حزب اللـه وحركة حماس: تأثير الهوية على سلوك الفاعلين من غير الدول في المنطقة العربية
هذا العنوان هو موضوع أطروحة الدكتوراه للباحثة إيمان رجب، وهو ينتمي إلى طائفة الأدبيات التي اهتمت بقضية "محددات" سلوك الفاعلين من غير الدول المتعدين للحدود، والتي هي من القضايا الحديثة في مجال العلاقات الدولية، بالنظر إلى سيطرة الاهتمام بالدولة لفترة طويلة من الزمن على ما تم تطويره من أطر تحليلية للتفاعلات الإقليمية والدولية، وإلى أن الأدبيات الخاصة بالفاعلين من غير الدول المتعدية للحدود، اهتمت بصورة رئيسية بتعريفهم وتطوير معايير لتصنيفهم، وللتمييز بينهم والدولة، دون الاهتمام بتقديم أطر تحليلية تسمح بتحديد المتغيرات التي تؤثر على سلوكهم.
وترجع أهمية هذا الموضوع إلى تزايد تأثير الفاعلين من غير الدول، خاصة الفاعلين من غير الدول المتعدية للحدود والمستندين لهوية Transnational Identity based non-State Actors ، والتي ينتمي لها كل من حزب اللـه وحركة حماس ـ حالتي الدراسة ـ في الأمن والاستقرار في المنطقة العربية، على نحو يمثل ضغوط على الدوائر الأكاديمية والسياسية في المنطقة العربية لتطوير إستراتيجيات للتعامل معهم، وللتأثير على سلوكهم، على نحو لا يضر بمصالح تلك الدول.
كما ترجع أهمية هذا الموضوع إلى أن حالتي الدراسة، حزب اللـه وحركة حماس، تعدان من الحالات المؤثرة في تفاعلات المنطقة العربية، ومن الحالات أيضا التي يسيطر على الأدبيات التي اهتمت بتحليل سلوكهما مواقف أيديولوجية أو قيمية تحول دون تقديم تحليل موضوعي لسلوكهما، سواء من خلال التعامل معهما كحركات "إرهابية"، أو حركات "مقاومة" لا يتم الاهتمام بتحليل تأثير المتغيرات الموضوعية مثل المصلحة، على سلوكهما الداخلي أو الخارجي.
يحلل الفصل الأول من الرسالة، الاتجاهات النظرية المختلفة في مجال العلاقات الدولية التي اهتمت بتحليل سلوك الفاعلين من غير الدول المتعدين للحدود بصفة عامة، والفاعلين من غير الدول المستندين لهوية المتعدين للحدود بصفة خاصة، ويناقش الاتجاهات المختلفة لتعريف هذا النوع من الفاعلين من غير الدول المتعدين للحدود، ومعايير تصنيفهم، كما يحلل الفصل اتجاهات الجدل المختلفة حول الهوية كمحدد لسلوك الفاعلين المتعدين للحدود من غير الدول المستندين لهوية، وطبيعة العلاقة بين المصلحة والهوية. ويعرض الفصل الإطار التحليلي الذي تم تطويره للتطبيق على حالتي الدراسة، وهو يتألف من مجموعة من المقولات البنائية والواقعية، وكذلك الخطوات العملية المتبعة لتحليل تأثير الهوية الخاصة بكلٍّ من حزب اللـه وحركة حماس على سلوكهما تجاه قضيتين، هما قضية التغيير السياسي الداخلي، وقضية الصراع مع إسرائيل.
إلى جانب ذلك، يحلل هذا الفصل أهمية كل من حزب اللـه وحركة حماس في خريطة الفاعلين من غير الدول المتعدية للحدود في المنطقة العربية، ويعرف بالهوية المركبة لكل منهما، من خلال تحديد المكونات المادية والمكونات غير المادية لها.
ويهتم الفصل الثاني منها، بتحليل مقارن لتأثير الهوية المركبة لكل من حزب اللـه وحركة حماس على سلوكهما تجاه قضية الصراع مع إسرائيل، بالتطبيق على حرب يوليو 2006 في حالة حزب اللـه، وحرب ديسمبر 2008 ـ يناير 2009 في حالة حركة حماس، وتجاه قضية التغيير السياسي الداخلي، بالتطبيق على أزمة مايو 2008 في حالة حزب اللـه، وأزمة يونيو 2007 في حالة حركة حماس. وتم التمييز بين بُعدين للسلوك، البعد الأول هو التوجهات المعلنة لكل من حزب اللـه وحركة حماس، والبعد الثاني هو السياسات الفعلية لكل منهما. كما تم التمييز بين مستويين لتأثير الهوية، المستوى الأول هو التأثير البنائي للهوية، الخاص بتحديد تصورات الفاعل للقضية ولمصلحته الإستراتيجية، والمستوى الثاني هو التأثير التنظيمي للهوية، وينصرف إلى تحديد أي السياسات يتسق ومعاني الهوية، أي يتسم بشرعية ما، وأيها لا يتسق ومعاني الهوية.
وانتهت الدراسة في هذا الفصل، إلى أن تأثير الهوية على سلوك كل من حزب اللـه وحركة حماس، باعتبارهما فاعلين INSA، له "حدود"، وذلك رغم مركزية قضية الصراع مع إسرائيل، لكل منهما في تحديد الهوية الخاصة به، وفي تحديد دوره في إدارة العلاقة مع إسرائيل مقارنة بدور الدولة اللبنانية، والسلطة الفلسطينية على النحو السابق بيانه.
ولكن اختلاف السياق المصاحب لعمل كل منهما، جعل نطاق هذا التأثير مختلفًا، ففي حالة حزب اللـه، كان هناك تأثير محدود للهوية على سلوكه أثناء حرب 2006، واقتصر على تصور الحزب للحرب، وعلى التوجهات المعلنة له فيما يتعلق بدوره في مقاومة إسرائيل، وعلى السياسات الفعلية الخاصة بالقضية الطائفية.
وفي المقابل، كان لمصلحة حزب اللـه، دورها الواضح في تحديد سلوكه أثناء هذه الحرب، خاصة فيما يتعلق بقضيتي إدارة الحرب، والعلاقة مع الدولة. فرغم أن مصلحة الحزب، حددتها هويته، فإنها مارست تأثيرًا مستقلاً عن تأثير الهوية تجاه هاتين القضيتين، حيث تعارض سلوكه تجاهها مع معاني الهوية الخاصة بالحزب، على نحو خلق حالة عدم اتساق بين سلوك الحزب وهويته.
وكانت النتيجة المترتبة على ذلك، تراجع حزب اللـه عن فكرة "الحرب المفتوحة" والمعارك المستمرة مع إسرائيل كأداة لتحقيق النصر، وقبل بالحل الدبلوماسي للحرب، والذي عبر عنه قرار 1701، وتخلى عن سياسة المسارين المتوازيين، وقبل بانتشار الجيش اللبناني في مناطق نفوذه في الجنوب، حيث لم يمتد تأثير خطاب نصر اللـه عن "الحرب المفتوحة"، إلى سياسات الحزب الفعلية، سواء فيما يتعلق بنوعية الهجمات التي نفذها حزب اللـه، أو فيما يتعلق برؤيته لكيفية انتهاء الحرب وتعريفه للنصر في الحرب.
وفي حالة حركة حماس، تعد حرب 2008ـ2009 نموذجًا لكيفية "تداخل" تأثير الهوية المركبة لحماس باعتبارها فاعلاً INSA، مع تأثير المصلحة الإستراتيجية لها، على سلوكها أثناء هذه الحرب سواء التوجهات المعلنة أو السياسات الفعلية، خاصة فيما يتعلق بكيفية إدارتها للحرب، من حيث مستوى العنف المستخدم ضد القوات الإسرائيلية، ومن حيث رؤيتها لكيفية إنهاء الحرب، وكيفية إدارتها للعلاقة مع السلطة الفلسطينية. بينما أثرت الهوية المركبة لحماس على توجهاتها المعلنة فيما يتعلق بتصورها للحرب، ولدورها فيها كحركة مقاومة مسلحة.
حيث كانت النتيجة المترتبة على ذلك، احتفاظ حماس باستقلال سياستها تجاه الصراع مع إسرائيل، والتي دارت حول التصعيد المحدود معها، على نحو يسمح بالتوصل لهدنة، وتأكيد تمايز تمثيل حماس في أي مفاوضات خاصة بوقف الحرب، وبالتالي لم يكن السلوك في مجمله، غير متسق مع معاني هوية حماس المركبة التي استقرت طوال الفترة السابقة على الحرب.
بينما يحلل الفصل الثالث تأثير التفاعلات الخاصة بحرب يوليو 2006 على هوية حزب اللـه، وبحرب 2008 ـ 2009 على هوية حركة حماس، حيث تعد هاتان الحربان حالتين تطبيقيتين لقضية الصراع مع إسرائيل. كما يحلل تأثير التفاعلات الخاصة بأزمة مايو 2008 على هوية حزب اللـه، وبأزمة يونيو 2007 على هوية حركة حماس، واللتين تعدان حالتين تطبيقيتين لقضية التغيير السياسي الداخلي.
كما يحلل الفصل الرابع تأثير التغير في هوية حزب اللـه وحركة حماس على سلوكهما تجاه قضية الصراع مع إسرائيل، وقضية التغيير السياسي الداخلي، بهدف "اختبار" مدى استقرار التغير في هوية حزب اللـه والناتج عن تفاعلات حرب 2006، وكيفية تأثيره على سلوكه تجاه قضية الصراع مع إسرائيل في الفترة التالية للحرب، وكذلك مدى استقرار الثبات في هوية حركة حماس في الفترة التالية على حرب 2008 ـ 2009، وكيفية تأثيرها على سلوكها تجاه قضية الصراع مع إسرائيل.
إلى جانب ذلك، يحلل الفصل مدى استقرار الثبات في هوية حزب اللـه في الفترة التالية على أزمة مايو 2008، وكيف أثرت على سلوك الحزب تجاه قضية التغيير السياسي في لبنان، وكذلك مدى استقرار التغير في هوية حركة حماس في الفترة التالية على أزمة يونيو 2007، وكيف أثرت على سلوكها تجاه قضية التغيير السياسي في فلسطين.
وقد انتهت الدراسة إلى أن اعتبارات المصلحة، فرضت على كل من حزب اللـه وحركة حماس، تغيير أدوارهما في إدارة قضية الصراع مع إسرائيل، وفي قضية التغيير السياسي الداخلي، ففي حالة قضية الصراع مع إسرائيل، اتجه حزب اللـه على سبيل المثال، لتبني دور الدفاع عن الدولة اللبنانية، بدلا من العمل على تحرير الأرض اللبنانية المحتلة، حيث تخلى عن هذا الدور للدولة اللبنانية، وهو ما عنَى فعليا تراجع وظيفة "المقاومة" في السياسات الفعلية لحزب الله تجاه إسرائيل، دون أن يتراجع عنها في التوجهات المعلنة للحزب، وكذلك تراجع أهمية قضية الصراع مع إسرائيل بالنسبة للحزب مقارنة بقضية الصراع في سوريا، على نحو أوجد فجوة بين السياسات الفعلية للحزب والتوجهات المعلنة له فيما يتعلق بالمقاومة، قد تؤسس لأزمة شرعية يمر بها حزب اللـه خلال الفترة المقبلة.
وفي حالة قضية التغيير السياسي الداخلي، فإنه بعد أزمة مايو 2008 في لبنان، وأزمة يونيو 2007 في قطاع غزة، حدث تغير في الهوية المركبة لكل من حزب اللـه من حيث دوره في الحكومة اللبنانية، وحركة حماس من حيث دورها في الحياة السياسية، ففي حالة حزب اللـه، تحول من كونه معارِضـًا ممثلاً في الحكومة، إلى شريك له القدرة على تعطيل قرارات الحكومة، وفي حالة حماس، تحولت من كونها شريكًا في السلطة، إلى سلطة موازية في القطاع.
وانتهت الدراسة، إلى أن هناك مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي عززت استقرار التغير في هوية حزب اللـه في الفترة التالية على حرب 2006، باعتباره فاعل مهجن، وفي هوية حركة حماس في الفترة التالية على أزمة 2007، باعتبارها سلطة موازية في قطاع غزة، وحتى نهاية الفترة التي تغطيها هذه الدراسة بنهاية العام 2013. وهو تغير نتج عن التفاعلات الخاصة بقضية الصراع مع إسرائيل، وبقضية التغيير السياسي الداخلي. فعلى سبيل المثال، استقر التغير في دور حزب اللـه في إدارة العلاقة مع إسرائيل، من كونه فاعلا "يقاوم" الاحتلال، بما يتضمنه ذلك من معان خاصة بالمبادرة بشن عمليات ضد المحتل من أجل تحرير الأرض، إلى فاعل يمارس دور "الدفاع" عن الدولة اللبنانية، ويقوم بردع إسرائيل، على نحو أصبح معه هناك هدنة طويلة المدى غير محددة زمنيا بين حزب اللـه وإسرائيل، وتزامن مع ذلك اتجاه الحزب لتوظيف قضية المقاومة في صراعه السياسي مع القوى اللبنانية الأخرى بهدف تعظيم نصيبه من السلطة، وهو ما يمكن تفسيره بتراجع أولوية الصراع مع إسرائيل كقضية بالنسبة لبقاء الحزب، مقارنة بقضية الصراع في سوريا.
وفي حالة حركة حماس، أصبحت هناك تهدئة متقطعة بين الحركة وإسرائيل، واستقر حتى نهاية الفترة التي تغطيها الدراسة تحول دورها من كونها حركة "مقاومة"، إلى فاعل يقوم بالرد على الهجوم الإسرائيلي على القطاع، ويشارك في الدفاع عنه، ويظل مستوى العنف بينهما تحكمه مجموعة من قواعد الاشتباك المتفق عليها ضمنيًا بين الجانبين.