القدرة والعجز: هل يستطيع المصريون تمويل مشروعاتهم القومية؟
استيقظ
المصريون فجأة على نفير يدعوهم للبدء في البناء والعمل. ولم يكن هناك بديل عن
الاستجابة، خصوصا وأن العجلة أخذت تدور بسرعة على صعيد القوى الداعية للنفير،
وتحديدا القيادة السياسية لنظام جديد لم تكتمل أركانه بعد. ووسط حالة من التفاؤل
والحماس، اندفعت إلى سطور الخطب السياسية وعناوين الأخبار أسماء مشروعات قومية
كبرى كثيرة، لدرجة أنك قد تشعر أن بينها منافسة شديدة على أي منها يبدأ أولا وأي
منها يكتمل مبكرا! السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في مواجهة هذا الزخم للمشروعات
القومية هو: هل يستطيع المصريون تمويل هذه المشروعات؟ أمامنا مشروع تطوير قناة
السويس. ويتضمن المشروع مرحلة أولى لتطوير المجرى الملاحي (ازدواج المجرى الملاحي
من الإسماعيلية إلى بورسعيد، ويتضمن حفر مجرى موازيا بطول 35 كيلومترا، وتعميق
وتوسيع المجرى الحالي بطول 37 كيلومترا، بمجموع أعمال حفر جاف وفي المجرى المائي
بطول 72 كيلومترا). وتقدر التكاليف المبدئية لهذه المرحلة بنحو 4 مليارات دولار،
أي ما يعادل ما يقرب من 29 مليار جنيه. وتعتبر الأعمال الرئيسية في هذه المرحلة من
الأعمال منخفضة المحتوى التكنولوجي بشكل عام، ولن تتسبب فيما يبدو في إحداث ضغوط
ثقيلة على الميزان التجاري أو على قيمة العملة. أما المرحلة الثانية من المشروع
فتتضمن إنشاء مقومات البنية الأساسية اللازمة لتطوير محور قناة السويس بأكمله من
طرق وأنفاق وخط للسكك الحديد وبعض الأعمال والطرق المرتبطة بها. وتقدر تكاليف هذه
المرحلة بنحو 4.2 مليار دولار، أي ما يقرب من 31 مليار جنيه، وأظن أن تكاليف هذه
المرحلة سوف تزيد إلى ما يقرب من ضعف هذا المبلغ لسببين، الأول هو ارتفاع نسبة
المكون التكنولوجي في هذه المرحلة، والثاني هو ارتفاع نسبة المكون الخارجي مقارنة
بالمرحلة الأولى خصوصا إذا أدخلنا في الاعتبار ضرورة شق وبناء الأنفاق وخطوط السكك
الحديد بمواصفات عالمية. إذن نحن هنا، إزاء احتياجات تمويلية تقدر بنحو 60 مليار
جنيه للمرحلتين الأولى والثانية، من المرجح أن تزيد على ذلك خلال فترة التنفيذ ربما
لتقترب من 100 مليار جنيه.
أما المشروع الثاني فهو المشروع القومي لاستصلاح الأراضي، وهو مشروع طموح ولا أظن أن الحكومة الحالية ستستطيع تنفيذه خلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس عبد الفتاح السيسي. الحكومة أعلنت أنها تستهدف استصلاح 5 ملايين فدان في مناطق مختلفة من مصر، لكنها ركزت على سيناء وتوشكى وشرق العوينات ومحور التعمير (العلمين) والواحات ومنخفض القطارة. وإذا عدنا إلى المعدل التاريخي لاستصلاح الأراضي الصحراوية في مصر، سنجد أن المعدل السنوي لعمليات الاستصلاح كان يترواح دائما (منذ الخمسينيات حتى الآن) بين 200 ألف فدان عند الحدود القصوى و75 ألف فدان عند الحدود الدنيا. وشهدت عمليات الاستصلاح منذ السبعينيات تراجعا ملموسا بسبب انسحاب الدولة تقريبا من هذا الميدان، والاعتماد على القطاع الخاص في تنفيذ خطط استصلاح الأراضي بجانب دور هامشي للدولة. وأظن أن وضع تقدير لأعمال استصلاح الأراضي في السنوات المقبلة بواقع 100 ألف فدان سنويا، سيكون تقديرا معقولا قد تستطيع هذه الحكومة تنفيذه، آخذين في الاعتبار كل القيود التي قد تسبب نوعا من البطء في التنفيذ، وأهمها الإجراءات الإدارية والتمويل. والحقيقة أنه يصعب كثيرا تقدير تكلفة استصلاح الفدان من الأراضي الصحراوية، لأن ذلك يعتمد على طبيعة التربة والموقع ومستوى المياه الجوفية وتوفر البنية الأساسية اللازمة لتسهيل عمليات الاستصلاح. ولا شك أن الأراضي السهلة المستوية وتلك التي يقترب فيها منسوب المياه الجوفية من سطح الأرض والمناطق القريبة من العمران وشبكات الطرق والمواصلات، سوف تكون أقل تكلفة من تلك التي تختلف عنها. وتتراوح تكلفة استصلاح الفدان وإعداده للزراعة في المناطق قليلة التكاليف بين 50 ألفا إلى 100 ألف جنيه، في حين أنها ترتفع في المناطق عالية التكاليف إلى أكثر من 300 ألف جنيه. وإذا أخذنا رقم 150 ألف جنيه كمتوسط لتمويل استصلاح الفدان (تسوية الأرض ودق آبار المياه وتوفير محطات الطاقة أو محركات الديزل وإنشاء شبكات التوزيع والتحكم وتقليب الأرض وتجهيزها للزراعة) فإن استصلاح 100 ألف فدان سيحتاج إلى استثمارات تصل إلى 15 مليار جنيه. وأظن أن القطاع الخاص المصري يستطيع القيام بهذه المهمة على خير وجه بافتراض تطهير الهيئة العامة للتعمير والتنمية الزراعية والأجهزة المحلية والإدارات الحكومية الأخرى من الفساد. بل إن المستثمرين الأفراد بمقدورهم مضاعفة مساحة الأراضي المستصلحة في السنة الأولى إلى أكثر من 200 ألف فدان، إذا قامت الأجهزة الحكومية بتوفير الدعم الفني للمستثمرين وتوفير الحماية الأمنية الكافية، حيث إن عمليات الاستصلاح ستجري معظمها في مناطق غير مأهولة حاليا.
وهناك المشروع الثالث، وهو المشروع القومي للطرق بتكلفة استثمارية تبلغ 17 مليار جنيه. أما المشروع الطموح الرابع فهو إنشاء مدينة مليونية في العلمين (التي ستصبح محافظة في التخطيط العمراني الجديد لمصر) وإقامة المرافق الأساسية الخدمية والصناعية والزراعية والسياحية التي من شأنها أن تؤمّن للمحافظة الجديدة قدرة على النمو السريع واجتذاب العمالة والاستثمارات من غيرها من المناطق. وليست هناك تقديرات محددة ودقيقة لهذا المشروع، نظرا لأنه جزء من مشروع أكبر "ممر التنمية" الذي أشارت وزارة التنمية الاقتصادية (التخطيط) إلى أنه سيتكلف ما يقرب من 24 مليار دولار (أي ما يقرب من 173 مليار جنيه بالأسعار الحالية للدولار محسوبة بواقع 7.2 جنيه للدولار).
نحن إذن أمام احتياجات تمويلية إضافية تقدر بنحو 77 مليار جنيه في الـ 12 شهرا التالية، تم احتساب بعضها في الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2014/2015 بما في ذلك الاستثمارات اللازمة لغرض "القيام بتنفيذ مشروعات تنموية كبرى مثل مشروع تنمية إقليم قناة السويس ومشروع ازدواج القناة ومشروعات التوسع العمراني (ص. 15 من بيان الميزانية). وطبقا لذلك البيان أيضا فقد "اشتمل مشروع الموازنة العامة للعام المالي الجديد 2014/2015 على مخصصات للاستثمارات الممولة من الخزانة العامة للدولة تبلغ نحو 45 مليار جنيه من جملة مخصصات الاستثمارات الحكومية التي تبلغ نحو 67 مليار جنيه تعادل 2.8% من إجمالي الناتج المحلي. لكن تلك الأرقام التي أوردها السيد وزير المالية في بيان ميزانية السنة المالية الحالية، تثير الكثير من علامات الإستفهام التي يجب التعرض لها أولا قبل مواصلة هذا التحليل عن القدرات التمويلية للمصريين فيما يتعلق بالمشروعات القومية الراهنة:
- أولا: تبدو أرقام مخصصات الاستثمار بواسطة الحكومة متواضعة جدا، وهذا ناتج عن حالة القصور المالي الشديد الذي تعاني منه البلاد. فالرقم الإجمالي المستهدف (بما في ذلك التمويل بواسطة القروض والمنح والتمويل الذاتي) لا يتجاوز 2.8% من إجمالي الناتج المحلي، وهو معدل شديد الضآلة مقارنة بمعدلات الاستثمار في الدول النامية عموما. وإذا افترضنا أن الحكومة تتولى القيام تقريبا بتمويل ما يقرب من ثلث الاستثمارات (قياسا على خبرة السنوات الأخيرة) في حين أن القطاع الخاص يتولى القيام بتمويل نسبة الثلثين المتبقية، فنحن إذن أمام معدل استثمار قومي متواضع جدا يبلغ 8.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معدل يكاد يسمح للاقتصاد بأن ينمو بمعدل يطفو فوق سطح 2%! وإذا كان الأمر كذلك فلن نكون بحال من الأحوال قريبين من تحقيق معدل النمو في السنة المالية الحالية والذي تقدره المالية بنحو 3.2%.
- ثانيا: إن الرقم الإجمالي للاستثمارات الحكومية الإجمالية في الميزانية يقل عن متوسط تقديرات الاحتياجات التمويلية للسنة الأولى من البرنامج التنفيذي لأعمال السنة الأولى من المشروعات. وطبقا لتقديراتنا فإن المشاريع القومية الرئيسية المطروحة (بدون إدراج المشروعات القومية لمترو الأنفاق والمشروع القومي للإسكان ومبادرة التمويل العقاري وغيرها) سوف تحتاج في السنة الأولى تمويلا بقيمة 77 مليار جنيه تقريبا، أي ما يزيد على المخصصات الكلية للاستثمار الحكومي بنحو 10 مليارات جنيه. وسوف يتعين على الحكومة أن تقدر بسرعة حجم الفجوة التمويلية التي يتعين توفيرها، سواء داخليا أو من الخارج لضمان استمرار العمل في المشروعات.
- ثالثا: تظهر خبرة التعامل مع ارقام الميزانية أن المحاسبين الذين يتولون وضع الأرقام يعقدون المقارنات غالبا بين الأرقام التقديرية السنوية ولا يلتفتون كثيرا لأرقام الحساب الختامي للدولة والأرقام الفعلية. وبمتابعة الأرقام الفعلية سنجد أن الاستثمارات الحكومية أخفقت غالبا في تحقيق المستهدف. وهذا من دواعي ضرورة التحوط من احتمال قصور الحكومة عن تحقيق المستهدف الاستثماري لها، بما يعني إعداد ترتيبات لتعويض هذا القصور من مصادر أخرى. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التقرير المالي الشهري لشهر أغسطس 2014 يقدر أن قيمة الاستثمارات الحكومية المتوقعة بنهاية السنة المالية 2013/2014 ستصل إلى 78.4 مليار جنيه بنسبة 3.9% من إجمالي الناتج المحلي، وهو تقدير يبدو في نظري أعلى كثيرا من الواقع يزيد بنسبة 100% على قيمة الاستثمار الحكومي الفعلي في السنة السابقة.
وأظن
أن الحكومة تنبهت إلى احتمال قصور التمويل الحكومي الكلي عن مقابلة احتياجات تمويل
المشروعات القومية فبادرت إلى إعلان فتح قنوات إضافية للتمويل خصوصا بالنسبة
لمشروع تطوير المجرى الملاحي لقناة السويس وتنمية محور القناة بأكمله. لكن الحكومة
وقعت في حالة ارتباك وتخبط في هذا السياق، حيث لم تكن هناك رؤية واضحة للتمويل،
فالبعض راح يروج لفكرة إنشاء "شركة مصر
قابضة" لتمويل المشروع، بينما حدث آخرون عن "التمويل
بالأسهم" لكن الرأي يبدو أنه استقر في النهاية على استخدام "شهادات الاستثمار"
لتعبئة المواطنين للمشاركة في تمويل مشروع تنمية وتطوير قناة السويس. وأعلن محافظ
البنك المركزي المصري أن الشهادات (بالجنيه المصري أو بالدولار) ستكون للمصريين
فقط، وأنها ستصدر بأجل استحقاق يبلغ 5 سنوات وبفائدة 12% سنويا تدفع كل ثلاثة شهور.
وتنصرف النية الآن إلى قصر تداول هذه الشهادات على البنوك المصرية فقط، واستبعاد
البنوك الأجنبية وفروعها والبنوك المشتركة منها. وأظن أننا ربما نكون هنا إزاء
حالة قانونية تتعلق بقواعد المنافسة العادلة في السوق. وربما يكون لدى تلك البنوك
المستبعدة حجة قوية للدفع بانعدام المساواة في الفرص بين المصارف العاملة في سوق
التمويل المصري، خصوصا وأن شهادات الإستثمار تعتبر واحدة من الأدوات المرنة
والجاذبة في مجالات التمويل والاستثمار الشخصي. لكن هذا ليس بيت القصيد في موضوع
شهادات الإستثمار الخاصة بتمويل تطوير وتنمية قناة السويس. إن بيت القصيد يكمن في
تأثير هذه الشهادات على أسعار الفائدة في مصر من ناحية، وعلى المنافسة بين الحكومة
والقطاع الخاص في مجال الحصول على التمويل المصرفي. وفي اعتقادي أن شهادات استثمار
قناة السويس سوف تشكل ضغطا على سوق التمويل في مصر إذا لم تسهم في "خلق
مدخرات جديدة" واعتمدت بصورة أساسية على ما يمكن وصفه بـ "تحويل مدخرات
في أدوات مالية موجودة فعلا" إلى شهادات الاستثمار الجديدة. بمعنى آخر
فإننا سنستعير من عالم الاقتصاد الكندي
جاكوب فاينر (1892- 1970) أحد أهم مؤسسي مدرسة شيكاغو في علم الإقتصاد، المصطلح الذي
صكه هو في نظرية التجارة الدولية، والذي ميز فيه بين عملية "تحويل
التجارة" وعملية "خلق التجارة" في تدفقات التجارة الدولية عند
إنشاء شكل من أشكال الاندماج الاقتصادي. وبهذه الاستعارة التي سنستخدمها هنا، فإننا
يجب إذن أن نميز بين الأثر "الإنشائي" والأثر "التحويلي"
لشهادات الاستثمار الخاصة بقناة السويس على سوق المدخرات في مصر.
فهل
ستؤدي شهادات استثمار قناة السويس إلى زيادة القيمة الصافية لمدخرات المصريين،
وهذا هو "الأثر الإنشائي"، أم إن أصحاب المدخرات المحليين سيتجهون إلى
تصفية مراكز ادخارية موجودة فعلا واستخدام السيولة الناتجة عن ذلك لشراء شهادات
القناة "الأثر التحويلي"؟
سوق الادخار في مصر: ملامح عامة
المدخرات
هي الجزء المقتطع من الدخل لغير أغراض الإستهلاك. ويتم في العادة تعبئة المدخرات
بواسطة الجهاز المصرفي وما شابهه (مثل دفاتر توفير البريد) لتمويل الإستثمار في
توسيع القدرات الإنتاجية والطاقة الاستيعابية وبناء الهياكل الأساسية للاقتصاد
بشكل عام. ومن ثم فإن هناك علاقة قوية بين معدل الادخار ومعدل الاستثمار. لكن الاستثمار
قد يتمكن من جذب تدفقات مالية ومادية من الخارج أو قد تقوم الحكومة والمؤسسات
الوطنية بتمويل الاستثمار من الخارج، بما يعني أن معدل الاستثمار المحلي يزيد في
الظروف العادية على معدل الادخار القومي، إلا في الحالات التي تطغى فيها التدفقات
المالية إلى الخارج على التدفقات إلى الداخل بما يؤدي لظاهرة التدفقات الاستثمارية
السلبية. وتظهر دراسات التنمية علاقة قوية بين معدل الادخار وبين معدل النمو. ففي
الفترة الممتدة من أوائل الستينيات إلى أوائل التسعينيات زادت معدلات الادخار في
دول شرق آسيا في المتوسط إلى 35% من إجمالي الناتج المحلي، مقارنة بمعدل 14% فقط
في بداية الفترة. وأدى هذا الارتفاع في معدل الادخار إلى زيادة معدل النمو في
المتوسط إلى 5% في حين أن مناطق أخرى من العالم مثل أمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب
الصحراء تراجع فيها متوسط معدل الادخار إلى 6% في مقابل 12% في بداية الفترة نفسها،
وهو ما أدى إلى هبوط معدلات النمو إلى 1% في المتوسط في أمريكا اللاتينية، وإلى
0.5% في أفريقيا جنوب الصحراء (Klaus Schmidt-Hebbel…1996) ويعتبر ضعف معدل الادخار القومي في مصر أحد
أهم السمات المسيطرة خصوصا إذا ما قارناه بمتوسط معدلات الادخار في الدول الصاعدة
مثل الصين والهند والبرازيل وتايلاند.
وطبقا
لأرقام وزارة التخطيط (تقرير متابعة الأداء الاقتصادي عن النصف الأول من السنة
المالية 2013/2014 فإن معدلات الادخار والاستثمار وقيمة الفجوة الادخارية قياسا
إلى إجمالي الناتج المحلي (%) تطورت خلال السنوات الثلاث الأخيرة على النحو
التالي:
السنة |
2011/12 |
2012/13 |
2013/14 |
معدل الاستثمار |
14.7 |
13.3 |
12.1 |
معدل الادخار المحلي |
7.4 |
5.2 |
3.7 |
الفجوة الادخارية |
7.3 |
8.1 |
8.4 |
(المصدر: وزارة التخطيط، تقرير المتابعة للنصف الأول من السنة المالية
13/14 ص.12)
ومن
الملاحظ أن معدل الادخار المحلي لا يساند معدل الاستثمار وهو ما يعني أولا، الضغط
على معدلات الاستثمار إلى أسفل، وثانيا، اللجوء إلى مصادر أخرى لسد الفجوة
الادخارية قد تكون الاقتراض من البنوك أو من اسواق المال الدولية، وهو ما يؤدي إلى
زيادة العجز في الميزانية، أو جذب رؤوس أموال أجنبية، وهو ما يؤدي إلى زيادة حقوق
الأجانب على الاقتصاد الوطني، وثالثا الضغط على معدل النمو إلى أسفل ومن ثم دفع
الاقتصاد إلى هاوية القصور عن تحقيق مستوى الرفاهية الذي يرغب فيه الأفراد أو يطمحون
إلى تحقيقه. إن ضعف معدل الادخار القومي في مصر هو إحدى علامات الضعف الهيكلي للاقتصاد
المصري بشكل عام، حيث يزيد الميل للاستهلاك عن الميل للادخار مقارنة بمناطق أخرى
في العالم يرتفع فيها الميل للادخار إلى ما يقرب من 40% من الناتج المحلي الإجمالي،
ومن ثم فإنها تحقق معدلات عالية جدا من الاستثمار ومن النمو، بينما تختلف الحال في
مصر حيث تراوح معدل الادخار بين عامي 1980 و2008 في أحسن حالاته بين 20% إلى 25%
من إجمالي الناتج المحلي. ويشير تقرير للبنك الدولي (Constantino Hevia and Norman Loayza, Saving and Growth
in Egypt, Jan. 2011) إلى أن تحقيق معدل مرتفع للنمو الاقتصادي في مصر لن يكون في الإمكان
مع المستويات الحالية للادخار القومي، وسوف يتطلب معدلات ادخار تصل إلى 80%! كذلك يؤكد التقرير بصورة قطعية، أن مصر لن
تستطيع تحقيق تنمية مستدامة بدون رفع معدل الادخار القومي جوهريا عن مستوياته
الراهنة. ومن الواضح طبقا لتقارير المتابعة (وزارة التخطيط) وتقارير البنك
المركزي، أن معدل الادخار القومي تدهور كثيرا في السنوات الأخيرة ووصل إلى مستويات
شديدة التدني.
وهناك
عوامل كثيرة تؤدي إلى ضعف معدل الادخار في مصر إلى جانب الميل الاجتماعي إلى الاستهلاك
بمعدلات تفوق الدول الناشئة، خصوصا وأن القطاع العائلي يمثل المصدر الرئيسي
للودائع والمدخرات في النظام المصرفي المصري. ومن هذه العوامل أولا، ضعف وضآلة
موارد أوعية الادخار الإجباري مثل صناديق التأمين والمعاشات والضمان الاجتماعي.
وثانيا، استمرار ظاهرة أسعار الفائدة الحقيقية السلبية على المدخرات، مما يؤدي
للعزوف عن إيداع الأموال في أوعية ادخارية في البنوك. وثالثا، ميل قيمة الجنيه
المصري إلى الانخفاض تدريجيا، وزيادة حدة الانخفاض في السنوات الأربع الأخيرة، بعد
أن كانت قيمته قد استقرت نسبيا خلال العقد الأول من القرن الحالي. ورابعا، اتساع
نطاق إمكان توظيف الأموال الفائضة والمدخرات في الاقتصاد غير الرسمي. وقد شهدنا
لذلك أمثلة كثيرة منذ نشوء ظاهرة شركات توظيف الأموال التي كانت تمنح عائدات
خيالية لأصحاب الودائع ثم انهارت فيما بعد.
ومع
ذلك فإنني أعتقد أننا نشهد ظروفا استثنائية في الوقت الحاضر من الصعب أن تستمر
طويلا. فبسبب حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي، زاد ميل الأفراد إلى الاحتفاظ
بنسبة لا بأس بها من الدخل في صورة سيولة متاحة لمواجهة الظروف الطارئة التي قد
تنشأ من حالة عدم الاستقرار. ولا شك في أن عودة الأمور إلى الاستقرار من شأنه أن
يساعد على عودة معدل الادخار القومي للارتفاع إلى المستويات السابقة التي كان
عليها على الأقل العقود الثلاثة الماضية. وهذا يعني عمليا أن معدل الادخار القومي
يمكن بسهولة أن يتضاعف إلى 5 أمثال ما هو عليه في الوقت الراهن خلال سنوات قليلة
ليصل إلى ما يقرب من 20% من إجمالي الناتج المحلي. وإذا زدنا على ذلك أن فرص الاستثمار
الجديدة الواعدة من شأنها أن تزيد الإقبال على الادخار، فإننا إذن سنكون في مواجهة
توقعات إيجابية لمعدلات الاستثمار والنمو وأيضا لتعزيز فرص إصلاح المالية العامة
للدولة. لكن تحقيق كل ذلك سوف يرتبط بمدى النجاح في إدخال إصلاحات مؤسسية ومكافحة
الفساد وتحقيق قدر أفضل من العدالة الاجتماعية.
فرص شهادات استثمار قناة السويس
على الرغم
من المستوى المتدني الحالي لمعدل الادخار القومي في مصر، ومن ثم معدلات الاستثمار
والنمو وإتاحة الوظائف الجديدة، فإن تمويل
توسعات وتنمية قناة السويس والإقليم المحيط بها يمثل فرصة واعدة للمصريين. ومن شأن
هذا المشروع أن يؤدي إلى عودة معدل الادخار إلى الارتفاع بدلا من الهبوط ليبلغ في
وقت قصير المستويات التي كان عليها قبل الثورة على أقل تقدير. ومن ثم فإن هناك
احتمالا قويا لغلبة الأثر "الإنشائي" على الأثر "التحويلي" أي
خلق مدخرات جديدة للمساهمة في تمويل المشروع خصوصا وأن العائد المحدد على شهادات
استثمار قناة السويس يفوق العائد على غيرها من شهادات الاستثمار. المشكلة التي قد
تنشأ هنا أن هذا العائد المتميز في حد ذاته قد يزيد الميل للإحلال بين شهادات الاستثمار
لمصلحة شهادة قناة السويس. لكن ذلك يتوقف بالفعل على عوامل أخرى مثل القيود التي
قد تحد من تسييل الشهادات القائمة مثل الفترة الزمنية الضرورية لإتاحة استرداد
قيمة الشهادة، أو مثل عدم القدرة على استردادها بسبب الاقتراض بقيمتها من البنوك
المصدرة وغيرها من القيود والمصاريف الإدارية التي قد تطيح بعوامل جاذبية شهادة
قناة السويس.
وفوق
ذلك فإن السلطات المصدرة لشهادة استثمار قناة السويس بالتعاون والتنسيق مع جهات
الإدارة (الحكومة) تستطيع أن تقدم حوافز غير نقدية لزيادة الإقبال على شراء
الشهادة. ومن هذه الحوافز تسجيل الأولوية في الوظائف في مشروعات تطوير قناة السويس
للمكتتبين، وتسجيل أولوية تمليك الأراضي المستصلحة لهم، ومنح حاملي شهادات
اسستثمار القناة ميزات في أنظمة الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي، وما إلى ذلك
بحيث تكون هناك "حزمة من الحوافز غير النقدية" تعطي للشهادة مزايا
التفوق مع تجنب الدخول في منافسة على سعر العائد، لأن هذه لعبة خطيرة يمكن أن
تتسبب في أضرار كثيرة على المدى القصير والطويل، ويمكن أن تلقي بظلال من الشك على
دور البنك المركزي المصري في حماية نظام المنافسة العادلة والشفافية في السوق
المالية المصرية. وأخطر ما يجب التحذير منه في الوقت الحاضر هو، أن يضغط الأثر
"التحويلي" على السيولة المتاحة حاليا بالترافق مع زيادة حاجة الحكومة
للتمويل المصرفي (بيع أذون وسندات الخزانة في السوق) وهو ما يمكن أن يؤدي إلى رفع
العائد على أذون الخزانة إلى مستويات تفوق العائد على شهادات قناة السويس، وتلجأ
المصارف العاملة في مصر إلى إعلان زيادة أسعار الفائدة على منتجاتها الإدخارية
بقصد جذب المزيد من السيولة، فتكون النتيجة هي انخفاض العائد النسبي لشهادات قناة السويس
مقارنة بالعائد المتاح في المصارف. في هذه اللحظة ربما يشعر كثيرون أنهم تعرضوا
لخدعة كبرى خصوصا إذا كانت هذه الشهادات
ستخسر الكثير من قيمتها في حال تسييلها أو استرداد قيمتها.
النتيجة
التي نخلص إليها هنا هي؛ إنه على الرغم من
الخصائص الرديئة لسوق الادخار في مصر، وانخفاض معدل الادخار تاريخيا
وتدهوره في السنوات الأخيرة، فإن زيادة الإحساس بالاستقرار الأمني والسياسي من
شأنه أن يساعد على العودة لمعدلات الادخار السابقة على الثورة، بمعنى أن تزيد قيمة
المدخرات بنحو 5 أمثال ما هي عليه في الوقت الحاضر. ونظرا للمزايا التنافسية في
العائد التي تتمتع يها شهادة استثمار قناة السويس فمن المتوقع أن يشهد طرح هذه
الشهادة إقبالا كثيفا على الاكتتاب فيها. لكن الأثر الصافي لذلك على معدل الادخار
القومي سيتوقف على ما إذا كانت الغلبة ستكون لصالح "خلق الادخار" ففي
هذه الحالة ستسهم الشهادة في زيادة معدل الادخار القومي. أما إذا جاءت الغلبة
لصالح "تحويل المدخرات" من أوعية أخرى إلى الشهادات، فإن ذلك سيعني بقاء
معدل الادخار على حاله تقريبا بدون تغيير أو بتغيير طفيف وغير مؤثر. وأظن أن جهة
الإصدار بالتعاون مع الحكومة تستطيع أن تزيد من عناصر جاذبية شراء الشهادة الجديدة
عن طريق تقديم "حزمة حوافز غير نقدية" لحملة هذه الشهادات مثل أولوية
التوظف وتمليك الأراضي وتوفير السكن والعلاج وخلافه. وهذه النوع من الحوافز سيعني
تجنب دخول البنوك (خصوصا الأجنبية والمشتركة وفروعها) في منافسة شرسة ضد شهادة قناة
السويس. ونتبع خطورة مثل هذه المنافسة في أنها يمكن أن تدفع العائد على أذون
الخزانة إلى أعلى، ومن ثم إلى رفع أسعار الفائدة في السوق إلى الحد الذي يتجاوز
سعر العائد على الشهادة، ومن ثم تفقد هذه الشهادة ميزتها التفضيلية أو التنافسية
والتي تتمثل في ارتفاع العائد عليها على ما عداها من أوعية الادخار.
مراجع:
-
وزارة المالية، التقرير المالي
الشهري، أعداد مختلفة
-
وزارة التخطيط، تقرير متابعة
خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية عن النصف الأول من السنة المالية 2013/2014
-
Constantino Hevia and Norman
Loayza, “saving and Growth in
-
Klaus Schmidt-Hebbel, Luis
Serven, Andreas Solimano, “Saving and Investment: Paradigms, Puzzles,
Policies”, The World Bank Observer, Vol.11. No.1 (Feb. 1996)
-
Jacob Viner, “Studies in the
Theory of International Trade”,