بين التخوّفات والآمال: التمويل الأجنبي للثقافة المصرية
يظل الحديث عن
التمويل الأجنبي موضوعًا مرتبطًا بالتوترات الحاصلة
بين الدولة والمجتمع المدني. ففي الوقت الذي تحصل فيه الدولة ذاتها على تمويلات أجنبية
تنفقها في مسار المصالح العامة، تتهم المجتمع المدني بالحصول على تمويلات بغرض زعزعة
الاستقرار، وكأن الفعل ذاته هو المؤثَّم، وليس نواتجه. وبطبيعة الحال، وراء هذا الشك
المفترض شواهد تؤكد صحته أو تنفيه، يرفعها كل طرف في نضاله لإثبات الحقيقة. ودون شك
أن أي جهة تمنح تمويلها، للدولة أو المجتمع المدني، تساند برنامجًا وسياسات وقيمًا
تختلف بطبيعة الحال عن نظائرها في المجتمع المصري. فواحدة من المشكلات الأساسية للعولمة
هو السعي للتنميط الحضاري، والتدشين لخطاب حداثي بعينه وليد التجربة الغربية، بكل تلويناتها،
ما يعني عدم قدرة هذه المؤسسات الغربية على تفهم المتطلبات والاحتياجات النابعة محليًا،
وفرضها لقضايا جاهزة لديها، ترغب في نشرها، والبحث عن أسباب غيابها أو عدم القدرة على
غرسها ثقافيًا في البيئات المهاجرة إليها.
ومن جهة أخرى، يغيب عن نقّاد التمويل أنهم ملكيون أكثر
من الملك، فنزعتهم الدولتية، أي المنحازة لفكرة إدارة الدولة للثقافة بتمويلها المستقل،
تغفل فكرة جوهرية وأساسية، وهي المسئولية النقدية للجماعة الثقافية التي ينبغي أن تتمتع
هي الأخرى بحق الوجود، ليكون لها دورها في التقييم والمراجعة والمساءلة.
والسؤال الماثل هنا؛ ما ضرورة اللجوء للحصول على تمويل من الخارج، وما سبل الاستخدام الثقافي للدعم
الأجنبي، وما الأوعية الممولة والحافظة له والمسورة والمدشنة لخطابه، وما التخوفات
المعلنة من اللجوء إليه، وكيف يمكن التعاطي معه وتخفيف هذه التخوفات؟
أولا- أيديولوجيا
التمويل
والواقع أن اللجوء للدعم الأجنبي هو نتيجة طبيعة لغياب
رأس المال النقدي والرمزي، بمعنى غياب التمويل النقدي اللازم لإقامة المشروعات المتنوعة
في الثقافة والفنون ونقل المعارف، وعدم توفر الخبرات والمهارات اللازمة التي تحتاج
للتدريب. ومع السياسات الليبرالية الجديدة، التي يترتب عليها غياب الدولة عن القيام
بواجباتها الاجتماعية، وفتح الباب واسعًا لرسوخ مفهوم المجتمع المدني كقوة سياسية واقتصادية،
تحاول أن توازن غياب الدولة. علاوة على أن ثقافة التطوع ليست بالثقافة المترسخة في
نفوس قطاع غالبٍ من المصريين، في ظل الصعوبات المعيشية، وتراجع وتردي دور المدرسة والجامعة
في غرس الميل للتطوع لدى النشء والشباب. كما يحول دون قوة المجتمع المدني غياب المسئولية
الاجتماعية لرأس المال. فقطاع غالب من الرأسماليين المصريين لا يسهم بنصيب في دعم وتشجيع
المجتمع المدني، بل إنهم لو دخلوا إلى مجاله، ينشطون باتجاه جعل العمل فيها عملا مربحًا
اقتصاديًا، على نحو ما نجد في الجمعيات الأهلية التي تقدم قروضا للمشروعات الصغيرة
وتتقاضى في المقابل فوائد عليها، تقوّض في الحقيقية طبيعتها الخيرية المعلنة، ورغبتها
المزيفة في النهوض والتمكين للشباب الذين يسعون لممارسة العمل الحر.
إن أيديولوجيا
التمويل الخارجي بوصفها جملة التعابير والأفكار والحجج المؤسسة للجوء لقبول المنح والمساعدات
الأجنبية، لا تستند فقط لحجة غياب الدولة ورأس المال عن القيام بمسؤليتهما الاجتماعية،
بل قد تبرهن وجودها بحجة لجوء الدولة ذاتها إلى التمويل في ظل ضعف مصادرها التمويلية
وانخفاض قدرات العاملين فيها.
إزاء هذه الأيديولوجيا نشأت أيديولوجيا مضادة، تؤسس
لخطاب آخر مضاد للتمويل. أولها الحديث عن شبهة الجهات الممولة. بمعنى أن الجهات التي
يلجأ إليها المتمول هي جهات مشبوهة وتعمل ضد المصلحة الوطنية. مثل ذلك ما يجري من حديث
عن الجهات التي تمول الأفلام المصرية والعربية المغايرة، على أساس أن هذه الأفلام موجهة
فكريا، حيث يتم تمرير أفكار المستعمر عبرها. ومنها ما يتصل بالذات بعلاقتنا بالعدو
الصهيوني، بالحديث عن إمكانية التبادل الثقافي معه. فهذا التمويل يوجه المتمول أيديولوجيًا،
ويفرض عليه شروطه. والواقع أن الحجج التي يسوقها المعارضون في هذا الاتجاه لا يقدمون
من التحليل الرصين لأيديولوجيا الأنشطة الثقافية المتمولة أجنبيًا، تحليلا يكشف عن
سيطرة رؤية المتمول الواضحة في رسالته وفي أهدافه التي يعلنها ويسوق نفسه من خلاله.
كما يتم الاستناد الاعتماد لغويًا على عبارات تغلق باب الحوار من الأساس، كالقول بأن
المؤسسة (كذا) المعروفة بتوجهاتها، في حالة من المصادرة والاستناد إلى معرفية قد لا
يمتلكها القارئ. ومع ذلك هناك من التحليلات الرصينة التي تتناول تأثير التمويل على
بعض السياسات الحكومية، والأمر البارز هنا ما جرى من تطبيع السياسات التربوية والصحية
في مصر بالطوابع الأمريكية. والأمثلة والشواهد الدالة على ذلك كثيرة.
ويمكن صياغة رؤية هذه الأيديولوجية المضادة في الإشكاليات
التالية:
الإشكالية الأولى: إن التمويل الأجنبي يحمل – عادة – "أجندته الخاصة"
التي تتكون من جملة من المفاهيم الأساسية التي يسعى إلى تعزيزها، فهذه المفاهيم ظهرت
في مجتمعاتها انعكاسًا لتطور اقتصادي واجتماعي وسياسي خاص بها، وتلبية لحاجات مجتمعاتها،
وهو أمر قد لا نجد له مردودًا مباشرًا في الحالة المصرية. علاوة على أن قدرة المجتمعات
الغربية بدوائرها الأكاديمية ومؤسساتها البحثية – على إفراز مفاهيم جديدة أسرع من وتيرة
استيعاب مجتمعات الدول النامية لها – وهو ما يؤدي إلى إغراق المجتمعات المحلية في مفاهيم
متلاحقة دون استيعاب أو تحليل كاف لها.
الإشكالية الثانية: ترتبط بالإشكالية الأولى وتدور حول التعميم في عملية
توظيف المفاهيم القادمة من المجتمعات الغربية، في حين أن لكل مجتمع خصوصيته الثقافية
والحضارية وهذا يتطلب جهدًا من الهيئة المانحة والمنظمة المتلقية للدعم بهدف تمصير
المفاهيم الغربية ومحاولة ربطها بالسياق المجتمعي السائد.
الإشكالية الثالثة: وتتعلق بالهيئة المانحة حيث يتولى مهام الإدارة والإشراف
على عملية تقديم المنح التمويلية في بعض الحالات – جهاز إداري تحكمه اعتبارات فنية/
إدارية أكثر من الاعتبارات التنموية.
الإشكالية الرابعة: وتتعلق بالهيئة المتلقية التي في أحيان كثيرة تكون
غير مؤهلة تنظيميًا أو مؤسسيًا لتلقي الدعم وهو ما يدفعنا للتكيف مع الاعتبارات التي
تطرحها هيئة التمويل وقد ينتهي الأمر إلى أحداث تكيف "نظري" على أوراق المشروع
دون أن ينعكس ذلك على تنمية الحالة المؤسسية فعليًا، وهناك نماذج لمنظمات لم تشهد تطورًا
أساسيًا حقيقيًا وربما تتهدد بعضها بما يشبه "الانتكاسة" عقب انتهاء التمويل.
الإشكالية الخامسة: تكمن إشكالية التمويل بالنسبة لغالبية المنظمات العاملة
في مجال الدفاع والدعوة في أن التمويل الخارجي هو المصدر الرئيسي، وتترتب على ذلك إشكالية
استمرارية Sustainability المشروعات التي تتبناها المنظمة، وأيضًا قدرتها على
التخطيط لعدة سنوات في المستقبل.
الإشكالية السادسة: إن الجمعيات التي تقوم بأنشطة دفاعية، خاصة ما يتعلق
بمنظمات حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ودعم القيم المدنية تواجه أزمة حقيقية في تدبير
التمويل من المصادر المحلية، إذ إن تقاليد "العطاء الخاص private
giving" لا تعتبر في صالح المنظمات
فالمانحون المحليون يفضلون العمل الخيري والإنساني، وبالتالي يصبح التمويل الدولى هو
المصدر الرئيسي المتاح أمام الغالبية العظمة من الجمعيات.
ثانيا- أشكال الاستهلاك
إن أسباب الحصول على التمويل هي التي تحدد بدقة الصور
المحتملة للإنفاق. ولكن أبرز الصور انتشارًا في مجال الثقافة هي الصورة التالية:
1.
التدريب: بمعنى القيام بغرس أفكار ورؤى وتصورات حول قضية من
القضايا من خلال عقد الندوات وورش العمل بشأنها. وهذا الشكل من الإنفاق هو أكثرها تلاعبًا
لصعوبة الكشف عن آليات التحايل، فليس بالإمكان معرفة المتدربين بدقة لصعوبة الوصول
إليهم، أو المضمون المكرس للتدريب، للاعتماد على آليات للتوثيق قابلة للتزوير والتحوير.
2.
الأبحاث وقواعد البيانات:
حيث توجه بعض المؤسسات الإنفاق تجاه إجراء دراسات في موضوعات محلية أو قومية، مستعينة
في ذلك بالمختصين في المجال المدروس. وعادة ما تأتي هذه الأبحاث غير معبرة عن الواقع،
ولا تتعرض للدراسة والتقييم لا على المستوى الأكاديمي، أو على مستوى تلقي الإنتلجنسيا
لها. كما أن المشكلة هنا تتمثل في الإجراءات المتبعة في اختيار القائمين بالبحث، وفي
إجراءات التوثيق والتقييم، إن وجدت، وفي الميزانية المرصودة، وإمكانات التحقق من طرق
صرفها.
3.
المنح التشجيعية:
بأن يوجَّه التمويل لتشجيع فئات اجتماعية بعينها، بغرض تمكينها من التحقق في مجال ثقافي
بعينه. كما هي الحال في تشجيع المواهب الشابة في مجال فن السينما أو المسرح أو الكتابة
الإبداعية. لكن هذا النوع من المنح، على أهميته المتمثلة في سد فراغ تتركه الدولة،
قد لا يوجَّه على النحو الموضوعي. إذ تلعب المحسوبية والحسابات الأيديولوجية والجمالية
دورها في عملية الاختيار والانتقاء، دون اللجوء للجان مختصة متنوعة، ودورية، ومختلفة
التوجهات، حتى يتسنى التعبير عن كل ألوان الطيف الممكنة. بل إن إحدى الدور الممولة
على هذا النحو تقوم بنشر الأعمال الإبداعية بأموال طائلة بالنسبة لمبدعين حقيقيين فقراء،
يفترض أن يوجّه إليهم الدعم والمنح.
4.
المشاركة في الإنتاج أو التوزيع: على نحو من نجد في مشاريع الأعمال الفنية السينمائية التي تمول بالإنتاج أو
التوزيع المشترك بين جهتين، الأولى مصرية والأخرى أجنبية، لكن النصيب الأكبر للأجنبي،
مما قد يجعله يشارك في تحييد المضامين بما يخدم برأيه المهرجانات وجمهوره الغربي ورؤيته
المستقرة عن الشرق.
ثالثا- نحو تمويل آمن
وفي الواقع إن تحقيق إجماع على أهمية التمول من الخارج
أو رفضه هو مسألة من الصعوبات المستحيلة. إذ لا تزال الموارد البشرية والمادية العربية
محدودة، بل إن المؤسسات العربية الكبرى كجامعة الدول العربية ليست لديها هذه الإمكانات
التي يمكن أن تتوفر لدى مؤسسات أوروبية أو أمريكية. وهو ما يلقي بثقله على الفاعلين
الثقافيين الذين هم غير راضين عن ممارسات الدولة التسلطية، وتعمدها تجاهل الثقافة واستعمالها
لرأس المال الأجنبي الممنوح بما يخدم سياسات التبعية، يلقي قدرًا كبيرًا من العناء
في محاولتهم اختيار جهات غير مشبوهة، ولديها أجندة ثقافية تقترب في طموحاتها من طموحاتهم.
ناهيك عن أن هذه المحاولات والمشاريع المستقلة للنهوض
بالثقافة، تظل هامشية، رغم ما تحصل عليه من تمويلات ضخمة. لأن واحدة من مشكلات العمل
الأهلي هو العمل في جزر متفاوتة ومنعزلة. مما يجعل عملها كهشيم تذروه الأيام. ومع ذلك
فإن هذه الفاعليات والمؤسسات والمشاريع الثقافية تحمل بشائر الأمل، إن تحققت عدة شروط
أساسية:
1- الرقابة الشعبية على النشاط الثقافي
المستقل. فالقوى الشعبية لديها مسئولية اجتماعية عما تنشره وتقدمه المؤسسات الخاصة المستقلة
في مجال الثقافة. الأمر الذي يتطلب ترجمة هذه المسئولية في صور متنوعة، بداية من حق
الكتابة، وتتدرج إلى تدشين الحملات الإعلامية، حتى إقامة الفاعليات الثقافية التي تجعل
من مطلب النقد والمحاسبة أساسًا في تقييم المؤسسات الثقافية الحكومية والخاصة. وربما
قد يحتاج الأمر إلى ضرورة أن تخضع المؤسسات الثقافية لرقابة فنية حقيقية من المجلس
الأعلى للثقافة، أو أن تتشكل هيئة شعبية مستقلة، مدعومة من الشعب نفسه، تتولى الرقابة
والتقييم المستمرين، وتصدر التقارير والأبحاث وتعلنها للرأي العام، للمساعدة في الكشف
عن مواطن الخلل الممكنة.
2- أن تتولى الهيئة الشعبية تحديد
الجهات التي يمكن التعاون معها، وتقديم المبررات الداعمة لرأيها، على أن يكون دليلها
المقترح في النهاية هو نتاج دراسة علمية قائمة على التحاور والتفاهم والنقاش المجتمعي
الواسع، بعيدا عن اللجوء لآلية اللجان المتخصصة الأقلوية.
3- الاستفادة من رأس المال القوى
المصرية العاملة بالخارج،
أعني اكتتاب هؤلاء المثقفين الوطنيين في بقاع العالم للإفادة من رؤوس أموالهم الرمزية
والمادية في دعم المؤسسات الثقافية، عبر الهيئة الشعبية المتشكلة.
4- أن تخص الوزارات ذات الصلة بالثقافة
جزءًا من موازنتها وأنشطتها الفعالة لأعمال المؤسسات
المستقلة. إذ يمكن أن تحدث شراكات تفيد في مراكمة الخبرات لدى الطرفين.
5- الارتهان إلى مبدأ الشفافية في
عرض التمويلات وسبل صرفها ومعوقات الحصول عليه، وإنفاقها، وآليات الحل، وشبكات التعاون المتشكلة.
إلى جوار الانصياع لمبدأ حق المجتمع والدولة في المسائلة والنقد والمراجعة.
ويبقى أخيرًا
التأكيد على أن المسألة في النهاية هي دعم المؤسسات الثقافية، لأن وجودها يجدد دماء
الثقافة، ويسهم في ملء فراغ كبير تركته المؤسسات القومية، بما يتطلب ترشيد ما يروج
من تصورات حولها عبر الرقابة المتمرسة المهنية، دون اللجوء إلى الخطاب التشويهي والفضائحي،
ودون تسيّس العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني ككل.