المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

زيارة تحويلية: استعادة التفاهمات المصرية الفرنسية

الثلاثاء 02/ديسمبر/2014 - 10:59 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. عبد العليم محمد

يتمثل البعد الرئيسي من زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي لفرنسا في المحدد السياسي، خاصة بعد فترة من الفتور في العلاقات الثنائية بعد 30 يونيو، إذ تعد باريس إحدى القوى الأوروبية المؤثرة على الصعيد الدولي بما يمنح القاهرة هامشا أوسع للحركة، فضلا عن تدعيم مسار العلاقات الثنائية ويقع البعد الاقتصادي في القلب منها، وإحداث تفاهم في الملفات الإقليمية وبصفة رئيسية مكافحة الإرهاب ومنع تدفق التمويل للجماعات الراديكالية الليبية والحل السلمي للمسألة السورية وتدعيم مشروعات الأورومتوسطي.

حدد الجنرال ديجول سياسة فرنسا الخارجية على ضوء مبادئ أساسية أولها التوجه الاستقلالى إزاء القطبين الكبيرين آنذاك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى

أولا- مواريث تاريخية

لم تكن علاقات مصر بفرنسا جيدة طوال المراحل التاريخية. فمع استقلال مصر وتحررها وتأميم قناة السويس، دخلت العلاقات المصرية الفرنسية فى أسوأ مراحلها، حيث دخلت فرنسا التى كان يحكمها فى ذلك التاريخ الاشتراكيون بزعامة جى موليه وهو الفرع الفرنسى للأممية العمالية والموالون أكثر للصهيونية وإسرائيل فى تواطؤ وتحالف مع المملكة المتحدة البريطانية وإسرائيل للتصدى لهذا القرار عبر العدوان على مصر والذى انتهى إلى ضغوط دولية مورست على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل من قبل الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الأمريكية أفضت إلى الانسحاب والفشل.

كان العدوان على مصر فى جانب من دوافعه رداً على دعم مصر لجبهة التحرير الجزائرية وحركات التحرر الوطنى عامة، وقد استدعى التورط الفرنسى فى الجزائر عودة الجنرال ديجول وتأسيسه لما يعرف فى التاريخ السياسى الفرنسى بالجمهورية الخامسة والتى اضطلع فيها الرئيس “الجنرال ديجول” بصلاحيات الدفاع والأمن والسياسة الخارجية وتمكن من إنهاء المسألة الجزائرية من خلال عقد اتفاقية ايفيان.

ثانيا- توجهات أيديولوجية

وقد حدد الجنرال ديجول إبان هذه الفترة سياسة فرنسا الخارجية على ضوء مبادئ أساسية أولها التوجه الاستقلالى لفرنسا إزاء القطبين الكبيرين آنذاك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى، وكان مضمون تطبيق هذا المبدأ فى السياسة الخارجية استقلالية القرار الفرنسى عن الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الأطلسى، أما ثانيهما فإن فرنسا ينبغى أن تشكل قوة عالمية لها مواقفها المتميزة فى الساحة الدولية والتى تأخذ فى الاعتبار مصالحها فى العالم، وثالث هذه المبادئ تعزيز قوة الردع الفرنسية من خلال امتلاك فرنسا قوة نووية ودخولها النادى الذرى وتعزيز توجهها الأوروبى بالمفهوم الديجولى، أى أوروبا الممتدة من جبال الأورال إلى المحيط الأطلسى.

وانعكست محصلة التوجهات الديجولية فى سياسة فرنسا الخارجية بشكل عام وسياستها العربية بشكل خاص، وأصبح لفرنسا منذ ذلك التاريخ ما يعرف بالسياسة العربية تتحدد على ضوئها مصالح فرنسا فى العالم العربى التاريخية والثقافية والاقتصادية والنفطية، وتحدد مواقفها إزاء القضايا العربية، وأظهرت فرنسا الديجولية تعاطفا مع توجهات الزعيم الراحل عبد الناصر. ولا شك أن هذا التغير فى السياسة الخارجية لفرنسا بشكل عام والسياسة العربية لها بوجه خاص، المتعلق بموقف فرنسا عموماً من التكتلات الدولية وقضية الشرق الأوسط والتوازن الذى أحدثته هذه السياسة فى المواقف الفرنسية من الصراع العربى الإسرائيلى وحقوق الشعب الفلسطينى، وإن تمت من المنظور الديجولى فى حقبة رئاسته، إلا أنها استمرت بدرجة أو بأخرى فى عهود من خلفوه، سواء كانوا ينتمون إلى اليمين أو الوسط أو اليسار، مع بعض المواءمات التى تتوافق مع المعطيات والمستجدات على الساحة الدولية والإقليمية.

تأتى زيارة الرئيس السيسى لفرنسا، لتفتح صفحة جديدة فى تطور هذه العلاقات، بعيداً عن الجمود والفتور الذى أصاب هذه العلاقات بعد الثلاثين من يونيو

ثالثا- اعتراف بروتوكولي

فى ضوء الخلفية التاريخية للعلاقات المصرية الفرنسية باستمرارها وانقطاعها وتغيرها، تأتى زيارة الرئيس السيسى لفرنسا، لتفتح صفحة جديدة فى تطور هذه العلاقات، بعيداً عن الجمود والفتور الذى أصاب هذه العلاقات بعد الثلاثين من يونيو، حيث كانت فرنسا كعديد من دول الاتحاد الأوروبى تتحفظ على النظام الذى أعقب هذا التاريخ، وقد بدا ذلك واضحاً فى حفل تنصيب الرئيس السيسى عقب انتخابه بأغلبية ساحقة فى الانتخابات الرئاسية التى جرت فى مصر، واكتفت فرنسا بتفويض السفير الفرنسى فى القاهرة لحضور هذا الاحتفال، وهو ما اعتبره بعض الكتاب الفرنسيين “اعترفاً بروتوكولياً” بالنظام الجديد.

رابعا- منظور جديد

استندت زيارة الرئيس السيسى إلى فرنسا إلى منظور جديد للسياسة الخارجية المصرية والعلاقات الدولية لمصر بعد انهيار النظام السابق للخامس والعشرين من يناير عام 2011، ارتكز هذا المنظور إلى ضرورة إعادة النظر فى علاقات مصر بالخارج وعدم اقتصار هذه العلاقات على الولايات المتحدة الأمريكية والتطلع إلى بناء علاقات مع قوى دولية مختلفة شرقاً وغرباً، وفى الوقت نفسه فإن هذا المنظور الجديد لعلاقات مصر الدولية يرى أن علاقات مصر الدولية لا يمكن لها أن تستمر بعد الخامس والعشرين من يناير على ما كانت عليه بل لابد من إعطاء دفعة جديدة للدبلوماسية المصرية خاصة أن المشكلات التى تواجهها مصر بعد موجتى الثورة إن على الصعيد الاقتصادى أو الثقافى والتنموى والاجتماعى بحاجة إلى إسهام دولى فعال وغير مشروط يمكن مصر من الدخول فى مرحلة الانطلاق.

ولا شك أن اختيار فرنسا ضمن هذه الجولة الأوروبية للرئيس يرتكز على تقدير أهمية العلاقات بين مصر وفرنسا من ناحية أخرى فإن هذا الاختيار يرتكز على مكانة وأهمية فرنسا إن فى أوروبا بصفة خاصة أو فى العالم بصفة عامة، ففرنسا دولة تحظى بمقعد دائم فى مجلس الأمن وهى أيضاً عضو مجموعة العشرين من الدول الصناعية المتقدمة، كما أنها فضلاً عن ذلك دولة أوروبية مهمة فى الاتحاد الأوروبى وستتولى رئاسة هذا الاتحاد فى الدورة المقبلة، ولعبت دوراً – ولا تزال- فى إنشاء وتأسيس الاتحاد الأوروبى ودعم التوجه الوحدوى للقارة الأوروبية، وتمثل هذه الزيارة دفعة قوية للعلاقات بين مصر وفرنسا واستثمار نفوذ فرنسا الدولى والأوروبى لصالح مساعدة مصر وتجاوزها للوضعية التى توارثتها بعد انهيار النظام السابق وإنهاء حكم الإخوان.

استقبل الرئيس المصرى فى باريس استقبلاً حافلاً واستثنائياً حيث حظى السيسى باستقبال عسكرى فى ساحة “الشهداء” بالعاصمة الفرنسية لا يحظى به سوى القادة المهمين والزعماء ذوى المكانة وهذه رسالة إلى الشعب المصرى بأن فرنسا تقدر اختياره وثقته فى الرئيس الذى اختاره، وإذا كانت هذه الزيارة تستند وتستلهم تلك التقاليد الرسمية فى العلاقات بين رؤساء فرنسا ورؤساء مصر، حيث كان عبد الناصر يكن قدراً كبيراً من الاحترام لديجول وكان السادات صديقاً لفاليرى جيسكار ديستان وكان حسنى مبارك صديقاً لجاك شيراك وفرانسوا ميتران، ومع ذلك فإن هذه الزيارة للرئيس السيسى لفرنسا فاقت تلك التقاليد وتجاوزتها إن من حيث الشكل والاستقبال أو من حيث المضمون والنتائج التى أسفرت عنها.

رحب المسئولون الفرنسيون باستمرار مصر فى تنفيذ خريطة الطريق التى طرحها الجيش واستمرار العملية الانتقالية السياسية بحيث تضم هذه العملية جميع الأطراف

خامسا- ملفات مشتركة

عالجت المباحثات بين الرئيسين معظم وأغلب القضايا ذات الاهتمام المشترك لمصر وفرنسا على الصعيد الإقليمى والدولى والعربى والشرق الأوسط، فضلاً بطبيعة الحال عن البعد المتعلق بالعلاقات الثنائية بين البلدين، رحب المسئولون الفرنسيون باستمرار مصر فى تنفيذ خريطة الطريق التى طرحها الجيش واستمرار العملية الانتقالية السياسية بحيث تضم هذه العملية جميع الأطراف وأقرت فرنسا بتعرض مصر للإرهاب مثلها مثل الكثير من الدول واتفق الطرفان على محاربة الإرهاب فى العراق وفى سوريا وليبيا، أكد الجانبان المصرى والفرنسى دعم العملية السياسية فى العراق وضرورة حل الأزمة السورية حلا سياسياً، ودعماً حق الليبيين فى اختيار مؤسساتهم وممثليهم دون تدخل خارجى، وهذا الأمر المتعلق بليبيا يهم فرنسا ومصر، الأولى باعتبارها دولة متوسطية مهتمة بأمن المتوسط ومحاربة الهجرة غير الشرعية ومصر باعتبارها دولة جارة لليبيا ولها حدود طويلة معها يمكن للعنف والتطرف والإرهاب أن ينفذ منها ويتسلل إلى مصر.

أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربى الإسرائيلى، فقد تصدر بحث هذه القضية مباحثات الزعيمين وأبدى الجانبان المصرى والفرنسى تقارباً كبيراً فى ضرورة التمسك بحل الدولتين واستئناف المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين وأبدى الجانب الفرنسى خاصة تقديره لدور مصر فى التوسط لدى الإسرائيليين والفلسطينيين فى وقف إطلاق النار فى أثناء العدوان الأخير على غزة وأشاد كذلك بموقف مصر الداعم للسلام والاستقرار فى المنطقة.

سادسا- اتفاقيات التعاون

على صعيد العلاقات الثنائية أسفرت الزيارة عن توقيع ثلاث اتفاقيات للتعاون الثنائى تتعلق الأولى بإعلان نيات حول الشراكة المصرية الفرنسية بمشروع مترو أنفاق القاهرة، أما الثانية والثالثة من هذه الاتفاقيات فقد وقعتا مع الوكالة الفرنسية للتنمية ويتعلقان بتوصيل الغاز الطبيعى للمنازل فى عدد من المحافظات بقيمة 70 مليون يورو، ودعم التوظيف عبر الشركات الصغيرة فى المناطق الفقيرة بقيمة 80 مليون يورو، وبالإضافة إلى ذلك فقد أبدى الجانب الفرنسى استعداده لاستئناف العمل فى مصر باستثمار قدره 796 مليون يورو.

شملت زيارة الرئيس السيسى بالإضافة إلى لقاء الرئيس الفرنسى ووزير الخارجية والدفاع ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بالجمعية الوطنية (مجلس النواب) وغيرهم من المسئولين، لقاء الرئيس مع رجال الأعمال وكبرى شركات السياحة ودعوة هذه الشركات لتدعيم السياحة الفرنسية فى مصر كما تطرقت المباحثات إلى سبل تعزيز التعاون العسكرى بين البلدين وبحث تزويد مصر بطائرات فرنسية وقطع بحرية تلبية لرغبة مصر فى تنويع مصادر التسلح وتعزيز التعاون الثنائى بين البلدين.

إن هذه الزيارة سواء بالنتائج التى أسفرت عنها والاتفاقيات والتفاهمات حول مختلف القضايا التى تهم البلدين إن فى العالم العربى ومجال التطرف والإرهاب وإن فى البحر المتوسط فى ليبيا أو الصراع العربى الإسرائيلى وعملية السلام تعد زيارة مهمة تعيد هيكلة العلاقات المصرية الفرنسية على أسس المصالح المتبادلة بين البلدين وهى تدعم مركز ومكانة مصر لدى أوروبا والاتحاد الأوروبى وتقليص الحذر والتحفظ إزاء ما بعد الثلاثين من يونيو من جانب الاتحاد الأوروبى عبر التشاور ومعرفة الواقع وفهم الدوافع المختلفة التى وقفت وراء عزل حكم الإخوان.

سابعا- زيارة ناجحة

تقف خلف نجاح هذه الزيارة عوامل كثير من بينها أن الرئيسين المصرى والفرنسى قد سبق أن تقابلا فى أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة وتبادلا وجهات النظر، كذلك فإن مؤشرات الزيارات الرسمية من فرنسا لمصر ومن مصر لفرنسا على مستوى الوزراء وكبار المسئولين وارتفاع عدد هذه الزيارات قد أسهم فى توضيح الرؤى والمواقف وحلحلة الأحكام والتصورات التى تشكلت عن بعد وفى صخب الضجيج الإعلامى، من ناحية أخرى فإن فرنسا تعتبر أن مصر هى معامل الاستقرار والسلام فى المنطقة كما أن مصر تعتبر أن فرنسا ذات وزن وثقل دولى وأوروبى كبير، وذلك بالإضافة إلى أن الزيارة تفتح الباب أمام حلقة جديدة من العلاقات المصرية الفرنسية تستلهم تاريخ هذه العلاقات وتنوعها وتبعث الحياة فى مختلف الجوانب الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية لهذه العلاقات بين البلدين.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟