درس للإخوان: مقاربة بين الانتخابات التونسية والبرلمانية المصرية القادمة
تعتبر الانتخابات الرئاسية التونسية، التي تقدم فيها جولتها الأولى الباجي قائد السبسي بنسبة 39.46% والمنصف المرزوقي بنسبة 33.43%، هي العاشرة في تاريخ البلاد، وهي أيضًا نهاية الانتقال الديمقراطي في تونس الذي بدأ بعد الثورة التونسية وسقوط نظام زين العابدين بن علي. وقد جاء ذلك بعد فوز حزب "نداء تونس" بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية، ولكنها أغلبية تجبره في الوقت ذاته على الائتلاف مع أحزاب أخرى، وربما يضطر حزب النهضة على المشاركة في هذا الائتلاف.
واللافت هنا، بأن شرعية صندوق الانتخابات في تونس كانت الملجأ للتونسيين، وهو ما رفضته، ولم تستوعبه، جماعة الإخوان المسلمين والدكتور محمد مرسي حينما خرجت الملايين على حكم الإخوان. وذلك بالرغم من أن الفارق الوحيد بين النهضة والإخوان هو "استراتيجية التنفيذ" أو التكتيك، حيث تمثل هدف الاثنان في التمكين وإقامة مشروع الخلافة.
وفي هذا الإطار تبارت الأقلام من كبار الكتاب والمحللين فى مصر والعالم العربي في تناول ما جرى مؤخرًا فى تونس ليس فقط هزيمة حزب «النهضة» الإخوانى واعترافه بالهزيمة ولكن تهنئة زعيمه الشيخ «راشد الغنوشي» رئيس حزب «نداء تونس» بالفوز.
أولا- تحركات مشابهة
فالمقارنة بين التجربتين تؤكد التشابه الذى يصل إلى حد التماثل بين الأخوين «النهضة» و«الحرية والعدالة»، وأن الاختلاف كان فى الوسيلة فقط وليس الأهداف أو الغاية المحددة سلفًا لكليهما بضرورة السيطرة على مفاصل الدولة والتمكين فى كلتا الدولتين للبقاء لأكبر فترة ممكن، وليس المشاركة والتداول السلمى للسلطة، وهو ما اتضح من خلال:
أولا، تشكيل مؤسسة رئاسية ضعيفة: حيث رفعت أذرع الإخوان فى كلا البلدين شعار «مشاركة لا مغالبة»، والعكس هو ما حدث تمامًا، حيث قام النهضة بوضع رئيس يمكن السيطرة عليه، له قبول سياسى من جميع ألوان الطيف التونسى دون أن يكون له ظهير شعبى يمكن أن يلجأ إليه فى حال الاختلاف معهم، أو أن يكون له حزب منظم له قواعده وهياكله المؤسسية، والدليل على ذلك أن حزب الرئيس التونسى «المؤتمر من أجل الجمهورية» لم يحص سوى مقعدين فقط فى الانتخابات الأخيرة. أما الحرية والعدالة فقد رفع نفس الشعار هو «وجماعته»، إلا أنهم تعاملوا بمبدأ «مغالبة لا مشاركة»، حيث قطعوا على أنفسهم وعدًا بعدم التقدم بالترشح إلى الانتخابات الرئاسة من الأصل وإذ بهم يدفعون بمرشحين، وكأنها انتخابات برلمانية تجرى فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك، بعدما نجحوا فى التحالف المؤقت مع بعض الأحزاب المدنية والشخصيات العامة التى طفت على السطح بعد الثورة، وسوقوا على أنفسهم ونفر من المصريين بأنهم متحالفون مع أكثر من 40 حزبًا سياسًيا.
ثانيا، غياب الخبرة والكفاءات المهنية والحكمة السياسية: حيث انكشف الغطاء عن كليهما تمامًا، وتم إزالة الهالة التى نسجها حوليهما، واتضح أنهما يفتقدان وجود هياكل مؤسسية منفصلة عن الجماعات التى نشأوا من رحمها، أو لديهم عناصر لها خبرة فى إدارة شئون الدولة والحكم، ولجوء إلى ما هو قائم من العناصر القديمة تحت دعوى القاعدة الفقهية القائلة «الضرورات تبيح المحظورات»، لذا لم يشعر المواطن بأى تحسن فى أداء المؤسسات البيروقراطية للدولة، بل العكس هو ما حدث، ولن ينسى المصريون الوعود الزائفة للرئيس المخلوع محمد مرسى التى وعد بها الشعب خلال المائة يوم الأولى من حكمه.
ثالثًا، سياسة التنكيل والحرق والاغتيالات السياسية: ففى الوقت الذى شهدت فيه تونس اغتيال العديد من قيادات المعارضة من أمثال «شكرى بلعيد» وغيره، حيث لم توضح التحقيقات من مرتكب هذه الجرائم حتى هذه اللحظات، وهى ربما تكون إحدى المهام الرئيسة أمام البرلمان التونسى الجديد. شهدت مصر سياسة إخوانية واضحة ممنهجة للتخويف والتنكيل والمحاصرة، بدأت بمؤسسات الدولة (المحكمة الدستورية العليا ومدينة الإنتاج الإعلامي) مرورًا بالمعارضة وصولاً إلى أولئك الذين اختلفوا معهم فى الرأى بعدما كانوا حلفاء فى الأمس القريب، وهو ما انعكس أيضًا على محاولة السيطرة على الجمعية التأسيسية الأولى لوضع الدستور والزج ببعض السياسيين والإعلاميين إلى السجون لولا رفض وزير الداخلية السابق أحمد جمال الدين آنذاك.
رابعًا، رفع ثورة التوقعات لدى المواطنين: ففى إطار سياسة التمكين والاستقرار الذى اتبعها كلاهما تحدث الحزبان عن معدلات تنمية اقتصادية غير واقعية، وصرف تعويضات لمصابى وشهداء الثورة، ورفع الديون عن بعض فئات المجتمع، وزيادة الرواتب لأساتذة الجامعات والجيش والشرطة، وهو ما لم يحدث لدى البعض، فضلا عن هذه السياسة أدت إلى مزيد من عجز الموازنة العامة للدولة واللجوء إلى الاقتراض من الخارج، واتباع سياسات «نيوليبرالية» مشابهة لتلك التى سارت عليها الأنظمة السابقة.
خامسًا، الامتدادات الخارجية لكليهما: فكل من الحزبين أعضاء وممثلون فى التنظيم الدولى لجماعة الإخوان المسلمين، ويقومان بتنفيذ ما يملى عليهم من سياسات أو قرارات من هذا التنظيم، فضلا عن ارتباط كليهما بدول إقليمية خاصة دولتى تركيا، التى مازالت تبحث عن مجد الدولة العثمانية المفقود، وقطر التى تحاول أن تلعب دورًا سياسيًا أكبر من حجمها الطبيعى فى المنطقة على حساب دول كبري، وهو ما اتضح أكثر من خلال المواقف العدائية وحجم الضغوطات التى مارستها هذه الدولة على النظام السياسى الجديد فى مصر على الرغم من أنه جاء بإرادة شعبية، لا تقبل التشكيك، وبانتخابات حرة ونزيهة راقبتها المنظمات المعنية بالانتخابات من قارات العالم أجمع.
لذا، يمكن القول إنه ربما كان الفضل للإجراءات أو الأدوات التى استخدمها حزب «النهضة» أثناء حكمه إلى بقائه إلى فترة أكبر من جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، وربما استوعب حزب النهضة الدرس من القاهرة، فعندما رفضت جماعة الإخوان الاقتراحات التى تقدم بها حلفاءها من أمثال الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح أو حزب النور باللجوء إلى انتخابات رئاسية مبكرة فكانت ثورة «التصحيح» فى 30 يونيو 2013.
ثانيا- أبعاد غير مماثلة
إن القول بما حدث من سقوط لحزب النهضة فى الانتخابات التونسية كان سيحدث للإخوان فى مصر، فإنه قول حق يراد به باطل، حيث يمكننا القول إن نتائج الانتخابات البرلمانية فى تونس ليست دالة بالمرة عن الانتخابات البرلمانية التى ستجرى فى مطلع العام المقبل فى مصر سوى فى شيئ واحد فقط هو مزيد من الضعف والخسارة لجماعة الإخوان والأحزاب المرتبطة بها، والتى تحاول اللاحق بركب الانتخابات البرلمانية عبر التنصل من الجماعة وتحالفها المزعوم فى إطار خطة متفق عليها بينهما، وذلك لأكثر من سبب:
أولا، وحدوية الحزب والتنظيم: ففى الوقت الذى لا توجد فيه أحزاب تابعة لحزب النهضة أو أحزاب سلفية غير فاعلة فى تونس، يوجد فى مصر حوالى أربعة أحزاب هى أبناء وامتدادات طبيعية للجماعة، ومازالوا مرتبطين بها وجدانيًا ومؤسسيًا، بالإضافة إلى الأحزاب السلفية التى تم اختراقها من قبل الجماعة، بما فيها حزب النور، الذى يوجد فى حالة عداء ظاهريًا مع الجماعة.
ثانيًا، النظام الانتخابى المطبق فى البلدين: ففى الوقت الذى اتبعت فيه تونس نظام القائمة النسبية تتبع مصر نظام انتخابى مختلط يتيح فرصة أكبر للمستقلين، وذلك نظرًا لضعف الأحزاب، وهو ما أثر أيضًا فى بنية وتشكيل التحالفات الانتخابية التى تتسم بسرعة التغيير والمرونة والسيولة من حيث التكوين وعدد الأحزاب والأفراد المنتمين إلى التحالف، بالإضافة إلى سرعة الانسحابات والانشقاقات داخل كل تحالف والانضمام إلى تحالفات أخرى أو الإعلان عن خوض الانتخابات بصورة منفردة. بالإضافة إلى النخبوية، حيث ترتبط بعض التحالفات بأشخاص وأفراد أكثر من ارتباطها بأهداف أو ببرامج أو أيديولوجيات محددة المعالم.
ثالثًا، البيئة القانونية والمؤسسية المغايرة: حيث دخل حزب النهضة الانتخابات وهو فى الحكم، بينما تخوض جماعة الإخوان هذه الانتخابات وهى جماعة «إرهابية» محظورة طبقًا للقانون والدستور، ومن ثم فهى ستلجأ إلى التحالف مع أحزاب أخرى أو خوض الانتخابات بالصف الثانى وربما الثالث الغير معلوم لأجهزة ومؤسسات الدولة وللمواطنين بعدما لفظهم القطاع الأكبر من الشارع المصري.
رابعًا، اختلاف حجم وكم العنف الممارس من كليهما: حيث قامت الجماعة فى مصر ليس فقط بالتحريض على ارتكاب أعمال العنف ولكن تورطت فى ممارسته، فلن ينسى المصريون التصريحات الشهيرة لقيادات الجماعة أثناء الانتخابات الرئاسية التى جرت فى عام 2012 وأثناء فض ميدانى «النهضة ورابعة» بالتهديد بحرق مصر، ومفاوضات مؤسسة الرئاسة -لأول مرة فى تاريخ الدولة المصرية الحديثة - أثناء تولى مرسى الحكم مع الإرهابيين فى سيناء وحديثه عن «سلامة الخاطفين قبل المخطوفين».
ثالثا- محددات شكل البرلمان المنتظر
ليس معنى ما سبق أن جماعة الإخوان المسلمين فى مصر ستبقى بعيدًا عن المعركة الانتخابية المقبلة، ولكنها ستحاول الدخول مرة أخرى إلى البرلمان. وبناء عليه، تتوقف خريطة البرلمان المقبل على خمسة عوامل رئيسية هي:
1- قوة وتماسك التحالفات الانتخابية: ويفترض هذا العامل أن التحالفات القائمة أثناء العملية الانتخابية تستمر كما هي، بحيث تخوض الانتخابات البرلمانية كوحدة واحدة، وببرنامج واحد، وآلية واضحة ومحددة المعايير وتقوم باختيار المرشحين وتوزيعهم سواء على القوائم أو الفردي. وفى الواقع يعد هذا الأمر فى غاية الصعوبة فى ظل تغيير خريطة التحالفات بشكل مستمر، وفى حال نجاح أيً من التحالفات فى الاستمرار، فإن ذلك يضمن له التركيز فى العملية الانتخابية والبحث عن توفير موارد مالية لعملية الدعاية، ومن ثم الحصول على عدد معقول من المقاعد داخل المجلس.
2- التوافق حول الأجندة التشريعية للمجلس الجديد: وهى أجندة مزدحمة بالتأكيد، خاصة مع عبء قيام مجلس النواب الجديد بضرورة مراجعة كل القوانين والقرارات التى أصدرتها السلطة التنفيذية فى غياب انعقاد المجلس من ناحية، وإصدار العديد من التشريعات التى نص عليها الدستور الجديد من ناحية ثانية، وإصدار القوانين المتعلقة بضرورة الاستجابة إلى مطالب القوى الجماهيرية التى خرجت فى ثورتين متتاليتين، أو تلك التشريعات التى ترتبط بالاستجابة إلى خطط التنمية الجديدة من ناحية ثالثة.
3- المقاعد التى حصل عليها كل حزب: بمعنى، إذا استطاع أى ائتلاف الحصول على الأكثرية البرلمانية أو جمع أكبر عدد من مقاعد المجلس، فسيضمن له ذلك ليس فقط تشكيل الحكومة ولكن السيطرة أيضًا على اللجان البرلمانية، مما يعطيه ميزة فى فرض أجندته التشريعية على أعلى قمة السلطة التنفيذية.
4- شكل العلاقة بين السلطة التنفيذية والبرلمان: فكلما كانت هذه العلاقة تعاونية أدى ذلك إلى قلة عدد التحالفات البرلمانية ضد الرئيس، وهو ما سيؤدى فى النهاية للعمل بصورة أكثر تجانسًا بين السلطة التنفيذية والتشريعية، والعكس تمامًا إذا اتسمت العلاقة بين البرلمان والرئيس بالانقسام والاختلاف، حيث ستحاول السلطة التنفيذية اختراق الكتل البرلمانية القائمة والعمل على تفتيتها، أو تتحالف الكتل البرلمانية فيما بينها ضد الأجندة التشريعية للسلطة التنفيذية.
5- استمرار وعد الرئيس بعدم تأسيس حزب: وهو ما سيقف حائلاً، وحصنًا منيعًا، أمام أى محاولات من النخب البرلمانية لتقييده أو عرقلة الخطط التشريعية التى ينوى القيام بها، لتسهيل تحقيق برنامجه الانتخابي.
رابعا- تركيبة مضطربة
وبناء على هذه العوامل الخمس، فإن تركيبة مجلس النواب الجديد، ستتجاذبها الأحزاب الوريثة للحزب الوطني، والأحزاب ذات المرجعيات الدينية فى حال قدرتها على الحشد والتعبئة، وامتلاكهما موارد مالية وخبرات انتخابية سابقة، والأحزاب التى تشكلت بعد قيام ثورة 25 يناير 2011 والتى لاتزال نخبوية وتفتقد للقواعد الجماهيرية، ومن المتوقع أن تظل تركيبة المجلس القادم مضطربة، وربما أسيرة للصفقات والتحالفات الانتخابية، لاسيما بعد فشل التيار المدنى فى تدشين تحالف للم شمل الأحزاب المدنية لخوض واحدة من الانتخابات المصيرية بقائمة موحدة على المقاعد المخصصة للفردى والقائمة، وإن كان الاحتمال الأرجح أن تحصد جماعة الإخوان والتيارات الإسلامية القريبة مقاعد هزيلة تتلقى على أثرها هزيمة.