رؤية مستقبلية: الحروب غير المتكافئة: الجيل الرابع وما بعده
راج مصطلح "الحرب غير المتكافئة" ( أو غير المتماثلة Asymmetry Warfare) على الصعيد الدولي في أواخر الثمانينيات وأصبح شائعًا خلال الحرب على العراق والجماعات الإرهابية.
وعلى الرغم من شيوعه وانتشاره هذه الأيام، لازال هذا المصطلح فضفاضًا فى استخدامه كما في تحديده، فهو يتصف بمرونة الحدود وقله مستوى التحديد، الأمر الذي نجد أنفسنا بإزاء الحاجة إلى بحثه وتفحص مقوماته وخصائصه ومدى اختلافه عن غيره من الحروب. فهو يترادف مثلًا مع مصطلحات أخرى؛ لعل في مقدمتها: "الجيل الرابع للحروب". (4GW)، و"النزاع منخفض الشدة"، .... إلخ. كما أن هذا المصطلح يتميز بقدر كبير من الالتباس والتأويل، فهو يعني في الاستعمالات المهنية العسكرية والسياسية أشياء متنوعة بعضها عام للغاية، والبعض الآخر؛ يقصره على نوعية محدودة من الحروب؛ في حين يرى جانب ثالث ما لا يمت بالمصطلح بأية صلة.
وعمومًا فليست هناك دراسة تحيط بإمكانات هذا المصطلح وتحدده، بعد أن كاد أن يكون شيئا، ولا شيء محددًا في الوقت ذاته. إذن؛ فلا جدال في أنه من واجبنا، حينما نشرع في عمل كالذي نحن بصدده الآن، أن نتوقف على الأقل لنسأل أنفسنا عما نقصده بالضبط من هذا المصطلح؟ وأن نطرح التساؤلات التالية:
إلى أين تسير الحروب والصراعات العسكرية، في إطار المستجدات التكنولوجية المتعاظمة، هل يؤدي بها التطور إلى الاختفاء؟ أم إلى صيغة ما مختلفة، شبه مأتمتة؟ أم ستسير، عبر التطور، في سياق مرحلة انتقالية معقدة طويلة في اتجاه "الأتمتة الكاملة"؟! وكيف لنا أن نتفهمها ونستعد لمواجهتها ونتحوط من مخاطرها؟
ومن هنا فإن الدراسة الحالية تقدم مساهمة أولية في باب تأمل تأثر الحروب (بأجيالها المتعاقبة) بالتكنولوجيا المتوافرة وتحليل مسألة العلاقة بينها وذلك من خلال منظور مستقبلي، ثم تبحث في سبل مواجهة تداعيات هذه التحولات التكنولوجية في طبيعة الحروب وآلياتها. وفى نفس الوقت تعرض، ناقدة، "الأفكار" المصاحبة لكل التحولات باعتبار أن "التكنولوجيا" و"الأفكار" هما المحددان الأساسيان لحدوث تحولات جيلية في جوهر وماهية الحروب، على نحو أفرز الجيل الرابع منها كنموذج أساسي (Paradigm) للحروب.
أولا: الحرب غير المتكافئة و"الفوضى الخلاقة": اشتباكات أساسية
فجرت الأحداث الأخيرة التي قامت بها الجماعات الإرهابية في سيناء والعراق واليمن، وسوريا أهمية معاودة فحص مصطلح عسكري أساسي جديد وهو "الحرب غير المتكافئة"، والذي سبق أن طرحه عدد من الخبراء العسكريين منذ أكثر من عقدين من الزمان، وبالتحديد في عام 1989.
وترتد جذور هذا المصطلح إلى أواخر السبعينيات عندما أثار "أندرو مارك" في مقالة مهمة العديد من التساؤلات له حول أسباب هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية رغم قوتها وعظمتها من دولة صغيرة (مثل فيتنام)، رغم صغر حجمها وتواضع إمكاناتها واعتمادها على أسلوب حرب العصابات. وفى نفس الوقت أو يكاد فقد طرح العديد من العسكريين والإستراتيجيين الأمريكيين (من بينهم وليم س. ليند William S. Lind والكولونيل كيث نيتينجال Keith Nightengale) تساؤلات هامة مشابهه. وقاد ذلك كله إلى تبلور المصطلح الذي يعبر عن تقنيات الحروب الحديثة غير التقليدية وغير المتكافئة. والذي أصبح يسمى تجاوزًا "بحرب الجيل الرابع"Fourth-Generation Warfare "4GW"، خاصة عندما شُبّع بدلالات سياسية أفرزتها أفكار "كونداليزا رايس" وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في شكل الإستراتيجية المعروفة "بالفوضى الخلاقة" والمنبثقة من جهود العلماء الأمريكيين حول تداعيات حالات الفوضى وإمكانات الإفادة منها في تعظيم الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية في التحكم في كل الشئون الداخلية للدول الضعيفة والمارقة مما يساعدها على العمل بكفاءة "كشرطي للعالم".
وزاد من تعاظم هذا الدور استناده لادعاء أمريكي محض يفترض ضرورة تحمل الولايات المتحدة الأمريكية مسئولية مقاومة الإرهاب في العالم ومحاربته ضمن إستراتيجية مخططة. وانطلاقًا من هذا الادعاء سعت أمريكا لتأكيد حرصها على نشر الديمقراطية، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، التي تدّعى أن دولها تفتقر إلى هذه الديمقراطية بشدة باعتبارها تمثل دولًا تخضع لديكتاتوريات قاهرة، الأمر الذي يجعلها بمثابة "مجتمعات للخوف" على حد تعبير المنظر اليهودي "شارانسكي مقابل "المجتمعات الحرة" تلك التي تمثلها الدول الديمقراطية وعلى رأسها أمريكا كما يدعى.
ويصبح في هذا السياق من الضروري على الولايات المتحدة الأمريكية إتباع كل الوسائل، الشرعية وغير الشرعية، التي تصب في مجرى تنفيذ قناعاتها وسياساتها المزعومة، من فتن طائفية ودينية ومذهبية وعرقية، والتي تستهدف، في التحليل النهائي، إعادة هندسة منطقة الشرق الأوسط وفقًا لمخطط استعماري خبيث وهو مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي خطط له كاستمرار للمشروع التقسيمي الاستعماري الذي تبنته اتفاقية سايكس - بيكو.
وقد وجدت أمريكا ضالتها لتبرير السعي في تحقيق هذا المشروع ونشر الفوضى الخلاقة في أحداث سقوط برجي التجارة العالمية في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث استخدمته مبررًا لادعاء وجود "عدو مجهول" يهدد أمنها القومي، وبالتالي فإن عليها أن تخوض ضد هذا العدو "حروبًا استباقية وقائية"، قبل أن يشكل مصدر تهديد للمصالح والأمن القومي الأمريكي.
وإذا ما تأملنا المرتكزات التي تدعم نظرية الفوضى الخلاقة نكتشف حجم التقائها مع مواصفات حرب الجيل الرابع وما بعده كما سنوضحها فيما بعد.. فهذه النظرية تستند إلى سياسة "إطلاق الصراعات العرقية" وتهييجها سعيًا نحو دفع الدول إلى التناحر والتناقض، وبالتالي عدم الاستقرار، كما تطلق في نفس الوقت "صراعات العصبيات" بإشعال نار الفتنة والتفرقة الأمر الذي يستبدل الولاء للأحزاب أو العشائر أو القبائل بالانتماءات الوطنية (ولعل ما حدث في كل من الصومال والعراق وما يجرى الآن في سوريا واليمن وليبيا خير أمثلة على ذلك).
كما أن ضرب "الاستقرار الأمني" هو أحد أساليب الفوضى الخلاقة من خلال نشر أكاذيب لترويع الرأي العام وإثارة فزع الجماهير وقلقها وتهديد الاستقلال الأمني للدول المستهدفة، الأمر الذي يقود في النهاية إلى خلخلة أوضاعها واستقرارها الاقتصادي. ويمهد لكل هذا توجيه الإعلام واستخدامه استخدامًا خبيثًا - من قبل الدولة القوية - لإشعال نيران الفتنة بين أبناء الوطن الواحد المستهدف.
ويلتقي هذا مع ما تستهدفه الحروب غير المتماثلة أو ما يسمى بالجيل الرابع للحروب وما بعده، من تحقيق لنشر الفوضى وإرباك الدولة حتى تصبح دولة فاشلة مفككة.
ثانيا- التكنولوجيا وعدم التكافؤ العسكري
إن التكنولوجيا هي المحدد الرئيسي لتوازنات القوة في النظام العالمي الجديد، والعامل الحاسم فيها، فهي بما تمتلكه من إمكانات واعدة ومخاطر هائلة تبدو مجاوزة للوظائف التقليدية للآلات وامتدادًا لحواس الإنسان ووظائفه، بل أصبحت التكنولوجيات الحديثة أكثر من ثورة.. وهي تتناسخ وتتكاثر في كل خطوطها وتقاطعاتها، بشكل لوغاريتمي لم يسبق له مثيل.
وبدهي أنه كلما أصبحت الجيوش أكثر تعقيدًا وجد هنالك "عدم تكافؤ" في الاستحداثات والابتكارات التي تخص التشكيلات العسكرية، وتسلسل هجوم وانتشار القوات وتوزيعها إلى عدة تنظيمات (مثل الفرسان، المشاة، رماة القنابل اليدوية وخلافه)، والتحسينات والتجديدات على الأسلحة (مثل الإتيان بدروع أفضل أو إضافة الركاب إلى سرج الخيل أو صنع رماح وأقواس أطول).
وقد كانت كثير من المعارك في التاريخ متكافئة في طبيعتها على أن الجيشين المتقاتلين لم يكونًا في الواقع متماثلين تمامًا ولكن التشابه بينهما كان في الأسلحة وعدد القوات والرتب والتنظيم وهكذا دواليك. وعليه كان التنافس على التشابه واضحًا جليًا تمامًا. ووفقًا لذلك فإن معظم أعمال التخطيط استندت إلى مبدأ التكافؤ أو "التماثل" فهو المبدأ والمنطلق لمعظم حقب التاريخ. لذا، فإن مدى التكافؤ العسكري قد حدد آنذاك العمليات بين المجتمعات بكافة مستوياتها.
لذا، فإن عمليات صنع القرار العسكري لتطوير الأسلحة لم تكن رهينة فقط لعمليات التخطيط، التكتيكي والإستراتيجي، والتقدير الواعي للاحتياجات، إنما تتأثر "بعوامل داخلية" (كالسياسة والنزاعات الداخلية حول الموازنة وإدمان استخدام القوة كحل للمشكلات السياسية والانجذاب الشديد لابتكار التقنيات الحديثة والسعي وراء امتلاك الأسلحة المدمرة). كما تتحدد في إستراتيجياتها وتكتيكاتها "بعوامل خارجية" مثل قوة الجيش الخصم، وطبيعة الأرض، والطقس، وخلافه، وهى عوامل تتشارك بالتساوي من خلال الأسلحة وعدد الأفراد المشاركين ونوعية مهامهم ومساحة المكان الذي سيوجدون فيه والتشكيلات التي تسمح بأفضل توازن بين الكفاءة الهجومية والمقاومة الدفاعية والرد المرن.
إذن ففي كل الأحوال فإن التقدم المتسارع في "التكنولوجيا" وفي "الأفكار" السياسية والعسكرية يقود إلى عدم التكافؤ العسكري.
ولعلنا نستطيع توضح ذلك بالنسبة للتكنولوجيا حيث أن الأمر الأكثر أهمية هو دورها في صنع التكافؤ من عدمه، فالتكنولوجيات الأساسية الجديدة (New Core Technologies) استطاعت وبجدارة أن تغير وتبدل الثوابت العسكرية المجربة عبر الزمن لتقودنا إلى عالم جديد من أنواع الحروب .. يشكل احتمال وجوده دمارًا يقلص على الفور احتمالات بقاء الجنس البشرى، فحينما تتغير ثوابت العمليات العسكرية بشكل جذري، فإن المصطلحات مثل "العسكرية" و"العمليات" قد تصبح قديمة وبالية وحينها فمن المتوقع دخول عالمنا إلى فترة تحول خطيرة للغاية. فالثوابت "العسكرية" هي بمثابة عوامل عامة تحدد الأوضاع الفاصلة لأي دولة كانت، وهى تعنى أيضًا وجود عدة عوامل وعدة قوانين مادية ويؤدى غيابها إلى حالة من الفوضى.
واللافت للنظر أن مسألة دمج التكنولوجيا في آليات الحروب ليست توجهًا جديدا بل إنها اتجاه ممتد منذ أن ظهرت الحروب على الأرض حتى إنه يمكن القول دون خطأ كبير؛ إن تاريخ تطور الحروب يرتبط طرديًا مع تطور التكنولوجيا.
ففي مراحل التطور الأولى للبشرية كانت الحجارة والحراب هي الأدوات الأساسية في التصارع والعراك القائم باستمرار على التكافؤ والتماثل Asmmatry الذي ينتهي بفوز أو انتصار جيش على الآخر وهذه المرحلة تمثل الحروب التقليدية التي يطلق عليها حروب "الجيل الأول"، والذي اعتمد على حشد القوات البشرية (Massed Manpower).
وقد استمرت هذه الحروب لفترات طويلة حتى بدايات القرن التاسع عشر وظهور النار واختراع البندقية ثم المدافع وغيرها من أدوات الحرب القائمة على تكنولوجيا بسيطة، ولكن هذه الحروب كانت تقوم على مبدأ التماثل في الأسلحة وعدد القوات، والرتب والتنظيم وفي مساحة محدودة وغيرها من الثوابت العسكرية المتعارف عليها.. وكان النصر دائمًا للجيش صاحب المقدرة الأعلى والأكبر في استخدام هذه المزايا والثوابت وهذا ما يطلق عليه "الجيل الثاني" من الحروب الذي يعتمد على استخدام القوة النارية (Firepower).
على أنه في أثناء الحرب العالمية الثانية برز "جيل ثالث" (Maneuver) قائم على فكرة المناورات العسكرية أو ما يطلق عليه الحروب الوقائية والاستباقية (Preventive War) أو حروب العصابات والتي طورها "الألمان" في الحرب العالمية الثانية وتميزت بالمرونة والسرعة في الحركة واستخدام عنصر المفاجأة وأيضًا الحرب وراء خطوط العدو.
وفي جميع الأحوال، فإن هناك تماثلا وتكافؤًا نسبيًّا بين الجيوش المتحاربة. وعليه كان التنافس على التشابه واضحًا جليًا، وحسب ما جرت عليه العادة استندت معظم أعمال التخطيط على مبدأ التماثل والتكافؤ، فخلال معظم حقب التاريخ بنى "أحدهم" على وجود تماثل ما واتخذه "مبدأ ومنطلق" وفي هذا السياق فإن القوة الغالبة والظاهرة التي يستخدمها الجيش الاستعماري ضد قبيلة (أو مدينة أو قرية) قد تقاوم بأسلوب "حرب العصابات" الذي يعتمد على عنصر السرعة والمفاجأة أو عن طريق الجدران الدفاعية التي تصد الحصار أو بالاستسلام الفوري.
إن مدى "التكافؤ العسكري" قد حدد آنذاك العمليات المتآلفة بين المجتمعات بكل مستوياتها، وقد سبق أن أشرنا إلى أن الجيوش تصبح أكثر تعقيدًا وبالتالي يزداد عدم التكافؤ بكل ما يتصل بالإستراتيجيات والعمليات العسكرية.
على أننا لا نستطيع، رغم كل ذلك، أن ننكر أنه يوجد تماثل جوهري مبني على الثوابت الحربية التقليدية.. ألا وهو تقاتل قوتين يمتلكان تقنيات متساوية نوعا ما. وتركيز قواتهما، عبر السرعة الفائقة والكفاءة الممكنة، على منطقة محورية في قلب ساحة المعركة. وكذلك أن هناك تداخلا بين تقنيات الأجيال الثلاثة من الحروب ويمكن استخدامها في آن واحد.
ثالثا- تبلور "الجيل الرابع" للحروب في ظل عدم التكافؤ المتصاعد
· اكتشفت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) عقب الهزيمة في "فيتنام" بأن نموذج حرب الناتو "NATO-model" المبنى على القطاعات الضخمة المزودة بالآليات، غير فاعل إلى درجة كبيرة أمام قوات العصابات المدعومة من قبل الأهالي. ولعل التساؤلات التي سبقت الإشارة إليها والتي جاءت من الإستراتيجيين العسكريين حول الفشل العسكري الذي حدث في حرب فيتنام، وكذلك مقالة "أندرو مارك".
كل هذا مهد للبحث عن نموذج آخر مؤسس على عدم توريط الجيوش الأمريكية في اشتباكات عسكرية مباشرة، وبالتالي أهمية الاعتماد على قيمة ومنطقية القوات الخفيفة (Lighter Forces) التي كانت منبوذة في السابق من قبل ألوية الجيوش التي تزحف عبر الأنهار والوديان على سكان القرى، وبالتالي التخلص من "الفشل العسكري" وتقليل المخاطر البشرية والاقتصادية لأي تدخل من قبل الجيوش الكبرى.
وقد أدرك صناع السياسات الأمريكية بأنه في ظل الظروف المناسبة قد تستطيع "العصابات" أن ترجح الكفة أمام "الجيش التقليدي" حتى لو كان الأخير يمتلك مميزات خارقة في الجو أو البحر أو في القدرة النارية. وقد وازن أفضل الخبراء بين مجموعتين من الثوابت .. وأدركوا بأنه في مجال الحرب فلابد من الأخذ في الاعتبار ليس بالتقييم أو الفوارق النوعية فحسب (مثل النواحي المعنوية، ودور السكان المحليين ... إلخ) ولكن باحتمالية وجود صفات عسكرية مختلفة بالكلية عن بعضها البعض قد تؤثر على طرفي معادلة التكافؤ والتماثل.
· وعليه .. ففي خلال العقود الماضية ظهر توجه قوى لجعل القوات الأمريكية أكثر خفة ومرونة وسرعة في الاستجابة.. وأكثر اندماجًا وتعددًا في الاتجاهات عن غيرها من القوات المسلحة التقليدية. وقد وصف هذا التحول أيضًا بأنه انتقال من حرب "الجيل الثالث" إلى حرب "الجيل الرابع" (Insurgency).
والهدف من وراء هذا الجيل .. جعل القوات المسلحة الضخمة والمزودة بالآليات أكثر ملاءمة في مواجهة قوات العصابات المقاتلة (مثل التي قادها أمثال ماوتسي تونج Mao وكاسترو Castro في كوبا والمتمردين الفلبينيين والمقاتلين الفيتناميين .. والكثير من قوات المقاومة الآسيويين الذين قاتلوا ضد اليابانيين في الحرب العالمية الثانية).
· هذا بالإضافة إلى التداعيات الاقتصادية والعسكرية التي تحملتها الولايات المتحدة الأمريكية مما جعلها تصرف فيه الموارد الضخمة للتكيف مع حقائق الحرب غير النظامية .. فإن "عدم التكافؤ يتغير بسرعة" في زماننا المتسم بالإبداع التكنولوجي الكبير... حيث إن الحرب غير المتكافئة في فيتنام .. تختلف كثيرًا عن مثيلاتها التي يواجهها الأمريكان اليوم في العراق وأفغانستان وغرب باكستان وسوريا. فكلما تكيفت القوات العسكرية مع إحدى الحقائق غير المتكافئة واجهتها أخرى جديدة.. فالأوضاع غير المتكافئة التي سوف نواجهها عام 2020 سوف تكون مختلفة تمامًا عن تلك التي نواجهها اليوم. كما أن اليوم مختلف عن مثيله السابق في الستينيات.
والواقع أن الجيل الرابع للحروب كما يعرفه البروفيسور الأمريكي ماكس مايوراينج هو: الحرب بالإكراه من أجل إفشال الدولة وزعزعة استقرارها ثم فرض واقع جديد يراعي المصالح الأمريكية. كما أن هذا الجيل مؤسس على حتمية قيام حرب بين دولة وكيان غير مركزي (كالجماعات المسلحة والإرهابية أو الدولة المارقة .. إلخ) حيث يتم استخدام أسلحة متقدمة عن بعد لزعزعة إيمان العدو بفرض الحرب والنصر، وتغيير الأنماط الاجتماعية الخاصة به، وغيرها من الطرق للتأثير على العدو نفسيًا، وبالتالي تركيع الدولة وتفتيتها ثم تقسيمها أو إلى كيانات صغيرة متحاربة، وهدم عناصر القوة فيها بواسطة دفع مواطنيها للاحتراب بعضهم مع بعض، ثم يحدث مأزق سياسي وأوضاع استثنائية من الفوضى العارمة. فتأتى الدولة القوية بحكام من المواطنين والموالين لها والممثلين لسياساتها ويضفون عليهم قدرًا من الشرعية، وادعاء بأن الهدف هو نشر الديمقراطية والقضاء على الإرهاب. وتنتهي المسرحية بتفكك تلك الدولة الفاشلة وتتعدد مرات صنع شرعية جديدة، وهي شرعية في كل مرة تتقاطع تمامًا مع المصالح الأمريكية والغربية .. ويتجذر دور العملاء من المواطنين في تلك الدولة أو قل الدويلات أو الكيانات باعتبارهم أهم آليات تنفيذ تلك الفوضى الخلاقة.
إذن فهذا الجيل يعتمد على إحداث تدمير ذاتي داخل الدولة أو الجماعة المستهدفة ويفتتها ويشيع الانقسام بين طوائفها، وبالتالي ينتهي الأمر بتخليق دولة فاشلة يسودها الفوضى والفراغ. ولعل انهيار الاتحاد السوفيتي كان واحدًا من أوضح نتائج هذا الجيل الرابع وإن لم يكن وحده المسئول عن ذلك.
ومما هو جدير بالذكر فإن أساليب (اللاعنف) تدخل مصاحبة للتقدم التكنولوجي المتقدم لتترك بصماتها على الدولة المستهدفة من خلال إعلام رمادي يبرر بل يحتم ضرورة استدعاء وتدخل الأطراف الخارجية بحجة تأسيس دولة ديمقراطية حديثة.
نخلص مما سبق إلى التأكيد على أن الثوابت القادمة الناتجة عن عدم التكافؤ لسوف تقلب الاعتقادات الأساسية والافتراضات والسلوكيات التي قادت ووجهت القوات العسكرية منذ بدايتها. ومثلًا، كان في الحروب السابقة كلما زادت قدرة الأسلحة .. كبرت بدورها القوة العسكرية التي يمكن تركيزها على ساحة المعركة.
لكن .. تغيرت في العصر الحديث الكثير من الثوابت الخالدة يومًا ما .. أو تقلص شأنها فعلى سبيل المثال: فإن توزيع وانتشار الأسلحة جغرافيًا بواسطة استخدام التقنيات الحديثة .. يؤدي إلى أثر تدميري أكبر .. فقد أصبحت لدى السلاح القدرة على تغطية إقليم كامل.
بينما التركيز على ساحة المعركة يكاد يكون معدومًا. والمثير في الموضوع بأن القدرة التدميرية (Weapon's Ability) تكاد تكون شاملة، وغير محدودة بدلًا من انعدامها (كما كان عليها الحال في حرب الجيل الثالث 3GW أو حتى الجيل الرابع (4GW).
وبدهي أن ذلك الأمر معارض ومخالف للمعادلة القديمة التي تقضي بالنهي المطلق عن تغطية إقليم متناثر الأطراف... وعوضًا عن ذلك يكون التركيز على بقعة محدودة. فالحاميات العسكرية تبسط السيطرة على الأقاليم من خلال تركز القوات داخل المراكز والتجمعات الإستراتيجية (مثل: القلاع التي تحكم الوديان، والطرق السريعة، وقرى الأسواق التجارية المهمة).
· إذن فسوف تقل أو تتغير أهمية ثوابت السلوك العسكري الأخرى في حقبة ما بعد الجيل الرابع (Post – 4GW era)... فسوف نحتاج مثلًا القوة التدميرية الضخمة في عصر الأسلحة الحديثة التي تعتمد على التقنيات الأساسية الجديدة – سالفة الذكر – إلى دعم لوجيستي ضئيل وعدد قليل من الأفراد.. بعدما كانت في السابق تعتمد على إمدادات لوجيستية كبرى ومقاتلين كُثر.
وكما سوف تقل أهمية الاعتبارات الجغرافية والطبوغرافية التقليدية ومعها الميزة التنافسية التي يعطيها التدريب العسكري، وقوة النيران، وحجم القوات المقاتلة. فالطفل قد يضاهى الجيش ضمن تلك المعادلة ... وتصبح بذلك أحدث أنواع الأسلحة غير ذات بال .. إلا كقوة تستخدم للانتقام ضد منفذي الهجمات في حال معرفتهم بالتحديد (أو للانتقام فحسب حين لا يكون من المهم تحديد هوايات المهاجمين الحقيقيين).
· ومن المهم التذكير بأن العوامل التي تكمن وراء تلك الأوضاع الحديثة تتجلى في أن الأسلحة التي يتم تطويرها في الوقت الراهن سوف تعمل على مستوى أجزاء المادة والعمليات البيولوجية .. فهي تخترق وتعمل من الداخل بدلًا من الاختراق والقصف بها من الخارج. وكما أنها تجمع بين اعتمادية ومتانة الآليات الميكانيكية ولديها نفس قدرات التأقلم والتدمير التي في الأسلحة البيولوجية ... فعلى سبيل المثال:
· يستطيع فيروس الإيبولا (Ebola) المبرمج زرع نفسه في جسد الإنسان واختراق البشرة عند الملامسة .. كما أن الفيروس محصن ضد التقلبات البيئية التي قد تقلل من انتقاله وانتشاره.
· كما تمتلك بعض تلك الأسلحة خاصية "التناسخ" و"الثبات الذاتي"، بالإضافة إلى القدرة على إطلاق سلسلة من ردود الفعل الكارثية، بينما تتكيف أخرى مع برامج المفردات وتحولات مسبقة الإعداد ترمي إلى إبطال محاولات التدابير المضادة.
وكما تستطيع "التأقلم" لتلبية أي هدف وغاية، والكثير منها يكاد يكون بدون وزن، ومن السهل تطويرها من التطبيقات السلمية التي تغذي مسيرة الحضارة البشرية.
· وفي ظل تلك الأوضاع وغيرها، يزداد عدم تكافؤ الحروب، مما يمثل تحديا مذهلًا أمام القوات العسكرية، فكلما زاد الاستعداد لمجابهة أنواع جديدة من الأعداد ازدادت حدة انحدار منحنى عدم التكافؤ المدفوع بالابتكارات التكنولوجية المتسارعة .. والناتج عن استخدام القوات المعارضة المرتقبة لمصادر جديدة من القدرة التدميرية.
ومن المفارقة تزامن حدوث التقدم الواعد في العلوم خلال العصر الحديث مع التطورات الخطيرة في الأسلحة التي تصنعها "الدول الصناعية" التي تمتلك أقوى القوات المسلحة. ومع ذلك فإن الأسلحة الجديدة سوف تنتشر وتتسرب على الأرجح إلى العديد من الجهات والكيانات حول العالم.
· ومن المرجح أن تستخدم أولًا الدول المتقدمة بعض تلك الأسلحة، ولكن الدول التي تقاتلها ستستفيد في نهاية المطاف من عدم التكافؤ.. (انظر ماذا حدث بإرسال الجمرة الخبيثة (Anthrax) بعد أحداث 11 سبتمبر 2001؟). وحينها تكون تلك الأسلحة – بدون شك – الخيار الأكثر فاعلية لديهم، حيث لا يقدرون على مجاراة القوى الصناعية في مجال العتاد، وعدد الجنود، والأسلحة فائقة التطور .... إلخ. وعليه تستطيع الدول "المارقة"، والجماعات الإرهابية والمتمردة والمهووسون مذهبيًا وأيديولوجيا، من قلب وتغيير التوازن القائم أمام القوة العسكرية الوطنية المتفوقة عبر استخدام أصناف الأسلحة الجديدة.