المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

الولايات المتحدة ودبلوماسية التشابك الإقليمي

الثلاثاء 18/نوفمبر/2014 - 11:13 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
إبراهيم نوّار

كان الأسبوع المنتهي في 15 نوفمبر 2014 بحق من أكثر أسابيع العام نشاطا على صعيد الدبلوماسية العالمية، وترك ذلك بدون شك أثره على منطقة الشرق الأوسط الغارقة في بحر من النزاعات العرقية والطائفية والحروب الأهلية التي تحتل فيها قوى التطرف الديني والإرهاب مكان الصدارة. ففي ذلك الأسبوع انعقدت قمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الباسيفيكي في بكين (9- 11 نوفمبر) التي تضم 21 دولة منها الولايات المتحدة. وانعقدت قمة دول آسيان في ميانمار (12-13 نوفمبر) التي تضم 10 دول من جنوب شرقي آسيا، ولم يضع الرئيس الأمريكي أوباما وقتا وهو في المنطقة، لكي يلتحق بهذه القمة. وعقدت الولايات المتحدة والصين قمة ثنائية في نهاية قمة أيبك، كما عقد الرئيس الأمريكي لقاءات ثنائية مع عدد من قادة أيبك وخصوصا قادة اليابان وروسيا. وكان تتويج هذه الفورة في الدبلوماسية الدولية بعقد قمة مجموعة العشرين في مدينة بريسبان الأسترالية (15- 16 نوفمبر). وتعتبر قمة العشرين بمثابة مجلس إدارة العالم، حيث تضم هذه الدول نحو ثلثي سكان العالم وتنتج ما يقرب من 85% من الإنتاج العالمي.

 

وخلال هذه الأيام التي بدأت بقمة أيبك، كانت منطقة الشرق الأوسط غارقة في الحروب الأهلية وعدم الاستقرار وانتشار النزاعات من الخليج إلى الصحراء المغربية، ومن شمال سورية والعراق إلى اليمن والسودان! ومع ذلك فإن المنطقة لم تكن بعيدة عن ظلال الدبلوماسية العالمية، فطار جون كيري وزير الخارجية الأمريكي من  باريس (4-6 نوفمبر) إلى بكين (7-8 نوفمبر) إلى مسقط (9-10 نوفمبر) ثم إلى بكين ثانية لحضور القمة الصينية الأمريكية (10-12 نوفمبر) إلى العاصمة الأردنية عمان (12-13 نوفمبر) ثم إلى الإمارات (14 نوفمبر) حيث عقد مجموعة من اللقاءات المهمة التي ربما ستسهم في رسم ملامح خريطة العلاقات في الشرق الأوسط خلال الفترة القليلة المقبلة. ففي مسقط ( التقى السلطان قابوس بن سعيد سلطان عُمان، وعقد اجتماعا ثلاثيا ضم وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف ومسئول السياسية الخارجية في الاتحاد الأوربي السيدة كاثرين أشتون ووزير الخارجية العماني يوسف العلوي عبد اللـه. وفي العاصمة الأردنية عمان عقد كيري اجتماعا ثلاثيا ضم الملك الأردني عبد اللـه بن الحسين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ثم غادر المنطقة لاستئناف نشاط الدبلوماسية الأمريكية في منطقة الشرق الأقصى وغيرها من أقاليم العالم.

وربما يكون من المفيد وسط هذه الفورة من نشاط الدبلوماسية العالمية أن نقرأ الملامح العامة لحالة العالم، وأن نقارن معها ملامح الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، التي تمزقها الصراعات والحروب. وسوف أتعرض هنا لثلاث نقاط فقط، تكشف عنها ملامح الصورة العالمية والإقليمية هي: مغزى اشتباك الولايات المتحدة مع التكتلات الإقليمية حول العالم، أولويات التعاون الدولي والإقليمي في المرحلة الراهنة، إعادة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط.

استطاعت الولايات المتحدة من خلال قمة أيبك ببكين أن تحقق العديد من أهداف السياسة الخارجية، التي تحرص إدارة أوباما على ترويجها على المستوى العالمي.

أولا: مغزى اشتباك الولايات المتحدة مع التكتلات الإقليمية حول العام

تعتبر الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي ترتبط بعلاقات عضوية مع التكتلات الإقليمية للتعاون الاقتصادي أو السياسي أو العسكري على وجه الأرض (باستثناء قارة أفريقيا). فالولايات المتحدة عضو في اتفاقية منطقة التجارة الحرة لدول أمريكا الشمالية (نافتا) التي أيضا تضم المكسيك وكندا، وهي في الوقت نفسه عضو في اتفاقية التعاون لمنطقة الأمريكيتين (الشمالية والجنوبية) وترتبط باتفاقيات متعددة الأطراف أو ثنائية تغطي مجالات كثيرة للتعاون بين دول القارتين الأمريكيتين. وهذا التعاون جميعه يقوم على أرضية اقتصادية بالأساس.

 

كما ترتبط الولايات المتحدة مع أغلبية دول الاتحاد الأوربي باتفاق أساسي للتحالف العسكري في إطار حلف شمال الأطلنطي، وهو الحلف الذي أصبح بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار حلف وارسو، المظلة الأمنية العالمية الوحيدة التي تعمل داخل وخارج حدود الدول الأعضاء فيها، وتشارك في الكثير من مناطق الصراع في العالم، بأشكال تترواح بين تقديم المساعدات الفنية إلى الاشتراك الفعلي في عمليات قتالية خارج الحدود كما هي الحال في أفغانستان وفي العراق وفي ليبيا. وهذا التعاون في إطار حلف شمال الأطلنطي هو تحالف ذو طبيعة عسكرية بالأساس.

 

وقبيل نهاية الحرب الباردة بادرت الولايات المتحدة للدعوة إلى تشكيل تحالف بين دول آسيا والمحيط الهادي وأصبحت عضوا فيه، وكانت الفكرة الساسية وراء هذا التحالف هي تعزيز وتوسيع وتعميق التعاون الاقتصادي بين مجموعة الدول التي تشكل في واقع الأمر (مع أوربا) العمود الفقري للاقتصاد العالمي فهي تضم إلى جانب الولايات المتحدة كلا من الصين واليابان وروسيا، وهذا يكفيها لأن تقود عملية تحديد شكل العالم في المستقبل.

 

ومن خلال هذه التشابكات بين الولايات المتحدة وبين التجمعات الإقليمية التي تضم دولا منافسة أو كانت في حالة عداء أو حرب مع الولايات المتحدة، تأمل الدبلوماسية الأمريكية أن تدير حركة الأحداث على المسرح العالمي. وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير حتى الآن. ويظهر "إعلان بكين" الصادر عن قمة أيبك أن الولايات المتحدة استطاعت من خلال هذه القمة أن تحقق العديد من أهداف السياسة الخارجية، التي تحرص إدارة أوباما على ترويجها على المستوى العالمي. ومن أهم النقاط التي تطرق إليها "إعلان بكين": الاستمرار في تحقيق التقدم في عملية الاندماج الاقتصادي بين الدول الأعضاء، والتأكيد على دور التجديد والإصلاح في  التنمية والنمو، وتعزيز وزيادة درجة التشابك في البنية الأساسية الإقليمية التي تربط بين دول أبيك.

 

لكن أهم المكاسب المباشرة التي حصلت عليها واشنطن من هذه القمة جاءت في القمة الثنائية التي عقدها الرئيسان الأمريكي والصيني، والتي اهتم العالم كثيرا بجوانبها المتعلقة بالمحافظة على البيئة وتقليل انبعاثات الكربون، وهو ما يمهد الطريق لإمكان التوصل بنجاح إلى اتفاقية لحماية البيئة في قمة المناخ المقبلة في باريس في العام المقبل. ومع ذلك فإن هناك مكاسب قد تبدو صغيرة لكنها عظيمة الأهمية، لم تركز عليها كثيرا أجهزة الإعلام والتي تتمثل في تسهيل تأشيرات الدخول بين البلدين، والاتفاق على تأشيرة متعددة الرحلات تكون سارية لمدة 10 سنوات لرجال الأعمال والمستثمرين، وتأشيرة مشابهة للطلاب تكون سارية لمدة 5 سنوات. كما تضمن إعلان القمة الصينية الأمريكية أيضا اتفاقات وتفاهمات بشأن مكافحة الإرهاب بكل أشكاله وأنواعه، والتعاون في كل المجالات المتعلقة بذلك مثل تبادل المعلومات والتضييق على منابع التمويل و الإرهاب الإلكتروني.

 

وتعتبر هذه المكاسب وغيرها خطوة كبيرة على طريق ضمان استمرار الصين داخل نطاق النظام العالمي الذي تريد الولايات المتحدة فرضه على العالم. وتقدر الولايات المتحدة الوزن الإستراتيجي للصين حاضرا ومستقبلا، وتسعى لأن تصبح الصين ركيزة من ركائز "نظام ليبرالي عالمي"! ليس المهم هنا أن يكون الحزب الشيوعي الصيني حاكما أم لا، وإنما المهم هو أن تشارك الصين قيم الولايات المتحدة المتعلقة بحرية الأسواق والمبادرة الاقتصادية الفردية والاندماج العالمي على أسس الاستقرار والسلام والرفاهية المشتركة. ويبدو أن كثيرين من المحللين لم ينظروا بعناية إلى الملحق (ب) من "إعلان بكين" والذي يرسم خريطة طريق لنظام إنتاجي عالمي يقوم على حرية الاستثمار والتجارة والعمل ويهدف إلى تطوير عملية إنتاجية لخلق القيمة المضافة من خلال "سلاسل عالمية" وليس من خلال مؤسسات أو شركات وطنية أو إقليمية. إن هذا الملحق، الذي أظهرت القيادة الصينية حماسا شديدا له، يعكس في واقع الأمر انتصارا لسياسة فتح وتحرير الأسواق على مستوى العالم بغرض تكريس وزيادة الرفاهية المشتركة لشعوب العالم. وإذا سارت الصين في هذا الطريق، فلا شك أن ذلك يضرب في مقتل دعاة إعادة تقسيم العالم أو العودة للحرب الباردة وانقسام العالم إلى كتل اقتصادية وسياسية وعسكرية متصارعة.

 

ولا يفوتني أن أختم ملاحظاتي في هذه النقطة بالتأكيد على حرص السياسة الخارجية الأمريكية على تنحية عوامل الصراع عن التأثير في روابطها العضوية مع التكتلات الإقليمية حول العالم، وتغذية عوامل التعاون والمصالح المشتركة، بقصد التقدم على طريق تطوير العلاقات العضوية مع التجمعات الإقليمية حول العالم، وتحويل هذه العلاقات إلى أساس سيرتكز عليه مستقبلا ما أسمِّيه "عصر السلام الأمريكي"، الذي يتكون هيكليا من تجمعات إقليمية وليس من دول قومية. وكان هذا واضحا في لقاءات أوباما في الصين (قمة أيبك والقمة الثنائية) وفي ميانمار (قمة آسيان). وأظنه أيضا سيتأكد بصورة عالمية في لقاءات مجموعة العشرين، التي تضم دولة عربية واحدة هي المملكة العربية السعودية.

تقدر الولايات المتحدة الوزن الإستراتيجي للصين حاضرا ومستقبلا، وتسعى لأن تصبح الصين ركيزة من ركائز "نظام ليبرالي عالمي"!

ثانيا: أولويات التعاون الدولي والإقليمي في المرحلة الراهنة

يبدو أن التعاون الدولي في المرحلة الراهنة راح يتخذ بوضوح منحى جديدا يختلف عما كان عليه منذ عقود مضت. وهذا المنحى الجديد تغلب عليه "التفاعلات التعاونية"، على عكس الحال خلال فترة الحرب الباردة عندما كانت "التفاعلات الصراعية" هي سيدة الموقف. وتبرز التفاعلات التعاونية على المستوى العالمي في مجالات مهمة أبرزها، تقليل الإنبعاثات الكربونية، والمحافظة على البيئة وما يسمى حاليا بـ "النمو الأخضر"، ومكافحة الأمراض والأوبئة، والتنمية والتعليم والعدالة الإجتماعية. وإذا ما نظرنا إلى موضوعات تركيز الدبلوماسية الدولية خلال الأسابيع الأخيرة، فسوف نقرأ عناوين مهمة مثل التعاون لمكافحة "وباء إيبولا"، والمحافظة على درجة حرارة الغلاف الجوي حول الأرض ومحاولة تخفيضها، وذلك في محاولة لإنقاذ المناطق المعرضة للغرق سواء الجزر في المحيطات والبحار أو المناطق المنخفضة المطلة على بحار ومحيطات العالم والتي كانت حتى وقت قريب عبارة عن مجموعة من البراري والمستنقعات مثل شمال دلتا نهر النيل في مصر.

 

وإذا كان اتفاق الصين والولايات المتحدة بشأن تخفيض انبعاثات الكربون أهم إنجاز للقمة الأمريكية الصينية في بكين، فإن ذلك لابد أن يستدعي إلى الذاكرة الموضوعات الرئيسية التي كانت توضع على رأس جدول الأعمال في اجتماعات القمة الأمريكية- السوفيتية قبل عام 1990. ففي سنوات الحرب الباردة وحتى سقوط الاتحاد السوفيتي كانت موضوعات الحد من التسلح وتخفيض الأسلحة الإستراتيجية وتخفيف حدة التوتر العسكري بين القوتين الأعظم، هي الموضوعات التي تشغل العالم كله وتترك آثارها عليه. أما الآن فإن التعاون المشترك من أجل حماية البيئة ومكافحة الأمراض والأوبئة وفتح أسواق العالم وزيادة معدلات التنمية والعمل من أجل تحقيق السلام والاستقرار، أصبحت هي الموضوعات الأكثر إلحاحا على جدول أعمال اللقاءات بين القوى الكبرى أو التجمعات الإقليمية العظمى في العالم. إننا لا نستطيع على الإطلاق أن نقول "ما أشبه الليلة بالبارحة" ولكننا بالتاكيد سنتفق على أن العالم أصبح يسير الآن في طريق يختلف عما كان عليه من قبل، وأن أولويات التعاون من أجل تحقيق المنافع المشتركة أو العمل المشترك من أجل درء المخاطر والتهديدات المشتركة أصبحت هي التي تطغى على حركة الدبلوماسية العالمية في الوقت الحاضر.

 

لقد انتهى عالم الحرب الباردة، ولا أظن أن أغلبية دول العالم ستسمح بعودة الحرب الباردة بسهولة لتخيم على السياسة العالمية من جديد. الاتحاد الأوربي ليست لدوله مصلحة في ذلك، وكذلك دول أيبك ونافتا وميركوسور والأمريكتين وغيرها. ومن ثم فإن الخطاب السياسي الذي سيطر على لغة الدبلوماسية العالمية خلال الفترة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى سقوط سور برلين لا مكان له في عالم اليوم. وللتدليل على ذلك ما علينا إلا أن نقرأ بعناية وبعقل الوثائق الصادرة عن اجتماعات القمة الأخيرة لمجموعات مهمة من الدول، سواء تلك المنتظمة في إطار "تحالفات إقليمية" أو غيرها من تلك التي تشارك في صنع المستقبل العالمي من خلال منتديات أو تجمعات عالمية مثل مجموعة الدول الثماني أو مجموعة الدول العشرين.

تحرص أمريكا على تنحية عوامل الصراع وتغذية التعاون والمصالح المشتركة، بقصد التقدم على طريق تطوير العلاقات مع التجمعات الإقليمية حول العالم، وذلك في إطار ما يعرف باسم "عصر السلام ال

ثالثا: إعادة ترتيب الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط

تعتبر منطقة الشرق الأوسط أقل مناطق العالم استقرار وأشدها توترا على الإطلاق بسبب كم ونوع النزاعات المتوطنة فيها والتي تتراوح من مجرد نزاعات حدودية بين بعض الدول إلى صراعات بقاء سياسية ذات طابع ديني أو عرقي أو طائفي. ولقد تركت الديبلوماسية الأمريكية ظلالها على تطورات الأحداث في الإسبوع المنقضي حتى منتصف نوفمبر الحالي. وكان من أبرز التطورات التي وقعت في المنطقة والتي أسهمت فيها الولايات المتحدة بشكل مباشر أو غير مباشر: تقارب خليجي- إيراني من بوابة مسقط، وتقارب سعودي- عراقي من بوابة زيارة الرئيس العراقي للرياض، وتقارب إسرائيلي- أردني من بوابة اللقاء الثلاثي بين كيري والملك عبدالله بن الحسين وبنيامين نتانياهو في العاصمة الأردنية عمان، وتهدئة في الداخل اللبناني مصحوبة بدعوة من الأمين العام للأمم المتحدة لعقد جلسة للبرلمان اللبناني لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهي نتيجة من نتائج التقارب الأمريكي الإيراني، إضافة إلى محاولة تعزيز الجهود ضد العصابات المسلحة لما يسمى بـ "الدولة الإسلامية في بلاد الشام والعراق".

 

1- اجتماع مسقط الرباعي

شهدت العاصمة العمانية مسقط خلال يومي 9 و10 نوفمبر سلسلة من الإجتماعات بين وزير الخارجية الأمريكي والسلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان، وشملت هذه الاجتماعات اجتماعا رباعيا مهما ضم كلا من السيدة كاثرين أشتون مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوربي، إضافة إلى وزير خارجية سلطنة عمان، يوسف العلوي عبد اللـه، ووزير خارجية إيران محمد جواد ظريف. وعلى الرغم من أن الكلمة المقتضبة التي ألقاها جون كيري بعد نهاية الإجتماع الرباعي لم تتضمن أي شيء ذي قيمة غير الإشادة بدور السلطان قابوس وبدور سلطنة عمان والحفاوة وكرم الاستقبال الذي أقيم في قصر البستان، إلا أن تشكيل الوفد الذي صاحب كيري في زيارته إلى مسقط ربما يكشف الكثير عن الموضوعات التي جرى تناولها في الإجتماع. فقد ضم الوفد الأمريكي السفير وليام بيرنز نائب وزير الخارجية الأمريكي سابقا (شغل مناصب مسؤول إدارة الشرق الأوسط وسفير الولايات المتحدة لدى كل من مصر وإسرائيل من قبل)، إضافة إلى وكيل وزارة الخارجية للشئون السياسية ويندي شيرمان ومستشار الوزير جاك سوليفان.

 

وقد جاء هذا اللقاء وسط جدل صاخب بين واشنطن وتل أبيب حول سياسة الولايات المتحدة الجديدة تجاه إيران، التي تعتبر إيران "شريكا" في الحرب على الإرهاب. وتعارض إسرائيل بقوة هذه السياسة على اعتبار أن إيران هي "عدو" ولا يمكن أن تكون "شريكا". وهذا ما عبر عنه بوضوح رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو بعد تسرب خبر رسالة أوباما السرية إلى الرئيس الإيراني روحاني، والتي دعا فيها إوباما إلى التعاون عن قرب بين البلدين، على قاعدة المصالح المشتركة في الشرق الأوسط، في مقابل منح إيران مهلة جديدة للتفاوض بشأن برنامجها النووي. وقد ترك التفارب الأمريكي مع إيران قلقا كبيرا في بعض الأوساط الخليجية، مما يبدو أنه كان واحدا من دوافع زيارة كيري إلى مسقط وعقد لقاء هناك ضم وزير خارجية إيران. وقد جاء اختيار مسقط  كمكان لهذا الاجتماع الرباعي نظرا لأن السياسة العمانية الخارجية المستقلة، تحتفظ بعلاقات دافئة دائما مع إيران، وإنها في الوقت نفسه بوابة مهمة من بوابات التأثير في مواقف دول مجلس التعاون الخليجي.

 

ويبدو إن هذا الاجتماع كان أيضا بمثابة امتداد لاجتماع وزيري خارجية كل من إيران والمملكة العربية السعودية (21 سبتمبر 2014) على هامش افتتاح اجتماعات الدورة الجديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي جاء بعد أكثر من عام على تولي الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني، مهام سلطته في البلاد في أغسطس عام 2013. وقد اهتمت إيران كثيرا بالتركيز على الدلالات الإقليمية لهذا اللقاء، في حين أن المملكة العربية السعودية كانت أكثر حذرا. لكن من الواضح أن الاجتماع الرباعي في مسقط، تتجاوز أهميته حدود العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، وتصل إلى مناقشات ربما تناولت وضع أسس لحالة توازن جديد في المنطقة تشمل اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، إضافة للتحالف الدولي ضد (داعش) والحرب على الإرهاب.

تبرز التفاعلات التعاونية على المستوى العالمي في مجالات أبرزها، تقليل الإنبعاثات الكربونية، والبيئة وما يسمى حاليا بـ "النمو الأخضر"، ومكافحة الأمراض والأوبئة، والتنمية والتعليم وال

ومما يعزز هذا التحليل أن لسلطنة عمان مصلحة جوهرية في  استقرار الأوضاع  في اليمن، وضمان عدم تناثر شظايا نيران حرائق التوتر في اليمن إلى الحدود الغربية العمانية. ويعتبر وجود وزيري الخارجية الإيراني والأمريكي في العاصمة مسقط حافزا لمسئولي السياسة الخارجية العمانية لمناقشة الأوضاع في اليمن. وفي أعقاب الاجتماع الرباعي في مسقط، بدأ الرئيس العراقي فؤاد معصوم زيارة للمملكة العربية السعودية، على رأس وفد عراقي رفيع المستوى، توجّه إلى الرياض وعقد لقاءات مهمة مع قيادات سعودية على رأسها الملك عبد اللـه بن عبد العزيز. ومن أهم ما أسفر عن هذه الزيارة من نتائج تمثل في اتخاذ قرار بإعادة فتح السفارة السعودية في بغداد، والثناء على الدور الذي يقوم به المرجع الشيعي السيد علي السيستاني في العراق، إضافة إلى بحث أوجه التعاون المشترك في مجالات مكافحة الإرهاب.

 

وكانت العلاقات العراقية - السعودية قد انحدرت إلى أدنى مستوياتها خلال الفترة التي ترأس فيها نوري المالكي رئاسة الحكومة في العراق. وتدهورت هذه العلاقات كثيرا في الأشهر الأخيرة عندما وجهت أوساط عراقية اتهامات مباشرة إلى السعودية بأنها وراء دعم التطرف الديني بين الجماعات المقاتلة السنيّة في العراق. ولذلك فإن زيارة الرئيس العراقي فؤاد معصوم، وليس رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي، كانت بمثابة خطوة ضرورية لتهدئة التوتر بين الدولتين، وإفساح الطريق لحقبة جديدة من التعاون على أرضية قدر كاف من الثقة المتبادلة بين قيادتي الدولتين. ولا شك أن إيران لعبت دورا مهما في تمهيد الطريق عراقيا لإتمام هذه الزيارة ولضمان نجاحها. ومن المنتظر بعد إعادة فتح السفارة السعودية في العراق، أن توفر هذه السفارة قناة للتواصل السعودي مع كل من العراق وإيران وليس مع العراق فقط.

 

2- اللقاء الثلاثي في عمان

توجّه جون كيري إلى العاصمة الأردنية عمان يومي 12 و13 نوفمبر في وقت كانت فيه الضفة الغربية وعموم الأراضي الفلسطينية المحتلة تغلي، بسبب منع المصلين المسلمين من الوصول إلى المسجد الأقصى. وقد التقي كيري هناك كلا من الملك عبد اللـه بن الحسين ملك الأردن، وبنيامين نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل، كما أجرى من هناك اتصالات هاتفية مع كل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الفلسطيني محمود عباس. واستطاع كيري ببراعة أن يحصر النقاش داخل اللقاء الثلاثي في موضوعات يستطيع فيها تحقيق نتائج إيجابية، فابتعد عن موضوع الاستيطان ومصادرة أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية، مكتفيا بطمأنة ملك الأردن بصيغة البيان الذي أصدرته الخارجية الأمريكية، والذي تدين فيه عمليات بناء مساكن جديدة في القدس وما حولها وتعتبرها عقبة في وجه السلام.

 

ولهذا السبب نفسه فإن جون كيري تجنّب دعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى اللقاء، لأن مشاركة عباس كان من شأنها أن تفتح ملف الاستيطان على مصراعية، إضافة إلى العنف الإسرائيلي المتزايد ضد الفلسطينيين. وأعتقد أن كيري لم يكن يقصد من لقائه في عمان إلا التمهيد لاستئناف مفاوضات السلام بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية عندما تصبح الظروف السياسية أكثر ملاءمة. ومن ثم فإن نجاح اللقاء الثلاثي قام على أساس حصر موضوع الحوار فيما يخص الصلاة في المسجد الأقصى حصرا وفتح المسجد للصلاة أمام المسلمين وتأكيد تبعية المسجد الأقصى للوقف الإسلامي الذي يشرف عليه الأردن من الناحية العملية. وكان المؤتمر الصحفي الذي عقده كيري مع وزير الخارجية الأردني ناصر جودة شديد الوضوح في هذا الآتجاه. وعلى الرغم من أن اللقاء الثلاثي في العاصمة الأردنية عمان تطرق إلى مسائل أخرى مثل الأوضاع في سوريا ولبنان والعراق، فإن موضوع الصلاة في المسجد الأقصى كان هو الموضوع الرئيسي الذي سيطر على اللقاء، وهو ما ربما يقود في المرحلة المقبلة إلى تقليص حدود القضية الفلسطينية، وإلى تحويل شعار "إقامة دولتين" على أرض فلسطين، واحدة لليهود وأخرى للعرب، إلى مجرد شعار رمزي وشكلي وخال من المضمون، على الرغم من الزخم الدبلوماسي الذي يحصل عليه باعترافات رمزية بالدولة الفلسطينية في أوربا الغربية وفي كل أنحاء العالم. لقد نجح كيري على أي حال في طمأنة نتانياهو باستبعاد موضوع المستوطنات من اللقاء، كما طمأن الملك عبد اللـه بن الحسين، بتأكيد بقاء الوضع بالنسبة للصلاة في الأقصى بدون تغيير، بما يضمن الحق الحصري للمسلمين للصلاة في المسجد الأقصى، وحق اليهود والمسيحيين في زيارة المسجد.

 

3- زيارة وفد رجال الأعمال الأمريكي إلى مصر

تضمن النشاط الدبلوماسي واسع النطاق الذي قامت به الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط خلال الأسبوع المنقضي في 15 نوفمبر زيارة قام بها وفد من رجال الأعمال الأمريكيين (11-12 نوفمبر) هو الأكبر من نوعه في تاريخ العلاقات بين البلدين، ضم ممثلين أكثر من 60 شركة أمريكية برئاسة مبعوث خاص لوزير الخارجية الأمريكي هو السفير ديفيد ثورن. وقد جاءت زيارة هذا الوفد كبادرة إيجابية من غرفة التجارة الأمريكية لمحاولة تجاوز حالة الاحتقان في العلاقات بين القاهرة وواشنطن، واستطلاع فرص الاستثمار في مصر، والمشاركة في المؤتمر الاقتصادي العالمي لمساندة الاقتصاد المصري الذي كانت الحكومة المصرية قد أعلنت عنه والمقرر أن يعقد في الربع الأول أو بداية الربع الثاني من العام 2015. وقد تم استقبال الوفد استقبالا حافلا في القاهرة، حيث التقى ممثلو الشركات الأمريكية كلا من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وعدد من الوزراء في مجالات مهمة مثل الطاقة والاستثمار والبنية الأساسية.

 

وتجسد هذه الزيارة منطق السياسة الخارجية الأمريكية من زاويتين: الأولى هي العمل دائما على المحافظة على المصالح الاقتصادية الأمريكية حول العالم وفي الشرق الأوسط ومصر، ومحاولة إبعاد هذه المصالح عن التأثر السلبي بالاحتقان الحالي في العلاقات السياسية والعسكرية بين القاهرة وواشنطن. أما الزاوية الثانية فتتمثل في توظيف "سياسة الاحتواء" ومنع التصعيد وتجنب زيادة التوتر في العلاقات بين البلدين على المستوى الرسمي، على الرغم من أن ذلك لا يمنع استخدام قنوات الضغط الملائمة، والالتزام بالأهداف الإستراتيجية للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه مصر. وأعتقد أن وزارة الخارجية وغرفة التجارة الأمريكيتين تحاولان، كل من ناحيتها، العمل على الحد من تدهور العلاقات المصرية - الأمريكية، وترقب احتمالات عودة الدفء إلى هذه العلاقات في وقت قادم.

 

إن سياسة الولايات المتحدة الخارجية مع مصر تعتمد على توظيف الكثير من أدوات الدبلوماسية، ومنها دبلوماسية المؤتمرات ووفود رجال الأعمال، ولن تضحي الولايات المتحدة بسهولة بتحالف غستراتيجي مع مصر بدأ نسج خيوطه منذ نحو 40 عاما، وأنفقت في سبيله واشنطن الكثير من الوقت والجهد والموارد. إن إحدى الدلالات التي تنطوي عليها زيارة وفد رجال الأعمال الأمريكيين إلى مصر تتمثل في حرص الولايات المتحدة على استمرار علاقاتها الإستراتيجية مع مصر، واعتبار القاهرة ركيزة من ركائز النظام الإقليمي الجديد الذي تسعى واشنطن إلى فرضه في المنطقة، خصوصا فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب وإقامة سلام دائم بين إسرائيل وفلسطين. وعلى الرغم من أن ذلك قد يبدو مختلفا مع توجهات البيت الأبيض أو البنتاجون تجاه مصر، فإن النظر إلى طبيعة الخريطة السياسية في الولايات المتحدة، يتيح لنا دائما فرصا لاكتشاف مصادر القوة والضعف ومقومات التعاون والصراع في سياسة أمريكا الخارجية. نحن في مصر في حاجة أكبر لأن نفهم ذلك، وأن نبني سياسة خارجية على أسس مستقرة، ليس فقط تجاه الولايات المتحدة ولكن تجاه أي دولة في العالم، كبيرة كانت أم صغيرة. 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟