آفاق وتحديات: تنامي الدور السياسي لذوي الاحتياجات الخاصة
لن تنمحيَ الصورة التي سجلتها عدسات مصوري الصحف والفضائيات، كما سجلتها ذاكرة صناع ثورة 25 يناير 2011 من الشعب المصري، سجلوا صورة ودورًا عندما يكتب التاريخ سيقول إن المعوقين كانوا جزءًا من الشعب الذي ثار على نظام الفساد والاستبداد. كانوا هناك في ميادين التحرير في القاهرة والمحافظات، جاء بعضهم على مقاعد متحركة، والبعض الآخر تقوده يد لقريب أو صديق أو مرافق حتى الميدان، وبعض ثالث كان يبذل جهدًا بإشارات يديه ليتواصل مع رفاق الثورة.
سوف يذكر تاريخ ثورة الشعب المصري أن ذوي الاحتياجات الخاصة أو المعوقين شاركوا في الثورة، ولم يبرحوا الميادين بعد أن اختطفتها القوى الظلامية من جماعة الإخوان، وشاهد على وجودهم سجلات مصابي الثورة، هم هتفوا مع كل من هتف..عيش ..حرية..عدالة اجتماعية .. كرامة إنسانية، وهتفوا ضد حكم المرشد وحكم جماعته.
هذه المشاركة تمثل نقلة نوعية ومرحلة جديدة في حركة المعاقين في مصر، فخلال عقود مضت لم تكن مطالبهم تتجاوز ما يتعلق بتحسين الشروط لتسيير الحياة، وهي حقوق أساسية لا جدال حولها، ولكن جاءت الثورة والإصرار على الضغط والوجود الفعال بالوضع الجديد، وكانت أولى الثمار ممثلة لهم في لجنة إعداد دستور 2014 " لجنة الخمسين"، والذي مثلهم فيها الدكتور حسام المساح أستاذ القانون الدولي؟ إنها الإشارة الأولى التي تؤكد أن المعاقين دخلوا كباقي المواطنين حلبة السياسة، وأن لهم دور سياسي قادم، هم من سيحددون أطره وملامحه.
الأمر الذي يطرح سؤالًا: إلى أي مدي سيساند المجتمع هذا الدور، وعلى أي نحو سنجني ثماره؟
أولا- حقوق الإنسان والمعاقون
يقدر عدد المعاقين في مصر وفي دول العالم وفقا لتقديرات منظمة الصحة العالمية، بنسبة تتراوح ما بين 10- 13% من عدد سكان أي بلد، وبذلك يكون التقدير لعدد المعاقين في مصر نحو 10 ملايين معاق، وفي تقديرات أخرى يتراوح الرقم ما بين 8 – 12 مليونًا.
لقد أدرك المجتمع الدولي أن لذوي الاحتياجات الخاصة حاجات لا بد من تلبيتها، وحقوق لا بد من مراعاتها وإتاحتها لهم، ولذلك فقد حرصت مختلف دول العالم والمنظمات الدولية على تقنين هذه الحقوق عبر مجموعة من الإعلانات والمواثيق الدولية، نذكر منها في هذا الشأن:
1- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، الذي أكد في مادته الثانية على تمتّع جميع الأفراد دون تمييز بكافة الحقوق المنصوص عليها ضمن هذا الإعلان.
2- العهد الدولي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لسنة 1966، الذي يؤكد دون تميز على الحق في الضمان الاجتماعي والتأمينات الاجتماعية، والحق في الصحة الجسدية والعقلية، وعلى ضمان الحق في التربية والتعليم.
3- العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966، الذي أشار إلى الحق في الحياة وما يتصل بها من حق الفرد في سلامه الشخصي، وضمان الأمن الفردي، وكذلك الحق في إبداء الرأي، وحرية التنقل وحرية العقيدة، والحق في المشاركة في الحياة السياسية، والحق في تقلد الوظائف العامة، مع التأكيد على أن كل دولة طرف في هذا العهد ملتزمة باحترام وكفالة كل هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين على إقليمها، والداخلين في ولايتها دون تمييز من أي نوع.
4- وفي عام 1993 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القواعد الموحدة بشأن تحقيق تكافؤ الفرص للمعاقين ووضعت شروطًا لتحقيق المساواة في المشاركة منها: (التوعية، الرعاية الطبية، التأهيل، خدمات الدعم). وقد حددت القواعد المحددة المجالات المستهدفة لتحقيق المشاركة على قدم المساواة: (فرص الوصول، التعليم، التوظيف، المحافظة على الدخل والضمان الاجتماعي، الحياة الأسرية واكتمال الشخصية، الثقافة، الترويح والرياضة).
إن المواثيق السابق الإشارة إليها تنص على حقوق الإنسان بصفة عامة، بينما اختصهم قرار القواعد الموحدة بشأن تحقيق تكافؤ الفرص للمعاقين، لوضع قواعد ملزمة سبقها على سبيل المثال الإعلان الخاص بحقوق المعاقين الصادر من الأمم المتحدة عام 1975، استهدافًا لأن تصبح المواثيق والإعلانات والقرارات الدولية على الصعيدين القومي والدولي، أساسًا مشتركًا لحماية هذه الحقوق ومرجعًا موحدًا لها.
ثانيا- من الدستور إلى البرلمان
تجدر الإشارة إلى أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تم النص عليها في المواثيق السابقة وفي نصوص الدستور المصري الجديد، هي تأكيد والتزام بهذه الحقوق مضافًا إليها" الحقوق السياسية"، وهي المرة الأولى في الدساتير المصرية التي ينص فيها على الحقوق السياسية للمعاقين، إضافة إلى أنه الدستور الوحيد في المنطقة العربية الذي يخص المعاقين بمواد صريحة، فقد جاءت في الدستور نصًا وضمنًا 11 مادة تؤكد على حقوق المعاقين، بداية من المادة 93، التي تنص على "تلتزم الدولة بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي تصدق عليها مصر، وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها وفقًا للأوضاع المقررة".
في هذه المادة يلزم الدستور الدولة بكل الحقوق المنصوص عليها في المواثيق والعهود الدولية لكل مواطنيها، ولكن جاءت المادة 53 لتحدد حقوق المعاقين، حيث تنص على: "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون ،أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي، أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر، تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كل أشكال التمييز".
لابد من التأكيد مرة أخرى على أن ما حققه المعاقون من وضع دستوري هو نتاج نضالات طويلة وجادة خاضوها، حتى التزم الدستور بالنص على الحقوق السياسية لهم، حيث تنص المادة 81 على: "تلتزم الدولة بضمان حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والأقزام صحيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وتعليميًا، وتوفر فرص العمل لهم، مع تخصيص نسبة منها لهم، وتهيئة المرافق المحيطة بهم، وممارستهم لجميع الحقوق السياسية ودمجهم مع غيرهم من المواطنين، إعمالا لمبادئ المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص".
وفي المادة 180 يتضح ما يمكن تسميته بالتمييز الإيجابي في التمثيل في المجالس المحلية، حيث تنص المادة على : "تنتخب كل وحد محلية مجلسًا بالاقتراع العام السري المباشر، على أن تخصص ربع المقاعد للشباب دون سن 35 سنة، وربع عدد المقاعد للمرأة على ألا تقل نسبة العمال والفلاحين عن 5% عن إجمالي عدد المقاعد، وأن تتضمن تلك النسبة تمثيلًا مناسبًا للمسيحيين وذوي الإعاقة".
تتيح هذه المادة للمعاقين إمكانيات مشاركة فاعلة سوف نعود إليها لاحقًا، لنتطرق إلى الاستحقاق القادم وهو الانتخابات البرلمانية، وقد أتاحت لهم المادة 244 من الدستور التمثيل في البرلمان، والتي تنص على: "تعمل الدولة على تمثيل الشباب والمسيحيين والأشخاص ذوي الإعاقة والمصريين المقيمين في الخارج، تمثيلًا ملائمًا في أول مجلس للنواب ينتخب بعد قرار الدستور، وذلك على النحو الذي يحدده القانون".
هذا النص يلزم الأحزاب والتحالفات الانتخابية بوضع أعداد من المعاقين في القوائم الانتخابية، ورغم أن المادة تمنح هذه النسبة لمرة واحدة فإنها جاءت بعد عقود من التهميش للمعاقين، مما أدى لإحجامهم خلال هذه العقود عن المشاركة السياسية حتى بالتصويت، ووصلت نسبة الممتنعين من بينهم إلى 98% لم يشاركوا في انتخابات ما قبل 2011 ـ بحسب بيانات المجلس القومي لشئون الإعاقة.
وقد حدثت طفرة في المشاركة ونقلة نوعية، حيث شارك في التصويت على الاستفتاء على الدستور نحو 4 ملايين معاق، بنسبة 30% من المعاقين في مصر ـ المجلس القومي للإعاقة.
وللأمانة لابد أن نعود النسبة المرتفعة التي سبق تسجيلها في الامتناع عن المشاركة السياسية تصويتًا وترشيحًا، كانت له أسبابه التي وضعت حواجز دون التمكين من الوصول والإتاحة لهذا الحق، فقد كانت هذه الفئة مهمشة اجتماعيًا وسياسيًا، وبنظرة حتى لو كانت سريعة على اللجان الانتخابية، سيتبين لنا عدم ملاءمتها على الإطلاق لوصول المعاق إلى صندوق الاقتراع.
ثالثا- الفرص والتحديات
إذن هناك فرصة يمكن البناء عليها، وأن تتسع لها آفاق المشاركة، إلا أنها محاطة بتحديات لا يمكن إغفالها، ومنها: أولا، واقع اجتماعي ممتد لعقود مضت من التهميش والعزل للمعوقين. ثانيا، ثقافة اجتماعية راسخة تتعلق بالنظرة للعملية الانتخابية التي تنتصر للمال والعصبيات والقبلية وتنحاز لصورة ذهنية عن النائب القويّ القادر على تحقيق مصالح أبناء الدائرة، خاصة القريب من السلطة. ثالثا، موقف الأحزاب من المعاقين شارك في تهميشهم، فلم يهتم حزب من الأحزاب قبل ثورة يناير بتشكيل أمانة للمعاقين سوى الحزب الوطني، وكانت أمانة بلا فاعلية، وكانت مجرد استكمال للشكل، مما أفرغها من مضمونها، ولانفضاض أعضائها عنها.
وبعد الثورة وقيام عشرات الأحزاب الجديدة لم يلفت الانتباه نشاط حزب من بينها يخص المعاقين، رغم أنهم كانوا جزءًا من الحراك الثوري الذي امتد من 25 يناير2011 حتى 30 يونيو2013.
رابعا، تحديات تتعلق بتقسيم الدوائر الانتخابية، التي لم يتم الانتهاء منها في وقت مبكر بما فيه الكفاية، حتى يتسنى للمرشحين تحديد خطواتهم الحركية، كما أن الأخبار المتناثرة حول تشكيل الدوائر الانتخابية تؤكد أنها ستكون متسعة، مما سيشكل صعوبة في الحركة للمرشح المعاق.
خامسا، التكلفة المالية، وهي أم الصعوبات وأيًا كان سقف المبالغ المالية الذي حددته لجنة الانتخابات، فمن المعروف أن الإنفاق المالي للمرشح يقدر بالملايين، وليس بنصف ولا ربع المليون كما هو محدد. سادسا، من بين التحديات أيضا أن يحصر المرشح المعاق توجهه للكتلة الناخبة له من بين المعاقين.
هذه بعض أو جزء من التحديات التي قد تكون مجرد سطح الواقع، لأنه ومع التجربة والاحتكاك سوف تفرض تحديات أخرى وتظهر أهمية التعامل معها في وقت ظهورها، وهنا لا بد من تحمل كل الأطراف لمسئولياتها لتحقيق أكبر نسبة نجاح للتجربة، وهو النجاح الذي يمهد ويؤسس للبناء نحو آفاق المستقبل، وهنا لا بد أن يتم تحديد المسئوليات:
1- لا بد أن تتضافر الجهود لدعم المرشحين المعاقين وضمان تحقيق تكافؤ الفرص إعلاميا أمامهم.
2- للمجلس القومي لشئون الإعاقة دور كبير في إنجاح العملية الانتخابية للمعاقين، فهو وفقا للمادة 214 من الدستور يتمتع بالاستقلالية في تشكيله واختصاصاته، ويتمتع بالشخصية الاعتبارية بالاستقلال المالي والإداري ويؤخذ رأيه في مشروعات القوانين واللوائح المتعلقة به وبمجال عمله، وله الحق في إبلاغ السلطات العامة عن أي انتهاك يتعلق بمجال عمله. إذن للمجلس صلاحيات واسعة ترتب عليه مسئوليات كبرى لدعم التجربة ودفعها للأمام بكل الصلاحيات المتاحة له، وذلك بالحشد والدعاية والتنسيق مع الأحزاب والتحالفات الانتخابية والتدريب والتوعية.
3- على منظمات المجتمع المدني مسئوليات منها عقد دورات تدريبية للمرشحين، وتكثيف اللقاءات مع الناخبين في الدوائر مع إتاحة فرص أخرى للدعم وفقًا للقانون.
4- وللإعلام دور وهو التوجه للرأي العام بشكل منظم ومخطط، لتغيير الصورة الذهنية عن المرشح والمساهمة في تغيير الثقافة المجتمعية الحاكمة لهذه الصورة.
5- أن يضع المرشح المعاق حقيقة أنه ليس نائبًا عن المعاقين في البرلمان، فهو لم يصل إلى المقعد النيابي بأصوات المعاقين فقط.
6- أن يرسخ المرشح ثقافة البرنامج الانتخابي موضحا فيه دوره التشريعي في البرلمان القادم، وأنه سيقوم هو وزملاؤه بسد الفجوة التشريعية بين نصوص الدستور ومواد القانون الحالي، خاصة وأن الدستور نص على إلزام الدولة في عدد من مواده بصيانة وحماية الحقوق، وأحال مواد أخرى للقانون أو للسلطة التشريعية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هناك مسئولية كبرى ستقع على عاتق البرلمان القادم فيما يتعلق بالقوانين الخاصة بالمعاقين في التشريع المصري، حيث لا توجد قوانين خاصة بهم في المنظومة التشريعية، اللهم إلا المادتان 12و 14 في قانون العمل الموحد لسنة 2003، ففيهما النص على ما يشبه التوصية للكيانات والهيئات في قطاع الأعمال بتخصيص 5% من الوظائف لديهم لصالح المعاقين الذين يعفون من الشرط المعتاد لإجادة القراءة والكتابة، مع الحصول على شهادة تأهيل من الشئون الاجتماعية، وهذه المادة والنسبة في التوظيف لم تفعّلا منذ عقود في ظل بطالة ضربت الفئات القادرة على العمل دون تفرقة.
ويدعم آفاق التجربة والفرصة ـ حتى إن كانت وحيدة ـ إمكانية أن يعين رئيس الجمهورية عددًا من المعاقين ضمن النسبة الدستورية التي يحق له تعيينها في البرلمان.
والخلاصة، إضافة إلى ما سبق، لا بد من الإشارة إلى بعض التفاصيل التي إن تم علاجها ستوفر الكثير من المآزق، ومنها عدم إعداد اللجان الانتخابية بما يتناسب مع احتياجات المعاقين، مما يؤدي إلى عزوف الناخبين عن المشاركة، وقد حدثت هذه الوقائع كثيرًا، كأن يفاجأ المعاقون حركيًا بأن لجانهم في الأدوار العليا، أو ألا تعد ممرات ملائمة لمستخدمي المقاعد المتحركة، وعدم وجود مترجم للغة الإشارة في اللجان، وعدم تمكين المكفوفين من مصاحبة مرافق يثقون به للاقتراع السري خلف السواتر.
هذه التجربة أيًا كانت نتائجها ستعطي فرصة للاحتكاك العملي بين المرشحين المعاقين ومؤيديهم والمجتمع، مما سيؤدي إلى تأسيس صورة ذهنية جديدة وإيجابية نحو المعاقين، ومن هذه التجربة ستخرج القيادات الطبيعية من مجتمعاتها وبيئاتها، وسوف تمهد إلى المشاركة في انتخابات المجالس المحلية.
إن انخرط المعاقين في العمل العام والسياسي الذي بدأ يتضح جليًا مع ثورة 25 يناير، سوف ينضج بخبرة أوسع في المعركة الانتخابية للبرلمان، وسوف يفرز العديد من القيادات المؤهلة للترشح للمجالس المحلية، بداية من المجلس القروي وحتى مجلس المحافظة، مدعومين بنص المادة 180 من الدستور، السابق ذكرها، والتي تحدد أن يمثّل ذوو الإعاقة في "كل وحدة محلية تمثيلًا مناسبًا".
إن الالتحام بقضايا وحقوق المعاقين تحمل آفاقًا لنجاح التجربة، مرهونًا بالجهد الذي سيبذل فيها، وهذا ما سوف ننتظر إجابة المستقبل عنه.
هذا جزء من دراسة نشرت في العدد 11 من آفاق سياسية