نحو إطار تعاوني: حقيقة الدور المصري في الأزمة الليبية
لا شك أن الأزمة الليبية أضحت تشكل خطرًا كبيرًا على الأمن القومي المصري، نظرًا لتدهور الوضع الأمني وهشاشته هناك، مما شكّل أرضية خصبة لنمو الجماعات الإرهابية، على نحو جعل أنشطتها لا تقتصر فقط على الداخل الليبي، وإنما امتدت إلى داخل دول الجوار من خلال تجارة السلاح واختراق الحدود، ولعل أبرز الأمثلة في هذا الصدد، حادث الفرافرة، الذي قُتل على إثره 23 عسكريًا مصريًا، وقد ربطت التقارير الأمنية هذ الحادث بالمجموعات المسلحة القادمة من ليبيا، وهو ما دفع بعدة حركات سياسية إلى الضغط على السلطات المصرية للتدخل في ليبيا.
كما أنه في إطار موجة العنف غير المسبوقة في الأراضي الليبية، والذي ينذر بمزيد من الانقسام، نتيجة لاحتدام القتال هناك للسيطرة على مطار العاصمة طرابلس، خرجت تقارير تشير إلى قيام القوات الجوية المصرية والإماراتية بقصف مواقع الجماعات الإسلامية، كل هذه الأمور أثارت الشكوك حول حقيقة الدور المصري في الأزمة الليبية، على الرغم من نفي المسئولين المصريين قيام مصر بأي عمل عسكري في ليبيا.
لكن يمكن القول، إن الدور الذي تلعبه مصر في الأزمة الليبية يحكمه عدة سياقات واعتبارات سواء داخلية أو خارجية، تجعل من هذا الدور تعاونيًا أكثر منه صراعيًا، وذلك بالنظر إلى عدد من المعطيات والمؤشرات في هذا الصدد، ومنها المبادرة المصرية لحل الأزمة الليبية، التي أعلنت عنها القاهرة على هامش اجتماعات دول الجوار بالقاهرة في 25 أغسطس الماضي، فضلًا عن عدد آخر من الدلالات المهمة، والتي تنبغي الإشارة إليها تفصيلًا كالتالي:
أولا: تعاون ثنائي
نتيجة للأوضاع الأمنية الهشة في ليبيا منذ اندلاع ثورة 17 فبراير، زار الفريق صدقي صبحي عندما كان رئيسًا للأركان ليبيا في 10 أبريل 2013، حيث أجرى مباحثات مع نظيره الليبي اللواء يوسف المنقوش آنذاك، تناولت التعاون بين القوات المسلحة في البلدين لتأمين الحدود المشتركة بشكل كامل، حيث إن مصر تعتبر ليبيا امتدادًا استراتيجيًا لها، كما وقع الجانبان خلال الزيارة اتفاقية للتعاون العسكري.
وكذلك التقى رئيس الوزراء إبراهيم محلب وفدًا برلمانيًا وحكوميًا من ليبيا برئاسة النائب الأول لرئيس مجلس النواب، وعضوية وزير الثقافة، ووكيل وزارة الخارجية، والسفير الليبي بالقاهرة في 24 أغسطس الماضي، أكد فيه أن استقرار الأوضاع في ليبيا، وتشكيل الحكومة الليبية، سيسهم في تعاون مصر جنبًا إلى جنب مع أشقائها، من أجل دفع جهود التنمية والتعاون في شتى المجالات. وأوضح أن تشكيل المجلس الجديد يدل على وجود إرادة قوية للتغلب على التحديات، التي تواجهها ليبيا. وطلب الوفد الليبي مساعدة مصر في بناء مؤسسات الدولة، وتعزيز التعاون في ضبط الحدود، وزيادة الروابط الاقتصادية والتنموية. مثل هذه اللقاءات تدل على وجود نية قوية من جانب الحكومة المصرية على دعم التعاون الثنائي مع جارتها الليبية من أجل مساعدة ليبيا على الخروج من أزمتها الحالية.
كما أكدت الخارجية المصرية في أكثر من مناسبة واجتماع أن مصر تبذل قصارى جهدها للحفاظ على وحدة ليبيا، وستقدم كل الدعم اللازم، مع أهمية وضع خطة عمل تتضمن اتخاذ خطوات داخل ليبيا، وخطوات أخرى بينها وبين دول الجوار لضبط الحدود وتحقيق الاستقرار السياسي والأمني، والتأكيد على ضرورة محاربة الإرهاب وبناء مؤسسات الدولة والبعد عن الطائفية والمذهبية .
ثانيا- تعاون إقليمي
وهنا يمكن الإشارة إلى الدور المصري في إطار جهود دول الجوار في حل الأزمة الليبية، من خلال تنظيم عدد من الاجتماعات لبحث الوضع في ليبيا، ولعل أبرز تلك الاجتماعات كان اجتماعي تونس والقاهرة نظرًا لما تمخض عنهما من نتائج مهمة.
1. الاجتماع في تونس
عقد هذا الاجتماع في مدينة الحمامات التونسية في يومي 13 و14 يوليو الماضي، وقد ناقش الأوضاع السياسية والأمنية في ليبيا، وانتهى ذلك الاجتماع بتشكيل لجنتين إحداهما أمنية وتترأسها الجزائر، والأخرى سياسية وتترأسها مصر. وذلك من أجل إيجاد الوسائل الكافية والأساليب العلمية الأنسب لمساعدة الحكومة الليبية على مكافحة الارهاب والجريمة المنظمة، وكذلك لضبط وتأمين الحدود لمواجهة أخطار الجماعات الإرهابية، وتجفيف منابع تمويلها وتسليحها، حيث باتت الأزمة الليبية تمثل قضية أمن قومي عربي.
تبحث اللجنة الأولى بالتعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية وعلى رأسها جامعة الدول العربية، إعادة الاستقرار الأمني في ليبيا، من خلال التوصل لمبادرات لوقف إطلاق النار بين الفصائل المتنازعة، وكذلك المساهمة في بناء جيش ليبي قوي، باشتراك دول الجوار في تدريب عناصره حتى يستطيع أن يحافظ على وحدة البلاد.
أما الثانية؛ مهمتها هو التوسط بين أطراف العملية السياسية في ليبيا، مع محاولة التقريب بين وجهات النظر للوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف، من أجل الخروج من الأزمة.
2. الاجتماع في القاهرة
حيث استقبلت مصر الاجتماع الوزاري الرابع لوزراء خارجية دول جوار ليبيا، بمشاركة كل من وزراء خارجية ليبيا والجزائر وتونس والسودان وتشاد ومسئول من دولة النيجر، والأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي ومبعوث الاتحاد الأفريقي إلى ليبيا داليتا محمد داليتا، ومبعوث الجامعة العربية ناصر القدوة، من أجل بحث الأوضاع الليبية وتأثيراتها على المنطقة.
وقد خرج هذا الاجتماع بتوصيات عدة للخروج من الأزمة والحفاظ على وحدة الأراضي الليبية منها؛ سحب السلاح من مختلف الميلشيات ودعم دور المؤسسات الشرعية في الدولة وإعادة تكوينها بما فيها الجيش والشرطة، كما طرح وزير الخارجية المصري على هامش هذا الاجتماع مبادرة مصرية لحل الأزمة الليبية تشمل مقترحات رئيسية لاستعادة دور الدولة، ونظرًا لأهمية تلك المبادرة فسوف نقوم بإلقاء الضوء عليها تفصيلًا.
وقد طالبت دول الجوار الليبي في ختام اجتماعها في القاهرة باعتبار البيان الختامي للاجتماع وثيقة رسمية في المنظمات الإقليمية، وفي مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة. وبالفعل صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية إن مصر نقلت البيان الختامي الصادر عن الاجتماع بصفة رسمية إلى كل من السكرتير العام للأمم المتحدة، وأمين عام جامعة الدول العربية ومفوضة الاتحاد الأفريقي واعتباره وثيقة رسمية، وأن البيان أرسل إلى بريطانيا بصفتها رئيس مجلس الأمن للشهر الحالي مع طلب تعميمه على الدول الاعضاء وإصداره كوثيقة رسمية من وثائق المجلس.
3. المبادرة المصرية لحل الأزمة الليبية
هذه المبادرة أطلقتها مصر بالتشاور مع دول الجوار بخصوص الأزمة الليبية، وقد ارتكزت تلك المبادرة على ثلاثة مبادئ وهي؛ احترام وحدة وسيادة ليبيا وسلامة أراضيها، وعدم التدخل في الشئون الداخلية لليبيا والحفاظ على استقلالها السياسي، علاوة على الالتزام بالحوار الشامل ونبذ العنف. كما نصت تلك المبادرة على الآتي:
· الوقف الفوري لكل العمليات المسلحة من أجل دعم العملية السياسية، وتعزيز الحوار مع الأطراف السياسية التي تنبذ العنف، وصولًا لتحقيق الوفاق الوطني والمصالحة، ووضع دستور جديد للبلاد. والتأكيد على الدور الأساسي والمحوري لآلية دول جوار ليبيا وخصوصيتها فيما يتعلق بتطورات الوضع في ليبيا وضرورة إشراكها في مختلف المبادرات الإقليمية والدولية الهادفة لإيجاد تسوية توافقية للأزمة الليبية.
· تنازل جميع الميليشيات والعناصر المسلحة وفق نهج متدرج المراحل ومتزامن من حيث التوقيت عن السلاح والخيار العسكري في إطار اتفاق سياسي بين كل الفرقاء التي تنبذ العنف، ووفق آلية مستقلة تعمل برعاية إقليمية من دول الجوار ومساندة دولية.
· التأكيد على التزام الأطراف الخارجية بالامتناع عن توريد وتزويد الأطراف غير الشرعية بالسلاح بجميع أنواعه، وتعزيز المراقبة على جميع المنافذ البحرية والجوية والبرية الليبية لتحقيق هذا الهدف، ولا يسمح باستيراد أي نوع من الأسلحة إلا بناء على طلب من الدولة الليبية وبعد موافقة لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن.
· مكافحة الإرهاب بكل أشكاله، وتجفيف منابع تمويله ومحاربة الجريمة المنظمة العابرة للحدود وغير ذلك من الأنشطة غير المشروعة.
· دعم دور المؤسسات الشرعية للدولة وعلى رأسها مجلس النواب، وإعادة بناء وتأهيل مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش والشرطة، من خلال برامج محددة لبناء السلام، بما يسهم في تثبيت الاستقرار والأمن وتعزيز جهود تحقيق التنمية.
· تقديم المساعدة للحكومة الليبية في جهودها لتأمين وضبط الحدود مع دول الجوار وفق برنامج متكامل، ووقف كل الأنشطة غير المشروعة للتهريب بكل أنواعه.
· توفير آلية تتضمن تدابير عقابية متدرجة يتم اللجوء إليها في حالات عدم الامتثال، بما في ذلك فرض عقوبات موجهة ضد الأفراد والجماعات الذين تثبت مسئوليتهم عن عرقلة مسار العملية السياسية وتحقيق الاستقرار.
· إنشاء آلية بإشراف وزراء خارجية دول الجوار لمتابعة تنفيذ ما تقدم بالتعاون مع المبعوثين العربي والأفريقي، في ضوء ما يتم رفعه من توصيات يقدمها فريقا العمل السياسي والأمني، ومن بينها القيام بزيارة لكبار المسئولين لدول الجوار لليبيا للقاء مجلس النواب الليبي والأطراف السياسية تمهيدا لزيارة يقوم بها وزراء خارجية دول الجوار.
· تكليف الرئاسة المصرية للاجتماع الرابع لدول الجوار بإبلاغ هذا البيان بصفة رسمية إلى رئاسة مجلس الأمن والسكرتير العام للأمم المتحدة، وللأمانة العامة لجامعة الدول العربية ومفوضية الاتحاد الإفريقي، والحكومة الإسبانية لطرحها خلال مؤتمر مدريد يوم 17 سبتمبر 2014.
· عقد الاجتماع الخامس لدول جوار ليبيا في الخرطوم في موعد يتم الاتفاق عليه بالتشاور لاحقا.
· التأكيد على أهمية الدعم الدولي فيما يتعلق بالمساعدة في إعادة بناء وتأهيل مؤسسات الدولة الليبية بالتعاون مع دول الجوار، بما في ذلك التدريب على ضبط الحدود وتوفير الأجهزة الفنية الحديثة للمراقبة والرصد، فضلًا عن مساندة ما قد يتم اتخاذه من تدابير عقابية ضد الأفراد والكيانات التي ترفض التجاوب مع العملية السياسية، وتسعى لتقويضها من خلال العنف، بما في ذلك إمكانية اللجوء إلى مجلس الأمن لفرض عقوبات موجهة.
وقد رحب السفير الليبي بالقاهرة فايز جبريل بالمبادرة المصرية، موضحًا أنها نابعة من إيمان مصر بضرورة دعم العملية السياسية وعودة الاستقرار إلى الأراضي الليبية، كما اعتبر وزير الخارجية الليبي محمد عبد العزيز، أن أهمية تلك المبادرة تكمن في عملها على استعادة الأمن في ليبيا، وكونها تعكس الالتزام السياسي القوي من قبل دول الجوار، كما أشاد بالدور المصري في حل القضية.
هذه المؤشرات التعاونية سواء على المستوى الثنائي أو الاقليمي، لم تكفل لمصر البعد عن شائعات تدخلها عسكريًا في ليبيا، وهو ما سنعالجه في العنصر التالي.
ثالثا- حقيقة التدخل العسكري
ظهر الكثير من الجدل في الآونة الأخيرة عن حقيقة التدخل العسكري المصري في ليبيا إبان المعارك الضارية التي شهدتها العاصمة طرابلس من أجل السيطرة على المطار، وذلك نتيجة لإعلان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية جين ساكي يوم الثلاثاء الموافق 26 أغسطس الماضي، عن أن مصر والإمارات قد شنتا ضربات جوية استهدفت الميلشيات الإسلامية في ليبيا، وكذلك المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" الأميرال جون كيربي.
ولكن هذا الأمر غير مقبول منطقيًا بسبب أمور ثلاثة: أولها؛ تراجع وزارة الخارجية الأمريكية عن ذلك التصريح في نفس اليوم. والثانية؛ نفي المسئولين المصريين القيام بأي عمل عسكري في ليبيا، وعلى رأسهم الرئيس عبد الفتاح السيسي، وكذلك نفي وزير الخارجية المصري سامح شكري في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح ووزير الخارجية محمد عبد العزيز ورئيس الأركان عبد الرازق الناظوري، بأن مصر غير متورطة في أي عمل عسكري في ليبيا. أما الثالثة؛ فتتمثل في نفي الجهات الرسمية الليبية ذلك على لسان السفير الليبي في القاهرة فايز جبريل، والذي أوضح أن مصر لم تتدخل عسكريًا في ليبيا، حيث تسعى لحل سياسي للأزمة، وأيضًا وزير الخارجية الليبي محمد عبد العزيز.
ومن هنا نستطيع القول، إن مصر لم تتدخل عسكريًا في ليبيا تأكيدًا للشواهد السابقة، ولكن يظل السؤال مفتوحًا عن "هل من الممكن أن تقدم مصر مستقبلًا على تلك الخطوة؟". هذا الأمر تحكمه عدة اعتبارات، تتمثل في أن موقف القاهرة من الأزمة الليبية يتلخص في الحل الودي، وأن الأمر لن يمتد إلى أكثر من ذلك، بسبب:
§ احترام القاهرة للحل السياسي والسلمي للأزمة، وهذا بات جليًا من خلال مشاركتها في ملتقيات وزراء خارجية دول الجوار، وكذلك إعلانها المبادرة المصرية لحل الأزمة الليبية، مع اعترافها بالبرلمان المنتخب حديثًا ممثلًا للشعب الليبي، وتأكيد المسئولين المصريين على أهمية التعاون مع طرابلس في كل المجالات فور عودة الاستقرار.
§ الوضع الأمني في مصر والذي لا يسمح مطلقًا بتوريط الجيش المصري في حرب خارج حدوده، خاصة في ظل الاعتماد على المؤسسة العسكرية في تأمين البلاد داخليًا، ومحاربة الإرهاب في سيناء، فضلًا عن مشاركته في المشروعات التنموية الداخلية مثل مشروع قناة السويس الجديدة.
§ الوضع الاقتصادي المصري والذي لا يسمح بتحميل الخزينة العامة للدولة للمزيد من النفقات للقيام بعمليات عسكرية في ليبيا، فالأوْلَى توجيه تلك النفقات للتغلب على المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
§ عدم فائدة التدخل في الحالة الليبية، وهو ما أكده التدخل الدولي السابق في ليبيا الذي خلف وراءه دولة منهكة بدون مؤسسات تسيطر عليها ميلشيات مسلحة، مما جعل الدولة غير قادرة على تحقيق الاستقرار الداخلي ومواجهة الإرهاب.
* مدرس العلوم السياسية المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.