تحالف النقابات المهنية: تشويه الدور وخلط الأوراق قبل الانتخابات البرلمانية
من بين المشاهد والترتيبات الجارية استعدادًا لتنفيذ الاستحقاق
الثالث بعد ثورة 30 يونيه؛ تم الإعلان عن تحالف باسم النقابات المهنية لخوض
الانتخابات البرلمانية المقبلة، يتزعمه بعض السياسيين من ذوي الخلفية النقابية،
وهو إعلان مربك وخطير، يحمل في طياته قدرًا كبيرًا من الخلط في الأوراق والأدوار
المفروض أن تضلع بها النقابات المهنية، ما يعد استمرارًا لعملية تاريخية، جرى
بمقتضاها اختطاف هذه النقابات وتحويلها ساحة للصراع السياسي والأيديولوجي، على
حساب الدور الأصيل للتشكيلات النقابية. وهذا المقال محاولة لكشف دور التشكيلات
النقابية في المجتمع الحديث، وبيان الآثار السلبية لاستلاب هذا الدور في المشهد
السياسي المصري الراهن، وأثره في عملية التحول الديمقراطي المنشود.
أولا:
الدور الأصيل للتشكيلات النقابية
النقابات المهنية هي صوت القطاع الكبير من الطبقة الوسطى (العاملة
بأجر)، أي أنها تشكيلات طبقية class
formations، تضم
مجموعات من الأفراد المنتمين لمهنة واحدة، ينتظمون في إطار مؤسسي مهمته حماية
مصالح أعضائه والعمل على تعظيمها، ويمكن تلخيص هذه المصالح فيما يلي:
(1) المصالح المعرفية والمهارية: حيث تسعى المؤسسة النقابية، إلى وضع
معايير معرفية ومهارية تضبط عملية الانتساب إليها، كما تعمل على تطوير أساليب
للثواب والعقاب لضمان الالتزام بهذه المعايير، ومن جانب آخر تقوم بتنمية مستمرة
للقدرات المعرفية والمهارية، عبر برامج التدريب والتأهيل، من أجل تحسين فرص
أعضائها داخل سوق العمل.
(2) تلبية المصالح الاقتصادية: بحيث تتولى النقابة، نيابة عن أعضائها، التفاوض حول
الأجور والمكافآت، ساعات العمل، والترقيات، توفير بيئة العمل الآمن، والمشاركة في
إدارة مؤسسات العمل، وإبرام عقود العمل الجماعية.
(3) تلبية المصالح الاجتماعية والثقافية: مواجهة تردي الأحوال المعيشية لأعضائها، وضمان حقوقهم
الاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى تقديم الخدمات المختلفة.
(4) تلبية المصالح السياسية: بحيث تمثل النقابة، حلقة الوصل بين جماعة الأعضاء وبين
الدولة، أو بينهم وبين باقي جماعات الضغط في المجتمع، ساعية إلى تلبية الاحتياجات
المذكورة، وتحقيق مصالح الأعضاء ضمن منظومة الصالح العام، إما بأسلوب التفاوض أو
عن طريق الكفاح والنضال النقابي بصوره المتعددة: ابتداء من الاحتجاج السلمي،
الاعتصام، الإضراب عن العمل، وانتهاء بالرفض والمقاومة غير السلمية. هذه هي الحال
بالنسبة للتشكيلات النقابية في مجتمع طبقي ناضج. فما هي الحال في السياق العربي.
ثانيا: حالة المؤسسة النقابية قبل الثورة
المصرية
تراث العمل النقابي بصفة عامة، والمهني منها
على نحو خاص، قبيل المرحلة الاستعمارية وبعدها، وحتى الآن، يثير قدرًا كبيرًا من
مشاعر الأسى والإحباط. حيث تدل الدراسات وثيقة الصلة، أن التشكيلات النقابية، جرى
تحريف مسارها عمدًا، فصارت في أغلب الأحيان بعيدة كل البعد عن الأهداف التي من
أجلها أن وجدت. لقد انخرطت النقابات قهرا وقسرا في الشأن السياسي العام، بانضغاطها
إلى حد الانسحاق بين شقي الرحى فكانت دائما:
1- تُسْتَدرج نحو تسويغ ومباركة الطبقة
المركزية المتحكمة،
وتتم هذه العملية عبر آليتين: آلية الترغيب:
بمنح الامتيازات السياسية والاقتصادية للقيادات النقابية، وغض الطرف عن ممارسات
القيادات النقابية الفاسدة. وآلية الترهيب:
وذلك بالحيلولة دون ظهور القيادات النقابية المخلصة الساعية لتحقيق أهداف الجماعة
المهنية المتناقضة مع مصالح الطبقة الحاكمة.
2- ينحرف دورها وتتورط في العمل شبه الحزبي: في ظل المناخ العربي القامع للحريات السياسية، سواء من
حيث غياب النظام الحزبي التعددي، أو فساد نظام الحزب الواحد، أو انعدام نظم حزبية
من الأساس في بعض الدول، تتحول ساحة العمل النقابي إلى ساحة للنضال الوطني، وليس
الطبقي، وتصبح هذه التشكيلات المتنفس أو المخرج، الذي تمارس من خلاله التيارات
والقوى السياسية المعارضة العمل السياسي، كما حدث في مصر خلال الفترة (1985-1996)،
حين سيطرت التيارات الدينية بقيادة جماعة الاخوان على مجالس إدارات النقابات
المهنية، ثم دخلت النقابات في بياتها الشتوي القسري، من نهاية التسعينيات وحتى عام
2013. خلال هذه الفترة الطويلة، تعلمت القواعد المهنية، وأدركت أن التخلص من العبء
السياسي العام، أمر حتمي لتطوير العمل النقابي، وكلل هذا الإدراك الصحيح، بنجاح
قوائم المستقلين في عدد من النقابات المهنية في الآونة الأخيرة.
وفي كلا الحالين: (الاستدراج نحو
التسويغ، أو التوريط في العمل السياسي شبه الحزبي) تغيب المصلحة الطبقية والمهنية
عن المشهد، وتكتفي هذه التشكيلات، بتقديم بعض الخدمات الاجتماعية الثقافية
والترفيهية، متخلية عن أدوارها الأساسية بوصفها كيانا قانونيا يمارس ضغطا على
النظام السياسي لتحقيق مصالح أعضائه. وأحيانا تستخدم القيادات النقابية كمعول هدم ضد مصلحة
الجماعة المهنية، ونستشهد هنا
بمثال، الجدل النقابي حول دستور (2012)، حين عصفت إحدى مواد الدستور(*) بالحقوق
النقابية المستقرة في الدساتير المصرية السابقة، بعد أن أجازت حل التشكيل النقابي بحكم قضائي، وكانت
الدساتير السابقة تسمح فقط بحل مجلس إدارة التشكيل النقابي بحكم
قضائي، وتحظر حل الكيان ذاته لأي سبب من الأسباب.
الشاهد هنا، أن بعض مجالس إدارات النقابات المهنية المصرية أعلنت
موافقتها على الدستور بكل مواده، دون أن تعترض على هذه المادة، ما يعني انصراف هذه
القيادات عن الأهداف التي من أجلها أنشئت تلك النقابات، وتفريغ العمل النقابي من
مضمونه الحقيقي.
وفي ظل هذا المناخ اللا ديمقراطي، تبدأ
صور الكفاح النقابي وتنتهي عند مستوى القواعد – الأعضاء
العاديين- وهو كفاح طبقي مشتت، وفئوي، يفتقد الرؤية والاستراتيجية، لأنه حُرم من
قيادة مؤسسية مخلصة ترعى هذا الكفاح. الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تمرير كل
القرارات والإجراءات والعمليات المحققة لمصالح الطبقة الحاكمة، والمناقضة لمصالح
الجماعة المهنية. غير
أن هذا الوضع لم يعد مقبولا، والمجتمع المصري بصدد التحول الديمقراطي المنشود بعد
الثورة المصرية.
ثالثا: تحالف النقابات المهنية
يحتار القارئ ومعه الكاتب، في معرفة مغزى
ومعنى تكوين تحالف سياسي باسم النقابات المهنية، لخوض الانتخابات البرلمانية في
مصر. ومصادر الحيرة تتنوع فيما يلي:
1- لعب الدور الخاطئ: حيث إن التحول الديمقراطي الذي تنشده مصر، لن يقوم إلا
على تأسيس حياة حزبية سليمة، ووجود مثل هذه التحالفات النقابية (المهنية،
العمالية، الفلاحية)، خارج المظلة الحزبية، يعني أن النخبة السياسية الحالية عاجزة
عن تأسيس هذه الحياة الحزبية، ولكي تداري عجزها تلجأ إلى المؤسسات النقابية لكي تختبئ
فيها ثم تنطلق من داخلها.
2- تأسيس التحالف قرار فوقي مريب: كما أن المواطن ينظر بريبة تجاه هذه التحالفات النقابية،
التي يعلن عنها المهيمنون على العمل النقابي، دون الرجوع إلى الجمعيات العمومية
لهذه النقابات، ما يجعل قرار تأسيس التحالف، غير معبّر عن المصلحة العامة، وإنما هو أقرب إلى تحالف خلق الفرصة السياسية
لبعض الشخصيات السياسية التي انزاحت من المشهد بعد 30 يونيه لسبب أو لآخر. ومن الممكن أن يكون التحالف توطئة لتمرير
بعض الشخصيات غير مرغوب فيها، المنتمية لنظم سابقة، على أساس أنها كوادر
نقابية ولها تاريخ في الكفاح النقابي، ما يعد تدليسا على المواطن.
3- التحالف لن يخلق وجود المهنيين في
البرلمان: إن وجود المهنيين في أي انتخابات سابقة أو قادمة هو وجود
كثيف بالفعل، لأن تركيبة أعضاء البرلمان في أي وقت، تتكون أساسا من أغلبية مهنية
(أساتذة جامعات، محاميين، أطباء، مهندسين، إعلاميين، مفكرين... إلخ)، ما يعني أن
مصالح المهنيين، مكفولة بسبب وجودهم الطبيعي داخل البرلمان، وليست هناك حاجة
لتأسيس تحالف سياسي باسمهم.
4- التحالف يهدم أسس تكوين النقابات
المهنية: لا يغيب عن ذهن القارئ أيضًا أن التشكيلات النقابية،
بحكم أنها تتأسس على بعد طبقي، فإنها تتناقض مع العلاقات التقليدية، لذلك
فإنها تعد الحل الأمثل، للخروج والتخلص من علاقات الاستغلال الطائفية،
العرقية، العصبية العائلية، أو الجهوية، أو القبلية، وتهيئة المجتمع نحو المجتمع
الطبقي الحديث، بحكم طبيعة تكوين هذه التشكيلات التي لا تعترف بهذه العلاقات. هنا
بالتحديد تنشأ ورطة التحالف النقابي، حيث لا يغيب عن ذهن القارئ أن أي انتخابات في
مصر، لا بد أن يستثمر المرشح فيها، كل ما لديه من أوراق وعلاقات اجتماعية تقليدية،
كالعصبية والجهوية والطائفية، فضلا عن استغلال المال السياسي المشبوه في حشد
قطاعات متنوعة من المجتمع. ويترتب على ذلك أن التحالف الذي سيدّعي أنه مهني، ثم
يعود فيجلب الأصوات الانتخابية من الفئات الاجتماعية المتناقضة معه في الأهداف
والمصالح، إنما يمارس خلطًا شديدا للأوراق، ويصدر من قاعدة وعي مزيف، وتحركه مصالح
ذاتية أكيدة لا علاقة لها بالعمل النقابي أو حتى المصلحة العامة، المهنية أو
المجتمعية، هنا لا بد أن يفقد تحالف النقابات المهنية مشروعيته وجدواه.
5- تحالف المهنيين، وغيره من التحالفات،
لجني الثمار: ينظر
المتابع في مفاوضات تأسيس التحالفات، بالعجب والدهشة، فالليبرالي والاشتراكي
والقومي والناصري، يقبلون الدخول في تحالف واحد، ودائما ما يصدر عن هؤلاء
المتحالفين أن التحالف يهدف إلى توحيد القوى المدنية ضد الفاشية الدينية، ويتجاهل
هؤلاء أن الناخب المصري، لن يسمح للإخوان ومن حالفهم، بالمرور إلى البرلمان
القادم، سواء كانت هناك تحالفات أم لم تكن. هذا أمر مفروغ منه، ويعرفه رجل الشارع
العادي، وعليه فإن
التحالفات التي تتم، تحصيل حاصل، أقرب إلى فرق الحصاد وجني الثمار، وليست من أجل
توحيد المواقف كما يزعمون.
وترتيبًا على ما سبق، فإن الإعلان عن تشكيل تحالف نقابي مهني، رغم بريقه الذي يدغدغ مشاعر المهنيين، فإنه خطوة لا محل لها في مسار التحول الديمقراطي الصحيح، ويعني مزيدًا من التردي في العمل الحزبي في مصر، ويعني كذلك، أننا أمام حالة من السذاجة السياسية، بحيث يجري دائما استحضار وتكريس الوضع التاريخي السابق، في الوقت الذي يطمح فيه المواطن المصري لعمل قطيعة مع كل النظم السياسية المستبدة التي تحكمت فيه.