أزمنة التغيير: الدين والدولة والإسلام السياسي
أزمنة التغيير كتاب مهم لباحث رصين وأصيل في إنتاجه
الفكري والبحثي المميز، قضايا ومشكلات وأزمات وإشكاليات حديثة ومعاصرة تواجه الفكر
الإسلامي عمومًا والفقه الإسلامي العربي المعاصر.
أولًا: حول الكتب وأوصافه
إن كتاب المفكر المرموق رضوان السيد "أزمنة التغيير:
الدين والدولة والإسلام السياسي"، يبدأ في التلويح الجاذب بأهميته من تعبيره
الدقيق عن موضوعه، الذي يحمل في أعطافه صدقية مقولة تشيكوف الذائعة "يُقرأ
الكتاب من عنوانه" وها هو كتاب يحمل عنوانه تعبيرًا عن موضوعه بدقة، وذلك رغمًا
عن أن أبواب وفصول الكتاب الثلاثة، وخاتمته، نشرت منجّمة، ولكن ثمة وشائج عضوية
تربط فيما بين دراساته حول إشكاليات العلاقات بين الدين والدولة والإسلام السياسي.
قد تجد بعضًا من التداخل حينًا بين جزء وآخر، لكن كل نص يحمل "لذته"
وشخصيته التي تكتمل بالفصول والأبواب الأخرى.
إن قيمة هذا الكتاب المتميز تتمثل في عديد الأمور أذكر
بعضها تمثيلًا لا حصرًا فيما يلي:
1- الكتاب تعبير عن تراكم الخبرة البحثية والكتابية لواحد
من الباحثين العرب المتميزين في تخصصه الدقيق رغمًا عن حساسيته في بيئة سياسية
ودينية تتداخل فيها توترات العنف اللفظي وشعارات من التشوش النظري، واضطراب الآلة
النظرية للمفاهيم والمصطلحات.
2- تنوع واتساع الرؤية النظرية وتنوعها، وبعض التجديد في
التفسير والتأويل لبعض النصوص المرجعية المقدسة أو السنوية، أو إعادة قراءة جديدة
لبعض نصوص كبار رجال الفقه في عديد المذاهب السنوية، أو الجعفرية الإثنى عشرية،
وتجسيداتها في الفكر السياسي الشيعي.
3- الباحث القدير لا يصدر في بعض فروضه وأسئلته
واستخلاصاته البحثية عن أحكام شائعة أو مطلقة، وإنما افكاره، وتفسيره وتأويله وإستراتيجيته
في المحاججة للأفكار الفقهية والسياسية التاريخية أو الحديثة أو المعاصرة، تبدو
مفتوحة ومشرعة على الانفتاح إزاء الأفكار الأخرى وبعضها نقيضة أو مغايرة لما يراه.
بل نستطيع القول إنها منفتحة على الجدل والسجال الخلاق. يعود هذا المنحى في
المقاربة والوصف والتحليل والتفسير على انفتاحها على النسبي، وقابليتها للخلاف
والاتفاق، ومن ثم للتبادل في الأفكار والتفسيرات والتأويلات.
4- يعود المؤلف في مقارباته لإشكاليات الكتاب إلى جذور طرح
الأفكار والمفاهيم والتجارب في الفقه- على تعدد مدارسه- والمنظورات الحداثية
وأصولها. من ثم نحن إزاء نزعة تأصيلية دالة على سلطة المؤلف، وسيطرته على موضوعه،
ومن ثم تؤكد على أننا إزاء باحث قدير.
5- الجدل حول الدين والدولة والإسلام السياسي شكل ولا
يزال قلب الصراعات الدينية والإيديولوجية والسياسية والتنظيمية المتفجرة لاسيما
قبل وبعد الانتفاضات الاحتجاجية، وما بعدها في مصر، وتونس منذ يناير 2011، وحتى بعد
التجربة الفاشلة للإسلاميين في الدولة في مصر.
6- المقدمة الجذابة والشيقة للكتاب، تصف بأنه نص والأحرى
نصوص نضالية وسجالية ونضالية، وذلك بمقولة إنه "كتاب سجالي" لأنه يعنَى
بمساجلة بعض الإسلاميين السياسيين في أصولهم الفكرية ودوافعهم وتياراتهم وتحويلاتهم للمفاهيم الدينية
خلال ستة عقود من إنتاجهم للمفاهيم وتأويلاتها وأطرها المرجعية ", ويصف
نضاليته "لأن همه الثاني طرح بدائل لإخراج الدرس الديني، والممارسة الدينية
من الأفق المسدود للعلائق بين الدين والجماعة، وبين الدين والدولة، وبين الإسلام
والعالم". هذا الوصف دالٌّ لأن الموضوعية وفق ميردال أن يعلن الباحث تحيزاته
ومن ثم مضمراته، والأحرى الدخول إلى البنيات التي تجري فيما وراء البنيات وفق أمبيرتو
أيكو.
7- إن النصوص السجالية كما تتجلى في الخطاب والدرس
الأكاديميين، لعبت أدوارًا مهمة في تاريخ الفكر العربي النهضوي، وشكلت أجراس إنذار
مهمة، وأدت إلى تحريك بعض من الجمود الفكري وتنشيط عملية توليد الأفكار، وفحص بعض
الأفكار الشائعة أو الأحكام العامة التي سادت تاريخيًا، وغالب الأفكار الأساسية
منذ نهاية القرن التاسع عشر، وإلى الآن كانت سجالية ونضالية، خذ على سبيل المثال،
الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وقاسم أمين وطه حسين، والشيخ عبد المتعال الصعيدي،
والشيخ محمد عبد اللـه دراز، والشيخ محمود بخيت، والشيخ العلايلي، وبعض كتابات
محمود النويهي، وأحمد صبحي منصور وسواهم.
8-من الشيق أيضًا أن نلاحظ تأثير السياقات السياسية
والثقافية التي أنتج فيها النص السجالي/ النضالي، ونمط تلقي الجماعة الثقافية
والسياسية لها، في اللحظة التاريخية التي تألقت فيها بعض هذه النصوص والسجال
الضاري معها وحولها وبين لحظة أخرى كان حجب الأفكار ومطاردتها وتأثيمها ووصول التلقي
العنيف الرافض لها إلى حد الحجب والمصادرة. في اللحظة الأولى، كان التلقي إيجابيًا
وخلاقًا من خلال سًّنُة الفكرة بالفكرة، والرأي بالرأي والكتاب بالكتاب والمقال
بالمقال، تعبيرًا عن بيئة المجتمع شبه المفتوح، والدولة ونظامها شبه الليبرالي في
اللحظة المعاصرة والراهنة كان الرفض والتنفيذ والتكفير، كما حدث مع فرج فودة، ونصر
حامد أبو زيد، وأحمد صبحي منصور وسعيد العشماوي وسواهم، تعبيرًا عن هيمنة التسلطية
السياسية، والتسلطية الدينية كما تجلت ولا تزال في جماعات الإسلام السياسي
والراديكالي والسلطة الحاكمة، وبعض الجمود في فكر المؤسسة الدينية الرسمية- والاستثناءات
قليلة- على نحو ما ظهر في نظام إنتاج الخطابات الدينية التأويلية السائدة في السوق
الديني الوطني أو الإقليمي أو العالمي.
1- من هنا يبدو الكتاب سجالا ونضالا من أجل تحريك الركود
والنزعة الشكلية السائدة، والتي تعتمد على إعادة إنتاج منظومات من المفاهيم
الأصولية أو الفقهية من مصادرها المؤسسة دونما مراعاة لسياسات إنتاج النصوص
المرجعية المؤسسة لأفكار هذا الكاتب أو ذاك، أو لدى إيديولوجيي الجماعات الإسلامية
السياسية الراديكالية وغيرها، أو لدى بعض مشايخ الحركة السلفية، ودخولها إلى هوة
الصراع السياسي بعد 25 يناير 2011.
ثانيًا: المصطلح وسجالاته
أ- ثمة عديد المصطلحات المستخدمة من الباحث القدير مثل
"الإسلام الصحوي"، و"الإحيائي"، و"الأصولي"،
و"الإسلام السياسي".. صحيح أن بعضها شاع ولا يزال في السوق الاصطلاحي، إلا
أن بعض هذه الاصطلاحات تحمل بعضًا من أحكام القيمة لدى صانعيها، وقد لا تعبر بدقة
عما تصف من جماعات ومنظومات أفكار مؤدلجة. من هنا أميل إلى الأخذ بالمصطلحات
الإجرائية، من مثيل الإسلام السياسي وجماعاته وأسمائها ومعها مفكريها، ومنظريها،
ومنظوماتها الفكرية السياسية والتعددية الوضعية حول النصوص المرجعية أيًا كانت.
ب- من ناحية أخرى، ثمة مفارقة اصطلاحية ومفهومية في الإستراتيجية
البحثية، وسياسة التسمية الاصطلاحية، وهو اللجوء إلى مصطلحات غربية حديثة ومعاصرة،
ظهرت في سياقات تاريخية وعلمية في مهادها الغربية في نطاق العلوم الاجتماعية، ثم
استعارتها، واستخدامها والنزول بها على مراحل تطور تاريخ الأفكار والدولة والمجتمع
أو "الجماعة"، في الإسلام والعالم العربي في مراحل تطوره على اختلافها.
من مثيل اصطلاحات مركزية في الكتاب، وفى كتب وبحوث أخرى كمصطلح الدولة، والهوية وجماعات
الهوية. أن شرعية هذه الاستخدامات للمفاهيم والمصطلحات، وبعضها يبدو غير محدد
المعنى والمفهوم، وينطوي على غموض في استخداماته أو عدم دقته، وبعضها الآخر، يركز
على استخدام ينطوي على معنى تجاوزه المصطلح في تطوره في العلوم الاجتماعية
والسياسية والقانونية.
مثال الدولة الوطنية، والاعتماد على تعريب نهاية القرن
التاسع عشر، وهي اصطلاحات رغم عدم دقة تعريبها فإنها حملت معها غموض بعض المفردات
التي تم استخدامها لتقريب المصطلح المستعار.
الدولة – الأمة، أو الدولة القومية لا تزال مشروعًا
تاريخيًا لم تكتمل معالمه في غالب الدول العربية، والأمة ذاتها خارج المصطلح الديني
الإسلامي، لا تزال مشروع أمل ومستقبل أكثر من كونه متحقق الشرائط التاريخية
والاجتماعية والسياسية، ومن ثم أقرب إلى الإيديولوجيا منه إلى التحقق التاريخي
المتطابق مع وضعية المجتمعات والدول العربية ما بعد الاستقلال، وثمة استثنائية لمثال
الدولة/ الأمة في مصر، والدولة شبه الأمة في المغرب، بل إن مآلات المشروع التاريخي
للدولة الحديثة في مصر يتطلب مراجعات في بعض التقييمات التي قدمها بعض المؤرخين والسياسيين
المصريين والغربيين في هذا الصدد.
يترتب على ذلك ما يلي:
السؤال حول مدى المشروعية الاصطلاحية في استخدام مصطلح الدولة
وفق المفهوم الإسلامي التاريخي، وبين الدولة/ الأمة الحديثة والمعاصرة بتعقيداتها
ومرجعياتها، ومحمولاتها من التطور التاريخي الاجتماعي والثقافي والسياسي
والاقتصادي كجزء من جدليات القومية والرأسمالية كما تمت في الدول الأوربية، في
الدولة التعبوية في فرنسا، ودولة ويستمنيستر البريطانية أو الدولة الألمانية أو الإيطالية
أو الدولة الأمريكية.. إلخ.
هل يصلح تلبيس بعضهم لعديد المفاهيم الغامضة في بعض
إيديولوجيات الإسلام السياسي عن الدولة الإسلامية التاريخية، وذلك في إطار التطور
الحديث والمعاصر للدولة الحديثة وما بعدها؟
فيما يخص مصطلح جماعات الهوية – التي تمثلت في جماعة
الإخوان 1928، والحزب الإسلامي بقيادة المودودي، الذي شكله بالهند عام 1941- صحيح
ما ذهب إليه رضوان السيد من أن التنظيم ظهر قبل العقيدة لدى حسن البنا، وظهرت
العقيدة قبل التنظيم لدى المودودي، لكن مفهوم الهوية لم يكن هو الأكثر شيوعًا
كمصطلح فىي هذه الفترة، وإنما ظهر في الأدبيات الإسلامية بعد هزيمة 5 يونيو 1967
على استحياء، ثم برز المصطلح بقوة في الثمانينيات وعقد التسعينيات، وبكثافة حول
مفهوم الخصوصية الثقافية في العشرية الأولى من القرن الحالي، ثم فرض بقوة، وسيطر على
الجدالات السياسية والدينية في أعقاب حوادث 25 يناير 2011 وما بعد، وأثناء وضع
تعديلات دستور 1971، ثم في أثناء وضع دستور 2012، و 2014.
إن مسألة الهوية والأحرى سياسة الهوية، لم تطرح وبقوة في
الخطاب السياسي والإسلامي إلا في أعقاب 5 يونيو 1967، ومع ذلك طرحًا يبدو غامضًا وكأن
بعضهم يراه واضحًا، ولكن إمعان النظر يكشف عن أن هذا الطرح التبسيطي الإقصائي،
يبدو وكأنه مطابقة رياضية للشيء مع ذاته. إن الخطابات الإسلامية حول الهوية تبدو
أحادية ولا تاريخية وغير متعينة زماكنيًا ورمزيًا وتاريخيًا. من ثم نحن أمام خطاب
معاصر حول الهوية ذي طبيعة تخيلية، وشعارية، وينطوي على غموض وعدم تحدد، ويهدف إلى
التعبئة السياسية ذات السند الديني من أجل الحشد السياسي.
من ناحية ثالثة: يبدو من الوجاهة بمكان ما ذهب إليه د.
رضوان من القول إن "صدامات العسكريين العرب والمسلمين مع الجماعات الإسلامية
في البلاد العربية، وباكستان وتركيا وإندونيسيا، أن ما يسميه "أحزاب الشرعية
الإسلامية هذه، إنما كانت تواجه في مرحلتها الرابعة (وهي الثالثة في برنامج حسن البنا)
"الدولة الوطنية" الجديدة في العالمين العربي والإسلامي. وقد طورت فيما
بين الأربعينيات والستينيات نظرية للسلطة الدينية هدفها استعادة الشرعية للدولة،
ومن خلالها للمجتمع وعنوانها تطبيق الشريعة. ولذلك فقد كانت حقًا انشقاقات دينية
وليست تنظيمات عصيان سياسي فقط".
وترتيبًا على ذلك "وقد اعتمدت نهجًا تجاذبيًا
متطاولًا وما لجأت للعنف المسلح إلا نادرًا معتمدة على قوة الفكرة". (ص 4 من
الكتاب)"، في حين حصلت تمردات منذ السبعينيات استخدمت العنف المسلح بالداخل،
ثم في مواجهة الخارج العالمي، للخروج من الجاهلية، والانتصار عليها بهذه الطريقة.
وكل تلك الأفكار والممارسات بعضها واحد هو اعتقاد انتفاء الشرعية عن الدولة أو عن
الدولة والمجتمع وضرورة تغيير ذلك بالعنف أو بالوصول إلى السلطة سلمًا. وهذا هو
الإسلام الإحيائي بشقيه التنظيمي الحزبي والجهادي". (ص4).
يبدو لي وأرجو ألا أكون مخطئًا، أن أفكارًا أساسية وردت
بهذه الفقرة المركزية لانطوائها على أفكار ومفاهيم أساسية ممتدة في صلب أبواب
وفصول الكتاب أولًا: مفهوم الشرعية، وتبلور نظرية للسلطة الدينية هدفها استعادة
الشرعية للدولة من خلال تطبيق نظام الشريعة الإسلامية.
أود أن أشير هنا أن دولة يوليو على سبيل المثال ونظامها
التسلطي منذ خمسينيات القرن الماضي وبعد الثورة، لم تكن تعاني من أزمة الشرعية
السياسية، حتى وإن طال بعض النقد الإيديولوجي للناصرية.
الدولة/ الأمة المصرية منذ بنائها وتأسيس سلطاتها
وأجهزتها وهندساتها القانونية والسياسية والدستورية والإدارية، لم تعان من أزمة
شرعية الدولة حتى في ظل الحركة القومية الدستورية المعادية للاستعمار البريطاني،
وكانت المنظومات القانونية- ذات المصدر المرجعي اللاتيني التاريخي / الإيطالي
الفرنسي- يتم أقلمتها والمزج بينها وبين النسق القيمي والديني والاجتماعي المصري،
على نحو مؤتلف، دونما توترات كبرى قبل وبعد اتفاقية مؤنتريه ذائعة الصيت.
في ظل الناصرية، كانت الكاريزما، والتحولات الاجتماعية
الواسعة، وتمدد عمليات التحديث، واتساع قاعدة التعليم، والسياسة الخارجية في إطار حركة
عدم الانحياز ودوره البارز في إطار حركة القارات الثلاث، تدعم هذه الشرعية وتجددها
حتى هزيمة يونيو 1967.
من ناحية أخرى، كان الدين وقيمه العليا – في الإسلام
والمسيحية الأرثوذكسية المصرية- أحد مصادر شرعية النظام، واستخدم ببراعة في أداء
عديد الأدوار في التعبئة الاجتماعية، وسندًا لدعم قوانين الإصلاح الزراعي،
والتأميمات، وإحدى أدوات السياسة الخارجية المصرية في الإقليم وإزاء الدائرة
الإسلامية الواسعة، وفي القارة الأفريقية، من خلال دور المؤسسة الدينية الرسمية.
إن مفهوم الدولة القومية وشرعية النظام حديث ومعاصر
ومستمد من الجهاز الاصطلاحي للنظريات السياسية في دراسة النظام السياسي، ويتداول
مفهوميًا في هذا السياق، وهو ما يعني الرضا العام لدى قطاعات اجتماعية أساسية، ولو
في حدود كتل أساسية، تعبر عن رضاها بأي شكل من أشكال التأييد السياسي للنظام
ونخبته الحاكمة، بل وفي بعض الأحيان بالرضا الضمني عن بعض إجراءاته ضد خصومه
السياسيين حال غياب آليات التعبير الحر عن ذلك في النظم التسلطية، وهو نمط من
النظم يخالف النظم الشمولية، أو التوتاليتارية. كما برز في النظام التسلطي المستمر
في مصر.
من ناحية أخرى لم يحدث رفض جذري للنظام القانوني الحديث
في مصر على سبيل المثال، وكانت المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، أو السعي نحو
أصالة قانونية مؤسسة على الشريعة ذات معنى ودلالة كلية وشمولية كشعار غامض وسياسي
وإيديولوجي بامتياز، كما برز في خطابات الإخوان في الثمانينيات، والتسعينيات، وما
بعد.. ومعهم الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية كالجهاد والجماعة الإسلامية،
وقبلهم جماعة المسلمين.
وذلك لعديد الأسباب نذكر منها تمثيلًا لا
حصرًا ما يلي:
1- أن الشريعة الإسلامية طبقت من خلال نظام الأحوال
الشخصية للمسلمين، التي اعتمدت على المذهب الحنفي أساسًا، مع بعض المصادر من
المذاهب الأخرى. بل في كل مراحل تطوير وتعديل النصوص بل وتطور اللجوء إلى مذاهب
فقهية أخرى، وذلك دعمًا لحقوق المرأة والأسرة عمومًا حتى تبنى مفهوم الخلع في
التطور الأخير.
1- أن الشريعة ومبادئها العامة كانت أحد مصادر استلهام
المشرع والفقه القانوني المصري، وهو ما أخذ به عميد الفقه القانوني المصري والعربي
د. عبد الرازق السنهوري باشا أثناء وضعه للقانون المدني المصري الجديد 1948، في
نظرية مصادر القاعدة القانونية. من ناحية أخرى، في تطوير نظرية إساءة استعمال الحق
الفردي لجوسران اعتمادًا على الفقه الإسلامي. وظهرت آثار هذا التطوير في أثناء
وضعه القانون المدني العراقي.
2- أخذ قانون العقوبات، وقوانين أخرى بمراعاة بعض أحكام
الشريعة الإسلامية الغراء.
3- ساعدت مدرسة كلية الحقوق بجامعة القاهرة، في تطوير
المفاهيم ومناهج الدرس الأكاديمي والتشريعي، على أيدي مشايخنا الكبار أحمد إبراهيم
باشا، وعلى الخفيف، والإمام محمد أبو زهرة وسواهم، حيث لعب التفاعل بينهم، وبين
المدرسة القانونية والحقوقية في كلية الحقوق دورًا مهمًا في هذا الصدد.
4- أسهم بعض مشايخ الأزهر الشريف من الفقهاء المجددين من
تلامذة الإمام محمد عبده في تجلية بعض من الموروث الفقهي الشريعي في تأصيل الموقف
التقدمي للشرع الإسلامي إزاء بعض القضايا المعاصرة، وقبل الأستاذ الإمام عبده،
كالشيخ خليفة المنياوي ووضعه لتقنين مدني حديث على مذهب الإمام مالك في عهد إسماعيل
باشا. وكتابة قدري باشا مرشد الحيران في معرفة أحوال الإنسان. ثم جاءت الكوكبة الإصلاحية
من المشايخ الكبار المراغي، ومحمود شلتوت، ومحمد عبد اللـه دراز، وعبد المتعال
الصعيدي واجتهاداته البارزة، والشيخ محمود بخيت بكل ما أثاره من جدل وسجال، وما
ناله من رهق في هذا الصدد.
5- أن دعاة تطبيق الشريعة من الإسلاميين، كان مفهومهم
يتطور وفق موقفهم السياسي والإيديولوجى إزاء النظام والسلطة الحاكمة. كان الطرح في
البداية يتمثل في خطاب التوافق بين الشريعة والقانون الوضعي الحديث، وذلك لكي
يتوافق في بعض مواضع الخلاف أو التناقض وتوتراته مع المبادئ العامة للشريعة. ويرجع
ذلك أن غالب الفقهاء كانوا يرون أن هذه المنظومات القانونية الوضعية، تمت أقلمتها
وتوظيفها مع القيم والأعراف والعادات المصرية، ومستجدات الحياة العصرية، ومن ثم لا
تتناقض مع أحكام الشريعة إلا قليلًا، وأنها باتت من الأعراف، وأن العرف مصدر من
مصادر الشريعة الإسلامية. من هنا تمحور الخلاف حول رفع التناقض بين بعض النصوص في
بعض القوانين لاسيما الجنائي وبعض النصوص الحدية، وضرورة إيجاد حلول لرفع هذا
الخلاف بينها وبين بعض القواعد التشريعية.
6- بدأ خطاب الشريعة الكلى كشعار وسلاح إيديولوجي مع
جماعة الإخوان المسلمين، وجماعة شباب محمد، وذي طابع سياسي وإيديولوجي، أثناء وضع
التقنين المدني المصري، وذلك من خلال مشروع المستشار صادق فهمي/ بمحكمة النقض،
والذي رفضه السنهوري باشا، ثم موقف المستشار حسن الهضيبي المرشد العام الثاني
للجماعة الذي رفض مشروع السنهوري بالجملة، دون أن يطرح تصوره لمفهومه حول الشريعة
في نسق للقانون المدني وكبديل للسنهوري ومشروعه، ثم انسحابه على نحو ما ورد بمحاضر
اللجنة التحضيرية.
7- استخدام مفهوم الشريعة في الخطاب الإخواني كأداة
سياسية في الصراع الضاري مع الرئيس ناصر في أزمتي الخمسينيات، والستينيات – 1965-
وكان الخطاب عامًا وشعاريًا وغير محدد المعالم والقوام الفكري أو القانوني في شكل
مشروعات محددة، سواء للدساتير أو القوانين.
الاستثناء في هذا الصدد، كان كتاب الأستاذ عبد القادر
عودة التشريع الجنائي الإسلامي، وعلى أهمية هذا العمل العلمي والفقهي، إلا أن
الملاحظ أن الكتاب اعتمد في نظريته العامة، بل وجزء من آلته الاصطلاحية، وأدواته
التحليلية على نظرية الجريمة في الفقه الجنائي الفرنسي والمصري، بل في بعض تأصيله
لنظرية العقوبة والإجراءات الجنائية.
8- استخدمت الشريعة في جحد شرعية النظام والسلطة الحاكمة والأحرى القول استخدم شعار تطبيقها العام، مع بعض قواعد الحاكمية المستمدة من أبو الأعلى المودودي وسياق تطبيقه لهذا المفهوم، في إطار الصراع السياسي والديني في شبه القارة الهندية، واستعارة الأستاذ سيد قطب للمفهوم لكي يطبق على نحو معمم على العالم، وعلى الحياة المصرية والنظام والدولة، كشعار سياسي وتعبوي أكثر من بلورة نظرية لمفهومه، وتطبقيها على نحو تفصيلي على واقع تاريخي محدد المعالم. كان الشعار هو المقدم على الأفكار والمقاربات.
9- السؤال هل العملية السياسية الإصلاحية في النظام
السياسي والسلطة الحاكمة، والأحرى الإصلاح السياسي يعد شرطًا للإصلاح الديني،
والخروج من مأزق الإسلام السياسي، وآفاقه المسدودة وفق تعبير رضوان السيد بديلًا
عن أطروحته وآخرين السابقة. إن الإصلاح الديني يمكن أن يقدم على الإصلاح السياسي.
ثم ذهابه أخيرًا في مؤلفه موضوع الحوار، أنه لا بد من إنقاذ الدولة الوطنية
بالإصلاح السياسي والحكم الصالح، قبل أو في موازاة القيام بإصلاح ديني جذري من
خلال نقد التحويلات الشاسعة التي أحدثها الإسلاميون في مفهوم الدين والتدين، وفي
علاقة الدين بالدولة، ودور المؤسسة الدينية في إعادة المشهد الديني إلى سوأتيه؟
أعتقد أن كلتا العمليتين لابد أن تتما معًا، فلن يتم إنقاذ
الدولة الوطنية إلا بإصلاحات شاملة في بناها وتركيبها وسياساتها، والأهم سياسات
التجنيد النخبوي، وفي ذات الوقت إصلاح ممنهج للمؤسسة الدينية وهياكلها، وسياساتها
التعليمية أساسًا في الأزهر، ثم في مناهج التعليم ومواده الدينية وتطويرها منهجيًا
وعلى مستوى التدريب والتكوين والتحليل.
الإشكالية المركزية للكتاب الواردة في غالب أبوابه
ونصوصه هي الدين والدولة، والأحرى الصراع على الدولة وشرعيتها السياسية والدينية؟
في حين أن المطروح في ثنايا بعض فصول الكتاب هو العلاقة بين السلطة السياسية أو
الحكام والولاة ورجال الدين.
ثمة استخدامات لاصطلاحات معاصرة أو حديثة وحداثية على
ظواهر مغايرة كالحديث عن علاقة رجال الدين بالمؤسسة الدينية، أو وصف الخلفاء
والحكام بالمؤسسة السياسية، الدلالة الاصطلاحية هنا مرتبطة بسياقات للدولة الحديثة
وهياكلها وشبكاتها ومن ثم منظوماتها أو جهازها الإصطلاحي ومفاهيمها ومقارباتها
التحليلية. وذلك رغمًا عن براعة التحليل التاريخي، بالإضافة إلى تأصيل المؤلف المفاهيم
الفلسفية المؤسسة للدولة القومية الحديثة في أوربا ثم الغرب (العقل / الحق
الطبيعي/ النقد الاجتماعي/ الحقوق والحريات الفردية)، وأضيف أيضًا كنافلة، ما قاله
مارسيل جوشييه عن مديونية المعنى، وتراجعها، ومن ثم العملية التاريخية والفلسفية
والفكرية والسياسية التي أدت في المختبر الإنساني والفكري الأوربي إلى ظاهرة
انفصال الوضعي عن الميتاوضعي، ثم ميلاد الفرد كإرادة ومشيئة حرة وخصوصية، ومن ثم
تبلور الفردانية أو الفردية كنتاج ومحصلة للصراعات والتفاعلات، وعصف الأفكار وتطور
الحركة القومية في ظل حركية الرأسمالية الأوربية، ودور البروتستانتية في تشكيل
رأسمال لاهوتي لمعنى جديد للدين، على نحو ساعد على تطور السردية الفلسفية
والسياسية للدولة / الأمة في النموذج الغربي – الأوربي وتحولاته.
أوافق المؤلف على سعيه لمقاربة من منظور الفكر الإسلامي
/ الفقهي والكلامي، مع المنطق والتجربة الأوربية حول الدولة، ويظل السؤال: هل يمكن
استعارة التجربة والأسئلة، والمفاهيم المؤسسة للنموذج الأوربي والغربي عمومًا،
ومحاولة السعي إلى إيجاد مشابهات في تاريخ الفقه الإسلامي أو علم الكلام، ومن ثم مع
الفكر الفلسفي الأوربي؟ أتصور أن ثمة إمكانية لمقاربة وإستراتيجية بحثية أخرى معتمدة
على إمكانية مقارنة للتطور السوسيو- سياسي واقتصادي وثقافي وديني/ تأويلي وضعي بين
كلتا التجربتين، بالإضافة إلى إستراتيجية تأصيل ذات المبادئ الفلسفية الأوربية حول
الدولة، في إطار بينة الفكر الإسلامي.
إن تأصيلات رضوان السيد حول: مبدأ شمولية العقل، والحق الطبيعي
حول الكرامة والتسخير والاستخلاف، والنقد الاجتماعي، وفي مجال الحقوق والممارسات
الفردية في القرآن الكريم. ( ص 13، 14)، تتسم بعمق المعالجة وجدة التفسير، وأوافقه
عليها.
أوافق أيضًا معه على أن المبادئ الدينية والفكرية العامة
في المجال الإسلامي، لا تتصادم مع المبادئ الحديثة للدولة، فلماذا تعاني فكرة
الدولة الحديثة من مشكلات في مجالنا الحديث، وبعضها آت من القوى الإسلامية الجديدة؟
أوافق على السؤال والاستخلاص، وأضيف إليه ما يلي:
(1) أن الدولة أو الأمة الحديثة لا تزال مشروعًا تاريخيًا
لم تتحقق شرائطه الموضوعية والتاريخية في الواقع الموضوعي في العالم العربي،
باستثناء المثالين المصر، والمغربي على ما يعتور دولة المخزن من بعض الابتسارات
البنائية، وكذلك بعض الاختلال في المثال المصري التاريخي العتيد، وذلك لأن غالب
المجتمعات العربية لم تصل إلى التكوين التاريخي لمفهوم الأمة القومية، ومن ثم مشروع
الدولة ما بعد الاستقلال هي تعبير عن الغلبة السياسية القبلية أو العائلية أو
العشائرية أو في إطار الإرث الانقلابي للنظم ذات الجذور العسكرية.
2- أزمة ميلاد الفرد، ومن ثم الفردانية المعتقلة في أطر
بطريركية قديمة أو محدثة.
3-الطبيعة الانقسامية التكوينية في تركيبة المجتمعات
العربية fragmented soaeties، ومن ثم لا
تزال أبنية القوة التقليدية ذات سطوة ومكانة ونفوذ، وولاءات وانتماءات في مواجهة
الموحدات الجامعة ما فوق المكونات الأولية.
الدولة والسلطة السياسية العربية عمومًا لا تؤسس
لتجانسات وطنية، بقدر ما تؤدي سياساتها إلى الارتكاز على توازنات هشة بين الطوائف
والقبائل والعشائر، بل إن تشكيل مؤسسات الدولة الأساسية (الأمن/ الجيش/ الإدارة)
يعتمد على هذه التشكيلات وتوازنات القوة داخلها.
4- أزمة تشكيل النخب الحاكمة ونظام التجنيد لها، وجموده
(العائلة في النظم الملكية الوراثية، والاعتماد على بعض الموالين، أو في الاعتماد
على التجنيد من البيروقراطية، والمؤسسات العسكرية والأمنية فقط- والاستبعادات والإقصاءات
الممنهجة لأجيال جديدة.
5- ذكورية الدولة وسياساتها، وثقافة الدولة ورأسمالها
الخبراتي.
6- الأزمة البنيوية في الأنظمة التعليمية وسياساتها
ومفاهيمها التي تعتمد على الحفظ والتلاوة، وانقساماتها إلى عديد الأنظمة المهجنة
بالدين والنظم الدينية، والعسكرية، على نحو يؤدي إلى انقسامات في مخرجات العملية
التعليمية، بما يؤدي إلى إنتاج وإعادة إنتاج الانقسامات في النخب المتعلمة في
البلدان العربية.
7- ظواهر الفساد الهيكلي في الدولة العربية ما بعد الاستقلال،
وانتشار شبكات الفساد في الوظيفة العامة، وشيوعها في الواقع الاجتماعي.
8- أزمة قانون الدولة الحديث، وعدم تعبيره عن التوازنات
بين المصالح الاجتماعية والسياسية، وضعف روادعه، وأزمة ثقافة القانون الحديث لدى
عموم المخاطبين بأحكامه، بل وأزمة العلم بالقانون. من ناحية أخرى هيمنة وتمدد
قانون التقاليد والأعراف، وظهور نظم قانونية تعتمد على القانون العرفي، والأخطر شيوع
أشكال القضاء العرفي، بل والأخطر .. الأخطر اعتماد أجهزة الدولة الأمنية، ورجال
السياسة على هذه الأبنية الموازية والمتنافسة مع نظام قانون الدولة لحل مشكلات
طائفية، أو منازعات عائلية أو قبلية. كما حدث في مصر طيلة أكثر من ثلاثة عقود،
واثناء المراحل الانتقالية الثلاث كما في مصر على سبيل المثال هنا يبدو. رجال
الدولة ضد الدولة.
9- شيخوخة الدولة، ونخبها، وعدم تجديدها، وإصلاحها في ظل
ظاهرة موت السياسة لصالح مفهوم دولة الإدارة ودولة اللا تسيس، أو سياسة اللا سياسة
كما سمّيناها في مصر، وهو ما ينطبق على مصر، وتونس، والجزائر.
10-جماعة الإخوان المسلمين، والجماعات الإسلامية
السياسية والحركة السلفية، يفتقرون إلى الرأسمال الخبراتي والثقافوي حول الدولة
الحديثة والمعاصرة وتعقيداتها وتعبيراتها، وهو ما ظهر أثناء حكم الإخوان ومعهم بعض
محالفيهم من الإسلاميين في مصر بعد 25 يناير 2011. من ثم يبدو ضعف الطرح اللا
تاريخي في الخطاب الإخواني ونظائره وأشباهه حول الدولة في الإسلام.
11- إن الطابع الاصطلاحي المستخدم في مقاربة مسألة
الدولة في الإسلام ينتمي إلى سياقات تاريخية وزمكانية لم تكن معروفة أو متحققة
شرائطها في الفكر والدولة الإسلامية تاريخيًا. هذه الآلة الاصطلاحية والمفاهيمية غربية
بامتياز، وترتبط بالتطور في التنظير والبحث التاريخي والفلسفي والألسُني والأمبيريقي
للعلوم الاجتماعية، ومن ثم يطرح هنا سؤال مشروعية هذا الاستخدام لبعض الاصطلاحات،
من قبيل نشأة المجال العام السياسي والمجال العام الديني والمجال العام الثقافي،
والتمايز بين هذه المجالات، خاصة في أعقاب الدرس الفلسفي الهبرماسي حول المجال
العام، وترجمة نصه من الألمانية إلى الإنجليزية عام 1996، ثم شاع على المستوى
الكويى بعد ذلك. من هنا أميل إلى استخدام المصطلحات الإسلامية للتعبير عن تجربتنا،
ومصطلحاتنا كسياسة أيضًا، وحراسة الدين، كما لدى الماوردي في الأحكام السلطانية.
12- أن التراث الفقهي الإسلامي السياسي حول الدولة يبدو
محدودًا، ويقتصر على كتب الأحكام السلطانية، والولايات.
13- أن نظرة على أدبيات الإخوان
المسلمين حول الدولة تشير إلى ما يلى:
أ- خلط الإمام حسن البنا في "مذكرات الدعوة
والداعية" بين مفهوم الدولة وبين الحكم على الخلاف بين كلا المفهومين. من
ناحية أخرى الفهم الشمولي والشعاراتي الذي يجعل الحكومة ركنًا من أركان فهم
الجماعة للإسلام، هو جزء من السردية الدعوية المؤسسة، لأنها ترمي إلى الدعوة
والتجنيد والجذب لأعضاء للجماعة، ولكنها لا تكشف عن فهم معمق للدولة الحديثة. وعن
ربط وتجاوز حدود الوطنية بالعقيدة.
ب- أن مقاربات القاضي عبد القادر عودة ركزت على استعارة
الشكلانية الأوربية القانونية في مقاربة النظام الجنائي الإسلامي، وركز سيد قطب
على أمور عامة عقيدية بالأساس ومؤسسة على مفهوم الحاكمية لدى المورودي.
ج- أن مقاربات المستشارين مصطفى كمال وصفي، وعلى جريشة
في نظرتهما للدولة والدستور كانت شكلانية بامتياز، وفق نظرية الدولة الدستورية
الفنية بامتياز، وهي مقاربة مستعارة وليست تأصيلية، وغالبها ينتمي إلى فقه القانون
العام الدستوري والإداري، وليس إلى نظريات الدولة القومية وتطوراتها وتجسيداتها،
والآلة النظرية لها.
د- الأخطر غياب المعرفة والحس التاريخي والسياسي والنظري
بالدولة الأمة/ المصرية وتاريخها وطرائق عملها، وعلاقتها بالمصريين.
(انظر في ذلك، بحثنا الإخوان المسلمون والدولة والسلطة:
سياسات الهيمنة، المركز العربي للدراسات والبحوث).
14- الدين والدولة: في العلاقات والمرجعيات والمصائر
والمجتمعات والدول، والنظام العالمي.
1- لماذا شغل العالم في السنوات الأخيرة من جديد بمسألة
المرجعية بمعنى الرؤية الشمولية التي تحكم الأفكار والتصرفات على مستوى الأفكار؟
السؤال البارز هنا الذى طرحه الباحث القدير: متى دخل
مصطلح المرجعيات إلى الخطاب الأكاديمي والدعوي والإيديولوجي حول الإسلام والدولة؟
أتفق مع رضوان السيد أن ذلك يعود إلى رد الفعل عن
"سقوط الأيديولوجيا" أو ما يسميه جان ليوتارد في الشرط ما بعد الحديث
إلى نهاية السرديات الكبرى، أو الأنساق الإيديولوجية الكبرى. وصحيح الحديث عن حروب
الأفكار منذ نهاية الحرب الثانية التي استمرت في الحرب الباردة.
السؤال الذى أطرحه هنا: هل بالفعل ثمة عودة إلى الشموليات
مع "سقوط الإيديولوجيا" الذي صاحب سقوط الإمبراطورية الماركسية السوفيتية؟
وهل في عولمة الديمقراطية، وعولمة السوق وعولمة الحضارة والتجارب الغربية عودة
للإيديولوجيا الشمولية بتعبير الكاتب؟ أم أننا في ظل التحولات ما بعد الحديثة
والعولمة وصيروراتها نحن إزاء ظواهر موضوعية وكونية ترتبط بتطور موضوعي في بنية
الرأسمالية العالمية وتحولها إلى عولمية، وانعكاساتها على مفهوم القومية- الذي
يبدو في تعبير هوبسباوم وكأن بومة منيرفا في نعيقها الأخير"- ومفاهيم السيادة
التقليدية، وانكسار الحدود والأسواق في السوق، والسلع والخدمات، والرموز واللغات
والأساطير بالمعنى الإيجابي. وباتت تخترق كل البنيات السائدة في مجتمعات ودول
العالم.
إن العولمة لم تعد تشكل خطرًا داهمًا على الهويات
والخصوصيات الأخرى في عالمنا على عكس ما كانت تطرحه الموجة النقدية الأولى للهويات
في الخطاب الغربي الإيديولوجي المساند للعولمة، والذي استعير في أدبياتنا! وثبت أن
هذه الموجة النقدية لا تعدو أن تكون خطابًا إيديولوجيًّا يساريًّا من بعض اليسار
الغربي، بل إن العولمة أتاحت إمكانات واسعة وآليات عبر الثورة الرقمية والاتصالية تؤدي
إلى دعم الهويات واللغات والتعدديات الثقافية على المستوى الكوني.
من ناحية أخرى ساعدت العولمة على فتح المجال أمام حماية
ودعم الأديان المستضعفة والثقافات، بل أدت إلى تأسيس سوق ديني كوني. قد تكون في العولمة
هيمنة؟ لكن كيف نفسر صعود الصين، وآسيا الناهضة في إطار عولمي؟
إن الحديث عن أن المسلمين أحسوا بأنهم مستهدفون بفكرة
صراع الحضارات التي طرحها عالم السياسة والنظم المقارنة العلم صمويل هنتنجتون،
تحتاج إلى مراجعة، لأن الأطروحة عندما ظهرت في البداية كمقال في الفورين أفيرز
وككتاب، لم يهتم بها سوى قلة هي التي قرأت المقال، ثم الكتاب، وتحول الموضوع
ومقولاته، إلى جزء من الموضوعات الفكرية لقلة قليلة، وبعض التابعين، بل إن ذلك لم
يتحول إلى إحدى مطارحات إيديولوجيو الجماعات الإسلامية السياسية، مثلها مثل مقولة
فوكوياما عن نهاية التاريخ، التي سرعان ما تحولت الفكرتان إلى تاريخ الأفكار.
أما مقولة "الصراع الحضاري" التي قال بها بعض
المثقفين المصريين، بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، كانت أسبق تاريخيًا من فكرة صراع
الحضارات لهنتنجتون، وقال بها بعض المثقفين المصريين وبعضهم من دعاة القومية
المصرية، وكرد على القطيعة الرسمية العربية لمصر، وتجميد عضويتها في الجامعة
العربية، بل إن الأستاذ عمر التلمساني قال لي في حديث مسجل وغير منشور؛ إنه لا
يخشى أساسًا من موضوع التطبيع على الشخصية المصرية، وأن مصر قادرة تاريخيًا على
هضم أي محاولة إسرائيلية ثقافية في هذا الإطار.
من أهم التفسيرات في هذا الكتاب المهم، هو تأويل وبناء
المؤلف لرؤية الإسلام للعالم انطلاقًا من النص المقدس المؤسس والسنة المشرفة
للرسول الأكرم (صلعم). (ص 48).
أود أن أطرح سؤالا حول ما معنى التعايش والانفصال
القيمي. مفهوم الانفصال القيمي يشير إلى ثمة منظومة قيمية إسلامية مستمرة وثابتة؟
وهل يمكن تحقيق تعايش مع الكوني والإنساني والانفصال عنه مع التغافل عن المشتركات الكونية،
حتى مع القيم الكونية في الأديان: خاصة مع التغيرات في أنساق القيم داخل المجتمعات
العربية والإسلامية؟
مع ذلك أتفق مع د. رضوان السيد (ص32) في أنه "لابد
من الخروج من الخصوصيات والشرذمات والانشقاقات. فالعالم يعتبرنا مسلمين أكثر من
اللازم وبعض شبابنا يعتبروننا مسلمين أقل من اللازم بكثير، وهم مقبلون على أسلمتنا
على طريقتهم ومقبلون في الوقت نفسه على استعداء العالم!
من الفصول الجميلة العرضي والتحليل والاستخلاص
"تحولات الفكر الإسلامي خلال قرن، أو هل فشل الإصلاح؟".
مع ملاحظة أن العودة للربط بين الشأن الديني، والشأن
السياسي، لحاجة المشروع الجديد للدولة إلى مشروعية أمّنتها له اجتهادات الفقهاء،
وفتاوى شيوخ الإسلام (ص39). ومن ثم أطروحة التلازم بين الدين والدولة في عالم
الإسلام ربما كانت من صنع الإحيائين المسلمين وحدهم في العقود الأخيرة" في
المثال المصري التاريخي الشرعنة تمت في الدولة الحديثة لاسيما في المرحلة شبه
الليبرالية على أساس شرعية ثورة مصر الوطنية عام 1919، وارتباطها بالاستقلال
والدستور 23- 1952 من الناحية السياسية والشرعية الدستورية والدولة القانونية L'etal de droite والأنساق
القانونية الحديثة / الوضعية.
المقال المنشور جزء من دراسة نقدية منشورة
في العدد التاسع مجلة آفاق سياسية