توماس بيكيتي: وقوانين التفاوت بين الإيرادات الرأسمالية والنمو الإقتصادي
اهتم "توماس بيكيتي" منذ سنوات دراسته الأولى بالبحث في ظاهرة التفاوت في توزيع الدخل. وعلى الرغم مما تحمله دراسة هذا الموضوع من تحيز سياسي، فإن بيكيتي الشاب لم يشأ أن يرتبط بحزب من الأحزاب، خصوصًا وأن والده "إيلي" كان قد شارك في ثورة الشباب عام 1968 بفرنسا، وقد أصيب بخيبة أمل من الحركة الحزبية، ورحل من باريس إلى جنوب فرنسا، حيث اشترى لنفسه مزرعة صغيرة يزرع فيها ويربي الأغنام.
وخلال سنوات دراسته لم ينقطع عن قراءة نظريات توزيع الدخل. وفي هذا الموضوع كانت رسالته للدكتوراه، ثم كان كل عمله الأكاديمي تقريبًا خلال الخمسة عشر عامًا الماضية. ولا شك في أن توماس بيكيتي استفاد كثيرًا من منتجات عصره، ومن التطور في كم ونوع وتسلسل البيانات المتاحة عن توزيع الثروة في العالم عبر فترة طويلة من الزمن.
كذلك فإن بيكيتي لا ينكر أنه استفاد كثيرًا من نتائج دراسات كثيرة سبقته إلى هذا الميدان. وقد أشار على وجه الخصوص إلى أعمال عالِم الاقتصاد البريطاني "طوني أتكينسون" ومنهجه في التتبع التاريخي لتوزيع الثروة. كذلك فإن بيكيتي استفاد كثيرًا من التقدم الذي أتاحه الحاسوب الآلي وتقنية المعلومات بوجه عام في مجال معالجة البيانات ووضعها في سياقها الصحيح، وتحليلها واستخلاص النتائج منها بسهولة لم تكن لتتوفر بغير هذا التطور في علوم الحاسوب الآلي والإحصاء.
أولاً: مفهوم بيكيتي لتوزيع الثروة والدخل
انتهى توماس بيكيتي في دراسته لتوزيع الثروة والدخل إلى عدد من الاستخلاصات المهمة، عرضها في كتابه "رأس المال في القرن الوحد والعشرين" على الوجه التالي:
1- إن تاريخ توزيع الثروة في العالم كان على الدوام ذا طابع "سياسي". وليس من الدقة تلخيص هذا التاريخ وإرجاعه فقط إلى عوامل اقتصادية بحتة. فلقد أدت الحروب والنزاعات السياسية خلال فترة ما بين الحربين إلى تخفيض حدة التفاوت في توزيع الثروة، ولم يكن للعوامل الاقتصادية البحتة دور كبير في تحقيق ذلك.
كذلك فإن السياسات الجديدة التي تبنتها حكومات كثيرة منذ سبعينيات القرن الماضي في إطلاق عمل قوى السوق، وتخفيض الضرائب على الثروة قد تركت آثارًا واسعة النطاق على نمط توزيع الثروة والدخل في اتجاه زيادة حدة التفاوت بين من يملكون ومن لا يملكون.
نحن، إذن، لسنا إزاء عمل متغيرات اقتصادية فقط، ولكننا بقدر أوضح إزاء فعل متغيرات متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية ومؤسسية.
2- إن أنماط توزيع الثروة تكشف عن وجود آليات قد تدفع إلى الاقتراب أو إلى الابتعاد عن العدالة في التوزيع. ومن الطبيعي أن تنطوي قوانين النمو في السوق الرأسمالية على خلق التفاوت وزيادة حدته. ولا يحدث التفاوت بسبب خلل في علاقات السوق، بل إن طبيعة السوق الكاملة هي التي تفرز التفاوت وتكرسه. ولا توجد عمليات تلقائية طبيعية في السوق من شأنها أن تمنع حدوث التفاوت وعدم الاستقرار.
لكن ذلك لا يعني بالقدر نفسه أنه لا توجد آليات تساعد على تحقيق الاقتراب من العدالة في التوزيع، وإزالة التشوهات التي تُنتِج التفاوت. ويبين توماس بيكيتي أن القوى التي تدفع في اتجاه العدالة في توزيع الثروة تتمثل أساسًا في تكريس استخدام المعرفة، وزيادة الاستثمارات في مجالات التعليم والتدريب، وخلق المهارات البشرية. فهذه القوى هي مفتاح نمو الإنتاجية بشكل عام، ومن ثَمَّ فإنها الطريق إلى تحقيق العدالة وتخفيف حدة التفاوت، سواءً على مستوى الدولة الواحدة، أو فيما بين الدول، وهو يقدم مثال الصين في هذا السياق كدليل على إمكان تقليل حدة التفاوت بين البلدان الصاعدة والمتقدمة.
ويعتقد بيكيتي أن هذه القوى يمكن أن تؤدي في المستقبل إلى تخفيض نصيب إيرادات رأس المال في الثروة القومية لأية دولة؛ نظرًا لأن تقنية الإنتاج التي تتعرض بطبيعتها لتطورات مستمرة بدون توقف هي سوق تحتاج إلى استخدام عمالة أكثر مهارة بمرور الوقت، وهو ما يعني أن نصيب رأس المال من الثروة يمكن أن ينخفض في مقابل زيادة نصيب العمل الذي يغلب على تحولاته التاريخية الانتقال بصورة مستمرة إلى العمل الماهر ذي الأجر الأعلى.
3- إن الرشادة الاقتصادية في إدارة عوامل الإنتاج يمكن بذاتها أن تقود إلى رشادة ديمقراطية في عملية الإنتاج، وفي توزيع الدخل والعائدات بين عوامل الإنتاج المختلفة، ومنها العمل ورأس المال.
4- سوف تؤدي الزيادة في العمر المتوقع للإنسان إلى التأثير بشدة على نمط توزيع الثروة في العقود المقبلة. ويحذر بيكيتي من أن هذا التأثير قد يتخذ شكل صراع بين الأجيال يحل محل الصراع بين الطبقات. ويفسر ذلك بأن زيادة العمر المتوقع للإنسان سيؤدي إلى تركيز الثروة بين أيدي كبار السن من ملاك رؤوس الأموال الذين تمكنوا خلال حياتهم من تحقيق مدخرات، وإلى تراكم ثرواتهم منذ سنوات شبابهم تحسبًا للقادم في شيخوختهم.
وبما أن معدل نمو الإيرادات الرأسمالية يتفوق ويزيد عن معدل نمو الدخل من العمل، فإن الأفراد المالكين للثروة سيكونون في وضعية أفضل مع تقدمهم في العمر على الشباب المالكين لقوة عملهم فقط. هذا قد يؤدي -من وجهة نظر بيكيتي- إلى أن يشهد العالم زيادة في حدة التفاوت لصالح الشيوخ على حساب الشباب، مما قد يفتح الباب لزيادة حدة الصراع بين الأجيال.
5- ضعف القوى التي تعمل في الاتجاه المضاد للتفاوت قد يؤدي إلى إسقاط فئات اجتماعية بأكملها من دائرة الاستفادة بثمار النمو الاقتصادي، ويشير بيكيتي بشكل خاص إلى خطورة ضعف الاستثمار في فرص التعليم الجيد، والتدريب، والوصول إلى تحصيل مهارات بشرية متقدمة، ما من شأنه أن يؤدي لحرمان غير القادرين من المحافظة على وضع اجتماعي مقبول.
ويؤكد بيكيتي أن حرمان غير القادرين من فرص التعليم والتدريب واكتساب المهارات سيؤدي إلى زيادة تهميشهم، وسيقابله من الناحية الأخرى زيادة في قدرة الفئات الاجتماعية القادرة والأكثر ثراءً على تعظيم الاستفادة من ثمار النمو، والفِكاك من التأثيرات السلبية التي قد تحدث.
وطبقًا لتحليل بيكيتي، فإن الميل لتركيز الثروة وزيادة إيرادات رؤوس الأموال يزيد عادة في فترات ضعف النمو الاقتصادي (حيث نسبة الإيرادات الرأسمالية من الناتج مع انخفاض معدل النمو، ويقل نصيب الدخل من العمل)، الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من التوتر وعدم الاستقرار.
6- سوف يؤدي عامل الندرة إلى زيادة نسبة ما تحصل عليه عناصر الإنتاج الثابتة أو الناضبة، الأمر الذي سيزيد من حدة التفاوت الهيكلي في بنية الاقتصاد الرأسمالي بشكل عام. ويعود بيكيتي هنا إلى نظرية ريكاردو في تحليل عوائد عوامل الإنتاج التي تقرر إن الإيرادات الرأسمالية تميل إلى الزيادة كلما قلت كمية رأس المال المتاح. وبناءً عليه، فإن بيكيتي يتوقع استمرار معدل زيادة الريع العقاري، وزيادة أسعار البترول.
ويشير بسخرية واضحة إلى تراكم الثروات لدى بلد مثل قطر، ويقول إن الفرنسيين قد يجدون أنفسهم في وقت ما بين عامي 2025 و2050 وهم يدفعون إيجارات للعقارات تذهب نسبة كبيرة منها إلى أمير قطر! وأن الفوائض النفطية الريعية التي يحصل عليها أمير قطر من بيع البترول والغاز -عندما تتحول (عن طريق الإستثمار) إلى أصول رأسمالية في الدول الرأسمالية- ستعني أن أصحاب الدخل الريعي الأجانب سيكون بمقدورهم تعميق حدة التفاوت في توزيع الثروة داخل وفيما بين البلدان التي توجد فيها الأصول المولدة للإيرادات، والبلدان التي تستحوذ من الناحية القانونية على هذه الإيرادات.
ومرة أخرى يعود توماس بيكيتي إلى التأكيد على أن قانونه بشأن ميل معدل تركيز وتراكم الثروة إلى الزيادة بنسبة تفوق معدل نمو الدخل والإنتاج هو "قانون رئيسي لا علاقة له بظروف السوق، وما إذا كانت هذه السوق كاملة أم لا". بل إنه يؤكد أنه كلما كانت السوق أقرب إلى شروطها التامة، فإن معدل نمو الإيرادات الرأسمالية يكون أكبر من معدل نمو الناتج ودخل العمل (بيكيتي، رأس المال في القرن الواحد والعشرين، ص 27).
وينتهي بيكيتي في استنتاجاته الرئيسية إلى أن التراجع المحتمل لمعدل النمو الاقتصادي في العالم الرأسمالي، والتراجع الملحوظ لمعدل نمو السكان في العقود المقبلة من شأنهما أن يجعلا هذا الميل لتركز الثروة في أيدي القلة الأكثر ثراءً، أكثر مدعاة للقلق.
ثانيًا: تفسير بيكيتي لظاهرة التفاوتات الاجتماعية والأزمة الاقتصادية العالمية
يقدم بيكيتي في كتابه عرضًا عامًّا لظاهرة التفاوت على مستوى العالم خلال فترة تاريخية طويلة. وكان غرض بيكيتي من ذلك هو التوصل إلى طبيعة وآليات وقوانين صناعة التفاوت في توزيع الدخل والثروة على مستوى العالم. ثم استخدم بعد ذلك تلك القوانين في التحليل على مستويات متعددة؛ بقصد تشريح ظاهرة التفاوت في توزيع الدخل والثروة على مستوى العالم وتأثير ذلك. واستنتج بيكيتي من تحليله أن معدل تركز الثروة الآن على الرغم من أنه أقل كثيرًا عما كان عليه بين عامي 1900 و1910، فإنه لا يزال مرتفعًا بالمقاييس التاريخية، وقد يرتفع إلى مستوياته السابقة في العقود التالية.
وخلال الفترة من 1700 إلى 2010 سجل الناتج القومي للفرد على مستوى العالم زيادة صافية في الناتج بمعدل 8,0% في المتوسط (إجمالي 6,1% ينقسم إلى 8,0% بسبب زيادة السكان، و8,0% بسبب زيادة الإنتاجية). لكن هذا النمو كان ينطوي على تفاوت ملحوظ بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة، أو بين الدول الإستعمارية ومستعمراتها.
والحقيقة أن بيكيتي لم يستخدم هذا المصطلح على الرغم من أن السمة الرئيسية التي سيطرت على العالم خلال الفترة وحتى منتصف القرن العشرين تقريبًا كانت سيطرة الدول الإستعمارية على اقتصاد المستعمرات، واستخدام المستعمرات كمخزن خلفي لتوليد الثروة والفائض الإقتصادي. وتُمثِّل هذه نقطة ضعف أساسية في تحليل بيكيتي، على الرغم من أنه في مواضع مختلفة من كتابه كان يشير إلى الجزء من الثروات الذي يتم تحصيله من خارج الدول الرأسمالية.
وطبقًا لإحصاءات بيكيتي، فإن عدد سكان أوروبا في عام 1913 (أي قبل الحرب العالمية الأولى بعام) كان يعادل نحو 26% من سكان العالم، ومع ذلك فإن أوروبا كانت تستحوذ على 47% من إجمالي الناتج العالمي. وبلغت الفجوة بين متوسط الدخل في أمريكا وأروبا ونظيره في آسيا وأفريقيا في العام 1700 حوالي 50%. واستمرت هذه الفجوة في الزيادة بمعدلات عالية حتى وصلت إلى 250% في العام 1990. أي أن متوسط دخل الفرد في الدول الصناعية المتقدمة وصل إلى نحو 5 أمثال دخل الفرد في آسيا وأفريقيا، على الرغم من الزيادات الكبيرة في الدخل التي حققتها دول مثل الصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة وغيرها.
لكننا إذا دققنا النظر وانطلقنا إلى مدىً أبعد في التحليل كما فعل بيكيتي، فإن فجوة الدخل بين أغنياء أوروبا وبين فقراء أفريقيا وآسيا ستظهر على نحو قاسٍ جدًّا في صورة فاجعة. فأوروبا الغربية يصل متوسط دخل الفرد فيها إلى 27 ألف يورو سنويًّا، وبعض سكان الولايات المتحدة يبلغ متوسط دخل الفرد منهم 40 ألف يورو سنويًّا، على حين أن كل إجمالي الدخل القومي لدول أفريقيا جنوب الصحراء (900 مليون شخص) يبلغ 8,1 تريليون يورو، وهو ما يقل عن الدخل القومي لفرنسا وحدها! فالتفاوت في الدخل على مستوى العالم إذن يزيد كثيرًا عن 20 ضعفًا إذا حسبناه على أساس متوسط دخل الفرد في مناطق العالم المختلفة.
ويبدو التفاوت أعمق كثيرًا من ذلك عندما نعرف أن ثلثي سكان العالم هم من الأفراد "الأشد فقرًا" ويحصلون على أقل من 13% من الدخل العالمي، بينما ينعم الأفراد "الأكثر ثراءً"، ونسبتهم 1% فقط من سكان العالم، وحدهم بنحو 15% من الدخل العالمي (تقرير التنمية البشرية لعام 2014 ص37، ص70).
ويضيف التقرير نفسه أن أغنى 85 شخصًا في العالم (ومعظمهم يعيشون في أوروبا الغربية والولايات المتحدة) يستأثرون وحدهم بثروة تعادل تقريبًا ما يملكه 3.5 مليار شخص من الأشد فقرًا في العالم. هذا التفاوت الهائل في توزيع الثروة والدخل على مستوى العالم يلخص في حد ذاته عريضة اتهام صارخة ضد كل المتسلطين وصُنَّاع السياسات في العالم، ولا يعفي من المسؤولية المنظمات الدولية والمؤسسات التي تتبنى شعارات تخفيف الفقر وحدة التفاوت في عصر يرفع شعارات الديمقراطية والشفافية، وإتاحة الفرص المتساوية للجميع.
ويلاحظ توماس بيكيتي أن التفاوت في توزيع الدخل القومي على مستوى العالم أعمق كثيرًا من التفاوت في توزيع الناتج المحلي (بيكيتي، ص68). ومردُّ ذلك أن الدول الرأسمالية المتقدمة تحقق ثراءً مزدوجًا؛ مرة لأنها تنتج أكثر في الداخل، ومرة لأنها تستثمر أكثر في الخارج. ونظرًا لكون الدخل القومي يساوي الناتج المحلي مضافًا إليه الناتج من الإستثمارات الوطنية في الخارج، وصافي تحويلات الخبراء والمشتغلين الوطنيين في الخارج، فإن الدخل القومي في الدول الرأسمالية المتقدمة يفوق في العادة قيمة الناتج المحلي الإجمالي، وذلك على عكس الحال في الدول النامية.
ففي مصر -على سبيل المثال- يجب علينا لكي نحدد قيمة الدخل القومي أن نطرح قيمة نصيب الشركاء والمستثمرين الأجانب، وعائدات حقوق الملكية للمستثمرين الأجانب، واستثمارات المناطق الحرة من إجمالي الناتج المحلي؛ كي نحصل من ذلك على الناتج القومي الصافي، ثم نضيف إليه تحويلات المصريين العاملين في الخارج، وصافي عوائد الاستثمارات المصرية الخارجية. وفي كل الأحوال، فإن النتيجة أن قيمة الدخل القومي لمصر ستقل كثيرًا عن قيمة إجمالي الناتج المحلي.
ومن ثَمَّ، فإننا -ولأغراض التحليل- إذا لجأنا إلى عقد المقارنة بين الناتج المحلي للفرد فيما بين الدول، فسيكون معدل التفاوت أقل مما لو قمنا بإجراء المقارنة على أساس الدخل القومي للفرد.
ويضرب توماس بيكيتي مثلًا صارخًا على ذلك بحساب التفاوت بين أفريقيا والعالم اعتمادًا على إحصاءات الأمم المتحدة، وصندوق النقد والبنك الدوليين. وبناءً على هذه الإحصاءات، فإن الدخل القومي لأفريقيا منذ العام 1970 يقل بنسبة تترواح بين 5% إلى 10% عن إجمالي الناتج المحلي؛ وذلك بسبب تحويل عائدات الإستثمارات الأجنبية في أفريقيا إلى الخارج.
وطبقًا لبيكيتي، فإنه بافتراض أن نصيب رأس المال إلى الدخل يعادل 30%، فإن هذا يعني أن نسبة ما يملكه الأجانب من الأصول الرأسمالية في أفريقيا تعادل نحو 20%، وترتفع هذه النسبة إلى ضعف هذا المعدل في الأصول المنجمية والمعدنية والصناعية. والحقيقة أن العائد على استثمار رؤوس الأموال في الدول النامية يزيد كثيرًا عن مجرد التحويلات المباشرة للأرباح أو رؤوس الأموال إلى الدول الرأسمالية. فهذه الإستثمارات تؤدي للمساهمة في زيادة إنتاجية رأس المال الكلي في الدول الرأسمالية، وليس فقط الجزء من رأس المال المستثمر في الخارج.
ولولا هذه الإستثمارات لانخفضت الإنتاجية الحدية لرأس المال في الدول الصناعية المتقدمة، ومن ثَمَّ إلى زيادة إنتاجية عوامل الإنتاج جميعًا Total Factor Productivity المعروف اختصارًا في نموذج سولو للتوازن الإقتصاد بالحروف TFP التي تضمن زيادة معدل النمو بفضل زيادة إنتاجية عوامل الإنتاج، ووقف تأثير قانون ريكاردو في تناقص الغلة The law of diminishing return، وهو القانون الذي اعتمد عليه كارل ماركس في صياغة قانونه عن ميل معدل الربح الرأسمالي للانخفاض، والذي تصور ماركس أنه سيقود إلى انهيار النظام الرأسمالي من داخله.
وطبقًا للإستنتاج الرئيسي في تحليل بيكيتي (r > g)، فإن معدلات التفاوت في توزيع الدخل، واتجاه الثروة إلى التركز في أيدي أعداد قليلة من مالكي الأصول الرأسمالية -وبسبب تأثير انتقال هذه الأصول إلى خلفاء أو ورثة هذه الثروة من جيل إلى جيل- استمرت في الزيادة خلال الفترة من القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وأنتجت مجتمعًا يتمتع فيه القلة بالنفوذ الاقتصادي والسياسي في مواجهة أكثرية لا تملك إلا قوة عملها وتعتاش منها.
ويقرر بيكيتي في الفصل السابع من كتابه أن الحربين العالميتين (من 1914 إلى 1945)، والكساد العظيم الذي توسطهما، والسياسات العامة التي اتبعتها الحكومات في إعادة بناء ما خربته الحربان، ومكافحة تأثير الكساد كانت الأسباب الرئيسية وراء تخفيض حدة التفاوت، وانعدام المساواة (بيكيتي، ص237).
إن الفضل في تحقيق ذلك إذن لم يكن لأن قوى كامنة في النظام الرأسمالي نفسه أعادت إليه وجهًا إنسانيًّا نسبيًّا بتقليل حدة التفاوت. ومع ذلك فإن النظام الرأسمالي أثبت بما لا يدع مجالًا للشك بأنه مبني على قوىً تُمكِّنه من تجديد نفسه، وإعادة تجديده مرات ومرات، بما في ذلك البدء من جديد مثلما كانت الحال بعد الحربين العالميتين. وهو في الوقت نفسه يسمح باتخاذ سياسات مرنة في إطار المنافسة والشفافية يمكن أن تساعد على تقليل حدة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي من خلال سياسات توزيعية يتم تطبيقها عبر قنوات، أو باستخدام وسائط مختلفة كالضرائب، والحد الأدنى للأجور، والحد الأقصى لساعات العمل، وأنظمة التعويضات، والحماية الاجتماعية.
إن سياسات إعادة البناء والسياسات الاجتماعية التوزيعية، ودمار جزء من الأصول الرأسمالية بسبب الحروب، وتراجع أرباح الأصول الرأسمالية بسبب الكساد العظيم، كلها تعاونت جميعًا على تخفيض حدة التفاوت ومعدلات تركز الثروة منذ خمسينيات القرن الماضي.
إن سنوات النمو السريع التي أعقبت الحرب العالمية الثانية انطوت عمليًّا على تراجع معدل التفاوت؛ حيث إن معدل النمو الاقتصادي كان ينمو بسرعة كبيرة وبمعدلات مرتفعة بتأثير التعبئة السياسية والاجتماعية، والمساعدات الخارجية التي قدمتها الولايات المتحدة لأوروبا في إطار برنامج مارشال لإعادة البناء، وتزايد متحصلات العائد من الاستثمار في الأصول الرأسمالية بالدول النامية، إضافةً إلى تأثير المنافسة الحامية بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي (المباراة السلمية) التي اعتقدت قيادات كلٍّ منهما أن نتيجتها ستحسم خيارات الشعوب بشأن النظام الذي سيسود العالم. لكن الأمور عادت بعد ذلك مرة أخرى للخضوع للآليات التي سيطرت على حركة النمو الرأسمالي منذ سبعينيات القرن الماضي، ما أدى لعودة الوجه القبيح للتفاوت المتعدد الأبعاد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
ويقرر بيكيتي أن عقد الثمانينيات القرن العشرين شهد بداية انفجار ظاهرة التفاوت بالولايات المتحدة ثم على مستوى العالم كله. ففي الولايات المتحدة كانت نسبة من يستحوذ عليه أغنى 10% من الأفراد تتراوح بين 30% إلى 35% من الدخل القومي في السبعينيات. لكن هذه النسبة ما لبثت أن أخذت في الارتفاع حتى بلغت ما يتراوح بين 45% إلى 50% في العقد الأول من القرن الحالي.
ويقدر بيكيتي أنه إذا استمر التفاوت في الزيادة بالمعدلات الراهنة، فإن نصيب العُشر الأغنى من السكان بالولايات المتحدة سيصل إلى 60% من الدخل القومي بحلول عام 2030 (ص294).
ويقدم بيكيتي دليل اتهام قوي ضد التفاوت مؤكدًا أن النصيب الذي استحوذ عليه العُشر الأكثر ثراءً من المجتمع بلغ ذروته مرتين في السنوات المائة الأخيرة: المرة الأولى في العام 1928 عشية الكساد العظيم، والمرة الثانية في العام 2007 عشية الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة، فكأنه بذلك يربط بين ازدياد حدة التفاوت وبين الأزمة الاقتصادية، وهو ما يشرحه بالقول بأن الزيادة الحادة في التفاوت تؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية للطبقات الدنيا والمتوسطة، وهذا يقود إلى الركود.
كذلك، فإن انخفاض القوة الشرائية يؤدي إلى زيادة الميل إلى الاقتراض، خصوصًا بين فئات الطبقة الوسطى؛ بقصد تعويض الانخفاض في القوة الشرائية. وتلعب سياسات التسويق الحادة لترويج الاقتراض بواسطة المصارف لبيع السيولة المتراكمة لديها دورًا شديد الأهمية لزيادة الميل للاقتراض.
ومن المعروف أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة بدأت بانهيار مصرفي؛ بسبب عدم قدرة المدينين على سداد أقساط وفوائد القروض المستحقة عليهم التي تم الحصول عليها بضمان عقاراتهم التي يسكنون فيها بعد أن وصلت قيمة هذه العقارات للقروض إلى قيمة سلبية (negative equity)، بما يعني أن قيمتها السوقية أصبحت تقل عن قيمة القروض المستحقة عليها؛ بتأثير الركود الذي ظهر بالسوق العقارية أولًا ثم انتشر إلى بقية القطاعات.
ثالثًا: الأصول الرأسمالية الموروثة والصناديق السيادية للدول المصدرة للنفط والغاز
ويُفرِد توماس بيكيتي عددًا من صفحات كتابه للحديث عن الأصول الرأسمالية الموروثة والدخل الناتج عنها، وكذلك عن الثروة الريعية (مثل إيرادات النفط والغاز) التي يتم استثمارها على نطاق واسع خارج الدول النفطية من خلال الصناديق السيادية. وبسبب آليات تراكم الثروة عبر العقود الماضية، فقد عادت ظاهرة الثروات الموروثة لتصبح واحدة من القضايا التي تؤرق المشتغلين بتوزيع الدخل والثروة في العالم.
ويقدر بيكيتي أن معدل التدفق السنوي للدخل من الثروات الموروثة (التركات) كان يعادل ما يتراوح ما بين 20% إلى 25% من الدخل القومي في البلدان الرأسمالية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وكانت الثروات الموروثة عن الآباء والأجداد -خلال تلك الفترة الزمنية- تتراوح ما بين 80% إلى 90% من إجمالي قيمة الأصول الرأسمالية الخاصة. وهذا يعني أن ما يتراوح بين 10% إلى 20% فقط من الأثرياء تمكَّنوا من تكوين أصول رأسمالية من لا شيء تقريبًا خلال فترة حياتهم (بيكيتي، ص401-402).
إن دور التركات في توليد الدخل يتزايد باستمرار حتى يومنا هذا. على سبيل المثال فإن السيدة ليليان بيتينكورت وريثة مؤسس الشركة صاحبة العلامة التجارية (لوريل) لمستحضرات التجميل زادت ثروتها الموروثة عن جدها يوجين شيللر من 2 بليون دولار إلى 25 بليون دولار خلال الفترة من 1990 إلى 2010 بدون أن تعمل يومًا واحدًا! وتقدر فوربز ثروة بيتينكوت في الوقت الحالي (يوليو 2014) بنحو 38 بليون دولار أي أنها زادت بمقدار 13 بليون دولار خلال أقل من 4 سنوات.
ويتوقع بيكيتي أن تزيد قيمة ثروات الصناديق السيادية للدول المصدرة للنفط والغاز خلال الفترة من الآن وحتى 2030 إلى 2040 بمقدار مرتين إلى ثلاث مرات عن مستوياتها الحالية التي تبلغ حوالي 3.2 تريليون دولار. ويقول إن الدول الرأسمالية الغربية قد تجد صعوبة في منع تملك الصناديق السيادية لأجزاء مهمة من ثرواتها الوطنية متمثلة في صورة أصول عقارية، أو صناعية، أو مالية.
وليس بعيدًا علينا أن نتذكر أن قطر استطاعت شراء واحد من أضخم البنوك الفرنسية (بنك سوسييتيه جنرال) في صفقة بخسة بالمعايير المالية خلال فترة الأزمة الاقتصادية الأخيرة، وتأثير أزمة الديون السيادية بشكل خاص على الحالة الاقتصادية في دول الاتحاد الأوروبي. كما ينبه بيكيتي أيضًا إلى قدرة الدول الصاعدة على تكوين ثروات كبيرة من خلال صناديقها السيادية، خصوصًا الصين وهونج كونج وسنغافورة التي تبلغ قيمة أصول صناديقها السيادية ما لا يقل عن 1,2 تريليون دولار حاليًّا.
إن زيادة معدل تركيز الثروة بفعل زيادة الإيرادات الرأسمالية بمعدلات تفوق معدلات النمو الاقتصادي قد يمكِّن الدول ذات الصناديق السيادية أن تحقق دخلًا ريعيًّا من شرائها أصول رأسمالية في الدول الرأسمالية الغربية، تحقق لها عائدًا مرتفعًا تستطيع أن تعيش عليه، وأن تدخر منه أجزاءً أكبر مع مرور الوقت، وذلك بافتراض بقاء المتغيرات الأخرى على ما هي عليه.
إن بيكيتي يحذرنا من أن الدول النفطية قد تستطيع في العقود المقبلة أن تستحوذ على مقدار من الدخل الريعي يمكنها من شراء العالم أو الحصة الأعظم منه! (ص 462). لكن بيكيتي لم يأخذ في اعتباره أن التراكم الرأسمالي ليس مجرد عملية اقتصادية بحتة، وإنما هو محصلة مجموعة متنوعة ومعقدة من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، قد يطيح بعضها بهذا التراكم أو بالقسم الأعظم منه! وهناك الكثير من الدروس والأمثلة التاريخية التي يمكننا الإشارة إليها في هذا السياق، منها التحذيرات التي انطلقت في الولايات المتحدة خلال الثمانينيات من التقدم الياباني على الولايات المتحدة في السباق الإقتصادي.
وقبل ذلك حذَّرَنا بول صامويلسون (وهو اقتصادي رصين ومتمكن) من أن الإتحاد السوفييتي سيسبق الولايات المتحدة اقتصاديًّا في الطبعة التاسعة من كتابه الشهير "الاقتصاد"، حيث أصر صامويلسون على اعتقاده (بناءً على بيانات وتحليلات رصينة) بأن الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد السوفييتي سيتجاوز مثيله في الولايات المتحدة في وقت ما بين عامي 1990 و2000 (وقد أشار بيكيتي إلى ذلك في كتابه (ص 137). ولكننا عندما حل ذلك الوقت لم يكن يعنينا على الإطلاق التحقق من صحة نبوءة صامويلسون؛ لأن الاتحاد السوفييتي كان قد انهار وتفكك، ولم يعد له وجود إلا في كتب التاريخ.
علينا إذن أن نكون حذرين من توقعات بيكيتي بأن الصناديق السيادية للدول النفطية يمكنها في العقود المقبلة أن تشتري العالم أو جزءًا كبيرًا منه، أو أن يجد الفرنسيون مثلاً أنفسهم يعيشون في عقارات مملوكة لأمير قطر! فعندما يحل العام 2050 قد لا تكون قطر أساساً وحدة سياسية مستقلة (دولة) على خريطة العالم.