دستور 2013 البحث عن الحريات المفقودة
ناقشت
مؤخرا بقسم الاعلام بكلية الآداب بجامعة الزقازيق رسالة دكتوراه متميزة لباحث جاد عن
مستقبل التشريع الصحفي الالكتروني في مصر , وقد تضمنت هذه الرسالة درسة ميدانية
على 100 خبير من مختلف المجالات ذات الصلة لرسم سيناريوهات المستقبل للتشريع
الصحفي , ومن بين هؤلاء الخبراء أساتذة الاعلام والقانون , وأساتذة الهندسة
والحاسبات والمعلومات, والصحفيون أصحاب المهنة.
وعند
سؤال هؤلاء الخبراء عن أوضاع الصحافة في دستور 2012, ومدى حصولها على مكاسب من ذلك
الدستور تدعم حريتها في المستقبل , جاءت الاجابة بأن 67% من أساتذة الإعلام
والقانون (25 أستاذا) يرون أن الصحافة لم تحصل على مكاسب في دستور 2012 تدعم
حريتها في المستقبل , كما أن نسبة 64٪ من الصحفيين (50 صحفيا) يرون أن الصحافة لم
تحصل على مكاسب في دستور مصر 2012 تدعم حريتها في المستقبل .
وتكشف
النتائج السابقة الخاصة بمدى حصول الصحافة على مكاسب فى دستور مصر 2012 , والذى
توقف العمل به بعد ثورة 30يونيه 2013 , أن أساتذة الإعلام والقانون والصحفيين يرون
أن الصحافة لم تحصل على مكاسب فى هذا الدستور حيث أن أساتذة القانون أكثر دراية
وعلماً بالقوانين ، ومن ثم فإنهم يستطيعون تفسير هذه التعديلات ومعرفة ما إذا كانت
تصب فى مصلحة الصحافة وتزيد حريتها ، أم أنها وسيلة لتكبيل هذه الحرية التى عانت
وكابدت من أجلها الصحافة لسنوات طويلة.
وفيما
يتعلق بالمكاسب التي نالتها الصحافة في دستور 2012, جاءت (حرية إصدار الصحف بمجرد
الإخطار لا الترخيص) فى مقدمة المكاسب التي نالتها الصحافة في دستور مصر 2012
بنسبة 64.7٪ ، ثم (حرية إصدار الأشخاص الطبيعية للصحف) فى المرتبة الثانية بنسبة
41.2٪ ، ثم (حق الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق وما يترتب على
هذا الرفض من مساءلة) فى المرتبة الثالثة بنسبة 31.4٪ ، ثم (حظر الرقابة على ما
تنشره الصحافة إلا فى زمن الحرب والتعبئة العامة) فى المرتبة الثالثة مكرر بنسبة
31.4٪ ، فجميع الدول العربية تجيز فرض الرقابة المسبقة فى حالات معينة كالطوارئ ،
وفى الأحوال العادية تجيز قوانين المطبوعات الرقابة المسبقة فى الكويت وتونس
وليبيا ، فالرقابة المسبقة قبل أن تكون إعتداء على حق الجمهور فى المعرفة ، ولذا
تقول المحكمة الدستورية العليا فى مصر » لا يجوز لأحد أن يفرض على غيره صمتاً ، ولو
كان معززاً بالقانون ، وأنه إذا أريد لحرية التعبير أن تتنفس ، فإن قدراً من
التجاوز يتعين التسامح فيه ، ولا يسوغ بحالٍ أن يكون الشطط فى بعض الآراء موجباً
إعاقة تداولها « ، ومن ثم فإن الإدعاء بأن الرقابة المسبقة
هدفها عدم إحالة الصحفيين إلى المحاكم قول مرودود عليه لأن التهديد بالإحالة
للمحكمة وفرض عقوبات على الصحفى ، وعلى خرق القانون قد يعيق حرية الصحافة ، لكن
الرقابة المسبقة تجمدها , وأن العقوبات بعد النشر تكون بعد محاكمة وقد ترى المحكمة
أن الصحفى غير مذنب .
وهكذا
, فإن أساتذة الإعلام والقانون والصحفيين يرون أن أهم المكاسب التى نالتها الصحافة
في دستور 2012 هى ، حرية إصدار الصحف بالإخطار لا الترخيص ، وحرية إصدار الأشخاص
الطبيعية للصحف ، إلا أن هذه المكاسب لم
يتم تقنينها بالقوانين الحامية والضامنة لها , بما يمكن أن يؤدي إلى سيطرة أشخاص
معينين على الصحف وانتقاص حق الأفراد فى المعرفة ، وكذلك قد يفتح المجال أمام رءوس
الأموال الأجنبية لامتلاك الصحف ، فضلاً عن ذلك قد يؤدى إلى فتح الباب واسعاً أمام
دخول أفراد غير مؤهلين علمياً إلى المجال الصحفى بغرض تحقيق المصالح الشخصية ،
إضافة إلى ظهور الملكية العائلية وما يرتبط بها من بيع أو تنازل أو توريث ، ومن ثم
سوف يقتصر دور الدولة على تنظيم عمليات البيع أو التنازل أو التوريث وكذلك فض
المنازعات بين الورثة.
ورغم
المكاسب الهشة غير المضمونة التي حققتها الصحافة في دستور 2012 , الا أمها فقدت
عديدا من المزايا وأهمها أن (رفض النص على إلغاء العقوبات السالبة للحريات فى
قضايا النشر وأهمها الحبس) ، ثم (إلغاء المادة الخاصة بسلطة الصحافة ، فعلى الرغم
من شكلية هذه المادة وعدم فعاليتها على أرض الواقع ، إلا أنها كانت سنداً
معنوياً). , ثم (إباحة غلق الصحف ووسائل الإعلام بحكم قضائى ، وهو عقاب جماعى
للعاملين بها) ، ثم (إمكانية دمج وسائل الإعلام ، لأن المالك جهة واحدة ، وهى
الهيئة الوطنية للصحافة والإعلام) فى المرتبة الخامسة بنسبة 61.2٪ ، ويتضح مما سبق
أن الحكومة قد تلغى الحبس فى بعض جرائم النشر .
إلا أنه من الصعوبة أن ترفع الرقابة عن الصحف ،
حيث نص دستور 2012 ( المعطل) بعد ثورة 30 يونيو فى المادة (48) ، نصت على جواز فرض
رقابة محددة على الصحف فى زمن الحرب أو التعبئة العامة ، وذلك بعد موافقة مجلس
الوزراء برئاسة »د.حازم الببلاوى« بعد ثورة 30يونيه2012 على مشروع قانون
بإلغاء عقوبة الحبس والاكتفاء بعقوبة الغرامة على كل من أهان رئيس الجمهورية .
واذا
انتقلنا للحديث عن دستور 2013 , فيمكن القول ان هذا الدستور كفل عديدا من الحريات
الاعلامية المفقودة سواء للاعلام أو المواطنيين أو الاعلاميين , وهذه الحريات فاقت
بكثير ماورد في ستور 1971 ودستور 2013 , ولعل أروع ماأتى به هذا الدستور هو
"ألا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو
العلانية" , وهو المطلب الذي طالما كافح من أجله الصحفيون والاعلاميون
المصريون سواء في عهد المخلوع مبارك الذي وعد بذلك ثم أخلف وعده , أو في عهد
الرئيس المعزول مرسي الذي اكتفي بالغاء الحبس الاحتياطي في قضايا النشر , ورفضت
جماعة الاخوان الغاء الحبس في قضايا النشر في دستور 2012 بحجة أن الصحفيين
"ليس على راسهم ريشة" , وفي ظل العداء المستحكم بين الجماعة والاعلاميين
الذين شبههم المرشد العام للجماعة بأنهم "سحرة فرعون" , ليبقى الحبس
سيفا مسلطا لكل من تسول له نفسه نقد سياسات الجماعة ونظامها البائس.
وفي
الحقيقة فان حبس الصحفيين والاعلاميين والمفكرين والأدباء عقابا لهم على نشرهم
أفكارا لاتروق للنظم الحاكمة انما يعتبر من مخلفات العصور الوسطى ومؤشرا دالا على
الاستبداد والفاشية , وهو ماأقلعت عنه حتى الدول المستقلة حديثا عن الاتحاد
السوفيتي السابق كدولة جورجيا التي يبلغ عمرها مايقل عن ربع قرن , فما بالنا بمصر
التي يبلغ عمر حضارتها آلاف السنين . من هنا , تعبر هذه المادة 71 الجديدة في
دستور 2013 عن مدى حرص القائمين على اعداد الدستور على حرية التعبير وارسال رسالة
الى العالم بمدى تحضر هذه الدولة.
ولاشك
أن المادة 72 من الدستور لاتقل أهمية عن سابقتها "تلتزم الدولة بضمان استقلال
المؤسسات الصحفية المملوكة لها بما يكفل حيادها, وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات
السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية" , وهو مايطرح اعادة هيكلة أسلوب
ادارة هذه المؤسسات بشكل مهني لاسياسي بعيدا عن التحيز للنظام الحاكم أيا كان ,
فقد عانت هذه الصحف كما عانى قراؤها من التلون والنفاق السياسي لنظامي مبارك ومرسي
, بما جعلها أدوات طيعة تابعة للنظام تكرس استبداده وفساده , عل الرغم من أنها كان
يجب أن وسائل تمارس النقد والتحليل والتفسير لسياسات النظام , وهو مالم يكن ممكنا
لافتقاد هذه المؤسسسات الى الاستقلالية .
كما
كفل الدستور الجديد حرية تداول المعلومات لأن "المعلومات والبيانات
والاحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب , والافصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن" كما ورد في
المادة 68 , وهو ميجب ترجمته الى قانون حرية وتداول المعلومات في مجلس النواب
القادم . كما كفل الدستورحرية الصحافة والطباعة والنشرالورقي والمسموع والمرئي
والالكتروني في المادة (70) دون أن يضع قيودا سالبة لهذه الحرية كما حدث في دستور
2012 الذي أباح امكانية غلق الصحف بحكم قضائي.
وكفل
الدستور في مادته ال (67) حرية الابداع , وهي الحرية التي عانت كثيرا في عهد
الاخوان ورئيسهم مرسي , حيث عين وزير للثقافة يعادي الابداع والمبدعين , ولم يكن
هذا مستغربا في أثناء حكم جماعة لم تخرج مبدعا واحدا عبر تارخها الطويل سواء في
الفن التشكيلي أو القصة أو الرواية أو الشعر , وهنالك هب المبدعون المصريون للوقوف
في وجه الجماعة المعادية للابداع واحتلوا وزارة الثقافة ومنعوا الوزير المعادي
للابداع من دخولها حفاظا على الهوية المصرية التي كان يريد الاخوان استلابها من
أيدي هؤلاء المبدعين , وكانت هذه الهبة هى احدى ارهاصات ثورة 30 يونيو أو لنقل
انها كانت طليعة ثورة 30 يونيو.
وحظت
المادة 63 التهجير القسري أو التعسفي للمواطنين بجميع صوره وأشكاله , واعتبار
مخالفة ذلك جريمة لاتسقط بالتقادم , وتنبع أهمية هذه المادة من حرص مناصري المعزول
مرسي على اثارة الفتن ضد الاخوة الأقباط في بعض القرى كما حدث في دهشور ورفح
وغيرهما , مما كان يؤدي الى تهجير الاخوة الأقباط من مساكنهم , وهو مايفتقر الى
أبسط حقوق المواطنة , وهو ماكان يخالف الخطاب المعلن للجماعة من أن الأقباط هم
شركاء الوطن , وماكان يتقاطع بشكل واضح مع خطاب الجماعات المتشددة الموالية لهم
بأن "اللي مش عاجبه البلد دي ويسيبها ويرحل .. يروح كندا أو استراليا" ,
وهو مايمثل اهدارا صريحا لمكون مهم من مكونات السبيكة المصرية المتآلفة.
وعلاوة
على كل هذه الحقوق والحريات الواردة في الباب الثالث من دستور 2013 , وهي حريات
وحقوق تفوق نظيرتها في الدساتير المصرية السابقة جميعها , نجد أن الدستور كفل
حريات وحقوقا أخرى لاقل أهمية مثل تجريم التعذيب بكل صوره وأشكاله واعتباره جريمة
لاتسقط بالتقادم , والالتزام بصون الحياة الخاصة للمواطنين , وعدم تعطيل وسائل
الاتصال أو الاتصالات كخدمة الهاتف المحمول والانترنت , وحرية الاعتقاد , وحرية
البحث العلمي , وحماية حقوق الملكية الفكرية وانشاء جهاز مختص بحماية هذه الحقوق,
وحق المواطنين في الاجتماعات العامة والتظاهر في حدود ماينظمه القانون , وحق انشاء
الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والجمعيات الأهلية , والحق في السكن الملائم
والآمن والصحي بما يحفظ الكرامة الانسانية ويحقق العدالة الاجتماعية.
وفي
النهاية , فانه اذا كان دستور 2012 هو دستور الحريات المفقودة , فان دستور 2013 هو
دستور الحريات المكتسبة بعد ثورتين مصريتين عظيمتين مرت فيهما مصر بتجربتين لاعداد
دستورين خلال أقل من ثلاث سنوات , وهذه السنوات الثلاث لم تضيع هباء منثورا ,
ولكنها علمتنا التجربة والخطأ في اعداد الدساتير , علمتنا كيف أن استحواذ فصيل
واحد على اعداد الدستور أدى الى خروج دستور مشوه من رحم التجربة المريرة للاقصاء
والتهميش واستلاب هوية الدولة , علمتنا أن مشاركة كافة أطياف الشعب المصري في
اعداد الدستور يمكن له أن يخرج لنا دستورا وليدا نتوقع له مستقبلا واعدا في ظل
دولة ديمقراطية تؤمن بالتعدد والحقوق والحريات
.