المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

مشاكل مراحل الانتقال وإعاقات التطور الديمقراطى ما بعد الثورات العربية

الأحد 29/ديسمبر/2013 - 12:20 م
    الربيع العربي
الربيع العربي
بقلم: نبيل عبد الفتاح
بقلم: نبيل عبد الفتاح

يبدو لي أننا نواجه مظلة كثيفة من المجازات فى مجال مقاربة ما حدث فى عالمنا العربى خلال المرحلة الماضية من الحراكات السياسية والاجتماعية، وبعض الانتفاضات الثورية. المجازات السياسية والرمزية المجنحة من استعارات وكنايات وصفات سياسية، تبدو فى بعض الأحيان وكأنها دخان كثيف يؤثر على صفاء الرؤية ودقة المعنى والدلالة. من هنا لا أود استخدام مصطلح ثورات، أو ربيع عربى، أو غيرها من الأوصاف والاستعارات العامة والصاخبة، وذلك لأنها تحجب الواقع الموضوعى ومحمولاته ودلالته ولا تساعد على وصفه وبنيته وشبكاته وعلاماته وعلاقاته وبنياته. من هنا سأستخدم مصطلح انتفاضة، وانتفاضات ثورية فى متن هذه المقاربة. يبدو لى دقيقاً استخدام مصطلح ما بعد والـ “,”ما بعديات“,” لأنها تنطوي على تداخل وبعض من الغموض والوضوح والسيولة والتشكل فى السياق الما بعدى. حيث نواجه حالة قلقة وتدافقات بين بنيات ومفاهيم وإدراكات وطرائق تفكير وأساليب عمل وسياسات، وهياكل، ولغة سياسية وانساق قيم سياسية واجتماعية وثقافية .. إلخ.

من هنا لا نستطيع أن نتحدث عن ثورات عربية ناجزة ومكتملة، لاسيما فى تحولاتها نحو تأسيس مثال ديمقراطى ودولة مؤسسات ودساتير وقوانين تحمى الحقوق والحريات الشخصية والعامة، وإقامة نظام دستورى وسياسى يتأسس على توازن السلطات والتمايز والتعاون فيما بينها.

إن وضعية ما بعد الانتفاضات الثورية العربية تشير إلى بعض الإعاقات البنيوية السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية التى تساهم فى العمق فى ظهور بعض التخبط فى الرؤى والسياسات والقرارات وفى أساليب وطرائق صناعة الهندسات الدستورية والقانونية!

من هنا لابد من درس مشكلات المرحلة الانتقالية وكيفية إدارة النخب السياسية لها وذلك حتى يمكن مقاربة بعض المألات المحتملة للتطور الديمقراطى فى مراحل الانتقال والتحرك من التسلطية السياسية والثقافية والاجتماعية إلى تأسيس نظم ديمقراطية ودستورية!

السؤال هنا ما هى طبيعة الصراعات السياسية والثقافية والاجتماعية الجديدة الما قبلية المستمرة والما بعدية وتداخلاتها، وأثرها على عمليات التحول الديمقراطى؟

1- استمرارية الدولة التسلطية وثقافتها وسياساتها وآلياتها

نميل إلى القول أن مرحلة الما بعد بما تنطوى عليه من ظواهر وأفكار وأفعال سياسية وغيرها لا تزال تحتاج إلى بعض الوقت والتدافعات والصراعات السياسية والاجتماعية وعلى منظومات الأفكار وبين الأجيال بعضها بعضاً، حتى يمكن أن تبرز وبوضوح ميلاد بعض الرؤى والمفاهيم والكيانات والبرامج وأساليب العمل المبتكرة التى تساهم فى تفكيك وتقويض هياكل الدولة التسلطية، وأجهزتها العميقة ومواريثها وأساليب عملها لأن التغير يحتاج إلى توافر شروط موضوعية لميلاد نخب سياسية جديدة ثورية التوجهات والرؤى والسياسات والقرارات، وهذا يحتاج إلى تفاعلات وتحولات فى القيم والسلوك والتوجهات ومن ثم إلى “,”ثقافة ثورية“,” ووقت وتصورات بديلة لتثوير الدولة وأجهزتها أو تجديدها هيكلياً سواء على مستوى التنظيم السياسى والإدارى للسلطات والمؤسسات والأجهزة الدولتية.

الذى يمكن قوله من متابعة المثالين المصرى والتونسى إلى حد ما هو أن هناك استمرارية للمواريث الدولتية والسياسية القمعية – أجهزة وتقاليد وآليات وذهنيات وثقافة الدولة -، وثمة بعض التبنى لهذه الأساليب فى اتخاذ القرارات، وفى وضع بعض القوانين الانتقالية بل والإعلانات الدستورية التى تكرس بعض الحكم الاستبدادى، كما فى المثال المصرى والإعلانات الدستورية ومشروع مسودة الدستور الجديد للبلاد بكل ما ينطوى عليه من غموض للمفاهيم السياسية والدستورية والثقافية، وانتهاكات محتملة للحقوق والحريات الأساسية، وتغول سلطات من يشغل موقع رئيس الجمهورية.

ثمة بعض التغير النسبى المحدود أحدثته الانتفاضات الثورية والقوى الثورية الشابة، إلا أن الحدث الانتفاضى الثورى باغت من قاموا به، وأدى إلى سقوط بعض رموز الحكم التسلطى، ولكن النخب المعارضة القديمة والجديدة فوجئت بمألات حركة الاحتجاج السياسى والاجتماعى وتحولها إلى انتفاضات صاخبة وكثيفة. من قلب المفاجأة وسقوط بعض رموز التسلطية، يمكن ملاحظة أن هذه القوى السياسية المدنية والإسلامية السياسية لم تكن جاهزة للحكم وتبعاته وثم تحمل معها بدائل وروئ وسياسات تسمح لها وتمكنها من إدارة المراحل الانتقالية وتضاغطاتها وسيولتها ونزاعاتها على نحو يسمح ببناء التوافقات والأرضيات المشتركة، واحتواء مصادر الصراع والاستقطاب السياسى وإدارته على نحو لا يسمح بالانفجارات والعنف والمساعدة على تيسير الانتقال الديمقراطى السلس.

ثمة ضعف فى تكوين نخبة الانتفاضات الثورية ومعارضها السياسية والدستورية والإدارية حول مراحل الانتقال فى التجارب الثورية المقارنة وما هى مصادر النزاعات وكيف تم التعامل معها فى تجارب التحول من النظم الماركسية التسلطية إلى نظم ديمقراطية على المثال الغربى الأور – أمريكى، وثمة نقص فى التعرف على بعض تجارب أمريكا اللاتينية أو فى اندونيسيا أو جنوب أفريقيا .. إلخ. نخب تكونت وساهمت فى المعارضة السياسية الرسمية الشكلية والمقيدة، أو نخب كانت تعمل فى علانية وسرية معاً كالإخوان المسلمين، وبعض الأحزاب السياسية المعارضة كالوفد، والتجمع الوطنى التقدمى الوحدوى، والحزب الناصرى وسواهم – والاستثناءات داخلهم محدودة - أو قوى جديدة / قديمة كبعض الجماعات السلفية التى تعاملت مع النظام السابق ثم شكلت أحزابها السياسية فيما بعد كحزبى النور والفضيلة.

اعتمدت هذه الجماعات على رصيدها من خبرات العمل كمعارضة رسمية فى إطار قيود نظام تسلطى، سواء على مستوى نمط الخطاب المعارض التى يتفاوت من النعومة غالباً إلى بعض من الغلظة السياسية المحسوبة على مستوى الخطاب، أو فى إطار احتجاج جماهيرى محسوب حدوده سلفًا.

من هنا اعتمدت المعارضة على خطاب نقد السلطة شبه الإصلاحى حيناً، والإصلاحى حيناً آخر، وبعض بدائل المعارضات السياسية الرسمية والمحجوبة عن الشرعية القانونية دارت فى حدود إصلاحية لم ترقى سوى إلى بعض التمثيل والحضور السياسى فى البرلمان، أو بعض المؤسسات السياسية التمثيلية، أو فى إطار النقابات المهنية – المحامين والأطباء والمهندسين والمعلمين .. إلخ – كما فى المثال المصرى.

من هنا لم يكن يدور بخلد قادة الانتفاضة الثورية وأحزاب المعارضة أن الاحتجاج السياسى / الاجتماعى والدينى سيتحول إلى انتفاضة، وأنهم قد يصلون إلى سدة السلطة والحكم. من هنا حدث بعض التخبط والاضطراب والقرارات السياسية الخاطئة كما حدث فى الحالة المصرية من السلطة الفعلية وخارطة الطريق السياسية المختلة لمرحلة الانتقال، ولطريقة أداء السلطات المنتخبة التى اتسمت بالغموض والاضطراب مما ساعد على المزيد من عدم اليقين والسيولة السياسية والغموض، وإعادة إنتاج لبعض القوانين والقرارات وأساليب العمل التسلطية التى كانت سائدة، بل وانتهاكات السلطات المنتخبة لمبدأ الفصل بين السلطات، أو استمرارية بعض الممارسات القمعية لأجهزة الدولة الأمنية من ضرب وتعذيب وقتل لبعض الثائرين بين الشباب.

من هنا أبرز ملامح المرحلة الما بعدية استمرارية تسلطية وبيروقراطية وأمنية، فى إطار السلطات الجديدة المنتخبة، التى تستتر حيناً وراء الشعارات الثورية الصاخبة وحيناً آخر وراء شعارات الشرعية الدستورية والبرلمانية، وبعض البدائل الشعاراتية المبتسرة وغير الناضجة سياسياً.

2- التسلطية كإدراك وروئ وبيئة وثقافة نظام ومعارضاته

نستطيع التقرير على نحو نسبى أن الثقافة السياسية التسلطية كنسق إدراكى وتفكيرى ومقاربة للسياسة والسياسى والاجتماعى والدينى والثقافى لم تكن فقط هى ثقافة النخبة السياسية الحاكمة، وبيئة عملها وتقاليدها وأساليب عملها، وصناعة القرار السياسى وذلك منذ تأسيس دولة ما بعد الاستقلال وحتى ما قبل الانتفاضات الثورية العربية فى تونس ومصر أساساً.

كانت الثقافة السياسية التسلطية والطغيانية تشمل القوى السياسية المعارضة ومن بينها الحركة الإسلامية السياسية بطابعها الخاص الذى يزاوج بين الدينى والسياسى، والعلنى والسرى فى بعض الأحيان، والإيديولوجى والدعوى والحركى، وبين الانضباط التنظيمى الصارم ومنطق الطاعة فى إطار السرية وأجواءها المظلمة.

والسؤال ما الذى أدت إليه هذه الثقافة السياسية والتسلطية السائدة لدى القادمين الجدد للسلطة من الإسلاميين وبعض الأحزاب السياسية القديمة والجديدة؟

أدت إلى استمرارية أساليب العمل والتفكير والمعارضة والحكم وفق استمرارية لذات المقاربات وطريقة التعامل التسلطية مع المشكلات والأزمات والقوانين على نحو ما يشير إليه المثال المصرى، فى إصدار السلطة العسكريتارية الفعلية للإعلانات الدستورية المتعاقبة وللمراسيم والأحرى القرارات بقوانين لإدارة عمليات الانتقال السياسى والتى جاء أغلبها على ذات المثال السلطوى لما قبل الانتفاضات الثورية.

من ناحية أخرى شكلت القوانين والقرارات الجمهورية بقوانين التى أصدرتها السلطة التشريعية، والسلطة الفعلية فى البلاد ثم الإعلانات الدستورية استمرارية لذات الإدراك والتعامل الأداتى للدساتير والقوانين بوصفها أداة لفرض سياسات السلطة الحاكمة دونما توافق أو توازن فى المصالح السياسية بين الأطراف والفواعل السياسية المتنافسة حينا والمتصارعة فى عديد الأحيان. نستطيع أن نضرب عديد الأمثلة على ذلك ومنها على سبيل التمثيل لا الحصر ما يلى:

1- الإعلان الدستورى الأول الذى أصدره الرئيس المنتخب د. محمد مرسى والذى بمقتضاه أخرج المجلس العسكرى كسلطة فعلية وسحب اختصاصاته التشريعية، وقام بتغيير قادة المجلس العسكرى، وهو وجد ترحيبًا من عديد القوى السياسية وذلك رغبة منهم فى السعي لإبعاد المؤسسة العسكرية عن الحكم، إلا أن ذلك أوجد حالة دمج للسلطتين التشريعية، والتنفيذية وصلاحياتها فى أيدى رئيس الجمهورية. لا شك أن هذا التوجه شمولى النزعة والممارسة، لاسيما بعد انتفاضة ثورية كان على رأس مطالبها الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية.

2- الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس مرسى مؤخراً والذى أسند إلى مجلس الشورى سلطات التشريع وحصنها من حكم المحكمة الدستورية المحتمل بعدم دستورية قانون تشكيلها، وكذلك مد الحصانة إلى اللجنة التأسيسية المنتخبة الثانية من عدم دستورية قانون تشكلها، مما شكل مصادرة للسلطة القضائية وتغول وانتهاك لسلطاتها واستقلالها، ومن ثم لمبدأ الاستقلال القضائى، والتمايز الوظيفى بين السلطات الثلاث.

3- دعوة الجماعة الناخبة للاستفتاء على مسودة الدستور الذى وضعته اللجنة التأسيسية المطعون على دستورية قانون تشكيلها. ناهيك عن مضمون المسودة التى تنطوى على ركاكة وغموض فى المفاهيم وقيود تسلطية ودينية على الحريات الشخصية والعامة وعلى حقوق المرأة، وعلى صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية مستمدة من الإطار المرجعى والمفاهيمى لدستور 1971 والصلاحيات شبه الآلهية لمن يشغل موقع رئيس الجمهورية فى إطاره. بالإضافة إلى عديد الاختلالات فى نسيج مسودة الدستور الذى دعى الرئيس الجماعة الناخبة للاستفتاء عليه فى 15 ديسمبر 2012 المقبل.

من هنا نستطيع أن نلاحظ أن طرائق الإدراك السياسى والتفكير والقرارات ما بعد الانتفاضات ترتكز على بعض سلطوية لا تخطئها الرؤية والبصيرة السياسية أدت إلى انقسامات حادة رأسية بين أبناء الأمة المصرية بين مسلمين ومسيحيين، واستبعاد حقوق الأقليات الدينية من غير الأديان السماوية كالبهائيين والمذهبية من خارج أهل السنة والجماعة كالشيعة المصريين.

من ناحية أخرى هناك استقطابات أفقية على أساس الانتماء الاجتماعى بالإضافة إلى الاستقطاب السياسى والدينى والإيديولوجى ومحمولاته من احتقانات وتوترات وعدم استقرار سياسى فى ظل وضع اقتصادى بالغ القلق وعلى مشارف الخطر.



3- الشيوخ فى مواجهة الشباب

اتسمت حياة الدولة المصرية ونخبها البيروقراطية والأجنبية وحكامها – ذو الأصول العسكرية والبيروقراطية – والتكنوقراطية – بظاهرة الشيخوخة الجيلية، التى تمددت بين جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومعه جيلى الخمسينيات والستينيات، ثم دخلت عناصر من جيل السبعينيات والثمانينيات ضمن تركيبة الحزب الوطنى ولجنة السياسات العليا وبعض لجانها الفرعية، فى أثناء صعود مشروع توريث السلطة عن الرئيس السابق حسنى مبارك إلى نجله جمال مبارك.

شيخوخة الأعمار وآثارها السلبية ليست قصراً على متغير العمر / الجيل، وإنما لأنها حملت معها الجمود الجيلى فى ظل ظاهرة موت السياسة، ومن ثم تأثرت العلاقة بين الأجيال بذهنية الجمود التى رانت على بعض النخب الحاكمة والمعارضة معاً سواء فى الدولة وأجهزتها والنظام التسلطى وكان من أبرز معالمها ما يلى:

أ- جمود الرأسمال الخبراتى والمهنى والوظيفى وعدم تجدده أو تطويره نظراً لضعف عمليات تكوين نخبة الحكم والإدارة واعتمادها على معرفة قديمة أخذت فى التأكل وعدم الصلاحية سواء على المستوى الأمنى أو البيروقراطى أو التكنوقراط.

ب- بعض الاستبعادات للأجيال السياسية والمهنية من أجيال السبعينيات والثمانينيات وما بعد من التجنيد داخل تركيبة النخبة السياسية، ولم يقتصر هذا النمط من الاستبعادات للمواقع القيادية من النظام السلطوى وإنما امتد بعض منه إلى النخب المعارضة إلا قليلاً وعلى نحو هامشى – الإخوان والوفد والتجمع – والاستثناءات كانت داخل الحركة الإسلامية الراديكالية وجماعة المسلمون (التكفير والهجرة) والتوقف والتبين والجهاد والجماعة الإسلامية.

ج- التعايش بين السلطة والمعارضات فى حدود التعددية السياسية الشكلية والمعارضة وقيودها فى “,”لعبة“,” الحكم والمعارضة، وعدم الخروج على قواعدها إلا قليلاً واستثناءاً

يمكن القول أن جماعات وحركات الاحتجاج السياسى والاجتماعى، غلب عليها بعض الأساليب القديمة كحركة احتجاج تدور مطالبها حول بعض الإصلاح السياسى الدستورى أو الاجتماعى ولا تتجاوزه إلى إصلاحات جذرية أو شاملة تمس أسس النظامين السياسى والاجتماعى.

التغير الجيلى الذى بدأت بشائره السياسية وفى طرائق التفكير والأدوات بدأ فى الظهور مع الجماعات السياسية الرقمية / الواقعية التى خرجت من العالم النتى الافتراضى إلى العالم الفعلى، ثم واجهت صدمة الواقع وارتحلت إلى الافتراضى وهكذا حتى استطاعت أن تقوم بدورها التعبوى الهام فى 25 يناير 2011. يمكن فى هذا الصدد أن نذكر جماعة 6 أبريل 2008، وجماعة كلنا خالد سعيد. كشفت الجماعتين عن بروز أجيال شابة جديدة هى جزء من عالم المدونات، والفيس بوك وتويتر وذهنية وأدوات ولغة جديدة ومختلقة عن ذهنية نخبة الشيخوخة الجيلية والسياسية.

من هنا نستطيع القول أن فجوة إدراكية ونفسية وسياسية بين الشباب الثائر وبعض قيادات القادمين الجدد للسلطة من الإخوان المسلمين والسلفيين وبعض المعارضات السياسية والحزبية من شيوخ السياسة والأحزاب والجماعات الإسلامية فى مصر، تتجلى مظاهر الفجوة الجيلية والفكرية والأداتية فى السياسة فى التناقض والصراع بين منطق احتواء العملية الثورية من السلطة الفعلية، ثم السلطة المنتخبة تحت دعاوى شتى، وبين منطق بعض الشباب الثائر ومنطق الاستقرار السياسى واستمرارية بعض الهياكل والسياسات القديمة، وبين منطق مغاير يحاول تثوير وإعادة هيكلية جذرية للنظامين السياسى والدستورى.

من قلب هذا التناقض الجيلى يدخل جيل شاب جديد ثائر ومعارض لقواعد اللعبة الجديدة الحاملة لبعض القديم، والتى جاءت بها نخب الشيخوخة السياسية، وهذا الجيل يواجه بصرامة وقوة السلطات الأمنية ويعارض النخبة السياسية الحاكمة، ويتراوح عمر هذا الجيل الجديد – من أبناء الطبقة الوسطى – الوسطى بين 14 سنة إلى 20 سنة، وهم الذين واجهوا ولا يزالون بشراسة قوات الأمن فى محيط شارعى محمد محمود فى موجة الغضب الثانية، وشارع القصر العينى، وميدان سيمون بوليفار فى قلب القاهرة.

إن الشباب تحت سن الثلاثين عاماً يمثلون 60% من هيكل الأعمار فى مصر، من هنا نحن إزاء دينامية اجتماعية لاسيما بين هؤلاء الذين تتركز أعمارهم بين 14 إلى 20 من أبناء الطبقة “,”الوسطى – الوسطى“,” فى القاهرة، والإسكندرية وبعض المدن الأخرى.

أن عقل الآى باد I Bad وبلاك بيرى Black Berry والـ facebook وتويتر twitter ، يختلف بعضهم عن الأجيال السابقة لهم، والذين يسيطر بعضهم على تسيير أمور الدولة وأجهزتها والسلطة السياسية، والأحزاب مختلف أطيافها الإيديولوجية والدينية والاجتماعية.

أن النظرة إلى الحرية والكرامة تبدو أكثر وضوحاً لدى غالب الجيل الرقمى الجديد من الليبراليين واليساريين والقوميين والمستقلين سياسياً، بالإضافة إلى إسقاطه لعملية تقديس الرؤساء والوزراء، بل ويمكن القول أن ذلك سيمتد إلى بعض من ذات الجيل – من 14 إلى 20 عاماً- من جماعة الإخوان المسلمين، والسلفيين والعاطفين عليهم. أن نظرة هؤلاء لمفاهيم الحرية والكرامة – والعدالة إلى حد ما – تختلف عن النظرة والإدراك السياسى والشخصى لهم فى كنف سطوة الثقافة السياسية التسلطية السائدة، والطابع الرعائى للدولة. هذا الجيل لم يعد يحمل بعضاً من نزعة تقديس الحكام أيا كانوا – من رؤساء الجمهورية إلى رؤساء مجالس الوزارات وقادة أجهزة الدولة الأمنية والقادة العسكريون-، التى سادت أكثر من ستة عقود مضت منذ 23 يوليو 1952. نزعة إضفاء بعضُ من القداسة والخوف إزاء الحكام ومن يملكون زمام القوة والسلطة تجد جذورها فى بنية الثقافة السياسية الطغيانية الشرقية التى سادت طويلاً فى علاقة المصريين بالحكام والسلطة.

إن انكسار حاجز الخوف بعد انتفاضة 25 يناير 2011 “,”الثورية“,”، لم يعد قصراً فقط على غالب الأجيال الشابة، ولكن لدى بعض المصريين، ومن ثم لم يعد كثيرون يخشون عنف السلطة الغشوم، ولا من هروات جنود الشرطة وعرباتهم المدرعة، وقنابل الغاز ومدفعية المياه، وطلقات الرصاص على اختلافها!

من هنا نحن إزاء بيئة تراجع فيها الخوف الذى يصل لدى بعض الشباب الثائر من أبناء الطبقة الوسطى – الوسطى، والوسطى – الصغيرة إلى حد عدم خشية الخوف من الموت فى المواجهات مع قوات الأمن المركزى. من ناحية أخرى امتدت بعض المشاعر والإدراكات السياسية السلبية إزاء العسكريتاريا لدى الشباب، لاسيما المسيسون من القوى المدنية والليبرالية، خاصة بعد إخفاقات المجلس العسكرى فى إدارته لشئون البلاد وتوافقاتهم مع جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين أثناء المراحل الانتقالية الأولى والثانية.

أن هذا التغير الجديد قد يؤدى إلى مألات عنيفة، فى حال ما إذا استمرت الاستقطابات والاحتقانات السياسية والدينية والاجتماعية الحالية، ومعها بعض العنف اللفظى والمادى، ونزوع بعض السلفيين إلى سلاح التكفير الدينى. أن بيئة العنف – على اختلاف أشكاله – قد تؤدى إلى تزايد وتائره ولا يكون حكراً فقط على الإسلاميين السياسيين، وإنما يأخذ أشكالاً أكثر حدة بدخول أطراف جديدة أكثر شراسة، وهو أمر بالغ الخطورة إذا استمرت الأمور على النحو السائر حتى هذه اللحظة.

أن الجيل النتى الجديد – 14 / 20 سنة – لديه الإمكانية والأدوات فى بناء المنظمات والتشبيكات التى قد تمارس العنف، وتستمد قوتها من المعرفة العسكرية والعنفية المتاحة على العالم الافتراضى ولم تعد حكراً على بعض المؤسسات الأمنية والعسكرية أو بعض المنظمات الإسلامية السلفية الجهادية، أو بعض الجماعات الإرهابية التى مارست العنف والإرهاب ذو السند الدينى التأويلى.

من هنا يبدو خطراً إغفال المطالب والتطلعات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية لهذا الجيل الذى يدخل إلى الساحة السياسية والفكرية، وغياب الحوار الفعال والإيجابى معهم، وعدم إدراك مشاكلهم واهتماماتهم سيؤدى إلى المزيد من اتساع الفجوة الجيلية السياسية بين الأجيال الأكبر سناً، وبين هؤلاء وبعض أقرانهم من شباب الجماعات الإسلامية السياسية على اختلافها الذين يمارسون عقائدهم الإيديولوجية والدينية على نحو يتسم بالغطرسة حيناً والعنف الخطابى والحركى – فى تظاهراتهم واعتصاماتهم أمام بعض الأجهزة القضائية للتأثير على القضاة – فى بعض الأحيان الأخرى من هنا ستؤدى هذه الفجوات والانقسامات التى تتسع إلى احتكاكات ومصادمات بكل نتائج هذه النزاعات العنيفة على الحد الأدنى من التماسك الاجتماعى والاستقرار السياسى والأمنى الذين لا يزالا فى مرحلة سيولة وعدم يقين وبعض من الاضطراب.

أن بعض تصورات الجيل النتى للطبقة الوسطى المدينية – فى القاهرة أساساً والإسكندرية وبعض مدن المحافظات فى الوجه البحرى كالسويس وبورسعيد والمنصورة – لمعنى الحكم والسلطة وضوابطهما، ولمعنى الحريات وحقوق الإنسان وضماناتهم تختلف عن تصور القادمين الجدد للسلطة من الإخوان والسلفيين لمعنى ووظيفة الحكم والسلطة وطرائق وأساليب عملها، وعملية اتخاذ القرارات السياسية بل والإدارية والتى لا تختلف كثيراً فى ممارساتها ونمط تفكيرها عن التقليد السلطوى الذى ساد طيلة نظام يوليو 1952.

يبدو هذا التوجه فى إصدار الرئيس الإعلانات الدستورية فى غير حالاتها وبعيداً عن شروطها وضوابطها. لا شك أن هذا التوجه يتجلى فى ظاهرة دمج السلطة، وحظر الإعلان الدستورى الأخير – الذى صدر منعدماً من الناحية الدستورية - الطعن على اللجنة التأسيسية المنتخبة التى أعدت الدستور، وتحصين مجلس الشورى من الحل لعدم دستورية القانون الانتخابى الذى تشكل بناءً عليه.

أن إدراك النخبة السياسية الحاكمة من جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين - وغيرهم من الإسلاميين - ونظرتهم للدستور ومعناه وتركيبته ودلالاته وللقوانين لا تعدو أن تكون أداتية بامتياز شأن النخبة العسكريتارية والتكنوبيروقراطية لنظام يوليو 1952 فى عديد مراحله.



4- مغالبة وهيمنة لا مشاركة

يلاحظ أيضاً سيادة نزعة الغلبة والاستحواذ الأكثرى للإسلاميين بديلاً عن التوافقات والتمثيلات السياسية للمصالح الاجتماعية لكافة مكونات الأمة والمجتمع المصرى. لا شك أن المغالبة لا المشاركة السياسية الفاعلة لكافة الأطراف، هى المهيمنة على التوجه السياسى للإسلاميين فى السلطة كما برز فى تشكيل اللجنة التأسيسية المنتخبة الأولى والثانية، وفى مشروع الدستور الجديد للبلاد بكل ما ينطوى عليه من مفاهيم دينية إسلامية وضعية تضع قيوداً على الحريات الشخصية والعامة، وعلى المحكمة الدستورية، وكذلك السلطات الواسعة لرئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسى، بل ووصل الأمر إلى فرض تصور وضعى سلفى وإخوانى يضيق معنى المبادئ العامة للشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع .. إلخ، وذلك بديلاً عن رحابة نص المادة الثانية من الدستور التى تعطى مرونة للمشرع فى إصدار التشريعات التى تتوافق مع القيم والمبادئ العامة للشريعة.

أن الضوابط الدينية الفقهية التى وردت بمشروع الوثيقة الدستورية هى أدوات سوف تستخدم لإحداث تغيير فى طبيعة المنظومات القانونية المصرية الحديثة والمعاصرة والتى تعد جزءً من عالم القانون الحديث والمعاصر السائد لدى الأمم المتمدينة. لا شك أن هذا التوجه سيؤدى بعدئذ إلى تغيير فى طبيعة الدولة الحديثة والنظام السياسى المصرى ومن ثم إلى محاولة تجريف الإرث السياسى وثقافة الدولة المركزية النهرية المصرية الحديثة.

لا شك أن الثغرات والمناطق الرمادية فى هيكل الوثيقة الدستورية التى ستطرح على الاستفتاء سيؤدى إلى تحجيم تأثير الانتفاضات الثورية فى مصر والعالم العربى، لاسيما بعد وصول الإخوان والإسلاميين إلى سدة الحكم والسلطة.

إن نظرة على طريقة أداء الإسلاميين فى مصر إزاء دولة القانون يكشف عن بعض التناقض بين فهمهم لها، ومعانيها السياسية والدستورية وتقاليدها ومعاييرها المؤسسية المستقرة فى التقاليد الدستورية والسياسية والدولتية المقارنة على المستوى الكونى.

أن الهجوم السياسى المتكرر على استقلال السلطة القضائية والقضاة بدى أبرز ملامح سياسة إدارة الفصل والتعاون بين السلطات والأحرى الحساسية السياسية فى التعامل مع قواعد ومعايير توزيع القوة بين السلطات وصلاحياتها. برزت بعض ممارسات التغول على السلطة القضائية فى الخطاب السياسى والتشريعى لجماعات الإخوان المسلمين والسلفيين وبعض الأحزاب الإسلامية داخل مجلس الشعب المنحل.

لم يقتصر الأمر على خشونة وعنف الخطاب السياسى، وإنما امتد إلى التظاهر وتطويق مجلس الدولة أثناء جلسات نظر بعض القضايا الهامة ومنها:

أ-ترشح القيادى السلفى السيد حازم صلاح أبو إسماعيل للرئاسة، واستبعاده لعدم توافر شروط الترشح فى شأنه. والاعتصام والتظاهر أمام مكتب النائب العام بهدف دفعه للاستقالة.

ب-محاولة عزل النائب العام وتعيينه سفيراً لمصر فى الفاتيكان ورفضه ومعه نادى القضاة.

ج-عزل النائب العام المستشار عبد المجيد محمود بعد صدور الإعلان الدستورى الثانى وتعيين نائب عام جديد.

د-تحصين مجلس الشورى من الحل لعدم دستورية القانون الانتخابى الذى تشكل فى إطاره، وإسناد وظيفة التشريع له حتى انتخاب مجلس نواب جديد فى ضوء المسمى الجديد لمشروع الوثيقة الدستورية الجديدة.

هـ-تحصين اللجنة التأسيسية المنتخبة التى أعدت مشروع الدستور المصرى الجديد – بكل ما ينطوى عليه من اختلالات وانقسامات حادة حوله – وذلك حتى لا تحكم المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قانون تشكيلها المختل.

و-التظاهر والاعتصام أمام المحكمة الدستورية العليا والحيلولة دون وصول أعضاءها لنظر القضايا المطروحة أمامها، وتهديد أعضاءها من خلال الهتافات العنيفة.

هذا الأداء الشمولى العنيف من السلطة الحاكمة وجماعة الإخوان وحزبها السياسى ومعهم السلفيين والإسلاميين إزاء السلطة القضائية يشير إلى حالة عداء بين الإسلاميين السياسيين فى السلطة، وبين القضاة والقضاء ومن ثم يشير هذا التوجه التسلطى إلى عدم إيمان بمفهوم دولة القانون وداخله استقلال القضاء والقضاة وفق المعايير السائدة على المستوى المقارن فى النظم القضائية على اختلافها عولمياً.

5- صراع الشرعيات واحتقانات اللغة السياسية

تبدو صراعات المفاهيم الثورية الدستورية والسياسية الحداثية الوضعية، والإسلامية أحد أبرز سمات السوق اللغوى السياسى المصرى الراهن والصراع على اللغة وبها. من هنا تبدو اللغة السياسية ومصطلحاتها الحداثية موضوعاً للصراع والانتهاك لمعانيها ودلالاتها من قبل الفواعل السياسية المتصارعة والمتنازعة فى فرض تصوراتها للمصطلحات والمفاهيم التى تحدد القيم السياسية والقواعد المؤسسة للدستور ومرجعية النظام القانونى الكلى ومنظوماته الفرعية. من قلب الانقسامات السياسية والإيديولوجية، يبدو أن ثمة احتقانات مفاهيمية – إذا جاز التعبير وساغ – تتمثل فى سعى بعض أطراف الصراع السياسى إلى فرض تصوراته ومعانية واستخداماته للمصطلحات المفتاحية فى الصراع السياسى بين الإسلام السياسى والتيارات السياسية الأخرى التى يطلق عليها مصرياً مسمى القوى المدنية. بقطع النظر عن عدم دقة المصطلح يسعى كل طرف سياسى إلى فرض المعنى الذى يريده من وراء كل مصطلح مركزى فى الصراع، ومن ثم نجد تمدداً فى المعانى والدلالات المعطاة لكل مصطلح تصل فى عديد الأحيان إلى تشويهه، وهو جزء من ظاهرة شائعة فى الجدل العام المصرى، وفى داخل الجماعات السياسية والإعلامية بل والأكاديمية فى عديد الأحيان.

منذ خارطة الطريق التى فرضها توافق الإخوان والسلفيين والمجلس العسكرى برز توتر حاد يلوح بين الحين والآخر بين مصطلحات الشرعية الثورية، وسعى كل طرف لاحتكار النطق باسم شرعية الثورة – وفق المجاز السياسى الشائع مصرياً – أو من خلال المشاركة فيها أو الانتساب إليها عبر الصراع على سردياتها وحكاياتها المؤسسة. شارك فى استخدام مصطلح شرعية الثورة وما جاوره من مصطلحات عديدين من القوى المدنية والإخوان المسلمين أساساً، ووصل الصراع على المصطلح ودلالته إلى سردية “,”الثورة“,” ذاتها ودعاتها وأطرافها وخياناتها ومألاتها!

نستطيع أن نلاحظ هيمنة مفهوم ومصطلح “,”الثورة“,”، والثورية وتجلياتهما فى بنية الخطابات السياسية والدينية المتنافسة فى الفترة التى أعقبت تخلى الرئيس السابق حسنى مبارك عن صلاحياته الدستورية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. من ناحية أخرى أدت التفاهمات السياسية – يراها بعض الباحثين والسياسيين تحالفات – بين جماعة الإخوان والسلطة العسكرية إلى خارطة طريق شملت استفتاء مارس 2012 الذى أحدث تعديل دستورى جزئى سمح بإجراء انتخابات برلمانية أدت إلى نجاح الإخوان المسلمين والسلفيين وبعض الجماعات الإسلامية السياسية فى تحقيق الأغلبية البرلمانية. من هنا ظهر التناقض والصراع بين مفهوم ومصطلح الشرعية البرلمانية والشرعية الثورية، وظهر ذلك من خطابات وجدالات ونزاعات قادة وأعضاء البرلمان من الإخوان والسلفيين وغيرهم مع خطابات بعض القوى السياسية المسماة بالمدنية، ولكن النزاع المفاهيمى حول الشرعية كان بين القوى الجيلية الشابة من الطبقة الوسطى المدينية وائتلافاتها “,”الثورية“,”، وأصواتها السياسية المتعددة فى التظاهرات والمسيرات والاعتصامات ووسائل الإعلام تستند إلى الشرعية الثورية، من ناحية وبين جماعة الإخوان والسلفيين وغيرهم من الإسلاميين السياسيين الذين رفعوا شعار الشرعية البرلمانية. أن تجليات صراع الشرعيتين لم يقتصر على الخطاب السياسى، وإنما كان ولا يزال جزءاً من الحراك السياسى فى الشارع وتضاغطاته المتعددة.

يلاحظ أيضاً أن صراع الشرعية البرلمانية التى اختلطت لدى بعضهم ومنهم الإخوان مع الشرعية الثورية، فى استخدامها فى الصراع مع السلطة القضائية، وتوجيه الانتقادات الحادة لها باسم الثورة وشهدائها ومصابيها، وأن بعض القضاة هم من اختيار نظام مبارك إلى آخر هذه الأوصاف الحادة.

بعد الحكم بعدم دستورية قانون الانتخاب وحل مجلس الشعب، وأجريت الانتخابات الرئاسية، وفاز د. محمد مرسى مرشح جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين والإسلاميين عموماً وآخرين، هنا ظهر مجدداً مصطلح الشرعية الدستورية إلى الواجهة متصارعاً مع مصطلح الثورة والشرعية الثورية.

تبدو استخدامات الشرعية السياسية والثورية والدستورية متداخلة فى بعض الأحيان بحسب الحاجة السياسية والتعبوية للرئيس محمد مرسى، وجماعة الإخوان والسلفيين، وأحياناً متداخلاً مع مصطلح شهداء الثورة.

ثمة تزامن وتساوق بين الحين والآخر بين الصراع الاصطلاحى والمفاهيمى والدلالى بين الشرعيات الثورية والدستورية، وبين صراع فرض الإرادات، أو التظاهرات المسماة بالمليونيات فى ميدان التحرير، أو أمام قصر الاتحادية، أو أمام جامعة القاهرة أو فى بعض ميادين مدن بعض المحافظات المصرية. استخدام شرعية الواقع أو قدرات الحشد الجماهيرى لدى كل طرف، بهدف دعم خطابه السياسى حول مفهوم الشرعية الذى يستند إليه فى دعم مصالحه السياسية وغيرها.

أن الاستناد إلى شرعية الواقع والقوة الجماهيرية تشير إلى المزاوجة بين قوة الغلبة والهيمنة وبين القوة الرمزية للشرعية السياسية والدستورية. أن صراع الشرعيات لا يزال مستمراً على الدولة والنظام والإعلانات الدستورية والدستور الجديد للبلاد المتنازع عليه بين الأطراف المتصارعة من قوى الإسلام السياسى والقوى المدنية.

6- العزل السياسى والخوف من حرية السوق السياسى

تبدو النزعة للعزل السياسى واحدة من أبرز استراتيجيات الإسلام السياسى ما بعد “,”الثورات“,” – والأحرى الانتفاضات الثورية – حيث سعت القوى الإسلامية وبعض القوى المدنية إلى محاولة فرض نصوص دستورية أو قوانين للعزل السياسى لبعض من يطلق عليهم “,”فلول النظام“,” وبعض قادته أو أعضاءه البارزين.

من أبرز هذه المحاولات التى منيت بالفشل ما تم أثناء الانتخابات الرئاسية فى الجولة الأولى، وإصدار مجلس الشعب قانون سعى إلى عزل بعض المرشحين، وتحديداً المرشح السابق أحمد شفيق. قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية هذا القانون.

من هنا يبدو إصرار القوى الإسلامية السياسية على وضع نص دستورى ضمن الأحكام الانتقالية التى جاء بها الفصل الثالث حيث نصت المادة (232) على أن “,”تمنع قيادات الحزب الوطنى المنحل من ممارسة العمل السياسى والترشح للانتخابات الرئاسية والتشريعية لمدة عشر سنوات من تاريخ العمل بالدستور. ويقصد بالقيادات كل من كان، فى الخامس والعشرين من يناير 2011، عضوا بالأمانة العامة للحزب الوطنى المنحل أو بلجنة السياسات أو بمكتبه السياسى، أو كان عضواً بمجلس الشعب أو الشورى فى الفصلين التشريعين السابق على قيام الثورة“,”.

أن مفهوم العزل كان جزءاً من تاريخ مصطلحات النظام التسلطى منذ تأسيسه بعد 23 يوليو 1952، واستخدم ضد الطبقة السياسية والاجتماعية الحاكمة قبل 1952 مع إلغاء التعددية السياسية وسقوط دستور 1923.

كان مفهوم أعداء الثورة الأكثر استخداماً لتبرير العزل السياسى، والمنع الذى حدث لعديدين من مباشرة حقوقهم السياسية، وهو ما كان من أبرز الانتقادات الحادة التى وجهت إلى نظام يوليو وإلى الرئيس جمال عبد الناصر. أن وضع نص دستورى للعزل السياسى هو محاولة لتحصين مبدأ ضد الحريات العامة وضد الدستور بالدستور!



7- الصراع بين المقدس الدينى والمدنس السياسى

أن الصراع السياسى المصرى بين الخطابات الدينية والسياسية التأويلية حول المقدس إزاء المدنس السياسى الوضعى، هى صراع خطابات سياسية وضعية حول الدين وبه وعليه فى الصراع السياسى والاجتماعى فى مصر.

أن المجالين العام والخاص شكلا تاريخياً ولا يزالان الإطار الواسع للصراع بين الدينى والوضعى على الرغم من أن نظام الأحوال الشخصية فى مصر يخضع للشرائع الدينية السائدة فى مصر، الشريعة الإسلامية، وشرائع الأقباط الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت.

اتخذت الصراعات السياسية والاجتماعية والرمزية عديد الأقنعة الدينية والمجازات منذ تأسيس الدولة الحديثة، وكان محورها الصراع على النظام القانونى المصرى بعد دمج مصر فى الاقتصاد الرأسمالى العالمى على عهد الخديوى إسماعيل باشا، واستعارة هندسات دستورية وقانونية أوروبية وتوطينها ودمجها فى التركيبة الاجتماعية والثقافية المصرية. نجحت التجربة التاريخية المتميزة على الرغم من أنها انطوت على عديد التوترات وأحياناً الصراعات السياسية والثقافية، ومن أبرزها الصراع السياسى حول طبيعة الدولة والنظم الدستورية والسياسية والقانونية المصرية. انتقل الصراع من ضرورة رفع ما يتعارض فى نصوص القوانين مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ثم تطور الصراع السياسى مع جماعة الإخوان المسلمين، وجماعة شباب محمد فى المرحلة شبه الليبرالية، وتصاعدت حدة الصراعات مع نظام يوليو 1952 بكل آثاره السياسية على اختلافها وعلى رأسها حل الجماعة وحجبها عن الشرعية القانونية والسياسية، ومن ثم مطاردتها واعتقال ومحاكمة بعض قادتها وأعضاءها فى عديد الأزمات والمحن السياسية لها.

منذ عهدى الرئيسين السادات ومبارك حدث تحول فى طرح مسألة علاقة الشريعة بالنظام القانونى الوضعى الحديث والمعاصر، وتمثل فى رغبة بعض القوى الإسلامية فى الاعتماد على المقدس الإسلامى فى تحديد طبيعة الدولة بعضهم يحاول أن يجعلها دولة إسلامية وتكون الشريعة حاكمة لها أو بعضهم الآخر يطرح مشروع الخلافة الإسلامية، فى إطار الفكرة الإسلامية الجامعة. طيلة العهدين السابقين بات الصراع على الدولة وهويتها كجزء من سياسة الهوية واستخدامها فى الصراع السياسى والاجتماعى والثقافى.

لا شك أن عديد النصوص الواردة بالدستور الجديد، هى تعبير عن هذا الصراع السياسى حول الشريعة والدولة والقانون والهوية، وهو ما يشكل جوهر الصراعات والانقسامات والاحتقانات الحالية الحادة فى طار النخب السياسية المتصارعة.

ثمة عديد المستويات للتوتر بين المقدس والسياسى والاجتماعى والثقافى الدنيوى، من استخدامات بعض القوى الإسلامية السياسية كالإخوان والسلفيين وغيرهم فى صراعاتهم وضغوطهم السياسية على النخبة السياسية الحاكمة فى حقب نظام يوليو على اختلافها إلى الصراع على صناديق الاقتراع فى استفتاءات مارس 2012 حول تعديل دستور 1971، والاستفتاء على دستور 2012 الجديد، وفى الانتخابات البرلمانية، وفى الحشد للمليونيات المؤيدة لمطالبهم ومواقفهم السياسية كما فى قندهار (1)، وقندهار (2)، وفى مليونيات عديدة منها “,”نصرة الشريعة والشرعية“,”، وغيرها.

أن استراتيجيات استخدام الخطاب الدينى الوضعى التأويلى “,”للمقدس“,”، وهو عمل بشرى بامتياز، فى العمل السياسى أمر ليس جديد ولا يقتصر على الإسلاميين السياسيين من الإخوان والجماعات الإسلامية الراديكالية، أو من بعض السلفيين، وإنما هو ظاهرة عامة شاركت فيها النخب السياسية الحاكمة منذ يوليو 1952 وصراع الضباط الأحرار ونخبة نظامهم مع الإخوان المسلمين منذ بدايات استيلاءهم على الحكم إلى حقبتى السادات ومبارك حيث تم توظيف الإسلام كمصدر للشرعية السياسية وأداة للتعبئة وللتوازن السياسى مع القوى السياسية المختلفة، بالإضافة إلى دوره فى التبرير والتسويغ السياسى للسياسات وللقوانين والقرارات السياسية، بالإضافة إلى استخدامه كأداة فى إطار السياسة الخارجية المصرية.

أن تداخلات المقدس مع الوضعى والدنيوى ذات أشكال مختلفة، ولكن التداخل مع السياسى ظل يتنامى طيلة الأربعة عقود الأخيرة من القرن الماضى، بل وتجسد فى بعض التبريرات الفقهية التى تسوغ العنف السياسى ضد بعض الأنظمة التسلطية وإزاء الحاكم المستبد، وإزاء بعض المخالفين فى الرأى.

يلاحظ أيضاً بروز نزعة تكفير المخالفين فى الرأى والاتجاه السياسى والإيديولوجى، بل وصل الأمر إلى تكفير بعض الإسلاميين للبعض الآخر.

أن المشهد السياسى / الدينى فى أعقاب الانتفاضات الثورية العربية أصبح متخماً باستخدام المقدس الإسلامى تفسيراً وتأويلاً فى المنافسات السياسية الإسلامية – الإسلامية، كما فى حال بعض السلفيين إزاء بعض أتباع حركة النهضة فى تونس. من ناحية أخرى نرى استخدام بعض غلاة السلفيين المصريين إزاء بعض توجهات ومواقف جماعة الإخوان المسلمين أو الرئيس محمد مرسى، وذلك على الرغم من أن المكون السلفى جزء من مكونات الإطار المرجعى لنظام الأفكار الإخوانى الإيديولوجى.

ثمة استخدام للتكفير من قبل بعض الشيوخ المتشددين إزاء بعض المخالفين لهم فى الرأى من بعض الشخصيات العامة والفنانين والقوى السياسية المدنية.

المقدس أصبح متداخلاً فى الحياة اليومية فى اللغة ومفرداتها ومجازاتها وعلاماتها وأحكامها القيمية، ومن ثم أصبح حاضراً وبكثافة، ويساهم فى صياغة بعض الشبكات الاجتماعية.

لم يعد المقدس وتأويلاته الوضعية حكراً على رجال الدين من الدعاة والوعاظ، وإنما تحول إلى جزءاً من الصراع على بناء المكانة الاجتماعية فى عديد الأوساط الاجتماعية من خلال بعض المواطنين الذين يرغبون فى تحقيق سلطة اجتماعية تعتمد على السند الدينى الذى يتمثل فى إبداء الآراء لما هو إسلامى وما هو خارج هذه الدائرة من خلال الخطاب الدينى حول الالتزام الدينى للمرأة فى نظام الزى المتمثل فى الحجاب والنقاب والإسدال، وتحويل هذا التوجه إلى جزء من العقيدة الإسلامية فى نظر بعض هؤلاء من دعاة الشوارع أو دعاة الطرق – وفق تعبير طه حسين – أو بعض أئمة الصلوات فى المصالح الحكومية، والمرافق العامة وغيرها، ولا يقتصر الأمر على الرجال، وإنما تمدد إلى بعض الفنانات المعتزلات وأخريات من بعض النساء المنتقبات اللاتى يقمن بأدوار دعاة الطرق، ولكن فى وسط مجموعات نسائية انتشرت منذ عقد التسعينيات من القرن الماضى، وفى العشرية الأولى من القرن الحالى.

أخطر ما فى هذه الظاهرة الممتدة والمستمرة أنها تشير إلى أن المقدس تحول إلى ظاهرة تأويلية بامتياز يوظفها بعضهم من التيار الإسلامى وفق تفسيراته أو استعاراته التفسيرية أو التأويلية الوضعية والبشرية من تاريخ الأفكار والفتاوى والآراء الفقهية القديمة التى تستمد وتستعار وتتلى وتكتب منزوعة من سياقاتها وأسئلتها وزمنها المفارق لعصرنا وحياتنا وأسئلتنا.

المقدس الإسلامى يستخدم بكثافة فى المشاهد السياسية ونزاعاتها بعد الانتفاضة الشعبية الثورية فى 25 يناير 2011، على نحو يتداخل مع “,”المدنس“,” الوضعى السياسى والثقافى والاجتماعى بين عديد القوى السياسية على اختلاف توجهاتها الإيديولوجية والفكرية والاجتماعية.



8- سلطة السياسى، وسلطة الداعية بين التعاون والتنافس، والصراع

منذ بناء الدولة الحديثة فى مصر على أيدى محمد على باشا وإسماعيل باشا، وخضوع الأزهر لسلطة الحكم، أخذ يبرز دور داعية التقنية – وفق تعبير عبد الله العروى ذائع الصيت-، والتكنوقراطى، إزاء رجل الدين – الفقيه والداعية والمفتى – ثم برز دور العسكريتارى ابن المؤسسة العسكرية المصرية بعد عام 1936 والاستقلال الشكلى لمصر عن بريطانيا. والأهم ظهور المثقف الحداثى ومساهماته الهامة فى بناء الدولة الحديثة ومؤسساتها، بالإضافة إلى دوره كأحد محركات ومثيرى التغير الاجتماعى من خلال دوره فى النقد الاجتماعى، وبناء الجسور بين الثقافة المصرية والأوروبية الغربية من خلال الدراسة فى الجامعات الأوروبية والترجمة عن لغاتها الفرنسية والإنجليزية.

الصراع والتنافس والتعايش بين السياسى والداعية والمثقف والتكنوقراطى والعسكريتارى، وسم تطور الحياة السياسية والاجتماعية فى مصر، عندما ماتت السياسة بعد 23 يوليو 1952 صعد العسكريتارى من الضباط الأحرار وأزاح السياسى الذى خرج من رحم الحياة شبه الليبرالية، وتكوينها التعليمى والسياسى. ظل المثقف النقدى وصراعاته هى السمت الرئيس وتعاون بعضهم تحت تعلات شتى مع سلطة يوليو 1952 هو سمت المجال العام المحاصر.

كان الداعية الدينى منذ محمد على باشا وإسماعيل باشا يعمل تحت مظلة الدولة والمؤسسة الدينية الأزهرية الرسمية أساساً، وبعضهم بعد مرحلة تاريخية فى ظلال الدولة الحديثة أنتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين، وآخرين من الشباب انضموا فى المرحلة الساداتية إلى جماعة المسلمون – التكفير والهجرة -، وآخرين ذهب بعضهم إلى إقليم النفط العربى وتأثروا بالفقه الحنبلى والوهابى السائد هناك. من ناحية أخرى برز دور الداعية المتلفز مع ظهور القنوات الفضائية العربية الإخبارية، ثم القنوات الدينية والسلفية. لا شك أن الوسائط الإعلامية المتعددة والرقمية ساهمت فى صعود دور ومكانة الداعية المتلفز فى الأسواق الدينية الداخلية والإقليمية، بل وصل بعضهم إلى مستوى الداعية الكونى المتلفز من خلال تأثيره على بعض قطاعات واسعة من المسلمين على المستوى الكونى.

أن سلطة الداعية الدينى المتلفز، لاسيما السلفى – وجماعاته على تعددها – والراديكالى ساهم فى تغيير طبيعة التوجهات الدينية فى المجتمع المصرى ولدى الفئات الشعبية الريفية، وفى الأوساط الشعبية فى المدن المريفة.

أن مشايخ الحركة السلفية أصبحوا أكثر تأثيراً على الاتجاهات الدينية السائدة لدى فئات عديدة من الطبقة الوسطى الصغيرة، وبعض متوسطى التجار والحرفيين وبعض الريفيين.

أن الداعية الدينى الإسلامى السلفى وغيره أصبح له تأثير على مجريات السياسة اليومية، يتدخل فى القضايا السياسية والعقائدية والطائفية ويقوم بتعبئة الجمهور وتحريضه فى بعض الأحيان تحت مظلة الدفاع عن العقيدة الدينية وعن الإسلام إزاء خصومه وأعداءه، أو إزاء أيه إساءات توجه إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.

سلطة الداعية المسلم عموماً والسلفى خصوصاً تتنامى، وفى حالة صعود فى المجالين العام السياسى والخاص. ومن ثم بات يلعب دوراً فى إثارة بعض الأزمات الطائفية، أو التدخل للتهدئة فى بعض الأحيان، كما رأينا ذلك فى عديد التوترات والأزمات الطائفية بين المسلمين والمسيحيين منذ 25 يناير 2011 حتى أوائل شهر ديسمبر 2012.

إن استدعاء “,”السياسى“,” أو الأحرى “,”رجل السلطة“,” الفعلية – العسكريتارى – للداعية المسلم والسلفى على وجه الخصوص بعد الانتفاضة الثورية المصرية، هو تعبير عن تراجع سلطة السياسى نسبياً فى المرحلة الانتقالية “,”الثورية“,” – مجازاً – واضطراباتها وعدم استقرارها. تشير مرحلة “,”الشرعية البرلمانية“,” و“,”الدستورية“,” إلى تنامى دور وسلطة مشايخ السلفية كطرف فاعل سياسياً ودينياً فى مصر، وتعبيراً مكثفاً عن التداخلات بين الدين والدولة والأحزاب والسياسة والتشريع فى مصر.

لا شك أن تأسيس الأحزاب السياسية ودخول الانتخابات والبرلمان سوف يؤثر على بعض الفكر السلفى.



9- صحوة الطبقة الوسطى المدينية

الانتفاضة “,”الثورية“,” المصرية كانت تعبيراً عن نمو طلب سياسى واجتماعى على الحرية والكرامة الإنسانية لدى الطبقة الوسطى المدينية فى القاهرة، ومعها بعض الشرائح الاجتماعية الأخرى كالطبقة العاملة الصناعية فى مدينة السويس والمحلة الكبرى. يمكن القول أن تدافعات المراحل الانتقالية كشفت عن بدء صحوة وحيوية سياسية لدى الطبقة الوسطى التى شكلت تاريخياً القلب الاجتماعى لبناء الدولة الحديثة ومؤسساتها وإدارتها، وأيضاً الجماعات الثقافية والأكاديمية والتقنية من التكنوقراط، بالإضافة إلى بيروقراطية الدولة العتيدة فى مصر.

أن المصادمات بين بعض القوى الإسلامية، السياسية – الإخوان والسلفيين وغيرهم – مع بعض القوى شبه الليبرالية والقومية واليسارية تشير إلى تنامى صحوة الطبقة الوسطى لدى الأطراف المتنافسة والمتنازعة والمتصارعة – على تعدد هذه المستويات فى الفعل السياسى والاجتماعى-، وهو الأمر الذى سيساهم كثيراً فى تطوير الأطراف المختلفة، لاسيما بين الأجيال الجديدة الشابة للطبقة الوسطى أيا كانت انتماءاتهم الإيديولوجية والحزبية، وهو ما سيساهم فى المزيد من الجدل والصراع والاقتراب من دائرة التفاعلات والتخصيب المتبادل بين الأفكار بعضها بعضاً، خاصة أن ثمة نزعة براجماتية تبدو فى بعض ممارسات هذا الجيل الشاب لاسيما هؤلاء القادمين الجدد إلى الفعل على الساحة السياسية والتى تدور أعمارهم بين 14 إلى 18 سنة والذى مستهم السياسة والتظاهرات والاعتصامات ومواجهة صارمة وشجاعة لقوات الأمن، ومن ثم دخلوا السياسة سريعاً وأميل إلى القول أن الفتيان والفتيات من الطبقة الوسطى المدينية من 10 إلى 14 سنة، ستتنامى اهتماماتهم بالسياسة وسيدخلون ساحاتها خلال الفترة القادمة من خلال الجدل والصراع السياسى السائد سواء فى الواقع السياسى الفعلى أو الافتراضى / الرقمى، أو على التلفزات الفضائية.

ما الذى يعنيه هذا التوجه الجديد؟ يتعين القول بوضوح أن السياسة عادت إلى مصر، ولم تعد قصراً على نخبة بيروقراطية وعسكريتارية وتكنوقراطية شكلت سلطة وصائية على الأمة والمواطنين المصريين.

أن دخول المواطن العادى إلى ساحة الفعل والتفاعل السياسى ستحدث تغييرات وتحولات هامة على ما نتصور، وذلك على الرغم من الحجة السياسية الفاسدة التى تذهب إلى “,”أن الشعب المصرى وأغلبيته ليست مؤهلة للديمقراطية الكاملة“,”، وذلك لوجود عوائق بنيوية فى نمط الثقافة البطريركية، والبطريركية المحدثة والنمط الرعائى ومفاهيم الاجماع القسرى ذات السند التأويلى الدينى لدى بعضهم، وضعف الفردية وتعثر ميلاد الفرد .. إلخ، التى تحول دون توافر أسس سوسيو – ثقافية، وسوسيو – دينية تؤصل لتطور ديمقراطى متوازن وشامل. حجة كانت تمثل خطاب بعض النخبة التسلطية الحاكمة من العسكريتاريا والبيروقراطية والتكنوقراط ورجال الأعمال – طيلة تطور نظام يوليو 1952 -، وبعض أتباعهم من خبراء السياسة والقانون والمثقفين من الموالين للاستبداد وهى حجة وصائية تتحدث باسم الشعب المصرى، وتحتكر النطق باسمه، ولا تعبر عن مصالحه الحقيقية، وصادرت غالب حرياته العامة لاسيما السياسية.

أن عودة السياسة ودخول شرائح اجتماعية وجيلية شابة إلى ساحتها، سيؤدى على المدى البعيد إلى إيجاد هوامش بين الدينى والسياسى بين المقدس وتأويلاته وبين المدنس السياسى والاجتماعى الدنيوى من خلال التفاعلات الضارية وانعكاساتها على الأفكار والإدراكات الدينية والسلوك الاجتماعى والدينى.

إن دخول قوى اجتماعية وسياسية ودينية جديدة وقديمة إلى الساحة السياسية، سيؤدى إلى بعض التضاغطات والعنف والغلظة على المستويين القريب والمتوسط لكنه على المدى البعيد سوف يتم تهميش وتحجيم العنف ذو المحمولات الدينية والاجتماعية، والحد من تأثيره على العمليات السياسية وتفاعلاتها.

أن الصور الذهنية والنمطية المسبقة حول التيار الإسلامى السياسى – تأميم المقدس وتأويلاته فى العمل السياسى، وتكفير الغلاة لخصومهم السياسيين – لن تكون كما هى فى المدى البعيد على الرغم من استمرارية تغذيتها ببعض وقائع العنف أو التكفير أو اللغة الخشنة وعنف الخطاب الدينى لدى بعض الغلاة والمتزمتين من الدعاة والقادة الدينيين المتشددين. من هنا نتصور أن التفاعلات والمنافسات السياسية، ومواجهة صدمة الواقع الموضوعى ومشكلاته المقعدة سوف تؤدى إلى بعض التطوير فى الأفكار الإيديولوجية والتأويلية الإسلامية السياسية.

بعض الفكر السياسى الإسلامى سيتطور من خلال مواجهة عديد المشكلات والأزمات والإشكاليات التى ستتعدى بعض المفاهيم الفقهية القديمة.

سيكتشف بعضهم أن استعارات بعض الفقه القديم وأسئلته وإجاباته لم تعد كافية وربما غير ملائمة لمواجهة التغيرات الاجتماعية والسياسية وغيرها. ومن ثم تبدو الحاجة الموضوعية لاجتهادات خلاقة جديدة لتطوير الفكر والفقه الإسلامى وأدواته ومناهجه.

أن ما يدعو إلى هذه الوجهة من النظر أن مصر شهدت مجتمع شبه مفتوح فى عهدها شبه الليبرالى، والذى دارت حوله وداخله صراعات فكرية وسياسية ودينية ضارية مس بعضها بعض السائد فى الفقه الإسلامى، بل والتعليم الأزهرى الدينى. أدت المجتمع شبه المفتوح إلى طرح أسئلة جديدة وصادمة على العقل المسلم العالم Raison Islamique Savant فى الأزهر ودار العلوم، ومدرسة القضاء الشرعى، وأقسام الشريعة فى كلية الحقوق.

ثمة استجابات تمت للأسئلة والتحديات الفكرية والسياسية والاجتماعية الجديدة فى مصر، والعالم. من هنا خرج من الأزهر ودار العلوم والقضاء الشرعى العقول المصرية النابهة التى رادت ما سمى بالنهضة الفكرية أو المجددين فى الفكر المصرى والعربى الحديث والمعاصر.

لعب المجددين من الأزهريين والدرعميين – ورجال القضاء الشرعى – دوراً هاماً فى إثراء الحياة الفكرية والأدبية والتشريعية فى مصر، وفى تطوير نظام الأحوال الشخصية.

من هنا تبدو الحاجة إلى بعض التغيير فى الصور الذهنية السائدة عن الإسلاميين السياسيين وعن دعاتهم ومفكريهم وسياسييهم فى الأجل البعيد.



10- الإسلام السياسى وجدل الدولة والدين: السلفية والتجديد

أن مطالعة بعض التنظيرات الإسلامية السياسية حول نظرية الدولة والدستور الإسلامى، والديمقراطية وحقوق الإنسان تشير إلى أننا إزاء أسئلة وتنظير جديد، أو شبه ذلك أيا كان الرأى حوله، وذلك لعديد الأسباب يمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلى:

1-التغيرات السياسية الكبرى أدت إلى بروز تشكلات وعلاقات ودول ونظم تجاوزت فقه الأحكام السلطانية للماوردى وأبى يعلى الفراء والولايات الإسلامية ومفهوم الأمة الإسلامية الذى يتأسس على الرابطة الدينية، ومفهوم أهل الذمة الذى تأسس على معاملة غير المسلمين داخل دار الإسلام، بل ومفهوم قسمة العالم إلى دار للإسلام أو دار الحرب. أن التغير الكبير فى تركيبة الدول وأجهزتها ومؤسساتها وتطورها بات أكثر تعقيداً من المفاهيم الفقهية التى سادت فى مراحل تطور الدولة الإسلامية، والدول الإسلامية، على مدى عديد الحقب والعصور.

2- أن الدولة الأمة الحديثة والمعاصرة وتطوراتها الما بعدية، وتطور النظام الدولى المعولم، تشير إلى أن التنظيرات حول الدولة لدى بعض الفقه الإسلامى السياسى لم تعد ملاءمة لمواجهة التطورات الهيكلية فى الدولة ومؤسساتها بل والنظام الدولى. من هنا حاول بعضهم أن يعيد النظر على مستوى التفسير لبعض المفاهيم الفقهية التقليدية حول الدولة والعلاقات مع العالم.

هذا الاتجاه لا يزال يشكل أقلية محدودة، وكان من رواده بعض الأزهريين كالمشايخ الكبار خليفة المنياوى، وعبد المتعال الصعيدى، ومصطفى المراغى، وعبد الله دراز، ومحمود شلتوت، ومحمد المدنى .. إلخ. تراجع هذا الاتجاه فى ظل صعود الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية وتوظيفها لبعض المفاهيم الفقهية الجذرية التوجهات، وصعود الحركة السلفية وعديد مشايخها وتأثيرهم على السوق الدينى والسلع المعروضة داخله، إذا شئنا استعارة المصطلح السائد فى علم الاجتماع الفرنسى حول بيير بورديه.

3- أن بعض التنظيرات الإسلامية المعاصرة حول الدولة والدستور هى استعارات من المرجع التقليدى الفرنسى واللاتينى التقليدى لفقه القانون العام، ونظرية الدولة فى إطاره. من ثم نحن أمام إعادة إنتاج لنسق من المفاهيم والقواعد والمعايير والمصطلحات الغربية بامتياز حتى وأن تدثر بعضها بأقنعة اصطلاحية من النظام اللغوى والاصطلاحى الفقهى الإسلامى.

هذا التوجه لاستمداد بعض الأفكار الغربية حول الدولة والدستور – أن الكلمة الأخيرة ذاتها ليست سوى استعارة من اللغة الفارسية - هو تعبير إيجابى عن تفاعل العقل الفقهى والسياسى الإسلامى نسبياً مع تطورات العلوم السياسية والقانونية والاجتماعية الحديثة والمعاصرة فى مجال السياسة والدولة والفاعلين السياسيين والاجتماعيين والدينيين وشبكاتهم وتفاعلاتهم، والأطر الحاكمة للصراع والتنافس السياسى والاجتماعى، وحقوق المواطنين .. إلخ.

هذا التوجه المحمود لا يعنى أن التنظير السائد مكتمل، ولكنه لا يزال ينطوى على تخليط وتناقضات، ونزعة شكلانية ونصوصية فى التعامل مع الدولة / الأمة، والسياسة، والنظم السياسية والاجتماعية، والعلاقات الدولية .. إلخ. شكلانية تعود إلى الاستعارة من فقه القانون العام السائد فى كليات الحقوق، وفى بعض الدراسات الإسلامية الفقهية السائدة فى الأزهر، وغيره من مراكز التعليم الدينى فى مصر، وخارجها.

أن المقاربات الشكلانية للقانون والدستور والنظم بوصفهم منظومة نصوص، تحتاج إلى التفسير والتأويل لها، هى أحد أبرز أسباب الأزمة فى الخطاب القانونى الأكاديمى ودروسه فى كليات الحقوق والشريعة والقانون بالأزهر الشريف.

أن المنهج الشكلانى – الشرح على المتون - الذى يدور حول شرح النصوص والمتون والهوامش وهوامش الهوامش لم يعد ملائماً ولا كفوءاً فى الوصف أو التفكيك أو التحليل والتفسير وإعادة التركيب والبناء وتطوير المنظومات الدستورية والقانونية والإدارية، ولا فى تطوير الدرس الأكاديمى، أو الممارسات الدستورية أو القانونية أو السياسية أو الإدارية وسياساتها ونظم إنتاجها.

من هنا يبدو الجدل الشائع عن الدولة والدستور والهوية والإسلام والقانون يبدو كصراعات تجرى وتنعكس على صعيد المساجلات العنيفة – السياسية والدينية والفكرية – إلخ، والتى تحمل معها احتقاناتها وتوتراتها وحدتَّها. تنظيرات وآراء سياسية وفقهية تتسم حينا بالتقليدية والجمود، وحينا آخر بالبساطة والتجريدات المحمول بعضها على عدم المعرفة التاريخية بالتطورات فى النظم السياسية والاجتماعية والثقافية والمعرفية فى عالمنا الحديث والمعاصر، وطبيعة القطائع المعرفية التى شملت بعض نظم الأفكار السياسية والفلسفية والقانونية .. إلخ.

أن الوضعية السياسية والفكرية الحديثة وما بعدها فى أطر عالم متغير ومعولم، تطرح تحديات وأسئلة غير مألوفة وربما استثنائية ولم يألفها الفكر الإسلامى المصرى، بل وغالب الاتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى.



خاتمة:

أن نظرة على ملامح المشاهد السياسية المتحركة فيما بعد الانتفاضة الثورية المصرية سالفة السرد تشير إلى أن ثمة عديد التحديات الهيكلية التى تواجه الدولة وأجهزتها، والنخب السياسية الحاكمة والمعارضة، وأحزابها، والأهم بروز طلب سياسى على الحرية والكرامة والمساواة والعدالة من أجيال شابة جديدة تبدو مختلفة مع السائد من الموروث السياسى والدولتى والثقافى التسلطى الذى شكل عقول وخبرات وممارسات الأجيال الأكبر سناً التى تمثل استمرارية لظاهرة الشيخوخة السياسية والجيلية، والفكرية، وعدم قدرة بعضهم على الاستجابة للتطورات العاصفة فى التقنيات ولغاتها ووسائطها ومقارباتها، بل فى العلوم والتقنية .. إلخ، فجوات تبدو متسعة بين الأجيال، وبين الكبار والشباب، وبين الشباب وبعضهم بعضاً على نحو لا يمكن لنا وصفه بالاختلافات بين الأجيال الشابة من الناحية العمرية، ولكن تبدو الآن بعض الملامح الجديدة للتغاير فى الروئ وفى أساليب العمل وفى إدراك المفاهيم والروئ بين ذات الجيل ليس على أساس التعليم أو المكانة الاجتماعية، والدين والمذهب، وإنما على أساس عمرى لا يتجاوز عدد من السنوات لا تتجاوز الخمس.

هذا التغير نراه فى جيل معركة شارع محمد محمود وسيمون بوليفار والقصر العينى والمتظاهرين أمام قصر الاتحادية يوم 5 ديسمبر 2012. جيل من 14 إلى 18 إلى 20 عام مختلف عن الأجيال الأخرى.

من هنا نحن إزاء جيل يختلف عن الأجيال الأخرى الأكبر سناً، والأخطر أن بعض جيل شيوخ الحركة الإسلامية السلفية والإخوانية وغيرهم باتوا بعيدين عن تطلعات بعض الشباب والفتيان والفتيات من هذا الجيل. من ناحية أخرى ثمة فجوة إدراكية بين وضعية المرأة المصرية الشابة الآن وبين فقه وفكر بعض شيوخ الحركة الإسلامية والسلفية السياسية والفقه الأزهرى التقليدى. أن تنامى دور الفتيات والسيدات المصريات فى الحراك السياسى والانتفاضة الثورية، تشير إلى أن المرأة المصرية الشابة ستشكل تحدى للحركة الإسلامية ومن ثم ستفرض أسئلة وإشكاليات فقهية وواقعية جديدة تتطلب تطويراً فى بنية فقه المرأة عموماً والمسلمة على وجه الخصوص خلال المراحل القادمة.

نستطيع القول بإيجاز أن تحديات ما بعد الانتفاضة الثورية تنتظر الاستجابات الجديدة والخلاقة من الفكر الإسلامى السياسى والفقه الاجتماعى لواقع متغير ومعقد ومركب ومتشابك مصرياً وإقليمياً وعولمياً.

أن واقع الجمود والتأزم الفكرى يمثل الحالة السياسية المصرية على اختلاف أطيافها الإيديولوجية والسياسية، ومن ثم تبدو بعض السلفية السياسية بلا ضفاف. من ثم يبدو أن الصراع والحراك الجيلى الشبابى، والتفاعل مع الواقع الفعلى والرقمى، وما يحدث فى عالمنا المعولم سيؤثر على تشكيل خرائط الأفكار والفواعل السياسية والاجتماعية والدينية فى مصر فى الأجل البعيد.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟