الدوافع والأهداف: سقوط عدوان "الجرف الصامد" وتحديات ما بعد "تهدئة القاهرة"
يعد العدوان
الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة الذي بدأ يوم الثامن من يوليو 2014 وحمل اسم
"الجرف الصامد" ولم يستطع الصمود أكثر من 29 يومًا بعد نجاح مصر في
التوصل إلى تهدئة مؤقتة مدتها 72 ساعة، بدأت من صباح الثلاثاء (5 أغسطس 2014)
العدوان الثالث على غزة منذ أن فرضت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"
سيطرتها على القطاع، ولكنه يعتبر العدوان الأخطر من حيث الأهداف والطموحات
الإسرائيلية، ومن حيث حجم الخسائر والتدمير الذي لحق بالقطاع، لكنه، وهذا هو الأهم
سوف يكون الأهم من منظور الدروس المستخلصة خاصة من الجانب الإسرائيلي الذي بدأ
يعيش "الصدمة" من جراء الفشل الذي تأكدت ملامحه في القدس، في ذات اللحظة
التي جرى فيها التوصل إلى اتفاق التهدئة المؤقتة ومع وصول وفد إسرائيلي إلى
القاهرة لإتمام اتفاق التهدئة على أمل أن تقود هذه التهدئة إلى هدنة أطول وإلى
مسار جديد للتسوية.
فقد شهدت القدس
المحتلة عمليتين استشهد في إحداهما فلسطيني وقتل إسرائيلي وجرح خمسة آخرون، وفي
العملية الثانية جرح ضابط إسرائيلي في إشارة عميقة الدلالة مفادها؛ أن ما حدث من
جرائم إسرائيلية في قطاع غزة واستهدف فرض "السلام الإسرائيلي" على
القطاع ظنًا من المحتلين أنهم أخضعوا الضفة الغربية والقدس ولم يبق غير القطاع
لفرض مشروعهم للسلام لم يكن أكثر من وهم، فالضفة والقدس لم ولن تستسلما، كما أن
قطاع غزة سيبقى عصيًا على الهزيمة وستبقى أهداف العدوان الإسرائيلي المستمر على
الشعب الفلسطيني محض خيالات.
أولا:
الجرف الصامد: دوافعه وأهدافه
إذا كان عدوان
"الجرف الصامد" قد فشل ولم يحقق أهدافه الحقيقية، فإن السؤال الذي سيظل
يطارد قادة الكيان الصهيوني وحلفاءهم الأمريكيين والأوروبيين هو: لماذا تورطت
إسرائيل في هذه الحرب، وبالذات لماذا تورطت في اجتياح بري لقطاع غزة تعرف نتائجه
مقدمًا؟
سوف يتلعثم حتمًا
قادة هذا الكيان الصهيوني عند الإجابة، لكنهم سيدافعون حتمًا عن أنفسهم بتقديم
قائمة من الدوافع والمحفزات التي تصوروا أنها كافية لتبرير هذا العدوان. لكن أيًا
كانت إجاباتهم، فإن أربع حقائق ستبقى تمثل الخلفية الأهم لهذه الجولة من الصراع
الصهيوني من الشعب الفلسطيني.
الحقيقة
الأولى، المكون الإدراكي الصهيوني لجوهر الصراع في فلسطين باعتباره صراع شعبين على
أرض واحدة، وأن إنهاء هذا الصراع لن يكون إلا عبر مشروع "شعب واحد لأرض
واحدة" أي أن الصراع في جوهره صراع بقاء ووجود أي من الشعبين المتصارعين على
أرض فلسطين، إما أصحاب الأرض الحقيقيون وهم عرب فلسطين من مسلمين ومسيحيين ويهود،
وإما هؤلاء الوافدين من المستعمرين الوافدين من كل أرجاء الأرض لإقامة دولة يهودية
في فلسطين.
هذه الحقيقة
أكدها الآباء المؤسسون للدولة الصهيونية، وجدد بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة
الحالي تجديدها في تبريره لحيوية وحتمية تحويل "إسرائيل" إلى "دولة
يهودية" عندما أكد أن الصراع في جوهره ليس مجرد صراع على حدود أو قضايا فرعية،
ولكنه صراع الدفاع عن الشعب اليهودي في "أرض إسرائيل". فهو يعتبر أن
الإسرائيليين هم أصحاب الأرض الحقيقيون من خلال الاستناد إلى مقولات وأكاذيب
منسوبة للتوراة، وأن عرب فلسطين هم الدخلاء.
هذه الرؤية
للصراع التي تبرر كل الوحشية التي يخوض بها الإسرائيليون الحرب على قطاع غزة الآن،
وبالذات تعمد استهداف المدنيين يمكن التعرف على خلفياتها العقائدية من نصوص كتبها
كبار مؤسسي ومنظري الدولة الصهيونية وعلى رأسهم جابوتنسكي أحد أهم هؤلاء منظري
التطرف الصهيوني (أوكراني الأصل) الذي كتب قبل قيام إسرائيل بنصف قرن تقريبًا يقول
إن "السبيل الوحيدة التي يجب أن يقوم بها كيان لليهود في الأرض العربية هو
القوة الكاسحة ولا سبيل غيرها". وفي تفصيله لهذه الرؤية أوضح أن "على
اليهود أن يمتلكوا قوة تهزم أهل البلاد الأصليين (اعتراف مسبق بأن العرب هم أهل
البلاد الأصليين على عكس الأدبيات الإسرائيلية الحديثة التي تروج لأكذوبة أن
اليهود هم أصحاب الأرض الحقيقيون)، بإقامة جدار حديدي يحميهم من مقاومة شعب
فلسطين".
كان جابوتنسكي
واعيًا بأن الشعب الفلسطيني سيقاوم موجات الغزو الاستيطاني اليهودي على أرضه، ومن
هنا ابتدع فكرة "الجدار الحديدي" والتي تقول إنه "في نهاية المطاف
سوف يستسلم الفلسطينيون والعرب بسبب قوة إسرائيل ويخضعون لها ولشروطها، وعندما
يوقن الفلسطينيون والعرب أنهم ضعفاء ولا يمكنهم مقاومة إسرائيل، سوف يقبلون
بالسلام الذي تفرضه عليهم".
نتنياهو قرر
العدوان على غزة وقرر مع وزارته المصغرة صاحبة قرار الحرب التورط في الغزو البري
للقطاع أملًا في اجتثاث جذور المقاومة الكامنة داخل القطاع.
الحقيقة
الثانية، أن هذه الجولة من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والتي تحمل اسم
"الجرف الصامد" جاءت في أعقاب فشل جولة مفاوضات بين الحكومة الإسرائيلية
والسلطة الفلسطينية أشرف عليها وزير الخارجية جون كيري، الذي كان يطمح في إنجاح
تسوية "حل الدولتين" انطلاقًا من قبول السلطة وجامعة الدول العربية
(للأسف) لمبدأ "تبادل الأراضي" الذي يسمح لإسرائيل عدم الانسحاب من
مستعمراتها في القدس الشرقية والضفة الغربية والاحتفاظ بها مقابل تعويض
الفلسطينيين بأراض أخرى في صحراء النقب. فشل هذه الجولة التفاوضية كان سببه
الأساسي أن بنيامين نتنياهو كان يخطط لإفشال فكرة أو مشروع "حل
الدولتين" أي إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وكان يعد لفرض الدولة
اليهودية الموسعة انطلاقًا من الأفكار التي كان قد أرساها مؤتمر عقد قبيل هذه
الجولة التفاوضية كان عنوانه "دولة واحدة لشعب واحد" أي أنه لا تقسيم
للأرض إلى دولتين بل أن الأرض كلها هي دولة الشعب اليهودي، ودولة كل يهودي يعيش في
أي دولة أخرى في العالم من خلال إطلاق دعوة "المواطنة الإسرائيلية لكل يهودي
العالم". لذلك فإن العدوان الحالي على غزة جاء ليحقق بالحرب ما لم تستطع
إسرائيل تحقيقه بالتفاوض.
ثالث هذه
الحقائق أن هذا العدوان جاء بمثابة رد استباقي للحيلولة دون اندلاع انتفاضة
فلسطينية ثالثة كانت مؤشراتها قد بدأت تتبلور داخل الضفة الغربية بسبب تراكمات
العدوانية والغطرسة "الإسرائيلية" والرد على العجز الرسمي الفلسطيني
والعربي.
كان اختطاف بعض
النشطاء لثلاثة من المستوطنين اليهود في مدينة الخليل هو البداية لبلورة هذا الوعي
الذي أخذ يتجذر بسبب الحملات التفتيشية المجنونة التي قامت بها قوات الأمن والجيش
الإسرائيليين بحثًا عن المختطفين الثلاثة، الأمر الذي دفع الخاطفين لهؤلاء الثلاثة
إلى قتلهم بعد أن وصلت الجرائم التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية المكلفة بالبحث
عنهم إلى حد يفوق كل تصور، ووضعت نهاية مبكرة لأي أمل في مقايضة المخطوفين الثلاثة
بأعداد من الأسرى الفلسطينيين بعد فشل جولة مفاوضات جون كيري الأخيرة في إجبار
الإسرائيليين على الإفراج عن المزيد من الأسرى، وبعد قيام القوات الإسرائيلية
باعتقال من سبق أن أفرج عنهم من الأسرى في صفقة الإفراج عن الجندي الإسرائيلي
"شاليط"، وقبل عملية اختطاف هؤلاء المستوطنين الثلاثة كان المستوطنون
الصهاينة قد اعتادوا الاعتداء على الفلسطينيين وممتلكاتهم ومزروعاتهم تحت سمع وبصر
وحماية الجيش الإسرائيلي. ففي شهر يونيو الماضي، على سبيل المثال، نفذ المستوطنون
53 اعتداءً شملت دهس فلسطينييْن، والاعتداء على كثيرين، وهدم واقتلاع أشجار وحرق
وإتلاف مزروعات، وتجريف أرض وقد نتج عن هذه الاعتداءات إصابة 16 فلسطينيًا بجروح
وكسور مختلفة. واكتملت الجرائم بقيام ستة من الشباب الإسرائيليين المنتمين إلى
اليمين الديني المتطرف باختطاف شاب فلسطيني في القدس الشرقية يدعى محمد أبو خضير
وتعذيبه وإعدامه حرقًا ثم التمثيل بجثته ببشاعة.
كان خروج مئات
الآلاف من الفلسطينيين في تظاهرات حاشدة في كافة أنحاء ومدن الضفة الغربية وخاصة
في جنازة محمد أبو خضير بالقدس الشرقية المحتلة مؤشرًا مهمًا لإسرائيليين يقول؛ إن
المصالحة الفلسطينية بين السلطة وحركة "حماس" قد يهيئ لانفجارات لا تحمد
عقباها تشمل الضفة وغزة معًا، بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الأمر الذي وفر كل
الذرائع أمام الإسرائيليين لتوجيه ضربة استباقية تحول دون اكتمال هذا التطور وتفجر
انتفاضة ثالثة يمكن أن تغير من قواعد إدارة الصراع الحالية التي تعمل، بالمطلق،
لصالح الكيان الصهيوني.
أما الحقيقة
الرابعة، فهي حقيقة واقع توازن القوى الإقليمي شديد الاختلال الذي يعمل في غير
صالح العالم العربي في ظل "الواقع الخريفي" الذي يجتاح الآن عالم الربيع
العربي وتداعياته، هذا الواقع وفر للإسرائيليين الدوافع الكافية للتقدم لجني ثماره
لصالح أمن ومستقبل الكيان الصهيوني، فالإسرائيليون يدركون أن ظروف الواقع العربي
والإقليمي والدولي باتت مثالية لفرض أمر واقع جديد في فلسطين يضاهي الواقع العربي
شديد الاختلال، ومع الدافع الإقليمي شديد التنافر خاصة بين العرب وإيران وتركيا في
قضايا مهمة أبرزها الأزمة السورية، والتطورات المصرية والمستجدات العراقية،
والدافع الدولي عميق الاستكانة والمهادنة. فهم أدركوا أن المحفزات التي تشجعهم على
شن هذا العدوان محفزات غير مسبوقة، وأن العوائق تكاد لا تذكر، ولذلك فإن هذا هو
أوان فرض مشروع الدولة اليهودية والتوسع في سياسة ضم الأراضي، وجعل أمر هذه الدولة
اليهودية ضمن بنود ما يعتبرونه صفقة إقليمية تلوح في الأفق ربما يكون الاتفاق النووي
الإيراني هو أبرز عناوينها.
فالواقع العربي
الراهن أضحى مأساويًا ليس فقط من منظور اختلال موازين القوة العسكرية بين الجيوش
العربية والجيش "الإسرائيلي" بعد تدمير الجيشين العراقي والسوري،
وانشغال الجيش المصري في حربه ضد الإرهاب التكفيري، ولكنه مأساوي أيضًا نظرًا لأن
التحديات الداخلية في الدول العربية باتت من القوة والخطورة بدرجة تفوق أي تحديات
خارجية وخاصة التحدي "الإسرائيلي". فرهان "إسرائيل" على جعل
حروب الشرق الأوسط داخل الدول، أي داخل كل دولة بدرجة تفوق الحروب بين الدول،
وخاصة الحرب بين الدول العربية و"إسرائيل" تحقق بدرجة كبيرة، ولم تعد
معظم الدول العربية، في ظل المخاطر والتحديات التي تواجهها في الداخل مهمومة أو
معنية بالتحدي "الإسرائيلي" أو الخطر "الإسرائيلي" وأولوية
القضية الفلسطينية حيث تواجه دولًا عربية مهمة خطر التفكك والانقسام الداخلي، وما
يحدث الآن في العراق وسوريا في ظل مشروع "الدولة الإسلامية في العراق
والشام" (داعش) مؤشر مهم على ما يمكن أن يحدث في المستقبل.
الأخطر من ذلك
هو تلك التطورات التي أخذت تفرض نفسها على العالم العربي منذ الغزو والاحتلال
الأمريكي للعراق عام 2003، وتفاقم النفوذ الإيراني في العراق في أعقاب الانسحاب
العسكري الرسمي الأمريكي. فقد حدث انحراف وليس مجرد تحول في مفهوم
"العدو" بالنسبة لدول عربية، وفرضت مفاهيم الشرق الأوسط الجديد
(الأمريكي) نفسها بقوة على مفردات الخطاب السياسي لعدد من الدول العربية. ففي ظل
تصاعد الخلاف بين دول عربية وإيران حول الأدوار الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان
واليمن والبحرين وما يتعلق بالجزر العربية الثلاث المحتلة من إيران (الجزر
الإماراتية الثلاث: طنب الكبرى وطب الصغرى وأبو موسى) سعى
"الإسرائيليون" إلى الاصطياد في المياه العكرة واستغلال "العداوة"
المتصاعدة بين هذه الدول العربية وإيران لطرح "إسرائيل" موازنًا إقليميًا
مناسبًا لهذه الدول في مواجهة إيران، بعد تراجع الوجود الأمريكي وفشل تركيا في أن
تجعل نفسها موازنًا إقليميًا في مواجهة إيران بسبب تعقد المصالح التركية بين إيران
والعرب، وفي ظل تشكك دول عربية في إمكانية تأسيس بديل عربي قادر على موازنة الخطر
الإيراني.
وجاء العامل
الفلسطيني نفسه ليحفّز "الإسرائيليين" على التحرك لاستثمار اختلال توازن
القوى الإقليمي لصالح الكيان الصهيوني، والتحول المتصاعد في خريطة التحالفات
والصراعات في المنطقة ليزيد من قوة الرهان "الإسرائيلي" على أن هذا
الوقت هو وقت "جني ثمار" التفكك العربي والفلسطيني واختلالات توازن
القوى. فالانقسام الفلسطيني وصل إلى مداه، ومصالحة "الشاطئ" التي تحققت
في غزة بين السلطة الفلسطينية وحركة "حماس" وتشكيل حكومة وحدة فلسطينية
لم تغير شيئًا له أهميته في واقع الانقسام الذي يتجلى في غياب المشروع الوطني
الفلسطيني والانقسام حول تفاصيله بين معظم الفصائل الفلسطينية: هل هو تحرير فلسطين
والعودة أم الاستقلال والعودة وتقرير المصير، أم إقامة دولة فلسطينية ضمن الأراضي
المحتلة عام 1967، أم إقامة دولة واحدة لكل مواطنيها أو ثنائية القومية. غياب هذا
المشروع انعكس على مواقف قيادة السلطة الفلسطينية من مشروع السلام وخيار السلام
معدوم الأفق بعد انتهاء السقف الزمني لمشروع سلام أوسلو منذ مايو/ أيار 1999.
كل هذه التطورات
لم تغب لحظة عن العقل الإستراتيجي "الإسرائيلي" تمامًا مثلما لم تغب لحظة
عن هذا العقل أدق تفاصيل مفاوضات البرنامج النووي الإيراني التي تجرَى الآن في
فيينا بين إيران و"مجموعة دول 5+1" والتي يمكن أن تسفر عن حل طويل الأمد
لأزمة البرنامج النووي الإيراني ضمن صفقة تفاهمات شاملة أمريكية – إيرانية، تنهي
سياسة المواجهة والعقوبات الأمريكي ضد إيران، وتعطي لإيران دورًا مدعومًا من
واشنطن في قضايا إقليمية تمتد من الخليج إلى العراق إلى سوريا إلى اليمن ولبنان.
مثل هذه التفاهمات لا تغفل عنها "إسرائيل" وتريد أن تكون طرفًا، هي
الأخرى، في هذه التفاهمات والمقايضات، التي تأمل أن تكون مقايضة البرنامج النووي
الإيراني بتسوية ترضى عنها "إسرائيل" تحقق ما يتحدث عنه الرئيس الأمريكي
باراك أوباما نفسه بخصوص الدولة اليهودية في فلسطين.
ما ورد في
المقال الذي نشرته صحيفة "هآرتس" الصهيونية للرئيس الأمريكي باراك
أوباما تعليقًا على الحرب الإجرامية الحالية التي يشنها الجيش
"الإسرائيلي" ضد قطاع غزة يشجع "الإسرائيليين" على مثل هذا
الرهان وهذه المقايضة، فقد استهل أوباما مقاله بتحليل الأزمة الجيوستراتيجية للأمن
الوطني "الإسرائيلي" من حيث ضيق المساحة والإحاطة بأعداء قادرين على
الوصول بصواريخهم إلى عمق الكيان الصهيوني (صواريخ حزب اللـه وحماس) وخشيته على
"أولئك الذين يسكنون قرب الحدود الشمالية وللأولاد في سديروت" وبعدها
انطلق في تأكيد الالتزامات الأمريكية منذ عهد هاري ترومان إلى اليوم بـ "أمن
إسرائيل ومواطني إسرائيل"، وأن التعاون بين البلدين في السنوات الخمس الأخيرة
(سنوات حكم أوباما) هي اليوم "أقوى مما كانت دائمًا". تحدث أوباما في
مقاله عن الحزن والألم الذي يعتصره والذي يشعر به على "الفتيان الإسرائيليين
الثلاثة الذين اختطفوا وقتلوا على نحو جد مأساوي في شهر حزيران/ يونيو
الماضي" ولم يتحدث بكلمة واحدة عن "الهولوكوست الفلسطيني" الذي
ابتدأه "الإسرائيليون" للشعب الفلسطيني على أيدي ستة من شباب اليمين
اليهودي المتطرف ولم يعلق بكلمة على ما تردده الشرطة الإسرائيلية من توصيف للجريمة
الوحشية، التي ارتكبها المجرمون الستة الذين أحرقوا الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير
حيًا والتمثيل البشع بجثته، باعتبارها ارتكبت "بدوافع وطنية وليس بدوافع
إجرامية" ما يجعل هؤلاء "يستحقون المكافأة وليس العقاب".
الإسرائيليون
يدركون مغزى ما كتبه الرئيس الأمريكي، ويعرفون إلى أي مدى ستقف الإدارة الأمريكية
وراءهم في حال شن عدوان على قطاع غزة هدفه تدمير كل مقومات القوة، وخاصة القوة
الصاروخية، لدى فصائل المقاومة، وفرض واقع سياسي جديد يكون في مقدوره إرغام
الفلسطينيين على القبول بما سبق أن رفضوه في جولة مفاوضات جون كيري الأخيرة
الفاشلة.
وجاء كيري نفسه
ليحمل البشرى لإسرائيل كي تواصل عدوانها بضراوة ضد قطاع غزة، وليحفز قادة الكيان
على التورط في قرار الغزو البري للقطاع. ففي لقاء تليفزيوني مع محطة "إي. بي.
سي" الأمريكية كان جون كيري حريصًا على لقاء كل اللوم على حركة
"حماس" فيما سمّاه بـ "النزاع" وليس "العدوان الإسرائيلي
الغاشم" على قطاع غزة. في هذا اللقاء قال كيري: "عرض عليهم (حركة حماس)
وقف إطلاق النار إلا أنهم رفضوه".
كيري الذي كان
حريصًا على تصوير الجريمة على أنها مجرد "نزاع" بين حكومة
"إسرائيل" وحركة "حماس"، وليس بين "إسرائيل" والشعب
الفلسطيني كله ومعه كل فصائل المقاومة، لم يكتف بذلك لكنه زاد عليه بقوله:
"أن الولايات المتحدة تعتقد أن إسرائيل من حقها الدفاع عن نفسها من الصواريخ
التي تطلق من غزة والهجمات التي تشن عبر الأنفاق".
كيري وضع قواعد
الصراع كالتالي: أن الحل يكون سياسيًا، وأن لإسرائيل أن تفرض شروطها، وإذا تذمر
فلسطينيون وعبروا عن غضبهم بعمليات فدائية يعطيهم القانون الدولي الحق في القيام
بها لتحرير وطنهم المحتل، ينكر عليهم جون كيري ذلك ويعتبرهم معتدين ويعطي لإسرائيل
الحق في الدفاع عن النفس.هذه الرؤية نابعة من إدراك أمريكي يفرض نفسه بقوة ينكر أن
أرض فلسطين وبالتحديد الضفة الغربية وقطاع غزة أرض محتلة، وينكر حق شعب الأرض المحتلة
أن يدافع عن حقوقه، وهذا ما تعرفه إسرائيل، ولذلك أقدمت على ارتكاب جرائم ضد
الإنسانية في حي الشجاعية وأحياء أخرى في قطاع غزة وتتبع إستراتيجية الأرض
المحروقة بعد أن أدركت فشل الغزو البري في تحقيق أهدافه، وبعد أن وجدت أن عدوانها
يتجه كما هي العادة إلى طريق مسدود.
ثانيا:
وماذا بعد الهدنة المؤقتة؟
واضح أن ما سمّاه
عاموس هرئيل بـ "قلة الانجازات" الذي وقف لمدة أسبوعين حجر عثرة حالت
دون قبول الإسرائيليين بوقف عدوانهم المجنون والإرهابي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع
غزة لم يستطع الصمود أمام "فداحة الخسائر" التي أصابت الكيان الصهيوني
الذي كان شديد الحرص على إنجاح المسعى المصري بالتوصل إلى هدنة مؤقتة مدتها ثلاثة
أيام.
فإذا كان شهداء
عدوان "الجرف الصامد" قد تجاوز عددهم 1868 شهيدًا وتجاوز عدد المصابين
9470 مصابًا قبيل الإعلان الرسمي لهدنة الـ 72 ساعة المؤقتة فإنه، وحسب الإحصاءات
الرسمية الإسرائيلية بلغ عدد الضباط والجنود الإسرائيليين القتلى 63، وتجاوز عدد
المصابين الـ 1500 مصاب، لكن ليست هذه هي ما نعنيه بـ "فداحة الخسائر"
فالخسائر الفادحة التي نعنيها هي فشل حكومة العدو في توفير غطاء سياسي يفسر أسباب
العدوان من ناحية وفشلها في توفير أسباب تفسر العجز عن تحقيق الأهداف، وبالذات هدف
فرض واقع سياسي جديد يخرج قطاع غزة ونهائيًا من دائرة المقاومة ويلحقه بواقع الضفة
الغربية وسيطرة سلطة محمود عباس "أبو مازن" ومشروع التسوية الذي فشلت
جولة مفاوضات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الأخيرة أن تفرضه، بمعنى آخر، كانت
مجموعة الصقور داخل الحكومة المصغرة (بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة وأفيجدور
ليبرمان زعيم حزب إسرائيل بيتنا وزير الخارجية، ونفتالي بينيت زعيم حزب
"البيت اليهودي") تريد أن تفرضه بقوة السلاح والعدوان على غزة ما فشلت
أن تفرضه في جولة مفاوضات جون كيري وبالتحديد وضع نهاية معترف بها أمريكيًا لمشروع
"حل الدولتين" وفرض المشروع الإسرائيلي الراهن للسلام "دولة واحدة
لشعب واحد" أي جعل فلسطين كلها دولة لإسرائيل وللشعب اليهودي وحده.
فشل عدوان
"الجرف الصامد" في فرض هذا الحل من خلال العدوان ولم يجد نتنياهو ووزير
دفاعه فرصة أخرى بديلة عن القبول بالهدنة أو بالتهدئة المؤقتة أو الانسحاب غير
المشروط ومن طرف واحد.
فقبل الشروع في
إجراءات التفاوض غير المباشر الذي جرى في القاهرة حول التهدئة المؤقتة بمشاركة
وفود فصائل المقاومة الفلسطينية وبرعاية القاهرة ومشاركة ويليام بيرنز نائب وزير
الخارجية الأمريكي، وروبرت سيري مبعوث الأمم المتحدة، وتوني بلير ممثل اللجنة
الرباعية كان بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية قد أعلن (3/8/2014) بتلعثم
قرار الحكومة الإسرائيلية المصغرة (الكابينت) بإخراج القوات الإسرائيلية من غالبية
الأراضي التي كانت قد احتلتها على شريط ضيق على طول القطاع. وخلافًا لما كان يعلن في إسرائيل عن
إمكانية البقاء في الأراضي التي تقدمت فيها هذه القوات وإنشاء "حزام
أمني"، تقرر الانسحاب جزئيًا والبقاء في مواضع مطلة وقليلة الاحتكاك مع
المقاومة.
ولم يخف
نتنياهو في رده على الأسئلة في المؤتمر الصحافي أن دواعي إعادة الانتشار عملانية، وأنها لتقليص الخطر الذي يحيق
بالجنود الإسرائيليين العاملين هناك. وليس مستبعدًا أن هذه الخطوة التي خالف فيها
نتنياهو نهم اليمين الإسرائيلي وقادته، تلبي أيضًا مطالب دولية تخشى من كارثة
إنسانية تحيق بالقطاع وأهله. لكن من الواضح أن الخطوة الإسرائيلية كانت منسقة أيضًا
مع قوى إقليمية متفقة حول وجوب منع حركة حماس من تحقيق إنجازات لها أو لأهل قطاع غزة عن طريق فك الحصار.
وفي كل حال،
قال نتنياهو: "لا أقول متى ننتهي وكيف سنذهب. لا التزام لنا سوى بمصالحنا
الأمنية. نحن سننتشر في الأماكن المريحة لنا كي نقلص احتكاك جنود الجيش الإسرائيلي".
وعنت كلماته هذه الشيء ونقيضه، لكن الجميع عرف أن القرار هو العمل على إنهاء العملية البرية لمنع المزيد من الخسائر في صفوف الجيش بعدما غدا
الثمن باهظًا.
لم يكن الدافع
لذلك هو فداحة الخسائر البشرية فقط، ولكن القصة أعمق من ذلك بكثير، إنها قصة
الخوف من فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أية أهداف قد توضع له عدا التدمير. وليس مصادفة
أن أحد كبار المعلقين الأمنيين الإسرائيليين، أمير أورون، تساءل إذا كان الجيش
الإسرائيلي في "الجرف الصامد " هكذا فكيف سيكون في "الجرف
الإيراني" مثلًا؟
كتب ناحوم بارنيع
في "يديعوت أحرونوت" بعنوان "اخرج يا نتنياهو"، إن المؤتمر
الصحفي الذي عقده نتنياهو ووزير الدفاع موشي يعلون في مقر هيئة الأركان في تل
أبيب (2/8/2014)، كان يهدف إلى إعلان النصر والقول: "نجونا: انتهت العملية.
وقُضي على حماس. وعاد الهدوء. وعادت قواتنا الى الوطن بسلام.
وأُقيم وراء رئيس الوزراء ووزير الدفاع صف مزدحم من أعلام الدولة. وقد قالت
الأعلام إن الحال حال عيد، لكن وجهي الاثنين عبَّرا عن التاسع من أغسطس/ آب (يوم
خراب الهيكل). قام نتنياهو بتأخير ظهوره 20 دقيقة بسبب الكلام الذي قاله أبناء
عائلة الضابط المخطوف هدار جولدن. فقد طلب أبناء العائلة علنًا ألا يخرج الجيش الإسرائيلي
من القطاع ما بقي ابنهم حيًا أو ميتًا، في يد حماس. ولم يستجب نتنياهو ويعلون
للطلب، لكنهما اضطرا إلى إعادة كتابة خطبتيهما، فتحول نتنياهو عن إعلان بخروج قوات
الجيش الإسرائيلي من القطاع من طرف واحد إلى جُمل غير واضحة وغير مُلزمة مثل كل
الخيارات على الطاولة. حينما يقول الأميركيون هذا عن إيران نعلم أنه
لا خيارات ولا طاولة وأن كل شيء كلام. ونشك في أن تكون لنتنياهو خيارات".
والحقيقة أنه
فور الإعلان يوم الجمعة (1/8/2014) عن أسر الضابط الإسرائيلي هدار جولدن الذي
عمدت إسرائيل بعد ذلك إلى تسيير جنازة له، هاجت الحلبة السياسية وماجت مطالبة
برأس غزة. لكن اجتماع
الكابينت بعد العملية ناقش الأمر، وبعد نقاشات صاخبة قرر عدم التعامل مع الأسر
كحدث إستراتيجي، بل كحدث تكتيكي قد يقع في كل حرب. وخلال ساعات قليلة تغيرت
الأسطوانة: بدلًا من حدث يغير قواعد اللعبة صار "حدثا لا يغير اللعبة".
ويبين عاموس
هارئيل، المراسل العسكري لـ"هآرتس" أن القرار الإسرائيلي يعني الانسحاب
من طرف واحد من دون تسوية، وهذا يعني العودة إلى مراحل سابقة حين كانت إسرائيل
ترد على كل إطلاق بهجمات جوية من دون قتال بري. وفي نظر هارئيل،
فإنه بعد إعلان أسر الضابط اجتمع المجلس الوزاري المصغر في أجواء ضغط عام متزايد.
وأشارت
استطلاعات الرأي قبل ذلك أيضًا إلى تأييد لتوسيع العملية يزيد على 80 في المائة. ومع ذلك كله عرض رئيس الوزراء ووزير الدفاع
وكبار قادة الجيش موقفًا متشابهًا وهو أن العملية لعلاج الأنفاق قريبة من
استنفادها، ويحسن في الظروف الحالية بسبب إدراك أن عملية برية عميقة ستزيد في عدد
خسائر الجيش الإسرائيلي، يحسن الانسحاب من القطاع وإعادة نشر القوات قرب الحدود.
وأضاف هارئيل،
أنه بحسب الخطة العسكرية، سيستمر تقليص القوات على الأرض حتى الاستيلاء على مناطق سيطرة على مسافة غير كبيرة غربي السياج الحدودي في داخل الأرض
الفلسطينية. ويوجد لذلك تعليل هو الرغبة في الحفاظ على قوة ضغط على حماس كي توافق على هدنة منظمة.
وهكذا انطلق
الجيش الإسرائيلي في تأييده قرار الانسحاب الجزئي من طرف واحد إلى قاعدة وجوب عدم
مواصلة المشاركة في لعبة حماس التي هدفها جذب إسرائيل إلى داخل القطاع وتوريطها
بعملية برية عميقة، وعليه ينبغي القرار من طرف واحد بإعادة الانتشار.
واعتبر المجلس
الوزاري أن خطوة من طرف واحد تبقي حرية العمل لإسرائيل وتسمح للجيش الإسرائيلي
بضرب زعماء حماس حين يخرجون من مكان اختبائهم في غزة . ويذهب البعض للاعتقاد بأن هذه الخطوة تسمح لإسرائيل التقدم في العملية
السياسية مع السلطة الفلسطينية على قاعدة محاولة عزل حماس وهو ما تريده السلطة والدول
العربية المعتدلة أيضًا.
ولكن التسوية
السياسية التي اندفع كثيرون، حتى في إسرائيل، للمطالبة بحثها تصطدم أصلا بواقع
حكومة نتنياهو والائتلاف الذي تستند إليه وربما أيضًا إلى مزاج الجمهور الإسرائيلي
الساخن والمطالب بالثأر تحت وطأة ما يعتبره هزيمة إسرائيلية غير مستعدين للاعتراف
بها.
فالواقع يقول
الآن؛ إن "الهزيمة" أو "الاعتراف بالهزيمة" هو الخيار الأدق
لتوصيف القبول الإسرائيلي بالتهدئة المؤقتة كانت هناك أربعة خيارات نظرية يجرى
الحديث عنها قبيل توجه الوفد الإسرائيلي للقاهرة للقبول بالتهدئة التي ترعاها مصر
وللإقرار، وهذا هو الأهم، بما يتداول الآن من أفكار ما بعد التهدئة وبالذات المطالب
التي قدمتها فصائل المقاومة الفلسطينية بشكل موحد إلى الجانب المصري كأساس لأي
تهدئة دائمة أو شبه دائمة والتي أعلن الفلسطينيون أنهم وجدوا تفهمًا مصريًا صريحًا
بشأنها.
كان
الإسرائيليون يفكرون في خيار إنهاء الحملة من طرف واحد مثل إنهاء حملة
"الرصاص المصبوب" عام 2009، وكانوا يفكرون في وقف نار متفق عليه والوصول
إلى ترتيب (مثل إنهاء حملة "عامود السحاب" عام 2012.
أما الخيار
الثالث، فكان تعميق الحملة من الجو ومن البر لمواصلة الضرب الشديد لحماس أي للبنية
العسكرية لحماس وأخيرًا تداولوا في خيار احتلال القطاع وإسقاط حماس. هذه الخيارات
الأربعة تداعت بحكم الأمر الواقع تحت وطأة الواقع الذي فرض التهدئة وتحت ضغوط
مطالب المقاومة الفلسطينية التي استطاعت بتوحدها وصمودها والرد بقوة على العدوان
أوجعت المعتدي. فقد اتفقت وفود فصائل المقاومة التي حضرت إلى القاهرة جميعها وخاصة
حركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
والجبهة الديمقراطية على أربع نقاط، أكد الدكتور ماهر الطاهر عضو وفد الجبهة
الشعبية لتحرير فلسطين تفهم مصر لها هي انسحاب القوات الإسرائيلية، إنهاء الحصار،
الإفراج عن الأسرى الذين تم اعتقالهم من صفقة شاليط، الإفراج عن النواب
الفلسطينيين المعتقلين، والإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى، والبدء في إعادة إعمار
قطاع غزة الذي جرى تدميره.
هذه هي مطالب
المقاومة التي ليس من بينها أي إقرار بأي مطلب إسرائيلي، والتي منها سيبدأ البحث
في مستقبل التسوية ليست كما تريدها إسرائيل، أو كما كانت تخطط لها، ولكن كما فرضها
واقع ما بعد "الجرف الصامد" الذي فرض حقائق جديدة من أبرزها أن الصامد
الوحيد هو الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة الذي لن يستطيع أي عدوان أو أي تواطؤ
أو أي تآمر أن ينال منها.
هذا
المقال جزء من دراسة نشرت في العدد 9 من مجلة آفاق سياسية