قضايا محورية: الدور المصري في أزمة قطاع غزة
كثفت مصر من جهودها الدبلوماسية عقب اندلاع الحرب الإسرائيلية الثالثة على قطاع غزة، والتي أطلقت عليها إسرائيل مسمّى (الجرف الصامد)، ويعزَى ذلك الاهتمام إلى الدور التاريخي المصري في القضية الفلسطينية باعتبارها قضية أمن قومي بالأساس، وكذلك كنتيجة منطقية لقيمة ومكانة فلسطين في وجدان الشعب المصري، على الرغم من تأزُّم العلاقات المصرية مع حركة حماس منذ 30 يونيو، واتهامها بالاشتراك في عمليات العنف التي شهدتها مصر منذ ذلك التاريخ، مما دفع الحكومة المصرية إلى إعلان حركة حماس تنظيمًا إرهابيًا، وقيام السلطات المصرية بعملية هدم واسعة للأنفاق مع القطاع.
لكن؛ وعلى الرغم من كل تلك الاعتبارات السابقة، لم تنس مصر أبدًا دورها التاريخي والريادي المتمثل في الوقوف دومًا، مهما كانت الظروف والتحديات، بجانب الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقوقه، وهو ما تجلى بوضوح في موقف القاهرة من الحرب الإسرائيلية على القطاع، حيث أطلقت مبادرتها والتي أدت إلى وقف القتال مؤقتًا، كما عملت على التقريب بين وجهات النظر الفلسطينية ـ الإسرائيلية من خلال استضافتها للمفاوضات غير المباشرة بينهما في القاهرة، هذا فضلًا عن تنظيمها لمؤتمر إعادة إعمار غزة، وهو ما سنلقي عليه الضوء في البنود التالية.
أولاً: الجرف الصامد والجهود المصرية
اندلعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (الجرف الصامد) في 8 يوليو 2014، بسبب اختطاف ثلاثة من المستوطنين الإسرائيليين وقتلهم، وقد سقط على إثر هذه الحرب ما يقارب 2000 شهيد و11 ألف مصاب، وقد ردت المقاومة الفلسطينية بقصف عدة مدن إسرائيلية وتنفيذ عدد من العمليات ضد الجيش الإسرائيلي مما أدى إلى مقتل 62 جنديًا إسرائيليًا.
وفي أول رد فعل مصري على هذه الحرب، طالب المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، بدر عبدالعاطي، في 9 يوليو 2014 كل من الجانين الفسلطيني والإسرائيلي بضبط النفس ووقف العنف المتبادل والالتزام باتفاق التهدئة الذي تم التوصل إليه عام 2012، كما قامت الحكومة المصرية بفتح معبر رفح لاستقبال الجرحى والمصابين في اليوم التالي. وفي ظل تتابع الأحداث وسقوط المزيد من الجرحى والقتلى، خرجت المبادرات التي تطالب بوقف إطلاق النار بين الجانين، وكان من بينها المبادرة المصرية في 13 يوليو 2014، التي قُوبلت بالترحيب من قبل القوى الإقليمية والدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وجامعة الدول العربية وإسرائيل في مقابل رفض حماس لها، مما أدى إلى استمرار الحرب على غزة، وكانت بنود المبادرة على النحو التالي:
1-انطلاقا من المسئولية التاريخية لمصر، وإيمانا منها بأهمية تحقيق السلام فى المنطقة وحرصا على أرواح الأبرياء وحقنا للدماء، تدعو مصر كل من إسرائيل والفصائل الفلسطينية إلى وقف فوري لإطلاق النار، نظرًا لأن تصعيد المواقف والعنف والعنف المضاد وما سيسفر عنه من ضحايا لن يكون في صالح أي من الطرفين، ومن هذا المنطلق يلتزم الطرفان خلال فترة وقف إطلاق النار بالآتي:
أ. تقوم إسرائيل بوقف جميع الأعمال العدائية (Hostilities) على قطاع غزة برًا وبحرًا وجوًا، مع التأكيد على عدم تنفيذ أي عمليات اجتياح بري لقطاع غزة أو استهداف المدنيين.
ب. تقوم كل الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة بإيقاف جميع الأعمال العدائية (Hostilities) من قطاع غزة تجاه إسرائيل جوًا، وبحرًا، وبرًا، وتحت الأرض مع التأكيد على إيقاف إطلاق الصواريخ بمختلف أنواعها والهجمات على الحدود أو استهداف المدنيين.
ج. فتح المعابر وتسهيل حركة عبور الأشخاص والبضائع عبر المعابر الحدودية في ضوء استقرار الأوضاع الأمنية على الأرض.
د. أما باقي القضايا بما في ذلك موضوع الأمن فسيتم بحثها مع الطرفين.
2-أسلوب تنفيذ المبادرة:
أ. تحددت الساعة السادسة صباحًا يوم 15/7/2014 (طبقًا للتوقيت العالمي) لبدء تنفيذ تفاهمات التهدئة بين الطرفين، على أن يتم إيقاف إطلاق النار خلال 12 ساعة من إعلان المبادرة المصرية وقبول الطرفين بها دون شروط مسبقة.
ب. يتم استقبال وفود رفيعة المستوى من الحكومة الإسرائيلية والفصائل الفلسطينية في القاهرة خلال 48 ساعة، منذ بدء تنفيذ المبادرة لاستكمال مباحثات تثبيت وقف إطلاق النار واستكمال إجراءات بناء الثقة بين الطرفين، على أن تتم المباحثات مع الطرفين كل على حدة (طبقا لتفاهمات تثبيت التهدئة بالقاهرة عام 2012).
ج. يلتزم الطرفان بعدم القيام بأي أعمال من شأنها التأثير بالسلب على تنفيذ التفاهمات، وتحصل مصر على ضمانات من الطرفين بالالتزام بما يتم الاتفاق عليه، ومتابعة تنفيذها ومراجعة أي من الطرفين حال القيام بأي أعمال تعرقل استقرارها".
ويمكن القول؛ إن رفض المبادرة من قبل حركة حماس، قد أعطى الدافع لإسرائيل لاستمرار قصفها للقطاع، مما زاد من عدد الضحايا، فبلا شك أن المبادرة كانت ستؤدي إلى وقف كل الأعمال العدائية وتهيئة المناخ لاستئناف مفاوضات جادة، وفق إطار زمني محدد وعلى أساس المرجعيات والمبادئ الدولية المتفق عليها، ولا جرم من القول؛ إن عدم موافقة حماس على المبادرة يرجع إلى ضغوط من جانب تركيا وقطر لتعطيل المبادرة المصرية، خوفًا من عودة مصر إلى الساحة الإقليمية كفاعل رئيسي، وهذا ما دفع الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى التأكيد على أنه لا بديل عن المبادرة المصرية، من أجل غلق الباب أمام كل من تركيا وقطر، وذك خلال لقائه برئيس الوزراء الإيطالي، ماتيورينزي، في 2 أغسطس 2014.
فالموقف المصري كان واضحًا على أنه لا حل للأزمة إلا بوساطة مصرية خالصة، وهو ما حدث بالفعل حيث لم تتوقف الجهود المصرية عند ذلك الحد، وإنما استضافت القاهرة المفاوضات غير المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتي تمخض عنها وقف إطلاق النار لمدة 72 ساعة في يوم الإثنين الموافق 4 أغسطس 2014، على أن تبدأ صبيحة يوم الثلاثاء، وقد رحبت القوى السياسية الفلسطينية بهذه الهدنة، واعتبرتها واشنطن فرصة حقيقية أمام الجانبين للتوصل لوقف دائم لإطلاق النار.
وعلى إثر ذلك تم استئناف المفاوضات من أجل تثبيت وقف إطلاق النار في القاهرة، حيث تم التوصل بوساطة مصرية إلى وقف شامل لإطلاق النار في قطاع غزة، وقد دخل حيز التنفيذ في يوم الثلاثاء الموافق 26 أغسطس 2014، واستند هذا الاتفاق إلى المبادرة المصرية 2014 وتفاهمات القاهرة 2012، وقد نص هذا الاتفاق على فتح المعابر بين قطاع غزة وإسرائيل بما يُحقق سرعة إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية ومستلزمات إعادة الإعمار، واستمرار المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين بشأن الموضوعات الأخرى خلال شهر من بدء تثبيت وقف إطلاق النار.
وتتضمن نقاط الاتفاق ما يلي:
§ موافقة حماس وفصائل المقاومة الأخرى في غزة على وقف إطلاق كل الصواريخ والمورتر على إسرائيل.
§ موافقة إسرائيل على وقف كل العمليات العسكرية بما في ذلك الضربات الجوية والعمليات البرية والاغتيالات.
§ موافقة إسرائيل على فتح معابرها الحدودية مع غزة بصفة دائمة للسماح بتدفق أسهل للبضائع، بما في ذلك المعونات الإنسانية ومعدات إعادة الأعمار إلى القطاع بما فيها الإسمنت وغيره من مواد البناء.
§ موافقة إسرائيل على تقليص مساحة المنطقة الأمنية العازلة التي تحتلها داخل حدود قطاع غزة من 300 متر إلى 100 متر فقط بعد شهر من صمود وقف إطلاق النار، وتسمح هذه الخطوة للفلسطينيين بالوصول إلى مزيد من الأراضي الزراعية قرب الحدود التي كانت تمنع إسرائيل الوصول لها لخلق منطقة عازلة لمنع قصف مدنها.
§ في إطار اتفاق ثنائي منفصل توافق مصر على فتح معبر رفح على حدودها مع غزة، على أن تتسلم السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس المسئولية عن إدارة المعبر المصري.
§ تتولى السلطة الفلسطينية قيادة تنسيق جهود إعادة الأعمار في غزة مع المانحين الدوليين، بما في ذلك الاتحاد الأوربي، ويعقد مؤتمر دولي للمانحين.
§ توافق إسرائيل على توسيع منطقة الصيد البحري قبالة ساحل غزة إلى ستة أميال بدلا من ثلاثة أميال وتوسيعه تدريجيا إذا صمدت الهدنة، ليصل إلى النطاق الدولي الكامل وهو 12 ميلًا.
ويُلاحظ من هذه السطور السابقة، أن مصر اضطلعت بدور رئيسي في إنهاء العدوان على قطاع غزة، نتيجة للنشاط الكبير للجهود الدبلوماسية المصرية في تلك الفترة، أيضًا إذا أخذنا في الاعتبار وضع النظام الإقليمي العربي، الذي يغرق في صراعات عديدة ما بين حرب الإرهاب والصراعات المذهبية الطائفية، وهو ما مهد الطريق لمصر للعب مثل هذا الدور الريادي، كما يُلاحظ أن هناك توافقًا حقيقيًا داخل أروقة صنع القرار المصرية بأهمية وقوف مصر إلى جانب الشعب الفلسطيني دائمًا، حتى في أصعب الظروف التي تمر بها البلاد، ولا ننس أن نشير في هذا الصدد إلى الخلاف بين الدولة المصرية وحركة حماس، الذي طغى على العلاقات في الفترة الأخيرة، لكن على الرغم من ذلك فقد اضطلعت مصر بدورها، والذي نتمنى دومًا أن يكون هذا الدور المصري فاعلًا ونشطًا تجاه قضاياه العربية.
ثانياً: المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية غير المباشرة
لقد استمرت الجهود المصرية للعمل على تقريب وجهات النظر بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي باستقبال القاهرة المفاوضات غير المباشرة بين الجانبين في القاهرة من أجل التوصل إلى تثبيت دائم لإطلاق النار ولحسم كل القضايا العالقة، حيث وصل وفدا البلدين إلى القاهرة في 23 سبتمبر 2014 من أجل التوصل إلى تفاهمات حول القضايا والموضوعات المطروحة بين الجانبين، للحيلولة دون العودة مرة أخرى إلى تجدد المواجهات وتدمير المنشآت ومنع سقوط الضحايا والأبرياء، لا سيما أن من ضمن بنود وقف اطلاق النار العمل على إعادة إعمار غزة، وبالتالي المفاوضات سوف تدفع في اتجاه استباب الأمن والاستقرار في القطاع مما سيدفع بجهود إعادة الإعمار إلى الأمام.
وفي إطار المفاوضات غير المباشرة، جرت في القاهرة مفاوضات من أجل المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية أيضًا برعاية مصرية، تناولت البنود العالقة بين حركتي حماس وفتح وأبرزها عمل حكومة التوافق في قطاع غزة، برئاسة رامي الحمد للـه، بالإضافة إلى قضية إعمار القطاع والانتخابات ولجان المصالحة، حيث وقّعت كل من حماس وفتح اتفاق المصالحة في 23 أبريل 2014، والذي نص على تشكيل حكومة توافق لمدة ستة أشهر، ومن بعدها إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية ومجلس وطني. وقد تم تشكيل الحكومة بالفعل في 2 يونيو 2014، وأدت اليمين الدستورية أمام أبو مازن في رام اللـه بالضفة الغربية.
ثالثاً: إعادة إعمار قطاع غزة
تسببت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة في حدوث خسائر فادحة على المستويين المادي والبشري، ولا شك في أن تقديم أي دعم سياسي واقتصادي من أجل تنفيذ وقف دائم لإطلاق النار في غزة وتحقيق الاستقرار في الأراضي الفلسطينية، لا بد وأن يراعي أهمية عودة الخدمات وإعادة الإعمار داخل القطاع بشكل سريع. وهو ما اتضح في استضافة القاهرة في 12 أكتوبر 2014 لمؤتمر إعادة إعمار غزة بالاشتراك مع النرويج والحكومة الفلسطينية، وقد عقد المؤتمر على مستوى وزراء الخارجية وبمشاركة عدد من المنظمات الدولية والإقليمية، كان على رأسها الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وجامعة الدول العربية، ونتيجة للأهمية الكبيرة التي توليها الدولة المصرية لمؤتمر إعادة إعمار غزة، ألقى الرئيس عبد الفتاح السيسي خطابًا خلال المؤتمر، مؤكدًا فيه على أنه لا بديل عن التسوية العادلة والدائمة والشاملة للقضية الفلسطينية، والقائمة على المبادرة العربية للسلام، وأوضح أن جهود الإعمار في غزة يجب أن تنطلق من محورين أساسيين، هما: التهدئة الدائمة وممارسة السلطة الفلسطينية لصلاحياتها في القطاع.
وقد كان المؤتمر يهدف إلى تعزيز أسس وقف إطلاق النار وتحسين آفاق الحل السياسي للصراع عن طريق:
- تعزيز قدرة الحكومة الفلسطينية في تحمل مسئوليتها بشأن إعادة تأهيل قطاع غزة.
- تعزيز آلية الأمم المتحدة القائمة لاستيراد وتصدير البضائع والمواد من وإلى قطاع غزة
- توفير الدعم المالي الخاص بإعادة إعمار القطاع.
وقد تعهدت الدول المشاركة في المؤتمر بتقديم 5.4 مليار دولار لجهود إعادة الإعمار، ويمكننا القول: إن الدور الذي لعبته القاهرة في أزمة القطاع قد حقق لها بعض المكاسب، منها: خفوت حدة التوتر ولو بشكل قليل مع بعض الدول التي عارضت ثورة 30 يونيو وقرارات 3 يوليو، والتي رأت فيها خروجًا عن الديمقراطية، كدول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية، فعقْد المؤتمر في القاهرة وحضور ممثلي هذه الدول، له دلالة كبيرة في هذا الصدد. ويعد أيضًا من مكاسب المؤتمر، تدعيم الدور الإقليمي المصري، فمصر أغلقت الباب أمام كل القوى للتصدي للأزمة، مؤكدة على أنه لا بديل عن مبادرتها، مما أدى إلى إبعاد أطراف إقليمية بعينها عن التوسط مثل قطر وتركيا. ولا شك أن تدعيم الدور المصري في الفترة القادمة سيسهم بصورة أساسية في تحقيق الاستقرار السياسي في البلاد.
* مدرس العلوم السياسية المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة.