مواقف متباينة: تحديـــات ما بعد مؤتمــر إعـــادة إعمــار غـــزة
أعتقد أن لسان حال كبار قادة الكيان الصهيونى كان يقول، وهم يتابعون، بقلق، أعمال مؤتمر «إعادة إعمار غزة» الذى استضافته مصر بالمشاركة مع الحكومة النرويجية أمس الأول الأحد (12 أكتوبر 2014): «دعهم يعمرون ونحن سنكرر التدمير».
تماماً مثلما كانوا يهزأون من الجهود العربية والدولية الحريصة على إغاثة المصابين وعلاجهم طيلة أيام العدوان الإسرائيلى الآثم على قطاع غزة الذى حمل مسمى «الجرف الصامد» وكانوا يقولون: «دعهم يعالجون ويضمدون ونحن سنواصل القصف والقتل». مقولات «إسرائيلية» أضحت شائعة ومحفوظة تكشف عن واقع مرير بات يحكم معادلة الصراع الذى تخوضه «إسرائيل» ضد الشعب الفلسطينى وضد العرب، واقع فرضته معادلة توازن القوى شديدة الاختلال لمصلحة هذا الكيان الصهيونى يعطى للإسرائيليين بدافع مما تعتبره استحقاقات «حق القوة» أن تفعل ما تشاء وما تراه من ضرورات الدفاع عن أمنها والحفاظ على مصالحها.
أولا: رايات إسرائيل الحمراء
فالإسرائيليون يروجون دائماً لمقولة إن القوة لها استحقاقاتها مثلما أن للضعف واجباته، ومن منظور «تفوق القوة» ترى إسرائيل أن من حقها أن تحصل على ما تريده، وأن من واجبات العرب والفلسطينيين، على وجه الخصوص، أن يدفعوا الأثمان، وأخشى ما كانوا يتحسبون له طيلة الأيام الماضية، التى شهدت جهود الإعداد المصرية لمؤتمر «إعادة إعمار غزة» أن يتجاوز هذا المؤتمر حدود عمليات إعادة الإعمار إلى البحث فى كيفية منع تكرار العدوان، بالخوض فى جوهر الصراع، وتحويل المؤتمر من ساحة الدعوة الأخلاقية لـ «جمع التبرعات» إلى محاسبة سياسية وقانونية للعدوان، وإدانته، ووضع قواعد ملزمة لتحقيق «السلام العادل» الذى أقرته القرارات الدولية وأكده القانون الدولي، وفى مقدمة هذه القواعد؛ إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضى التى جرى احتلالها عام 1976، وأن تكون القدس الشرقية المحتلة هى عاصمة هذه الدولة، ولذلك تعمد «الإسرائيليون» إظهار التحدى العملى للمؤتمر قبل أن يبدأ، ورفعوا الرايات الحمراء أمام المشاركين راية تقول: «محظور عليكم أن تفعِّلوا معادلة «قوة الحق» التى تعتقدونها أساساً أخلاقياً واجباً للقانون الدولي، لأن إسرائيل لا تحترم غير القانون الذى يحقق مصالحها، والذى يقر بـ «حق القوة» ويزدرى «قوة الحق».
رايات إسرائيل الحمراء التى سبقت انعقاد مؤتمر القاهرة لإعادة إعمار قطاع غزة كانت شديدة الوطأة على كل من راهنوا على ما كان يسمى «عملية السلام» و«مسلسل التفاوض العبثى» طيلة 21 سنة مضت وبالتحديد منذ توقيع «اتفاق أوسلو» عام 1993، حيث أثبتت إسرائيل بالدليل القاطع أن مشروع «حل الدولتين» دخل عملياً مرحلة الاحتضار، وأنه فى حال لا يمكن وصفها إلا بأنها «موت إكلينيكى» لعملية السلام ولحل الدولتين.
فقد أعلنت الحكومة الإسرائيلية منذ أيام قليلة المصادقة النهائية على بناء 2610 وحدات استيطانية جديدة فى مستوطنة «جعفات همتوس» المقامة أصلاً على أراضى القدس الشرقية فى بيت صفافا. وهى تقع فى منطقة إستراتيجية قرب «باب المغاربة» وتبعد مسافة 200 ـ 300 متر لا أكثر عن المسجد الأقصي. حركة السلام الآن الإسرائيلية اعتبرت أن مخطط بناء هذه المستوطنة هدفه «تدمير حل الدولتين»، خصوصاً وأن هذا المخطط يشمل أيضاً مرحلتين تاليتين له مجموع وحداتهما الاستيطانية يبلغ 1362 وحدة، ثم مرحلة رابعة تضم 1100 غرفة فندقية.
هذا التوسع الاستيطانى فى القدس الشرقية يعد من ناحية امتداداً لسياسة الاستيطان والتهويد المتبعة منذ احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية أعقاب عدوان عقب 1967 لإقامة دولة «إسرائيل الكبري» ويعد من ناحية أخرى التزاماً مبدئياً بالأسس والمفاهيم الثوارتية لتحويل إسرائيل إلى «دولة يهودية» القائمة على ثلاثية: «أرض مقدسة ـ قدستها التوراة ـ من أجل الشعب المختار».
ثانيا: إعادة الأعمار والموقف أمريكا المتناقض
ولقد ظل التخطيط الصهيونى للقدس، باعتبارها من وجهة نظرهم العاصمة الموحدة والأبدية للدولة اليهودية مرتكزاً على قاعدتين أساسيتين، الأول: زيادة نسبة السكان «الإسرائيليين» على حساب السكان العرب الفلسطينيين تحسباً لأى إجراء سياسى بهدف إثبات أن القدس (الشرقية المحتلة) مدينة إسرائيلية خالية من العرب وليس للعرب أى دليل أو حق للمطالبة بها. أما المرتكز الثانى فهو زيادة مساحة المدينة قدر المستطاع للاستحواذ على الجزء الأكبر والممكن من الضفة الغربية. ضمن سياسة هدفها تفريغ مشروع «حل الدولتين» من مضمونه.
كل هذا يهون أمام الراية السوداء أو «الكارت الأسود» وليس الأحمر الذى رفعه الرئيس الأمريكى باراك أوباما ليس فقط فى وجه العرب بل فى وجه كل العالم قبل ثلاثة أسابيع تقريباً فى كلمته التى ألقاها أمام الدورة 69 للجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك.
لقد فاجأ الرئيس أوباما وأسمع العالم كلاماً لم يقله أى رئيس أمريكى قبله، على حد ما كتب زلمان شوفال فى صحيفة «إسرائيل اليوم» الإسرائيلية. أوباما قال، وبصراحة غير مسبوقة، بل وبتجاوز غير مسبوق، إن «الوضع فى العراق وسوريا وليبيا يجب أن يشفى الجميع من وهم أن هذا الصراع (الإسرائيلى الفلسطيني) هو مصدر المشكلات فى المنطقة. كان هذا الصراع (الإسرائيلى الفلسطيني) يستخدم زمناً طويلاً وسيلة لصرف انتباه العالم عن المشكلات».
يقول زلمان شوفال، وهو غير مصدق ما قرأه من كلام أوباما: «لم استطع أن أصدق ما رأته عيناي، لأن جهود دولة إسرائيل الدعائية والسياسية كانت موجهة منذ سنين طويلة، دون نجاح، لتحطيم الدعوة الكاذبة، وهى أن الصراع الفلسطينى جذر أو أصل كل المشكلات فى الشرق الأوسط، لاسيما مشكلات الولايات المتحدة مع العالم العربي، وهنا جاء أوباما لا غيره، وقال بفم ملآن، وبتأكيد معناه الوحيد الواضح أننا (الأمريكيين) والإسرائيليين كنا على حق».
قنابل موقوتة تتفجر واحدة تلو الأخرى للانحراف بالمسار الذى أرادته مصر لمؤتمر إعادة إعمار قطاع غزة، لكن بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية لم يكتف بما تحدث عنه فى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة من إنكار لأولوية أو أهمية حل القضية الفلسطينية إذا قورنت بالخطر الإيرانى الذى يرى أنه يجب أن يحظى بكل الأولوية ولكنه شاء أن يفجر أهم هذه القنابل عندما تحدث فى أحد الفنادق بنيويورك أمام مجموعة من 200 من رؤساء الاتحادات الصهيونية قبيل عودته إلى إسرائيل، بل شاء أن يفجر قنبلتين فى وقت واحد: الأولى عندما قال أن «إيران أخطر من (داعش)، وأن التغييرات فى الشرق الأوسط توحد بين إسرائيل ودول إسلامية معتدلة فى مواجهة الدول المتطرفة وفى مقدمتها إيران وذراعاها الإرهابيتان «حزب الله» و«حماس»، والثانية عندما قال: «أن دولة إسرائيل تريد السلام، لكن لا يبدو الآن أن أبو مازن معنى به، وليس الحل فى رام الله (مقر السلطة الفلسطينية) بل فى العاصمتين الإسلاميتين المعتدلتين (الرياض والقاهرة) اللتين تقودان مع إسرائيل إلى اتفاق برقابة دولية يمنح إسرائيل الأمن والسيطرة على الحدود ونزع سلاح كل المنطقة التى ستسلم إلى الدولة الفلسطينية»(!!).
هل سيكون لدى مؤتمر إعادة إعمار غزة والدول والأطراف المعنية ،القدرة على إبطال مفعول أو نزع فتيل كل هذه القنابل الأمريكية والإسرائيلية؟ هذا هو التحدى.