محاولة للفهم: القصر والديوان .. الدور السياسي للقبيلة في اليمن (2-3)
في ظل بيئة إقليمية مضطربة يشهد المجتمع اليمني ليس فقط مزيد من التفكك في بنيته المؤسسية ولكن نموًا متزايدًا للجماعات الإرهابية، فضلاً عن محاولات شطر البلد إلى نصفين مرة ثانية. حيث أحتشد أنصار الحراك الجنوبي، في عدن كبرى مدن جنوب اليمن، لإحياء الذكرى الـ 51 للثورة ضد البريطانيين ولإقامة اعتصام مفتوح للمطالبة بـ "فك الارتباط" عن الشمال مستغلين هشاشة الدولة بعد سيطرة الحوثيين على معظم المقار الحكومية في صنعاء. ويرى جنوبيون كثر أن ما تشهده صنعاء منذ سيطرة مسلحين حوثيين في 21 سبتمبر الماضي على مقار عسكرية وأمنية ومؤسسات حكومية وعدم قيام أجهزة الدولة بالدفاع عنها وانشغال النظام بالصراع الدائر بين القوى الشمالية، كلها عوامل تؤمن فرصة سانحة لاستعادة دولتهم الجنوبية السابقة. وبات مطلب الانفصال عن الشمال والعودة إلى دولة الجنوب يتمتع بتأييد شعبي غير مسبوق، حيث دعت غالبية فصائل الحراك الجنوبي في بيانات عدة، أبناء الجنوب إلى الزحف نحو مدينة عدن للمشاركة الفاعلة في مليونية الحسم والتي سيتم فيها إحياء ذكرى ثورة 14 أكتوبر.
ومن الأهمية الإشارة إلى أن ما يحدث في اليمن بات يشكل تهديدًا استراتيجيًا خطيرًا لمنطقة الخليجي العربي، والدول المطلة على البحر الأحمر، خاصة بعد تمدد النفوذ الإيراني، والتي نجحت –حتى هذه اللحظات- في إتباعها لسياسة "الكماشة" لتطويق المملكة العربية السعودية على وجه التحديد. وفي محاولة اكثر جدية لفهم التطورات اليمينة نواصل في هذا المقال مراجعة بقية فصول دراسة القصر والديوان، لعادل الشرجبي وآخرون، والذي نعتبرها توطئة ضرورية لفهم ما يحدث الآن في اليمن.
ثالثاً: الدور السياسي للقبيلة في اليمن
يعالج الشرجبي في الفصل الثالث من الكتاب علاقة التناقض والتحالفات الاضطرارية التي تتم بين الدولة والقبيلة في اليمن، على فترات متقطعة، ينطلق الفصل من سؤال جوهري: إذا ما كانت القبيلة هي تنظيم من تنظيمات ما قبل الدولة، فمن المفترض نظريا أن يَضْمُر هذا التنظيم مع تشكل الدولة القومية، فالعلاقة بين الدولة والقبيلة هي علاقة تناقض، فلماذا استمر – بل تعاظم- الدور السياسي للقبيلة في اليمن في ظل الدولة القومية؟
وفي محاولة للإجابة على السؤال، يرفض الشرجبي المقولات التي روجتها بعض الدراسات، من أن القبيلة اليمنية استطاعت التكيف ومسايرة التحديث، الأمر الذي مكنها من التعايش مع الدولة، ويذهب الباحث إلى أن تنامي الدور السياسي للقبيلة في التاريخ الحديث لليمن لا يرجع لمسألة التكيف أو حتى بسبب قوة التنظيم القبلي، بل على العكس، ودائما، يكون تصاعد الدور مرتبطا بضعف الدولة، مستشهدا بتمكن أئمة الدولة الزيدية الأقوياء – على قلتهم- في بسط سيطرتهم وقدرتهم على اخضاع قبائل حاشد وبكيل، وبقية القبائل، وفي فترات ضعف الدولة الزيدية، تظهر قوة شيوخ القبائل، ما يجعل الأئمة مضطرين لدفع إتاوات مالية سنوية للمشايخ، وفي كل الأحوال السيطرة الكاملة على التنظيمات القبلية في اليمن لم تتم إلا في فترات قصيرة ومتقطعة.
ثم ينتقل الباحث إلى مظاهر تبدي القوة القبلية، وتنامي دورها في الفضاء العام اليمني، مركزاً على نجاح القوى القبلية في الهيمنة على السلطة التشريعية، بحيث لم تقل نسبة مشايخ القبائل في المجالس النيابية اليمنية في أي وقت من الأوقات عن 50% من جملة الأعضاء. وقد تمكنت هذه القوى في إدماج معظم الأعراف القبلية في البنية التشريعية اليمنية، منها على سبيل المثال القانون (14) لسنة 2002، والقانون (33) لسنة 2002، وفرض العديد من القوانين المتناقضة مع الدستور اليمني، ويذهب الباحث محقا، إلى أن التواطؤ بين السلطة التنفيذية ومشايخ القبائل، والتوافقات غير معلنة على تقاسم السلطة والمنافع، قوضت قدرة مؤسسات الدولة على تحقيق الصالح العام، وحولت هذه المؤسسات، إلى أدوات تخدم مصالح المتقاسمين للسلطة.
ولأن القبيلة لا تمتلك رؤية مستقبلية، وتدير شئونها بناء على العرف والتقليد، فإن علاقتها بالدولة تظل علاقة تكتيكية، مرتبطة باللحظة الراهنة، وبالمصلحة المحلية، وليس بالمصلحة الوطنية. وحين تتوتر العلاقة بين مؤسسات الدولة وأحد القبائل الكبرى أو حتى الصغرى، تلجأ القبيلة اليمنية إلى الضغط على الحكومة بأسلوب التمردات البدائية primitive rebellions، مثل اختطاف وحجز الرهائن، وقطع الطرق، وتدمير الممتلكات العامة، إلى أن تذعن الحكومة وتحقق مطالبهم الضيقة. ويذهب الباحث إلى أن ظاهرة التمرد، وَلَّدتْ لدى الحكومة، آلية دفاعية سلبية، حيث يلاحظ سعي رأس الدولة على الدوام، على الارتباط بعلاقة شخصية مع المشايخ الأقوياء، عمادها تحقيق المنافع الشخصية لهؤلاء المشايخ مقابل الولاء أو حتى الحياد.
ومن مظاهر تغول القبيلة على الدولة، يذكر الباحث، بأنه جرت العادة على أن مشكلات الدولة العليا، يتم حلها عبر لجان من مشايخ القبائل، (لجنة المصالحة الوطنية 1981، لجنة الوساطة بين على عبدالله صالح ونائبه على سالم البيض 1994، اللجنة الوطنية للتحكيم في قضايا الثأر 1997، لجنة الوساطة بين حسين بدر الدين الحوثي والدولة، وغيرها)، وإمعاناً في تكريس الدور القبلي، حرص رئيس الدولة على اشراك مشايخ القبائل في الوفود الخارجية، وخاصة لدول الجوار. إذا فنحن أمام علاقة سياسية غريبة فيها وعلى أرض الواقع: رجال دولة موالين للقبيلة، وليست قبائل موالية لرموز الدولة، وهي علاقة رجعية على أحسن تقدير، يتنازل فيها النظام الحاكم عن مهامه في تطوير وتحديث المجتمع، ليغرق والدولة في محيط القبيلة.
قوة القبيلة، ورأسمالها السياسي والاقتصادي، بعد نشأة الجمهورية، تم استغلاله – بسبب العلاقة النفعية المذكورة اعلاه- في إنتاج طبقة وسطى متعلمة من أبناء هؤلاء المشايخ، وهي الطبقة التي تسيطر على المناصب العليا والوظائف المتميزة في مؤسسات الدولة. هنا تتوغل القبيلة داخل مفاصل الدولة، وصار من المألوف وَسْدُ الأمر لغير أهله، وضرب الحائط بمعايير الكفاءة في تولي المناصب. وهنا، يستشهد الباحث بوقائع تعديل قانون السلطة المحلية عام 2008، وتقضي التعديلات بجعل تولي منصب المحافظ بالانتخاب، وبالفعل جرت الانتخابات في نفس العام، وفاز أبناء مشايخ القبائل بالمنصب في 13 محافظة من جملة 21 محافظة. وترصد الدراسة العديد من البيانات المهمة التي تثبت سيطرة مشايخ القبائل على المناصب العليا (تنفيذية وتشريعية) في كافة المحافظات وعلى المستوى المركزي، ما أدى إلى تحول الدولة إلى مجرد جهاز لتوزيع الهبات، أو بحسب تعبير الشرجبي، تحولت إلى دولة الاتاوات tributary state.
وفي الجزء الأخير من الفصل، يتعرض الباحث إلى علاقة القبيلة بالأحزاب السياسية، لينتهي إلى أن المصلحة القبلية مثلما تحققت على المستوى التنفيذي والتشريعي، فإنها متحققة كذلك على المستوى الحزبي، حيث صارت الأحزاب، مسرحا للصراعات القبلية، وليست أحزابا تحمل رؤى وبرامج تنموية. الجميع يدور في فلك القبيلة.
رابعاً: الفضاء الوسيط بين الدولة والقبيلة
يذهب الشرجبي، إلى أن القبيلة اليمنية في ظل الدولة الثيوقراطية، شكلت في تاريخ اليمن منطقة عازلة buffer zoon بين الدولة والأفراد والعائلات، تحمي أعضاءها والمواليين لها من الاستخدام التعسفي لقوة الدولة، أما بعد إلحاق النخبة القبلية بالجهاز الحكومي، تحولت هذه النخب إلى ممثلين للدولة في مناطقهم، وباتت إحدى أدوات تدخل الدولة في المجال الخاص. ويلفت الشرجبي إلى أن القبيلة تضطلع في الوقت الحاضر، بدور في الدفاع عن الحقوق السلبية لأفرادها preventive rights ولا تهتم بالحقوق الايجابية، فالقبيلة تقف إلى جانب أفرادها، الذين يسجنون أو يعتدى على حياتهم، ولكنها لا تهتم بحقهم في حرية الرأي والتعبير، أو حقهم في التعليم والعيش الكريم.
بات شيوخ القبائل ممثلين للدولة في مجتمعاتهم المحلية، وأدوات تدخلها في المجال الخاص، وهيمنتها على المجتمع المدني، ومن جانب آخر، فإن شغلهم مناصب عليا في مؤسسات الدولة، أخضع تلك المؤسسات لتناقضات وتعارض مصالح المجال الخاص، ويلفت الشرجبي الانتباه، إلى أن تركيب النخب العسكرية، ونخبة الطبقة الوسطى المدنية، بأصولها القبلية، منح النخبة القبلية قوة مضافة في الوقت الذي من المفترض فيه أن ينحسر دور القبيلة، فكان أن ألحق المشايخ ضررًا بالغًا بالتعددية السياسية. وعلى المستوى الثقافي، فقد المثقفون دورهم التنويري، ولم يقدموا ما يذكر تجاه نشر الثقافة الديمقراطية، وباتوا يمارسون دورًا تبريريًا يكرس العلاقات القبلية التقليدية. ما أدى في النهاية إلى تحول الديمقراطية التعددية، إلى نظام لشورى "أهل الحل والعقد"، ولم يستفد المواطن العادي من ثمراتها.
ويرصد الباحث، بيانات تفيد هيمنة مشايخ القبائل الهمدانية (خاصة قبائل حاشد وبكيل)على المجال السياسي، وتحالفهم مع النظام الحاكم، مقابل قلة حظوظ القبائل الحميرية من كعكة السلطة، أي أننا أمام نوعين من التمييز، الأول بين النخبة القبلية وبقية السكان، والثاني بين القبائل الهمدانية والحميرية. وبالجملة فقد جرى بعد إعلان الجمهورية اليمنية، عمليات مأسسة مشوهة للسلطة، معوقة لوظيفة أجهزة الدولة، ناشرة للفساد بكافة أنواعه، منحرفة بمسار برامج التنمية، بحيث تحتكر بعض القوى التقليدية عوائدها –المحدودة- ، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى تفاقم الشعور بالظلم والاقصاء الاجتماعي، وتزايد العنف السياسي والاجتماعي والارهابي.
ومع ذلك ورغمه، فإن المواطن اليمني، مضطر للتمسك والارتباط بالقبيلة، فالدولة لا تتعامل بشكل مباشر مع المواطن، وإنما عن طريق الوسيط القبلي، ولم تكتف الدولة الهامشية، بذلك بل أمعنت، ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي، في تدمير البنية المساواتية agrarian structure التي تمتعت بها القبيلة عبر التاريخ، عبر استراتيجيات لتوزيع المنافع بشكل تمييزي، تعطي البعض وتمنع عن البعض من المشايخ والقبائل، ما يؤدي إلى تقوية العلاقات العصبوية القائمة على الموالاة والتبعية الشخصية، وكأن المواطن اليمني يعيش في إهاب مجتمع اقطاعي، ذا طابع عدائي وشقاقي، ما يحول دون ظهور بيئة ديمقراطية ملائمة تسمح بتداول السلطة.
في الجزء الثالث والأخير من هذه المقالات سوف نتعرف على الفصول الأخيرة من هذه الدراسة المهمة، والتي تعتبر كما ذكرنا توطئة هامة وضرورية لفهم الوضع الراهن في اليمن.