المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

مصر تبحث عن هويتها: سؤال الهوية بعد الثورة

الأحد 29/ديسمبر/2013 - 01:11 م
د.عبدالعليم محمد
لا شك أن السؤال المتعلق بهوية مصر، الذي أعقب نجاح الثورة المصرية، ثورة 25 يناير العظيمة، ليس جديدا كما قد يتبادر إلى أذهان الكثيرين، وربما يكمن الجديد في طرح هذا السؤال في المناخ السياسي الذي أعقب الثورة المصرية والذي فتح الباب أمام تشكل نظام جديد ديمقراطي، يحترم حقوق المواطن والمساواة ودولة القانون ونبذ واستبعاد التسلط والإقصاء وحكم الفرد لصالح بناء مؤسسات ديمقراطية جديدة تدعم وتصون حق الانتخاب والاقتراع الحر دون تزوير أو تزييف لإرادة الناخبين؛ يضاف إلى ذلك أن الجديد في طرح هذا السؤال المتعلق بالهوية يرتبط بأن بدايات تشكل النظام الجديد في مصر قد أفضت إلى ظهور قوة الإسلام السياسي؛ المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين والحزب الذي قامت بتشكيله عقب الثورة وهو حزب الحرية والعدالة وكذلك التيار السلفي ممثلاً في حزب النور، وحصول هاتين الجماعتين وهذين الحزبين علي أغلبية مقاعد مجلسي الشعب والشورى في انتخابات تشريعية، شابها الكثير من الأخطاء والممارسات السيئة، لكن هذه الأخطاء وتلك الممارسات لم تمكن من إلحاق تهمة افتقاد الشرعية والنزاهة والتشكيك في نتائجها.

في تاريخ المجتمعات عامة، يرتبط ظهور سؤال الهوية بالتحديات التي تواجهها هذه المجتمعات، سواء كانت هذه التحديات خارجية أم داخلية، كما يرتبط أيضاً بمراحل التحول والانتقال التي يترتب عليها انقطاع في السياسات وتشكل أنظمة سياسية جديدة وبلورة اتجاهات وتوجهات سياسية مغايرة، تمثل انقطاعاً بدرجة ما مع ما سبقها من توجهات واستلهاما لبعض التوجهات القديمة في ضوء ظروف ومعطيات مختلفة.

هوية مصر .. جدل تاريخي

وسؤال الهوية في مصر لا يشذ عن هذه القاعدة، فهو أثير –ويثار- في في مرحلة صعود وتبلور الناصرية بعد ثورة 23 يوليو 1952، وتصدر الهوية القومية العربية المشهد السياسي ليس فحسب في مصر وحدها، بل في العالم العربي أجمع، وقد مثل ذلك انقطاعا بدرجة ما واختلافا بدرجة أكبر مع التوجهات التي سبقت قيام حركة الضباط الأحرار بانقلابهم الذى تحول لثورة فيما بعد، عبر تدعيم وبلورة المضمون الاجتماعي والاقتصادي لتوجهات ثورة يوليو، والتقدم صوب الاستقلال عن الغرب ودعم التوجه الوحدوي والقومي العربي.

سبق قيام ثورة يوليو بعدد من السنين الجدل الذي أثاره الراحل الدكتور طه حسين في كتابه “,”حول مستقبل الثقافة في مصر“,”، في عشرينيات القرن العشرين، والذي انتهى فيه إلى أن مصر بتاريخها وجغرافيتها وثقافتها أقرب إلى الثقافة المتوسطية، أي ثقافة حوض المتوسط، استنادا إلى التبادل الثقافي والتاريخي بين ضفتي المتوسط، وبصفة خاصة تأثير عقائد المصريين القدماء في اليونان وتأثير الفلسفة اليونانية في مصر وغيرها من دول حوض البحر المتوسط.

لقد غلّبت ثورة يوليو البعد العربي لمصر في تكوين وبلورة هوية مصر، استنادا إلى تلك العوامل التاريخية والجغرافية والثقافية واللغوية، التى تربط بين مصر والعالم العربى، فضلا عن التجربة التاريخية المشتركة لمصر والعالم العربي مع الاستعمار الغربي الأوروبي وإسرائيل.

وبالمثل أثير ذات السؤال المتعلق بهوية مصر بعد رحيل عبدالناصر وقبله نكسة عام 1967، التي اعتبرت آنذاك هزيمة للمشروع الناصرى وتوجهاته القومية والوحدوية، بعد النكسة بصفة خاصة ظهر علي الساحات الفكرية والسياسية محاولات عديدة لتفسير كيف ولماذا حدثت النكسة؟ وتنوعت الرؤى التى عالجت هذا الموضوع، بين قائل بأن الدولة القومية لم تحترم المواطن وحقه فى المشاركة ومن ثم فإنه لم يكن بمقدورنا الانتصار دون مواطن مسؤول ومشارك لا يكتفى فحسب بدور المتلقى والمستقبل، وأننا بالغنا فى تقدير قوتنا وهونَّا من قوة الخصم ولم نمتلك رؤية استراتيجية وعقلانية وموضوعية للمواجهة، ولذلك لم يكتب لنا الانتصار، وبين آخرين، وهم كثر، فسروا النكسة تفسيرا دينيا على أساس أن الدولة القومية والأيديولوجية العلمانية التى حكمت بها استبعدت الدين من المجال العام، وابتعدت عن الله وخاصمت الإسلام، وكان من الطبيعي أن تنتهي تلك النظم إلى ما انتهت إليه، وأن الطريق إلى تجنب حدوث ذلك هو بعث الإيمان والعودة إلى الدين والأصول.

وربما رأت النظم السياسية الحاكمة آنذاك أنه لا بأس فى شيوع وانتشار تلك الرؤية الدينية لتفسير النكسة؛ باعتبار أنها تخفف من مسؤوليتها أمام هذا الحدث الجليل والخطر، أى النكسة وأن تلك الرؤية تفيد فى استمرار هذه النظم واستمرار حكمها، وذلك نظرا لأن هذه الرؤية قد تغًّيب الأسباب الحقيقية للنكسة وتمنحها طابعا يعلو بها فوق النقد والمساءلة، ويهدر المسؤولية عن وقوع النكسة ويبرئ ساحة المسؤولين عنها من تحمل تبعاتها.

وبصعود الرئيس الراحل أنور السادات فى مناخ ما بعد النكسة أفرد ركنا كبيرا من خطابه ومن ممارساته للدين والإيمان، ومع تبلور توجهات نظامه السياسية والاقتصادية والتى وضح للكثيرين أنها تمثل انقطاعا مع توجهات نظام عبدالناصر، لجأ السادات للقوى الإسلامية طلبا لعونهم فى مواجهة القوى الناصرية والوطنية واليسارية بالذات في الجامعات والصحافة والإعلام.

ومع استقرار الحكم للسادات وتخلصه من معاوني ومؤيدي عبدالناصر بالطريقة المعروفة توجه إلى قضية السلام مع إسرائيل بعد حرب أكتوبر عام 1973، وتمكن من عقد اتفاقيات فض الاشتباك الأولى والثانية 1974، 1975 وبعد ذلك بعامين أعلن أنه على استعداد للذهاب إلى أقصى مكان في الأرض أو إلى القدس من أجل السلام، وقام بما أسمى آنذاك بزيارة القدس في نوفمبر 1977، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، ثم معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية عام 1979.

وبدت تلك الخطوات كما لو كانت انقلابا على سياسة عبدالناصر العربية خاصة وأن هذه الخطوات قد ارتكزت على مقولات وفرضيات تقلص إنتماء مصر العربى وتركز على أولوية المصالح الوطنية المصرية وتنتقد وتشكك في الدور العربي لمصر.

صاحب هذه السياسة العودة الثقافية والفكرية مجددا لهوية مصر وما إذا كانت عربية أم متوسطية أم فرعونية وتطرق هذا النقاش الكبير إلى موقع سياسات السادات من انتماءات مصر وهويتها، تطرق البعض لتأكيد هوية مصر العربية، كا أكد البعض الآخر تعدد انتماءات وطبقات الهوية المصرية، وغلبة بعض أوجه هذا الانتماء فى مراحل معينة على حساب الأوجه الأخرى وفقا للسياسات والتوجهات العليا للحكم.

أما على الصعيد الخارجى فقد أفضى انهيار جدار برلين وانهيار القطبية الثنائية فى نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات، وتفكك الهويات والكيانات الكبرى مثل الاتحاد السوفيتي السابق والاتحاد اليوغوسلافي، إلى دول مختلفة وقوميات وعرقيات مختلفة على ضوء التمايز الديني والثقافي والعرقي، أفضى ذلك إلى الظهور المتجدد لقضية الهوية والانتماء، وقد عزز من ذلك ظهور العولمة استنادا إلى ثورة الاتصالات والبث المباشر وثورة المعلومات، وقد انطوت العولمة فى جانب منها بالبحث عن الخصوصيات والهويات الوطنية والمحلية لجماعات بشرية وقومية ودينية تخشي فقدان هوياتها لصالح هويات أخرى، وتخشى ذوبان ثقافاتها في ثقافات أخرى وافدة؛ خاصة وأن العولمة كظاهرة ارتبط وجودها بالغرب وبدت أحادية طاغية لا تعبأ بهويات وثقافات الآخرين وأظهرت وفق أنصار مناهضيها من الجماعات وأنصار حقوق الإنسان والفقراء والتنوع وجها لا إنسانيا متوحشا، يرفض التنوع والتعدد ويمارس نوعا من القسر والإكراه، والخضوع بسبب وجود مصالح كبرى اقتصادية عابرة للحدود والقارات تتمركز في البلدان التي أفضى تطورها الاقتصادي والعلمي والسياسي والثقافي إلى إنتاج العولمة. والحال أن الهوية أو الهويات المختلفة معنية بما تحمله العولمة من مخاطر إذا ما كانت العولمة تستهدف توحيد الثقافة وتنميط الحياة ولا تقيم وزنا واعتبارا للتنوع الإنسانى والبشرى والمساواة بين الثقافات كما يذهب إلى ذلك مناهضو العولمة عبر العالم.

سؤال الهوية في مصر بعد ثورة 25 يناير:

لا تكون الثورة ممكنة فى أى مجتمع، إلا إذا توافرت بعض الشروط، على رأسها وفى مقدمتها تغير ثقافى يمهد للثورة ويتلخص مضمونة فى نقد القيم السائدة التى روج لها النظام القائم والتى تبرر استمراره وإعادة إنتاجه مجددا؛ كالخضوع والاستسلام والرضا بما حكمت به المقادير، واعتبار الأمر الواقع معطي طبيعي وأحد سنن الحياة، وليس معطى اجتماعى يمكن تفسيره والثورة عليه، أما الشرط الآخر فيتمثل فى وجود “,”حالة ثورية“,” تسمح بالتمرد والثورة على النظام القديم، وهذه الحالة الثورية لا توجد هكذا فجأة أو مرة واحدة، بل هى صيرورة تجمع التراكمات والإحباطات والاحتجاجات الجزئية والكلية وتمهد إلى الثورة على النظام القديم.

بيد أن الثورة وإن كانت بحاجة لتفسير ثقافي قيمي يمهد لها الطريق؛ عبر نقد القيم السائدة وفتح الطريق لقيم جديدة تواكب الثورة وتمهد لها، فإنه بوقوع الثورة يتدعم موقف هذه القيم الجديدة، وتتجذر أكثر من ذى قبل، ويستبطنها الثوار والمواطنون على حد سواء لتحقيق أهداف الثورة ومواجهة بقايا النظام القديم.

تفضي الثورة إلى تغيير ثقافى قيمى ينتقل تدريجيا من الفئات والشرائح المتقدمة والمدنية التى شاركت وبادرت بالفعل الثورى، إلى بقية شرائح المجتمع وطبقاته، بيد أن هذا التفسير يقتصر على إحدى طبقات الوعي السياسي أو الثقافة السياسية السائدة والتى كرسها النظام القديم، والتي تأخذ في التغير تدريجيا وفق وتيرة وعمق العمل الثورى ودرجة نجاح الثورة فى تغيير النظام القديم والثقافة التى تسوغه.

ومع ذلك فإن الهوية بمعناها الشامل والعميق والمركب تبدو أكثر رسوخا وتجذرا فى الوعى والوجدان والسلوك، وأبعد غورا من نمط الثقافة السياسية السائدة وقيمها؛ فالهوية ذات عمق تاريخى مركب رافق الجماعة المصرية عبر مراحل تطورها المختلفة، ومن ثم فإن الثورة وأهدافها قد لا تبدو معنية بالهوية بقدر ما هى معنية بتغيير النظام القائم وتحقيق الأهداف المعلنة من قبل الثوار والشعب، غير أن ذلك لا يعنى بالضرورة أن الثورة لا تؤثر في الهوية بل يعني أن ثمة تأثير للثورات فى عناصر معينة من الهوية كتأكيد الذات الجماعية والثقة الفردية والجماعية فى الذات، وإضافة معالم جديدة لصورة الجماعة عن ذاتها وصورتها لدى الآخرين.

أعقب نجاح الثورة المصرية ظهور الإسلام السياسى بصوره وجماعاته المختلفة “,”الإخوان المسلمون“,” و“,”السلفيون“,” و“,”الجماعة الإسلامية“,”، وغيرها كأكبر قوة مؤثرة فى مجرى الأحداث والتداعيات بعد الثورة، سواء من زاوية القدرة التنظيمية والحزبية والقدرة على الحشد والتعبئة والانضباط التنظيمى والاصطفاف خلف القيادة الدينية والسياسية، وكسبت هذه القوى معركة الانتخابات أولا قبل وضع الدستور فى استفتاء 19 مارس 2011، وبعدها بعدة شهور دخلت الانتخابات البرلمانية بجولاتها المختلفة لمجلسى الشعب والشورى وحصلت على أغلبية غير مسبوقة، وبعد ذلك حصلت فى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، مرشح حزب الحرية والعدالة وهو الذراع السياسية لجماعة الإخوان على رأس الفائزين المرشحين لجولة الإعادة فى هذه الانتخابات.

وما أن ظهر تيار الإسلام السياسى حتى أعيد طرح السؤال مجددا حول هوية مصر، وحمل خطاب الإسلام السياسى طابعا هوياتيا واضحا؛ إذ أكد على ضرورة استعادة مصر لهويتها الإسلامية، واستعادة طابع الدولة الإسلامى واكتسب الاحتكام للشريعة والحكم بالشريعة طابعا مغايرا وكليا، فلم يعد يقنع أصحاب هذا التيار بالحكم وفق مبادئ الشريعة أو اعتبار مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، بل استبدل ذلك بالشريعة والحكم وفق أحكامها وليس مقاصدها ومبادئها.

وقد عول هذا الخطاب الجديد للهوية المصرية - الإسلامية على بعض العناصر الأساسية المترابطة في خطاب الهوية فمصر في هذا الخطاب دولة إسلامية وهى جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية، وهذه الأخيرة تحظي بفرادة لا تتوفر لغيرها من الأمم، فهى أمة فريدة فى تاريخها وحضارتها وأصولها، وسلامة هذه الأمة فى العودة لأصولها وسيرتها الأولى وماضيها الإسلامى الفريد، فالأمة الإسلامية فى هذا الخطاب فقدت مكانتها ودورها وريادتها بتخليها عن الأصول وجريها وراء المستحدث والحداثة والتحديث، والعلاج يتمثل فى مجرد العودة للماضى وتاريخ السلف الصالح وتطبيق الشريعة والحكم بما أنزل الله.

أما العنصر الثاني في هذا الخطاب فيتركز حول الآخر أو الغير؛ ذلك أن الهوية أية هوية تتحدد فى مواجهة الآخر والغير “,”الهو“,” لتأكيد الذات والأنا، فالآخر فى هذا الخطاب يضمر الشر للأمة الإسلامية ويحيك المؤامرات ضدها، ويريد تدميرها وانتزاعها من جذورها، بمفاسده الوافدة وحداثته غير الأخلاقية، كما فعل إبان العهد الاستعماري، وكما يفعل الآن عبر العولمة وأدوات السيطرة المالية والاقتصادية والسياسية.

وفى مواجهة الآخر المختلف “,”الغرب“,” ينبغى التحوط والحذر والعودة إلى التراث والسلف والماضى وتبنى انماط للحياة مستمدة من ثقافتنا وذاتنا وتراعى خصوصيتنا وتميزنا واختلافنا، ففي هذه الخصوصية وهذا التمايز تكمن الذات الحضارية للأمة.

أما العنصر الثالث في هذا الخطاب المتعلق بالهوية الإسلامية لمصر فهو الخصوصية التاريخية لمصر والأمة الإسلامية، فتاريخنا يختلف عن تاريخهم وحضارتنا تختلف عن حضارته فالحضارة الإسلامية انتجت الفكر والعلم الذى استفادت منه أوروبا فى نهضتها الحديثة، ولم تعرف الحضارة الإسلامية الاستعمار والعنصرية، في حين أن حضارة الغرب انتجت الظاهرة الاستعمارية والظاهرة العنصرية، ومن ثم وجب على مصر والمسلمين والعرب مراعاة هذه الخصوصية والمحافظة عليها، والحيلولة دون تذويبها وذوبانها في الكلية الحضارية الغربية، وإبقائها على مصادر خصوصيتها وتميزها.

ونحن لن نقدم على تعريف الهوية ولن نغامر بإعادة تعريفها ونكتفي بما قاله الفيلسوف والحكيم اليوناني القديم والشهير سقراط “,”أعرف نفسك بنفسك“,”، وذلك لسببين: أولهما، أن المفاهيم والتعريفات في العلوم الإنسانية والاجتماعية ليست قاطعة أو جامعة مانعة بل هي نسبية وتختلف باختلاف الأطر الفكرية والنظرية التي تتصدى لهذه المهمة، أما السبب الثاني فهو أن مبحث الهوية مبحث معقد ومتشعب ذو طبيعة نفسية وفلسفية مركبة. وإذا ما نظرنا إلى الهوية في ارتباطها بالثقافة والتاريخ فإن الهوية الوطنية تُبني ويُعاد بناؤها وتُعرف ويُعاد تعريفها وتفسيرها عبر التجليات الظاهرية والمضمرة التي تتناقلها الأجيال عبر العصور وتحمل هذه التجليات التقاليد الثقافية والصورة الذاتية عن الجماعة، وصورة الآخرين لديها من خلال ما يمكن تسميته “,”بالشفرة“,”، التي يفهمها الناس ويتناقلونها في إطار الجماعة القومية.

ومع ذلك فإنه يمكن القول أن الهوية هي ما يميز شخصا عن آخر إذا ما تحدثنا عن الهوية الفردية، وأنها ما يميز جماعة عن أخري إذا ما تحدثنا عن الهوية الجماعية، وثمة من الدلائل والاستدلالات التي تؤكد أنه لا يوجد شخصان متطابقان تمام التطابق حتى لو تم ذلك عن طريق الاستنساخ، وربما أمكن القول بناءًا على ذلك وقياسا عليه، إن لا تتطابق جماعة مع أخرى تمام الانطباق؛ حيث أن كل جماعة ستختلف في كثيرا من معالمها وخصائصها عن الجماعة الأخرى، حتى لو انتمت هاتان الجماعتان لديانة واحدة أو اشتركت كلاهما مع الأخرى في العديد من القواسم المشتركة.

ومن المؤكد أن هوية مصر عميقة بعمق تاريخها ومركبة بحكم هذا التاريخ ذاته الذي يضرب بجذوره في أعماق الضمير الإنساني وفجر التاريخ، وكثيرة هي الطبقات التي تدخل تلافيف وتراكيب هذه الهوية بالمعنى التاريخي والثقافي فمصر فرعونية وإغريقية ورومانية وقبطية وإسلامية ومتوسطية، وهوية مصر هي كل ذلك مجتمعا في نسيج واحد، في سبيكة حضارية متماسكة ومتآلفة وغير متنافرة وتكن مصر وضميرها وروحها تقديرا كبيرا، لتلك الوجوه المختلفة والمتشعبة في آن معا، بيد أن القول بذلك لا يعنى بالضرورة أن كافة هذه المكونات حاضرة وبنفس القوة في هوية مصر، ولكنها حاضرة بدرجات متفاوتة وبرز فيها على وجه خاص وبحكم الحاضر وجهها الإسلامي والقبطي بينما تبقى بقية الوجوه المختلفة حاضرة في عمق التاريخ المصري، وفى خلفية الهوية المصرية حتى لو كانت بعض هذه الوجوه ذات حضور متحفي أو فولكلوري ولكنها ليست غائبة في عمق الوعي وتركيب الإنسان المصري وسلوكياته وتقاليده وبعض طقوس الحياة.

وبناءاً على ما تقدم فإن خطاب الهوية الجديد يقع فى تناقض، ففى الوقت الذى يؤكد على هوية مصر - الإسلامية بحكم حاضرها وحضورها الإسلامى، فإنه يضع ذلك في منظور استعادة الماضي الإسلامي والدولة الإسلامية والحكم بالشريعة الإسلامية التى وحدت وطبقت فى ظروف تاريخية مختلفة عن الواقع الذي تعيشه كافة المجتمعات اليوم.

ومن ناحية أخرى فإن خطاب الهوية الجديد يختزل هوية مصر فى أحد طبقاتها وهى الإسلام حتى ولو كان أبرز أوجه الهوية وأكثر عناصرها حضورا، فالهوية المصرية لها جذور فى التاريخ لا يمكن إهمالها حتى ولو لم تكن حاضرة بشكل ملموس فى الواقع المنظور، وينزع هذا الخطاب عن الهوية المصرية طابعها التركيبى المعقد، بل ويجردها من عمقها التاريخي والحضاري.

ومع ذلك فإن خطاب الهوية الجديد الذي ينزع نحو الذهاب في الماضي والبحث عن المثال فى السلف والدولة الدينية يبحث عن التماهي مع الماضي والأصول، ويعتبر أنه لا يزال ممكنا العودة لتلك الأصول الأولى والتى بقيت فى نظر هذا الخطاب كما هى لم تتأثر، ولم تتغير بتغير الزمان والأحوال، وتبدلهما، ويكفى فقط من وجهة نظر أصحاب هذا الخطاب الكشف عن هذه الأصول وإزالة الصدأ عنها ونفض الأتربة التى علقت بها.

وهذا وهم كبير فلم تعد الأصول كما كانت عليه، حيث دخلت ومنذ زمن طويل هو عمر الحداثة والحضارة الغربية فى جدل طويل كرها واختيارا، تأويلا وتغييرا، كما دخل معها العرب والمسلمون ذات الجدل، وعندما ننظر الآن لهذه الأصول فإننا ننظر لها من منظور جديد شكلته معارفنا الحديثة “,”الغربية“,” وليس بمقدورنا أن نعزل الغرب ومعارفه عن محاولتنا معرفة هذه الأصول والعودة إليها، فقد تغير كل شئ، ولم يعد الغرب “,”خارجنا“,” بل “,”داخلنا“,” في: مأكلنا وملبسنا وحداثتنا ولغاتنا وثقافتنا، وهكذا فالبحث عن الأصول هو استعادة لوهم الأصالة والهوية اللذان لم يتعرضا للتغير.

وإذا كان خطاب الهوية الجديد يعتمد على المكون الديني الإسلامي في الهوية المصرية، فإن هذا المكون الدينى قد لازم المصريين منذ أقدم العصور وكانت أنظار المصريين متعلقة بالسماء وبالآخرة منذ القدم؛ بمعنى أن هذا الكون لم ينشأ ويتشكل مع دخول الإسلام مصر بل أضاف الإسلام مكونا آخر وطبقة أخرى في الوعي الديني الكوني للمصريين، وبمرور القرون اكتسب الإسلام أهميته فى الهوية المصرية، كأن الدين فى نظر المصريين عبر العصور أداة لمكافحة الظلم ورفع المظالم عن كاهل المظلومين، كان أداه لتكافل والتراحم والتضامن ونزع المصريون نحو التدين الوسطى المعتدل غير المتشدد مذهبيا، ورفض المصريون التطرف الدينى بكافة أشكاله لأنه يتناقض مع التعايش المشترك والتسامح الذى اكتسبته مصر عبر تاريخها.

وهكذا فإن سؤال الهوية بعد الثورة المصرية وبعد الثورات العربية أمامه طريقان يمكن من خلالهما تلمس عناصر الإجابة، الأول منهما أن يكون مشروع الهوية منفتحا على المستقبل والحضارة الحديثة والعلم وتطبيقاته ومن ثم يصبح مشروعا متجددا قادرا على التأقلم والتكيف والتطور مع العالم الحديث ومنجزاته، أما الطريق الثانى فهو طريق الهوية المغلقة على ذاتها والتي تقاوم التبدل المحيط بها، وتتجاهله بدعوى الحفاظ على مكونات الهوية الذاتية المتسامية فوق التاريخ والمتعالية على الزمان، وهذا الطريق محفوف بالمخاطر ويتناقض مع تاريخ مصر الذى تميز بالانفتاح والجدل والاقتباس والحوار والتعايش المشترك مع العالم والحضارات الأخرى.

مصادر:

للمزيد حول هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى:

1- أمين معلوف: الهويات القاتلة، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولي، 2004.

2- عزيز العظمة: الأصالة أو سياسة الهروب من الواقع، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولي، 1992.

3- محمد أركون: العلمنة والدين، دار الساقي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1996.

4- عبدالعليم محمد: العولمة والهوية، ورقة غير منشورة، 1999.

5- سعيد بن سعيد العلوى: الهوية العربية بين الانغلاق والانفتاح، جريدة الشرق الأوسط، 17 مايو 2012.

6- تصريحات متباينة حول الهوية لبعض السياسيين والناشطين الإسلاميين منشورة بالصحف المصرية.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟