري, وتعود الي عنفوانها من جديد الذي يجبر الجميع علي الرضوخ لنداء العدالة ومحاسبة كل مجرم أيا كان شأنه علي ما ارتكبه في حق هذا الشعب من جرائم. وهو يوم آت لاريب فيه.
وتؤكد تجارب كثير من الشعوب ان الثورة يمكن أن تتراجع لسبب أو لآخر ويمكن أن تضعف حركتها لكنها ما تلبث أن تعود الي قوتها طالما أن الشعب قد قرر انه لن يقبل أن يعيش في ظل نظام لا يرضي عنه, والشعب المصري مثله مثل هذه الشعوب فجر ثورته في25 يناير ونجح في الاطاحة برأس النظام, ودافع عن ثورته في وجه محاولات اجهاضها او الانحراف بها علي مدار ثلاث سنوات كاملة نجح خلالها في اسقاط دستورين والاطاحة بنظامين مؤكدا بذلك ان الحالة الثورية التي يعيش فيها لن تنتهي إلا عندما ينجح في بناء نظام ديمقراطي حقيقي تتوفر فيه مقومات اساسية يتمكن الشعب من خلالها من فرض ارادته الحرة, واختيار حكامه وتغييرهم دوريا, ولدينا العديد من الشواهد علي ان ما تشهده مصر حاليا من صراع حول المستقبل يدور بين اطراف ثلاثة هي: القوي الثورية و تيار الاسلام السياسي وبقايا نظام مبارك سوف يحسم في النهاية لصالح الثورة, لان قوي الثورة تمتلك من الوعي والارادة ما يمكنها من الفوز في النهاية, يعزز ذلك أن الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد والتي يعاني منها اغلبية الشعب لم يعد من الممكن العيش في ظلها.
نقلا عن الأهرام