اتفاق مسبق: ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين مصر وقبرص
ثار في الأشهر الأخيرة جدل كبير حول حدود المساحات البحرية الفاصلة بين مصر وبعض الدول المقابلة والمجاورة لها، لا سيما ما يتعلق بحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بينها وبين كل من قبرص من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى.
ولقد كان مرد هذا الجدل، وإثارته في هذا التوقيت بالذات، ما أُعلن عنه من اكتشافات ضخمة من الغاز الطبيعي في المنطقة الاقتصادية الخالصة في كل من قبرص وإسرائيل، قيل إنها تقع في حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة لمصر، كما قيل إن هذا الأمر يترتب عليه خسارة مصر لحولي 120 مليار دولار هي قيمة الغاز الذي أعلنت قبرص عن اكتشافه في هذه المياه، فضلًا عن 100 مليار دولار أخرى هي قيمة ما أعلنت إسرائيل عن اكتشافه منه.
وقد وصل الحال بالقائلين بهذا إلى حد رفع دعاوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري يطالبون فيها بإلغاء اتفاقية تحديد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة الموقَّعة بين مصر وقبرص عام 2003؛ على أساس أن ثَمَّة تواطئًا– من مؤسسات الدولة المصرية والقائمين عليها لصالح قبرص؟!- قد حدث عند توقيع هذه الاتفاقية والتصديق عليها، وأن ثَمَّة من الدلائل ما يشير إلى سيادة مصر على أجزاء من البحر من تلك التي حصلت عليها قبرص بموجب الاتفاقية، حيث أشار تقرير مُقدَّم إلى مجلس الشورى المصري من جانب أحد أعضائه عام 2012، وهو التقرير الذي استند إليه رافعو الدعوى القضائية، إلى أن "جبل أيراتوستينس الغاطس" - أي تحت مياه البحر المتوسط- الذي تقوم قبرص بالتنقيب عن البترول والغاز في سفحه، تعود ملكيته إلى مصر منذ نحو عام 200 قبل الميلاد؟!
والواقع أنه، وعلي الرغم من كون الموضوع المثار موضوعًا قانونيًّا بالدرجة الأولى، وله من الأبعاد الفنية الدقيقة ما يجعله –شأن كل حالات ترسيم الحدود البحرية- من أكثر موضوعات القانون الدولي للبحار صعوبة وتعقيدًا، فإن إثارته على نحو ما تمت به من جانب غير المتخصصين، وما ارتبط بذلك من ضجة إعلامية ودعائية، تصرف النظر عما ينبغي التفكير فيه من وجوب العمل على استكمال منظومة ترسيم الحدود البحرية بين مصر وباقي الدول المجاورة والمقابلة لها من جانب، وتحمل في طياتها الكثير من المخاطر على مصالح مصر وعلاقاتها بجيرانها من جانب آخر.
ومن ثَمَّ، فقد وَجدْت من الملائم أن أعرض لهذا الموضوع عرضًا علميًّا هادئًّا، في ضوء اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، وهي الاتفاقية الدولية الشارعة العامة التي تحكم كلًّا ما يتعلق بالبحار في عالمنا المعاصر، والتي صدَّقت عليها كل من مصر وقبرص، وفي ضوء الاتفاقية الموقعة بين هاتين الدولتين عام 2003 بشأن تحديد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما. عسي أن يكون في مثل هذا العرض ما يفيد في هذا المقام، وما يجلي غموضًا لدى المعنيين بشئون هذا الوطن.
أولًا: حدود وأحكام المنطقة الاقتصادية الخالصة في ضوء اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار
تركز الدراسة التي بين أيدينا على المنطقة الاقتصادية الخالصة، وهي من الناحية القانونية هي منطقة جديدة من مناطق البحر بدأ الحديث عنها في أوائل خمسينيات القرن العشرين، وتشير إلى منطقة واسعة من البحر لا تمارس الدولة الساحلية عليها السيادة إلا في المجال الاقتصادي فقط –ومن هنا تسميتها بالمنطقة الاقتصادية الخالصة- أي في مجال استثمار الثروات الحية وغير الحية –المعدنية والبترولية– في هذه المنطقة، على أن تبقي المنطقة في غير هذه الشئون جزءًا من أعالي البحار، أو إن شئت فقل إن سيادة الدولة، أو بالأحري سلطتها، على منطقتها الاقتصادية الخالصة تقتصر على جانب الاستكشاف والاستغلال الاقتصادي للموارد الطبيعية الحية وغير الحية الموجودة في المياه، وفي القاع وتحت القاع. أما الملاحة فتبقي حرة تمامًا؛ إعمالًا للقاعدة العامة، وهي قاعدة حرية الملاحة في أعالي البحار.
وبعبارة أخرى، فإن المنطقة الاقتصادية الخالصة ليست بحرًا إقليميًّا للدولة، كما أنها ليست جزءًا من أعالي البحار التي لا ولاية لأحد عليها، فهي تجمع بين خصائص البحر الإقليمي، حيث السيادة الكاملة، فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية فقط في هذه المنطقة، وخصائص أعالي البحار من حيث الحريات المطلقة في الملاحة البحرية والجوية لكل الدول.
وبالتالي فإن المنطقة الاقتصادية الخالصة هي منطقة ذات طابع قانوني خاص، فهي ليست مياهًا إقليمية، ولا هي مياه من أعالي البحار. وهي تقوم أساسًا على التمييز بين الثروات الكامنة فيها من ناحية، والاتصالات من ناحية أخرى، إذ يُعترف فيها بالمصالح الاقتصادية للدول الساحلية، مع المحافظة على مبدأ حرية الملاحة، والتحليق، ووضع الأسلاك والأنابيب بالنسبة للدول الأخرى(1)، أو إن شئت فقل، كما يرى البعض، إن المنطقة الاقتصادية الخالصة هي بمثابة منطقة انتقالية بين البحار الإقليمية التي تتمتع عليها الدول الساحلية بسيادة كاملة لا يحدها سوى "المرور البريء"، وبين أعالي البحار التي لا ولاية لأحد عليها، حيث الحريات التقليدية المطلقة لكافة الدول.
وتعتبر المنطقة الاقتصادية الخالصة على هذا النحو بمثابة الحل الوسط بين اتجاه الدول الساحلية نحو بسط ولايتها الإقليمية على مساحات كبيرة من البحر العالي؛ من أجل الانفراد بثرواتها، وحماية بيئتها البحرية، والحفاظ على أمنها، وبين اتجاه الدول البحرية الكبرى في مواجهة هذا الاتجاه، ومحاولة قصره على أدنى امتداد ممكن، وبأقل قدر من السلطات والاختصاصات الإقليمية في تلك المنطقة(2).
وتأكيدًا على الوضع القانوني الخاص للمنطقة الاقتصادية الخالصة، فقد أشار أنصار الاتجاه المؤيد لمضمونها، من الدول النامية على وجه الخصوص، إلى فكرة "الولاية غير المسندة" في المنطقة طبقًا للمادة (59) من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، حيث إن تخصيص الحقوق والولاية بمقتضى الاتفاقية ليس كاملًا وواضحًا على الدوام. ومن ثَمَّ فقد تنشأ بين الدولة الساحلية وأية دولة أخرى منازعات بشأن الحقوق والولاية التي لم تسند. ولذلك نصت المادة (59) على أن يتم حل النزاعات التي تثور في هذا الصدد على أساس الإنصاف، وفي ضوء كافة الظروف ذات الصلة، مع مراعاة أهمية المصالح موضوع النزاع بالنسبة لكافة الأطراف، وإلى المجتمع الدولي ككل.
والحق أن خلافًا كبيرًا كان قد ثار بين الدول البحرية الكبرى والدول النامية في هذا الخصوص. فلقد تمسكت الدول البحرية الكبرى باعتبار المنطقة الاقتصادية الخالصة جزءًا من أعالي البحار، وهو ما ظهر جليًّا في أبريل 1982 في نهاية الدورة الحادية عشرة من مؤتمر الأمم المتحدة الثالث لقانون البحار، وذلك عندما عارضت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وفنزويلا وغيرهم مشروع اتفاقية قانون البحار، وامتنعت سبع عشرة دولة عن التصويت عليها، كان من بينهم الألمانيتان -قبل توحدهما- والاتحاد السوفيتي وأسبانيا وإيطاليا وغيرهم.
ولعل الصعوبات الكبيرة التي واجهتها اللجنة التحضيرية للمؤتمر بسبب موقف الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الصناعية الكبرى من الجزء الحادي عشر من الاتفاقية والخاص بمنطقة "التراث المشترك للإنسانية"، من أبرز الدلائل على موقف الدول الكبرى في هذا الصدد.
علي أن نجاح دول العالم الثالث في إقرار الجزء الحادي عشر من الاتفاقية من جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة، ودخول الاتفاقية حيز النفاذ في 16 نوفمبر 1994 كان بمثابة إنجاز كبير لها في مواجهة الدول البحرية الكبرى، وموقفها المتعنت من الاتفاقية ومن أحكامها التي تحوي قدرًا من العدالة من قبيل تلك المتعلقة بالمنطقة الاقتصادية الخالصة، ولا سيما تلك المتعلقة بمنطقة التراث المشترك للإنسانية(3).
والواقع أن التفاوت الكبير في الإمكانات بين الدول البحرية الكبرى والدول النامية كان من أبرز العوامل التي تشجع الدول الكبرى على التمسك باستغلال ثروات وموارد المنطقة الاقتصادية الخالصة، وحرمان الدول النامية من السيطرة عليها. فهي –أي الدول الكبرى– تملك القدرات والمكنات التي تُمكِّنها من استخراج والاستفادة من هذه الثروات والموارد، على عكس الدول النامية التي لا تملك مثل هذه القدرة والامكانية.
وهذا هو ما حاولت الجمعية العامة للأمم المتحدة التغلب عليه في قرارها رقم (3202) الصادر في مايو 1974 الذي تضمن برنامج عمل من أجل نظام اقتصادي عالمي جديد، والذي وضع في حيثياته ثروات البحار والمحيطات بكافة صورها وأشكالها؛ حتى يكفل لهذه الثروات نظامًا خاصًا للاستغلال لا يسمح للدول المتقدمة بالانفراد بها دون سواها من الدول، فضلًا عن وجوب النظر في الأوضاع الخاصة لبعض الدول الحبيسة والمتضررة جغرافيًا، على نحو يكفل مزيدًا من الضمانات للاشتراك في الاستفادة بثروات البحار والمحيطات.
ذلك هو ما كان يستوجب تطوير قواعد القانون الدولي للبحار؛ كي تضمن حقوق الدول الساحلية وغير الساحلية، سواءً أكانت من الدول الصناعية ذات الإمكانات، أو الدول النامية التي تسعى للحفاظ على حقوقها المشروعة في بحارها، بما يحقق التوازن المنشود بين المصالح الوطنية لجميع الدول.
وكانت الدول النامية، ومن بينها مصر، قد ارتكزت في دفاعها عن مصالحها في المشروع التمهيدي للاتفاقية، الذي تم اعتماده فيما بعد، على عدة عوامل، من بينها أن ممارسة حقوق السيادة على المصادر الطبيعية والثروات المتجددة بالمنطقة الاقتصادية الخالصة هو حق أصيل لها من ناحية، فضلًا عن اعتبارات الأمن والسيطرة والرقابة على الحدود البحرية للدولة الساحلية من جانب آخر.
إضافة إلى هذا، فإن دول العالم النامي في دفاعها عن حقوقها في المنطقة تستند إلى أن ثَمَّة التزامات على عاتقها تقررها المادة (58) من اتفاقية قانون البحار لصالح الدول الأخرى، وهي التزامات متعلقة بالملاحة والتحليق، ووضع الكابلات وخطوط الأنابيب المغمورة، وأنها هي –أي الدول النامية– ملتزمة بهذه الحريات لصالح الدول غير الساحلية.
وكانت مصر ضمن الدول التي أظهرت هذه الوجهة من النظر، وأضافت إلى ذلك التحكم والسيطرة على مرور السفن الحربية الأجنبية إلى المياه الإقليمية للدولة، وأكدت على وجوب التصريح المسبق لمرور هذه السفن في البحر الإقليمي للدولة الساحلية.
وقد تلخصت اهتمامات الدول النامية في المنطقة الاقتصادية الخالصة في ثلاثة موضوعات هامة هي: أولًا، الولاية الخالصة على الموارد الحية وغير الحية بما فيها الصيد وثروات الامتداد القاري (الجرف القاري)، ثانيًا، الولاية في العمل على منع التلوث البحري والسيطرة على العوامل المسببة له، وثالثًا، حق الدولة الساحلية في السيطرة على مرور السفن الأجنبية في المنطق(4).
ولقد كان للعديد من مندوبي الدول الموقِّعة على الاتفاقية تصريحات تؤيد خضوع المنطقة لولاية الدولة الساحلية. وكان من أهم هذه التصريحات ما ذهب إليه مندوب مصر حين أعلن أنه فيما يتعلق بالمنطقة الاقتصادية الخالصة، فإن الدولة الساحلية تباشر عليها الحقوق السيادية لغرض استكشاف واستغلال الموارد الطبيعية الحية وغير الحية للمياه التي قاع البحر ولقاع البحر وباطن أرضه وحفظ هذه الموارد وإدارتها، وهو إعلان يتسم بدرجة كبيرة من الشمول والعمومية؛ حيث يجمع بين الحقوق السيادية للدولة الساحلية، وكذلك حق الاستغلال والاستكشاف.
أي أنه طبقًا لهذا الإعلان، فإن للدولة الساحلية حقوقًا جامعة ومانعة في المنطقة. فحقوق الدول الساحلية في المنطقة هي حقوق أفضلية للاستغلال فيها، وحقوق خالصة مانعة، بمعنى أنه إذا لم تكتشف الدولة الساحلية الموارد الطبيعية الموجودة في المنطقة، أو لم تقم باستغلال هذه الموارد، فإن أحدًا لا يمكنه مزاولة أي نشاط في هذا السياق، ولا أن يطالب بحقوق فيها من غير موافقة صريحة من الدولة الساحلية.
ولقد جاءت المادة (57) من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار بتحديد لنطاق المنطقة الاقتصادية الخالصة، فنصت على أن "لا تمتد المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى أكثر من 200 ميل بحري من خطوط الأساس التي يقاس منها عرض البحر الإقليمي".
ومن الجدير بالإشارة في هذا السياق أن المائتي ميل الواردة في هذه المادة إنما تحدد النطاق الخارجي للمنطقة الاقتصادية الخالصة. ومن ثَمَّ فإنها تقاس من خطوط قياس البحر الإقليمي. أي أن امتداد المنطقة لا يزيد عن المائتي ميل بحري، وبالتالي فإن للدولة الساحلية أن تتوقف بمنطقتها الاقتصادية الخالصة في حدود دون ذلك الحد الأقصي، كما أنه من الطبيعي أن يكون للاعتبارات الجغرافية، لا سيما منها ما يرتبط بمدى اتساع البحر، تأثيرها على تحديد امتداد المنطقة الاقتصادية الخالصة.
وتقضي المادة (74) من الاتفاقية بأن يكون "تحديد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين الدول ذات السواحل المتقابلة أو المتلاصقة عن طريق الاتفاق على أساس القانون الدولي، طبقًا للمادة (38) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، من أجل التوصل إلى حل منصف".
ويتعين في هذا السياق أن يتم تحديد خطوط الحد الخارجي للمنطقة الاقتصادية الخالصة، وخطوط التحديد المرسومة وفقًا للمادة (74) على خرائط ذات مقياس أو مقاييس ملائمة للتثبت من موقعها. ويجوز، حين يكون ذلك ملائمًا، الاستعاضة عن خطوط الحد الخارجي أو خطوط التحديد هذه بقوائم الإحداثيات الجغرافية للنقاط التي تعين المستند الجيوديسي". كذلك فإنه يتعين على الدولة الساحلية أن تعلن عن هذه الخرائط أو قوائم الإحداثيات الجغرافية، وأن تودع لدى الأمين العام للأمم المتحدة نسخة من كل خريطة أو قائمة منها.
وهكذا نخلص مما تقدم إلى أن ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة يعني تعيين النطاق الخارجي لها مقاسًا من خط الأساس، على ألا يتجاوز 200 ميل بحري في حده الأقصى، وسواءً أكان ذلك على خرائط، أو قوائم إحداثية، مع الأخذ بعين الاعتبار المحددات الجغرافية، والاعتبارات القانونية المتفق عليها على أساس قواعد القانون الدولي ذات الصلة(5).
وتُعرَّف المنطقة الاقتصادية الخالصة بأنها "المنطقة الواقعة وراء البحر الإقليمي للدولة وملاصقة "له، ويحكمها النظام القانوني المميز والمقرر في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، والذي تخضع بموجبه حقوق الدولة الساحلية وولايتها، وحقوق الدول الأخرى وحرياتها، للأحكام ذات الصلة من هذه الاتفاقية.
ويعد هذا التعريف، والذي أوردته المادة (55) من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، بمثابة تحديد واضح وصريح لما للدولة الساحلية من حقوق على المنطقة على اختلاف وجهات النظر حول الطبيعة القانونية للمنطقة من الجهات المختلفة، بين من كانوا يعتبرونها جزءًا من أعالي البحار، ومن أرادوا لها أن تكون خاضعة تمامًا لولاية الدولة الساحلية وسيادتها، وبين الوضع القانوني الخاص الذي أضفته عليها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982(6)، وذلك من ناحية وجوب تحديد المسافة التي يتم فيها استغلال واستكشاف المصادر والموارد الحية وغير الحية، أو عدم وجوب تحديد المسافة المحددة للاستغلال لكل المصادر، وجعلها جزءًا من التراث المشترك للإنسانية التي يحق لجميع الدول استغلاله.
وتحدد المادة (56) من الاتفاقية سلطات واختصاصات الدول في المنطقة الاقتصادية الخالصة من خلال النص على أنه "يكون للدولة الساحلية حقوق سيادية بغرض استكشاف واستغلال الموارد الطبيعية الحية منها وغير الحية للمياه التي تعلو قاع البحر، ولقاع البحر، وباطن أرضه، وحفظ هذه الموارد، وإدارتها"، وكذلك فيما يتعلق بالأنشطة الأخرى للاستكشاف والاستغلال الاقتصاديين للمنطقة كإنتاج الطاقة من المياه والتيارات والرياح.
كما تضيف المادة (56) حقوقًا أخرى، مثل إقامة الجزر الاصطناعية، والمنشآت، والتركيبات، والبحث العلمي البحري، وحماية البيئة البحرية والحفاظ عليها، على أن تولي الدول الساحلية في ممارستها لحقوقها هذه، وأدائها لواجباتها، بموجب هذه الاتفاقية في المنطقة، المراعاة الواجبة لحقوق الدول الأخرى، والمنصوص عليها في المواد أرقام (58) و(88) و(115) من الاتفاقية. وفضلًا عن تناولنا لتعريف المنطقة الاقتصادية الخالصة، نتناول النقاط الهامة التالية:
1- الحقوق السيادية وحقوق الولاية للدولة الساحلية على المنطقة الاقتصادية الخالصة
إن الغاية من إقامة المنطقة الاقتصادية الخالصة هي ضمان سيطرة الدولة الساحلية على كامل الثروات التي تحتويها البحار الملاصقة لشواطئها. ويبين من التعريف الذي أوردته المادة (55) من الاتفاقية للمنطقة أن للدولة الساحلية حقوقًا سيادية وحقوق ولاية عليها.
وتنحصر الحقوق السيادية فيما قررته المادة (56) من النص على أن للدولة الساحلية في المنطقة الاقتصادية الخالصة حقوقًا سيادية لغرض استكشاف واستغلال الموارد الطبيعية الحية وغير الحية للمياه التي تعلو قاع البحر وقاع البحر وباطن أرضه، وحفظ هذه الموارد وإدارتها، وكذلك فيما يتعلق بالأنشطة الأخرى للاستكشاف والاستغلال الاقتصاديين للمنطقة، كإنتاج الطاقة من المياه والتيارات والرياح.
وتعني الثروات الحية في المنطقة الموارد الطبيعية بكافة أنواعها، سواء أكانت نباتية أو حيوانية، وسواء وجدت على سطح الماء، أو داخل عموده، أو على القاع، أو أسفل قاع المنطقة.ولقد منحت الاتفاقية للدولة الساحلية الحق في استكشاف واستغلال الثروات الحية، سواءً أكانت أسماكًا بكافة أنواعها، أو غيرها من الثروات الحيوانية والنباتية.
فللدولة الساحلية حق مطلق وخالص في صيد وإدارة هذه الموارد، والحق في إقامة المزارع السمكية. كما أن لها الحق في المحافظة عليها من خلال تحديد كميات الصيد المسموح بها من جهة، والتدابير اللازمة لحفظ وإدارة هذه الموارد؛ لتفادي تعريضها للاستغلال المفرط.
أما فيما يتعلق بالموارد الطبيعية غير الحية، فتباشر الدولة حقوقها في شأنها من خلال الاستكشاف، والاستغلال، وإقامة المنشآت والتركيبات، والجزر الصناعية اللازمة لذلك، وهو ما ساعد عليه إلى حد بعيد التطور العلمي والتكنولوجي الكبير في هذا المجال(7). أما حقوق الولاية التي للدولة الساحلية في المنطقة فهي حقوق إشراف ورقابة وتنظيم فحسب(8). وبالتالي فهي تغاير حقوق السيادة. ذلك أن ثمة تباينًا كبيرًا بين مفهومي الولاية والسيادة. فالسيادة هي السلطة العليا لإدارة شئون الدولة دون سواها، أما الولاية فلا تتجاوز الاختصاص بالإشراف والرقابة والتنظيم.
وإذا نظرنا إلى ولاية الدولة الساحلية على المنطقة، نجد أن لها هذه الحقوق، سواءً أقامت بالأنشطة المنصوص عليها في المادة (56ب) بنفسها، أو أوكلت لغيرها أمر القيام بذلك بعد الترخيص له من جانبها. وتقضي المادة (56 ب) بأن للدولة الساحلية ولاية على الوجه المنصوص عليه في الأحكام ذات الصلة من هذه الاتفاقية فيما يتعلق بما يلي:
أ- إقامة واستعمال الجزر الصناعية والمنشآت والتركيبات.
ب- البحث العلمي البحري.
ج- حماية البيئة البحرية والحفاظ عليها.
غير أن هناك عدة قيود على عاتق دولة الساحل في هذا المقام هي:
1- ألا يترتب على إقامة هذه الجزر والمنشآت والتركيبات ومناطق السلامة حولها إعاقة الممرات البحرية الجوهرية للملاحة الدولية.
2- تقديم الإشعار –أي الإخطار– اللازم عن إقامة الجزر والمنشآت والتركيبات.
3- الاحتفاظ بوسائل دائمة للتنبيه بوجودها.
4- إزالة أية منشآت أو تركيبات تهجر أو يتوقف استعمالها لضمان سلامة الملاحة.
5- ألا تتجاوز مناطق السلامة مسافة 500 متر مقاسة من كل نقطة من نقاط الطرف الخارجي، إلا إذا أجازت ذلك المعايير الدولية.
علي أنه يتعين على السفن الأجنبية المارة في المنطقة الاقتصادية الخالصة احترام مناطق السلامة المحددة من قِبَل الدولة الساحلية، وطبقًا للمعايير الدولية الملزمة. وهكذا فإننا نجد أن حقوق الدولة الساحلية في إقامة الجزر والمنشآت والتركيبات، مشروطة بالتزامات تجاه الدول الأخرى بما يتوافق مع القواعد المنظمة للملاحة البحرية والاستغلال السلمي للبحار(9).
1- التزامات وواجبات الدولة الساحلية في المنطقة الاقتصادية الخالصة
تتمثل أهم التزامات الدولة الساحلية وواجباتها في المنطقة الاقتصادية الخالصة في الآتي:
أولًا: عدم المساس بحرية الملاحة البحرية في المنطقة. فالمادة (60) في فقرتها الثالثة تلزم الدولة الساحلية بأن تقوم بالإجراءات التحذيرية اللازمة، وتقديم الإشعار اللازم عن إقامة الجزر الاصطناعية والمنشآت والمباني، وكذلك الاحتفاظ بوسائل دائمة للتنبيه عن وجودها. كما تلتزم بتعيين مناطق سلامة مناسبة بما يكفل السلامة الكاملة لسفن الدول الأخرى، فضلًا عن التزامها بإزالة الجزر الاصطناعية والمنشآت والمباني التي أقامتها في حالة ما إذا تخلت عنها أو أوقفت استعمالها.
ولقد نصت الفقرة السابعة من المادة (60) على أنه "لا يجوز إقامة الجزر الاصطناعية والمنشآت والتركيبات ومناطق السلامة حولها إذا ترتب على ذلك إعاقة استخدام الممرات البحرية المعترف بأنها جوهرية للملاحة الدولية". كذلك فإن الدولة الساحلية تلتزم بعدم القيام بالتفتيش المادي للسفينة إلا في الحالات التي سبق الإشارة إليها في حقوق الدولة الساحلية في حماية البيئة البحرية في المنطقة. وتلزم المادة (226) الدولة الساحلية بالعمل على الإفراج السريع عن السفن التي يجري إستيقافها بسبب ما ينسب إليها من خروج عن القواعد واللوائح والمعايير المتعلقة بحماية البيئة البحرية في المنطقة.
ثانيًا: المحافظة على الثروات الطبيعية الحية وإدارتها إدارة رشيدة. حيث تلزم المادة (60) في فقرتها الثانية الدولة الساحلية باتخاذ أنسب الوسائل والتدابير لحفظ وإدارة الموارد الطبيعية الحية في المنطقة وذلك لحظر الاستغلال المفرط. كما تلزمها بالتعاون مع المنظمات الدولية المختصة لتحقيق هذا الهدف، وذلك بتبادل المعلومات العلمية والاحصائيات والبيانات الخاصة أو المتصلة بصيانة الأرصدة والأنواع السمكية.
كما تلتزم بتحديد كمية الصيد المسموح بها، وكذلك توضيح قدرتها على الصيد، وتلتزم بإتاحة الفرصة للدول الأخرى لاستغلال الفائض الذي لا تملك القدرة على استغلاله. ويعود الهدف من هذه التدابير إلى الرغبة في الوصول إلى أقصي عائدات ممكنة للثروات الحية، وذلك لتحقيق أعلى نسبة استفادة منها، مما يعود بالنفع على جميع الدول الساحلية وغير الساحلية.
ثالثًا: حماية البيئة البحرية(10) حيث تتحمل الدولة الساحلية مسئولية اصدار القوانين وإقرار الأنظمة اللازمة لمنع تلوث البيئة البحرية من البر بما في ذلك الأنهار ومصابها وخطوط الأنابيب ومخارج التصريف، وخفض ذلك التلوث والسيطرة عليه وفق المادة (207) من الاتفاقية.
كما تقضي المادة (208) منها بأن تقوم الدولة الساحلية باعتماد الأنظمة والقوانين اللازمة لمنع تلوث البيئة البحرية وخفضه والسيطرة عليه، والناشئ عما يخضع لولايتها من أنشطة تخص قاع البحر أو ما يرتبط بتلك الأنشطة.
رابعًا: المساعدة في البحث العلمي، حيث جاءت المادة (123) في فقرتها الأولى لتعكس وجهة نظر الدول النامية، حين نصت على أن للدولة الساحلية أن تمنح الإذن بأنشطة البحث العلمي المضطلع به في المنطقة الاقتصادية الخالصة، كما يحق لها الاشتراك في هذه الأنشطة والحصول على نتائجها.
علي أن المادة (246) لم تعط الدولة الساحلية الحق المطلق في الولاية على البحث العلمي البحري، ولم تعطها الحق المطلق كذلك في إصدار الموافقات والقواعد والإجراءات، حيث اشترطت الفقرة الثالثة منها ألا يؤخر ذلك عمليات البحث العلمي، أو أن تقوم الدولة الساحلية برفضها بصورة غير معقولة.
ثانيًا: تعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة في حالة التقابل أو التلاصق
لا شك أن ثمة أسبابًا عديدة تدفع الدول الساحلية إلى تعيين حدودها البحرية. ويأتي على رأس ذلك رغبتها في تحديد سيادتها على مناطقها وامتداداتها البحرية والتي قد تسبب صراعًا مع الدول المجاورة. فلقد زادت مساحة المياه التي تمتد إليها سيادة الدولة الساحلية، لا سيما بعد أن أقرت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 الحد الأقصى لمساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة بمائتي ميل بحري من خط الأساس، فضلًا عن تنظيم الأحكام الخاصة بالجرف القاري والذي قد يمتد لثلاثمائة وخمسين ميلًا بحريًا من ذلك الخط، وهو ما أدي جميعه إلى تعارض الأنشطة التي اعتادت الدول القيام بها كالصيد وغيره، مما يولد النزاعات بين الدول ذات الحدود البحرية المتقابلة أو المتلاصقة.
هذا إضافة إلى رغبة الدولة الساحلية في تنظيم ومباشرة أنشطتها المختلفة على امتداداتها البحرية وتحقيق أقصي استفادة منها، سيما وأن هذه المناطق تحوي الكثير من الموارد والثروات المعدنية التي تؤثر فيها أعمال التنقيب والاستغلال بما يستدعي تحديد الحدود بينها حتى لا تتداخل ادعاءات الدول في شأنها ولا تثور المنازعات(11).
وتنص المادة (74) من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وهي المادة المتعلقة بتعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين الدول ذوات السواحل المتقابلة أو المتلاصقة، على وجوب أن يتم تعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين الدول ذات السواحل المتقابلة أو المتلاصقة عن طريق الاتفاق على أساس القانون الدولي.
وتنص الفقرة الثانية من ذات المادة على ضرورة اللجوء إلى الجزء الخامس عشر الفرع الأول من الاتفاقية والخاص بالتوفيق بين الدول المتنازعة، والذي يشير إلى المادة (284) الخاصة بالتوفيق بين الدول وإجراءات التوصل إلى التوافق بروح من التفاهم والتعاون.
وقد جاءت اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1982 تحدد الأسس التي يتم بناءً عليها تحديد خطوط الأساس التي تقاس منها كل المساحات البحرية، مميزة في هذا السياق بين كل من طريقة خطوط الأساس العادية، وطريقة خطوط الأساس المستقيمة(12). فحددت المادة (3) منها ماهية خطوط الأساس العادية، حيث أوضحت أن خط الأساس العادي هو آخر نقطة على الشاطئ تنحسر عنها المياه وقت الجزر.
وتعتبر الخرائط ذات مقياس الرسم الكبير والرسمية والموثقة دوليًا والمعترف بها أنسب الوثائق لتعيين وتحديد خط الأساس العادي. وتعتبر نقاط الأساس بمثابة نقاط المراجعة والتحديد لخطوط الأساس العادية، وتحدد تلك النقاط تبعًا لتعرجات الساحل. وتتوقف أهمية نقاط الأساس وفقًا لموقعها ومدى التزام الدول بها، فمواقع نقاط الأساس هي المحدد الرئيسي لخطوط الأساس.
ولعل من العوامل التي تساعد على نجاح عملية تعيين خطوط الأساس العادية التحديث المستمر والمتابعة للخرائط وفقًا لسمات الساحل المميزة له والمؤثرة فيه، مع مراجعة تلك المتغيرات مع الدول الأخرى.
ولقد حددت المادة (5) من الاتفاقية نوعية الخرائط التي يتم تحديد نقاط الأساس عليها بجميع حالتها ( الاتجاه العام للساحل )، حيث نصت على أنه "باستثناء الحالات التي تنص فيها هذه الاتفاقية على غير ذلك، فإن خط الأساس العادي لقياس عرض البحر الإقليمي هو حد أدني الجزر على امتداد الساحل كما هو مبين على خرائط ذات المقياس الكبير والمعترف بها رسميًا من قبل الدول الساحلية". وتجيز المادة (7) من الاتفاقية استخدام خطوط الأساس المستقيمة وفقًا للشروط الآتية:
1- وجود انبعاج عميق وانقطاع سلسلة الجزر على امتداد الساحل وعلي مسافة قريبة منه مباشرة.
2- في حالة أن يكون الساحل شديد التقلب بسبب وجود دلتا وظروف طبيعية أخرى يجوز اختيار النقاط المناسبة على أبعد مدى باتجاه البحر من حد أدنى الجزر، وتظل خطوط الأساس المستقيمة سارية المفعول إلى أن تغيرها الدول الساحلية وفقًا لهذه الاتفاقية
3- ألا ينحرف رسم خطوط الأساس المستقيمة أي انحراف ذي شأن عن الاتجاه العام للساحل.
4- أن تكون المساحات البحرية التي تقع داخل نطاق الخطوط مرتبطة بالإقليم البري ارتباطًا وثيقًا كافيًا لكي تخضع لنظام المياه الداخلية.
5- أن يؤخذ في الاعتبار المصالح الاقتصادية ذات الأهمية الخالصة للإقليم والتي تأكدت بالاستعمال الطويل.
ولتعيين خطوط الأساس المستقيمة يتم اختيار عدد من النقاط الملائمة لأدني انحسار للجزر على طول الساحل والوصل بينها بخطوط مستقيمة(13). وهذه هي الطريقة التي أخذت بها مصر منذ صدور قرار رئيس الجمهورية بقانون رقم (27) في التاسع من يناير 1990، محددًا لنوعية خطوط الأساس المستخدمة في قياس المناطق البحرية لجمهورية مصر العربية، والذي تقرر بموجبه الأخذ بطريقة خطوط الأساس المستقيمة والعدول عن استخدام خطوط الأساس العادية. وقد تم إخطار الأمين العام للأمم المتحدة بقائمة الإحداثيات الجغرافية لمجموعة النقاط التي تعين المستند الجيوديسي، والتي تمثل خطوط الأساس المستقيمة التي يبدأ منها قياس المناطق البحرية لمصر.
ثالثًا: ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين مصر والدول المقابلة
شرعت عدة دول مقابلة لمصر على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وعلي وجه التحديد قبرص وتركيا واليونان، في الدخول في مفاوضات مع مصر؛ بغية تعيين الحدود البحرية في المنطقة الاقتصادية الخالصة، سيما وأن اتساع البحر المتوسط لا يسمح بحصول كل من مصر وهذه الدول المقابلة لها على الشاطئ الآخر من البحر على الحد الأقصى الذي حددته اتفاقية قانون البحار للمنطقة الاقتصادية الخالصة وهو مائتي ميل بحري.
وقد ترتب على هذه المفاوضات نجاح مصر وقبرص في التوقيع على اتفاقية لتعيين حدود المنطقة الاقتصادية بينهما في السابع عشر من فبراير 2003. على حين لم تنتهِ المفاوضات بين مصر وكل من تركيا واليونان في هذا الشأن إلى اتفاق؛ نظرًا لاختلافات فنية وقانونية وسياسية حالت دون الوصول إلى مثل هذا الاتفاق حتى الآن(14).
والواقع أن الاتفاقية المصرية- القبرصية في شأن حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما جاءت مستندة بشكل كامل على نصوص وأحكام اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، والتي وقعت وصدقت عليها الدولتان. حيث اعتبرتها الدولتان بمثابة المرجعية الفنية والقانونية لاتفاقيتهما المشتركة، والتي حددت كل منهما نقاط الأساس الخاصة بها استنادًا إليها، فحددت مصر، تنفيذًا لأحكام اتفاقية الأمم المتحدة، ثلاثًا وخمسين نقطة أساس تم إيداعها لدى الأمين العام للأمم المتحدة عام 1991، كما حددت قبرص سبعًا وخمسين نقطة أساس تم إيداعها لدى الأمين العام للأمم المتحدة عام 1996، وقد أودعت كل من الدولتين نقاط أساسها هذه مدعومة بالخرائط البحرية ذات الصلة، ولم يعترض على أي من هذه أو تلك أية دولة من دول العالم الأعضاء في المنظمة الدولية على الإطلاق.
وبناءًا على هذا فقد تبلورت الاتفاقية المصرية القبرصية في خط مكون من ثمان نقاط، يبدأ بالنقطة رقم (1) غربًا مقابلًا للسواحل التركية، وينتهي بالنقطة رقم (8) شرقًا إلى جوار سواحل غزة وإسرائيل. وقد تم ترسيم خط الحدود للمنطقة الاقتصادية الخالصة بين الدولتين، وفقًا للمادة الأولى من الاتفاقية، عن طريق خط الوسط أو خط المنتصف Median Line، والذي تكون كل نقطة عليه على مسافة متساوية من أقرب نقطة على خط الأساس المستقيم لكلا الدولتين، إعمالًا لنص المادة (15) من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
ويظهر خط المنتصف المحدد على الخريطة البحرية الدولية الصادرة عن الأدميرالية البريطانية برقم 183 (رأس التين إلى الإسكندرونة) بمقياس رسم 1: 1,100,000، وفقًا لما قررته الفقرة الثالثة من هذه المادة. وأشارت الاتفاقية إلى وجوب أن يتم الاتفاق بين الطرفين –بناءً على طلب أي منهما– على إجراء أية تحسينات إضافية لزيادة ودقة توقيع خط المنتصف عند توافر البيانات الأكثر دقة، وذلك استنادًا لذات المبادئ المتبعة. هذا وقد استبعدت الدولتان ترسيم الحدود البحرية بينهما بطريقة الجرف القاري Continental Shelf، نظرًا لأن المسافة بين خطي الأساس للدولتين هو 207 ميل بحري فقط، وهو ما لا يسمح بحصول كلتا الدولتين على مسافة المائتي ميل بحري. حيث يمتد الجرف القاري للدول الساحلية لمسافات مختلفة تتجاوز حدود المسافات بين الدول المتقابلة وذلك استنادًا إلى حكم محكمة العدل الدولية في حيثياتها في قضية تعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين ليبيا ومالطا، وهي حالة تعيين حدود بحرية بين دولتين متقابلتين مشابهة لحالة مصر وقبرص، والتي انتهت فيها المحكمة إلى أنه لا يمكن أن يؤخذ بعين الاعتبار منطقة الجرف القاري الجاري ترسيم الحدود فيها إذا كانت تقع داخل حدود المائتي ميل بحري.
والحق أن الاتفاقية المصرية القبرصية قد مرت بكافة مراحل إبرام المعاهدات التي حددتها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون المعاهدات لعام 1969، واستقرت عليها الممارسة الدولية. فتم التفاوض حولها من جانب السلطات السياسية والفنية المختصة في الدولتين، ومرت خطوات التوقيع عليها بمراحل عديدة عبر القنوات الدبلوماسية بكلتا الدولتين ووفقًا لخطوط الأساس التي أودعتها كل من الدولتين لدى الأمين العام للأمم المتحدة في عامي 1991 و1996 على التوالي، كما تقدمت الإشارة، دون أدني اعتراض من جانب أية دولة على هذه النقاط. وقد دخلت الاتفاقية حيز النفاذ بعد تصديق السلطات المختصة عليها في كل من الدولتين والإعلان عنها في الجرائد الرسمية فيهما.
وقد تضمنت الاتفاقية إشارة أوردتها الفقرة الخامسة من المادة الأولى تقضي بإرجاء البت في النقطتين (1) و(8) لحين التوصل إلى اتفاق مع الجانب الشرقي، أي فلسطين (قطاع غزة) وإسرائيل، والجانب الغربي، أي تركيا، بشأن ترسيم الحدود البحرية معهما، على أن تكون النقطتان المذكورتان نقطتين حدوديتين ثلاثيتين حال توقيع اتفاق ترسيم للحدود البحرية مع الدول المقابلة أو المجاورة، فتؤخذ النقطة رقم (8) من اتفاقية ترسيم الحدود المصرية القبرصية في الاعتبار كنقطة بداية لترسيم الحدود البحرية بين مصر وتركيا، وتؤخذ النقطة رقم (1) منها في الاعتبار كنقطة بداية لترسيم الحدود البحرية بين مصر وكل من فلسطين وإسرائيل، حيث قررت أنه " أخذًا في الاعتبار المادة (74) من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار المبرمة في العاشر من ديسمبر 1982، يمكن مراجعة أو تعديل الإحداثيات الجغرافية للنقطتين (1) و(8) وفقًا للحاجة في ضوء التحديد المستقبلي للمناطق الاقتصادية الخالصة مع دول الجوار الأخرى المعنية ووفقًا لاتفاق يتم التوصل إليه حول هذه المسألة مع دول الجوار المعنية".
ونصت الاتفاقية في مادتها الثانية على أنه "في حالة وجود امتدادات للموارد الطبيعية، تمتد بين المنطقة الاقتصادية الخالصة لأحد الأطراف وبين المنطقة الاقتصادية الخالصة للطرف الآخر، يتعاون الطرفان من أجل التوصل إلى اتفاق حول سبل استغلال تلك الموارد".
كما نصت المادة الثالثة منها على أنه " إذا دخل أي من الطرفين في مفاوضات تهدف إلى تحديد منطقتها الاقتصادية الخالصة مع دولة أخرى، يتعين على هذا الطرف إبلاغ الطرف الآخر والتشاور معه قبل التوصل إلى اتفاق نهائي مع الدولة الأخرى إذا ما تعلق هذا التحديد بإحداثيات النقطتين (1) و(8)".
وجاءت المادة الرابعة تقرر أنه " أ- يتم تسوية أي نزاع ينشأ حول تنفيذ هذا الاتفاق عبر القنوات الدبلوماسية بروح التفاهم والتعاون.
ب - وفي حالة عدم تسوية النزاع عبر القنوات الدبلوماسية خلال مدة زمنية مناسبة، يتم إحالة النزاع إلى التحكيم".
أما فيما يتعلق بتركيا فقد أسقطت رؤيتها للحدود البحرية في البحر المتوسط على خريطة تظهر فيها قبرص مقسمة إلى جزئين، الجزء الشمالي المسمي فيها بقبرص التركية، والجزء الجنوبي المسمي بقبرص اليونانية. وقد تضمنت الخريطة المقترح التركي لتعيين الحدود البحرية بين تركيا ودول حوض البحر المتوسط المجاورة والمقابلة لها ومن بينها مصر.
وبناءً على ذلك المقترح شرعت كل من تركيا و"الجمهورية القبرصية الشمالية التركية" –وتعد تركيا هي الدولة الوحيدة على مستوى العالم التي تعترف بمثل هذه الجمهورية– في التوقيع على اتفاقية تعيين حدود بحرية بينهما في سبتمبر 2012، وفيها قررت تركيا لقبرص الجنوبية اليونانية اثني عشر ميلًا بحريًا فقط كمياه إقليمية في مواجهة الساحل الغربي لقبرص معتبرة إياها مجرد جزيرة وليست دولة.
ومن هذا المنطلق نظرت تركيا في مقترحها هذا إلى حدودها البحرية مع مصر باعتبار خط الطول الذي تنتهي عنده الحدود التركية مع "قبرص الشمالية التركية" هو بداية التعيين مع مصر.
وهنا فإنه يتعين الإشارة إلى أن وجهة النظر التركية هذه والتي تعتبر قبرص جزيرة وليست دولة، وبالتالي لا يحق لها سوى الحصول على بحر إقليمي فحسب (12 ميل بحري)، مع تجاهل أحقيتها كدولة عضو بالأمم المتحدة في ترسيم حدودها البحرية مع الدول المجاورة والمقابلة لها استنادًا إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار والتي هي طرف من أطرافها. إضافة إلى عدم انضمام تركيا إلى اتفاقية قانون البحار، وعدم إيداعها لنقاط أساسها لدى الأمين العام للأمم المتحدة حتى تبدي أي من الدول المجاورة أو المقابلة اعتراضها عليها إن كان له مقتضي.
فضلًا عن عدم اعتراضها على نقاط الأساس التي أودعتها قبرص لدى الأمين العام للأمم المتحدة عام 1996، وعدم اعتراضها من خلال الأمم المتحدة لدى الجانب القبرصي على ما تدعيه من فقدانها جزءًا من منطقتها الاقتصادية الخالصة نتيجة اتفاقية ترسيم الحدود بين قبرص ومصر، مع اعتراضها من حين لآخر لدى مصر بحجة فقدان مصر مساحة مائية نتيجة لهذه الاتفاقية –وكأن تركيا أحرص على مصالح مصر من مصر ذاتها- وهو ما يقصد به بداهةً حصول تركيا على مساحتها المائية المدعاة حال حصول مصر على هذه المساحة -المدعاة أيضًا– دون أن تدخل تركيا في مفاوضات مع الدولة القبرصية التي لا تعترف بها أو أن تلجأ إلى التحكيم الدولي في مواجهتها.
وأخذًا بعين الاعتبار أن ما أثاره البعض في مصر حول الاتفاقية المصرية القبرصية بدأ في معظمه خلال فترة التقارب بين نظامي الحكم في كل من مصر وتركيا. ليبان لنا من هذا كله الدوافع الحقيقية وراء هذه الادعاءات، سواء أدرك القائلون بها ذلك أم غاب عنهم.
المراجع
(1) راجع تفاصيل ذلك في د. صلاح الدين عامر، "القانون الدولي للبحار: دراسة لأهم أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982"، (القاهرة: دار النهضة العربية، 2009)، ص ص 13– 25.
(2) د. إبراهيم محمد الدغمة، "أحكام القانون الدولي لقاع البحار والمحيطات وباطن أرضها خارج حدود الولاية الوطنية""، (القاهرة: دار النهضة العربية، 1987)، ص ص 116– 119.
(3) د. أحمد محمد رفعت، "الأوقاف الدولية في القانون الدولي الجديد للبحار: التأصيل القانوني لمبدأ التراث المشترك للإنسانية في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982"، (القاهرة: المعهد العالي للدراسات الإسلامية، 2013)، ص 105 وما بعدها؛ وكذلك د. أحمد أبو الوفا، "القانون الدولي للبحار في ضوء أحكام المحاكم الدولية والوطنية وسلوك الدول واتفاقية 1982"، ط2، (القاهرة: دار النهضة العربية، 2006)، ص ص 396– 398.
(4) راجع في تفاصيل ذلك، أحمد نبيل حسن العسال، ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين مصر واليونان وتركيا في ضوء أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2013، ص 40 – 53. ( وقد اعدت هذه الرسالة تحت إشراف كاتب هذه السطور).
(5) أ.د. عبد المعز عبد الغفار نجم، تحديد الحدود البحرية وفقًا للاتفاقية الجديدة لقانون البحار، الطبعة الثانية، دار النهضة العربية، القاهرة، 2007، ص 14.
(6))أ.د. صلاح الدين عامر، مرجع سابق، ص 258 وما بعدها.
(7)رفعت محمد عبد المجيد، "المنطقة الاقتصادية الخالصة في البحار"، رسالة دكتوراه غير منشورة، (القاهرة: كلية الحقوق، 1982)، ص ص 249– 255؛ وكذلك د. عبد المنعم محمد داود، "القانون الدولي للبحار، (الإسكندرية: منشأة المعارف، 1999)، ص ص 81– 85.
(8) Francisco Orregovicuna, "The Exclusive Economic Zone; Regime and Legal Nature Under International Law", (New York: Cambridge U. P., 1989), pp. 68- 71.
(9)Orregovicuna, op. cit., pp 81 et seq
(10) د. جابر إبراهيم الراوي، "الوضع القانوني للمنطقة الاقتصادية الخالصة"، في د. صلاح الدين عامر وآخرون، "قانون البحار الجديد والمصالح العربية"، (تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1989)، ص ص 137– 140.
(11) أ.د. عبد المعز عبد الغفار نجم، مرجع سابق، ص 8 – 11؛ وكذلك،
Alex G. Oude, The Law of the Maritime Tract, Int. Journal of Marine and Costal Law, Vol. 9, 1994, pp. 235 – 246.
(12))راجع تفاصيل ذلك في، أ.د. صلاح الدين عامر، مرجع سابق، ص 134 وما بعدها؛ وكذلك أحمد نبيل العسال، مرجع سابق، ص 94 – 103.
(13) أ.د. عبد المعز نجم، مرجع سابق، ص 15 – 16.
(14) راجع التفاصيل في أحمد نبيل العسال، مرجع سابق، ص 229 وما بعدها