المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

فتنة الموصل: من غربة التاريخ إلى تهديد الوجود والحضور السياسى

الأربعاء 13/أغسطس/2014 - 11:08 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
نبيل عبد الفتاح

تشكل عملية التهجير القسرى لمسيحيى الموصل، وتدمير دور العبادة التاريخية ذروة التراجيديا الدينية والسياسية والاجتماعية للدول والمجتمعات العربية فى المشرق، وتعبيراً دامياً لسعى داعش إلى تفريغ العراق – ومعها سورية- من أحد أبرز المكونات الروحية التاريخية والإنسانية والثقافية للمنطقة قبل الإسلام وبعده.

 إن نزعة الاستئصال لدى بعض المنظمات الإسلامية السلفية الجهادية، تمثل التعبير الأكثر تطرفاً للعقل النقلى السلفى الجهادى فى إعادة إنتاجه لمنظومة من الأفكار الفقهية الماضوية إزاء الآخر الدينى عموماً، والمسيحيين العرب على وجه الخصوص. إن حالة الاضطراب السياسي، والأمنى وعدم اليقين التى اعترت الإقليم العربى عقب بعض الانتفاضات الجماهيرية "الثورية" المجهضة، فتحت أبواب مخزون من الخوف التاريخى لدى المكون المسيحى البنيوى فى تركيبة بعض المجتمعات العربية المتعددة دينياً وعرقياً ومذهبياً وأدت إلى انكشاف وتعرية فائض التمييز إزاء بعض المكونات الدينية والمذهبية فى المنطقة على أساس المعيار الدينى والمذهبى والعرقي، واستمرارية نمط من الإقصاءات السياسية وحجب بعض المكونات فى المشرق العربي، والسودان ومصر من المشاركة الفعالة فى العمل السياسى والوصول للمواقع القيادية، إلا على نحو محدود واستثنائى فى بعض الأحيان.

بدأت موجات الهجرة للمكون المسيحى من الفئات الوسطى – مع أقرانهم من بعض المسلمين- على نحو ترافق مع تزايد ظاهرة المدّ الإسلامى السياسي، وظهور بعض المنظمات السياسية الإسلامية الراديكالية، ونزوعها المتشدد إيديولوجياً، وفى ممارسة العنف ذى السند والوجوه الدينية والطائفية لاسيما بعد الغزو الأمريكى للعراق، ثم عقب الانتفاضات الشعبية، فى سورية ومصر وانعكس ذلك على الإقليم المضطرب.

بعض الإحصائيات الدالة فى ظل شحُ البيانات ذهبت إلى أن عدد المسيحيين السوريين عام 1980 وصلوا إلى 16.5%. وقدرت وزارة الإعلام السورية هذه النسبة بـ 13.5% عام 1982.

وثمة من يرى من الباحثين أن الصراع الداخلى بين النظام السورى البعثى وبين جماعة الإخوان منذ عام 1980 أدى إلى هجرة أعداد كبيرة من المسيحيين السوريين وتقلصت نسبة حضورهم إلى المجموع السكانى من 16.5% إلى 10.8%، ثم تناقصت هذه النسبة مع الانتفاضة الشعبية والحرب الأهلية وممارسات النصرة وداعش الدامية ووصل عددهم إلى 4.5%. والبعض الآخر يرى أنها وصلت إلى أدنى من 6%. إن ظاهرة هجرة موجات تلو الأخرى من المسيحيين العرب إلى خارج بلدانهم، هى الوجه الاخر لتآكل تقاليد وثقافة التعايش الدينى والاجتماعى المشترك فى دولة ما بعد الاستقلال الطغيانية، والتسلطية، وفشلها التاريخى فى بناء أسس للتكامل الوطنى بين المكونات الأساسية الدينية والمذهبية والعرقية والقومية والمناطقية فى إطار المجتمعات الانقسامية – الموازييك - Fragmented societies، فى العراق، وسورية، ولبنان، والأردن إلى حدّ ما، والسودان.

ثمة غياب فى العقل السياسى والوعى شبه الجمعى للإحساس السياسى العميق بالخطر لدى النخب السياسية على اختلاف تكويناتها

إن تراجع نسبة المكون المسيحى العربى فى التركيبة السكانية من 20% فى مفتتح القرن الماضى إلى 5%، تشير إلى مخاطر جمة ألمت بالوجود المسيحى وانعكاساتها السلبية على حيوية هذه التركيبة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وأدت ولا تزال إلى حالة من الخصاء والخواء الروحى والفكرى وتآكل الرموز وشروخ المخيلة الجماعية المشتركة بين أبناء هذه المجتمعات على تعددها، وتباين تكويناتها ومساراتها.

منذ الغزو الأمريكى للعراق، وبعد الانتفاضات الثورية الشعبية تمدد الخوف داخل الكتل المسيحية وغيرهم من مكونات التعدد الديني- والمذهبى والعرقي، وتزايد قلقهم الجماعى والوجودى الذى يمس حضورهم التاريخى المائز فى الأنسجة الثقافية والروحية والانسانية فى منطقتنا، لاسيما فى ظل صعود بعض الجماعات الإسلامية السياسية إلى الحكم فى تونس ومصر – قبل أحداث 30 يونيو وما بعد، واتساع نطاق العنف المفتوح الذى تمارسه الجماعات السلفية، والسلفية الجهادية – القاعدة والنصرة وداعش- فى العراق، وسورية، وتمدد بعض آثارها إلى لبنان فى عرسال أخيرا، وعقب فوضى انهيار الدولة فى ليبيا، وكذلك الأمر حدثت بعض من آثاره العنيفة فى تونس، والجزائر.

أحد أخطر مظاهر الخطر على الوجود المسيحى العربى يتمثل فى حالة اللامبالاة التى تظهر لدى غالب الإسلاميين السياسيين الحركيين، ومنظماتهم، ومعهم السلطات الانتقالية- أياً كان السجال حول سند حضورها فى السلطة ومدى شرعيته السياسية- بالمخاطر الأنية والمستقبلية على الوجود المسيحى فى قلب المنطقة، ومدى انعكاسات ذلك "الكارثية" على ثقافاتها، وعلى الروح الجمعية لشعوبها، بالإضافة إلى ما يولده الانحسار والتقوقع لهذه المجموعات الحيوية فى التكوين الاجتماعى والثقافى والتاريخي،من نكوص مؤلم للمسيحيين وغيرهم – من الأقليات الأخري- إزاء سياسة إقصائهم أو التمييز ضدهم بكل آثار ذلك السلبية على حيوية وحركية وتفاعلية ، المجالات العامة السياسية والثقافية والدينية، وعلى نمو وتطور الحياة الاقتصادية فى هذه المجتمعات.

 

ثمة غياب فى العقل السياسى والوعى شبه الجمعى للإحساس السياسى العميق بالخطر لدى النخب السياسية على اختلاف تكويناتها، ناهيك عن اضمحلال أو على الأقل تآكل أو تشوش وغموض الذاكرة التاريخية للأجيال الجديدة عموماً، وفى إطار تكوين النخب السياسية والدينية خصوصاً للأدوار التاريخية التى لعبها المسيحيون العرب وغيرهم فى حركة النهضة، والسياسة والاستقلال فى العالم العربي. هذا الغياب للحس التاريخى الفعال مرجعه العديد من الأسباب التى أشير إلى بعضها فيما يلى:

1- نمط التنشئة الدينية السائد فى التعليم الدينى ومفاهيمه وتأويلاته والنزوع إلى المحافظة والتشدد تحت ذرائع ضرورات التكوين الدينى العقائدى والشريعى والوعظى والدعوى للطالب المسلم.

2- إغفال دراسة المراحل التاريخية المسيحية فى مناهج التاريخ الرسمية المقررة فى مراحل التعليم ما قبل الجامعي، لاسيما المرحلة القبطية فى مصر. الأمر الذى أدى إلى جفوة سوسيو- نفسية بين المسيحيين وبين التاريخ الجامع لمجتمعاتهم، بالإضافة إلى لواذُ بعضهم بالتاريخ الكنسي، أو بعض الكتابات التاريخية الانكفائية والنظيرية حول الذات الدينية والمذهبية والطائفية، وتأسيس مفاهيم مغلوطة حول الأمة وفق مفهوم دينى وطائفي، كالأمة القبطية والمارونية وتأسيسها على تواريخ الجماعة أو الطائفة الخاصة ومثلها لبنان، وسورية، والعراق، ومصر، والسودان، والجزائر والمغرب.

لعب المسيحيون العرب منذ نهاية القرن التاسع دورًا فعالاً فى عمليات نقل المجتمعات والثقافة العربية ووعى النخب من الفضاءات التقليدية إلى دعم التحول إلى العالم الحديث.

3- إن الدولة الشمولية البعثية فى سورية والعراق- بعد الاستقلال- والتسلطية فى مصر بعد ثورة يوليو 1952، أعادت كتابة التاريخ الرسمى لكل بلد على نحو مبتسر وانتقائى وسطحي، وأصبح جزءاً من الخطاب الإيديولوجى الشعبوى للنظام ونخبته الحاكمة.

4- ساهمت الصراعات الدينية والطائفية والعنف المحمول عليها إلى تمركزات مسيحية حول الذات الجماعية، وتاريخها الخاص ومحمولاته وأساطيره وحقائقه ولاهوته ومورثاته، وذلك تحت حراسة مؤسساتها الدينية.

5- ساهمت سياسات التعبئة والهوية المغلقة كأحد مكونات الإيديولوجيات الدينية السياسية إلى إقصاءات رمزية للمكون المسيحي، وغيره من المكونات الأخرى غير المسلمة أو العربية من هذا النمط الأحادى والساكن لمفهوم الهوية كما تطرحه بعض الخطابات الإسلامية السياسية والراديكالية، والذى يتسم بالتمحور على متغير دينى وتاريخى ماضوي، وكأن مفهوم الهوية وعناصره وتخييلاته وسياقاته التاريخية والتكوينية أعطى لمرة واحدة، وعلى نحو سرمدى فوق المكان والزمان والبشر والجغرافيا والسياسة والمصالح والحكام والنخب ورجال الدين، ومن ثم لا يتغير ولا يتطور، والأخطر عدم اعتباره مفهوماً نسبياً وحديثاً ومعاصراً وما بعدي، وينطوى على عديد المكونات والأبعاد، والتغيرات والتحولات بوصفه دينامياً وتفاعلياً وتاريخيا بامتياز، ومن ثم غير مقدس أو مطلق كما يطرح فى بعض الخطابات الأيديولوجية المغلقة.

إن موجات العنف الدينى والاجتماعى والسياسى المتتالية تاريخياً والموجهة ضد المكونات المسيحية العربية، وغيرها فى المنطقة، تشير إلى الذاكرة الجماعية المثقوبة التى تتمدد وتنكسر وتتشظى فى بعض البلدان، وتتناسى أن الوجود المسيحى وغيره يمثل أحد المكونات العضوية فى التركيب التاريخى للمنطقة قبل الإسلام وبعده، وأنهم لعبوا أدواراً مهمة فى تاريخهاً الحديث والمعاصر. إن آفة النسيان والفشل السياسى التاريخى المستمر للدول ونخبها الحاكمة وآخرين، ومن ثم يبدو ذلك أحد ملامح تعامل بعض النخبة السياسية الحاكمة المعتلة معهم فى اطر دولة ما بعد الاستقلال فى العراق، والسودان على سبيل المثال..

 

أولا- الدور البارز للمسيحين في المجتمعات العربية

إن إطلالة سريعة على الأدوار التى لعبها المسيحيون العرب منذ نهاية القرن التاسع تشير إلى دورهم الفعال فى عمليات نقل المجتمعات والثقافة العربية ووعى النخب من الفضاءات التقليدية إلى دعم التحول إلى العالم الحديث. ويمكن لنا إيجاز هذه الأدوار فيما يلي:

1- دور الوسيط التاريخى بين المنطقة، وبين الغرب الأوروبى من خلال عمليات الترجمة والنشر لبعض المؤلفات الأدبية والفلسفية والسياسية وهو أمر تراجع منذ عقود مع ثورة المعلومات والاتصالات والوسائط المتعددة، وتراجع هذا الدور مع انتشار تعليم اللغات الأجنبية الكبري.

2- المساهمة مع أشقائهم المسلمين فى بناء الدولة الحديثة، لاسيما فى الحالات المصرية واللبنانية والسورية وفى تكوين النخب، وعملية بناء سلطاتها وهندساتها ومؤسساتها، وذلك من خلال توظيف خبراتهم، و تعليمهم الأجنبي.

3- مساهمة المؤسسات الدينية المسيحية والإرساليات الأجنبية. فى مجال التعليم وتأسيس المدارس وتعليم اللغات الأجنبية، وفى ريادة تعليم الفتيات، وإنشاء المستشفيات.

4- إنشاء الصحف والمجلات ودور النشر فى مصر ولبنان وسورية.

5- المساهمة الفعالة فى تأسيس المسرح الحديث والتمثيل، والغناء والموسيقى والفنون التشكيلية والتصميم المعمارى مع أقرانهم من المسلمين لاسيما فى مصر ولبنان وسورية والعراق.

6- تطوير يريد إحياء اللغة العربية وآدابها على نحو ما قام به السريان فى لبنان وسورية.

 

7- تأسيس المصارف والشركات والمصانع، والعمل فى الزراعة والتجارة والمهن والحرف ومن ثم أسهموا فى تطوير الاقتصادات فى هذه المجتمعات من التقليدى إلى شبه الحديث أو الحديث المبتسر قبل دولة الاستقلال وفى ظلها ومع تطوراتها الاقتصادية و"التنموية" وبعدها. مع ملاحظة تراجع بعض أدوارهم فى ظل النظم الانقلابية والعسكريتارية وقواعدها الطائفية والمذهبية والمناطقية، وتبنى بعض النخب الحاكمة نموذج رأسمالية الدولة فى عقد الستينيات من القرن الماضي، ثم عودة دورهم فى مصر- على سبيل المثال- بعد سياسة الانفتاح وسياسات إعادة الهيكلة، والإصلاح الاقتصادي، والعودة إلى اقتصاد السوق.

8- إن الحضور المسيحى وغيره فى الحياة الاجتماعية شكل رافعة ودينامية وحيوية فى الحياة الاجتماعية فى تفاعلهم مع "مواطنيهم" المسلمين وغيرهم.

لعب المسيحيون العرب دوراً مميزاً فى تحفيز الوعى الجماعي، بالفكرة القومية العربية الجامعة وضرورات الوحدة العربية، وذلك كمسعى للتحرر من نيّر الحكم العثماني

9- كانوا طرفاً رئيساً فى المثال المصرى مع أخوتهم المسلمين فى إطار العمليات التاريخية لتكوين الأمة الحديثة، وذلك من خلال مشاركتهم النشطة فى إطار الحركة القومية الدستورية المعادية للاستعمار الغربي، ومساهمة بعضهم فى بلورة الفكرة القومية المصرية والتأسيس لها، وبعضهم الآخر ولأسباب ذهب وراء التنظير لفكرة الأمة القطبية كأحد تعبيرات بدايات الشروخ فى بنية الاندماج القومى المصرى فى نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضي.

10- لعب المسيحيون العرب- فى لبنان وسورية والعراق- دوراً مميزاً فى تحفيز الوعى الجماعي، بالفكرة القومية العربية الجامعة وضرورات الوحدة العربية، وذلك كمسعى للتحرر من نيّر الحكم العثماني. هذا الدور التبشيرى الطليعى كان بالغ الأهمية فى إشاعة الوعى بالفكرة العربية الجامعة لدى نخب كبار التجار والعائلات الكبيرة، ثم بعدئذ لدى الفئات الوسطى – الوسطى فى مرحلة ما بعد الاستقلال. كميشيل عفلق فى سورية، وطارق عزيز فى العراق، وكمال الشاعر فى الأردن على سبيل التمثيل لا الحصر.

11- مشاركتهم فى تشكيل وقيادة بعض منظمات المقاومة، الفلسطينية لاسيما فى أعقاب هزيمة يونيو 1967، وعلى سبيل المثال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش.

12- دورهم الفاعل فى مجال التعليم العام والجامعى فى مصر والمشرق العربي.

إنها محض أمثلة على الحضور المسيحى البارز مع أقرانهم المسلمين فى المنطقة، من أجل تطوير مجتمعاتهم وتحديثها، ومن الملاحظ أن هذه الأدوار تراجعت، وتم تهميش وتقليص أدوارهم فى الحياة السياسية لاسيما فى مصر والسودان، وذلك لعديد الأسباب ومنها:

أ- تصفية الطبقة السياسية المصرية بعد ثورة يوليو 1952، وتطبيق قوانين التأميم والإصلاح الزراعي. من ناحية أخرى لم يشارك فى نخبة الضباط الأحرار وتنظيمهم سوى ضابط واحد برتبة ملازم من الصف الثالث.

 

ب- استخدام الدين فى بناء شرعية النظم السياسية، وما ترتب على ذلك فى الخطابات السياسية، وبعض السلبيات فى سياسة التوظيف فى الأجهزة الحكومية والمراكز القيادية فى الوظائف العامة.

ج- انتشار موجات العنف الطائفى إزاء المسيحيين مع الموجات الإسلامية الراديكالية، وصعود الأصولية الإسلامية السياسية ومنظماتها فى المنطقة. فى هذه الأطر والسياقات استهدفت عمليات العنف الأشخاص ودور العبادة والممتلكات الكنسية والخاصة. ويعود ذلك إلى تبنى جماعات العنف منظومة من الأفكار الفقهية، التفسيرية والتأويلية المتزمتة والمحافظة حول نموذج أهل الذمة وعقده التاريخى الذى انتهي، والأخطر شيوع ثقافة كراهية الآخر المسيحي، والخلط بين المسيحيين العرب وغيرهم، وبين المسيحية الغربية، وهو أمر غير دقيق وينطوى على بعض المبالغات. يمكن القول إن الانتفاضة الثورية فى 25 يناير 2011 أسهمت فى تبلور موقف جديد حيث أدى دعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى لجماعة الإخوان المسلمين، إلى مشاركة فعالة للأقباط فى مصر فى أحداث 30 يونيو وما بعدها، وفى العملية السياسية الانتقالية الثالثة، والمشاركة فى اختيار وانتخاب رئيس الجمهورية السيد عبدالفتاح السيسى وفى ظهور خطاب قبطى نقدى وحاد للولايات المتحدة بعضه نخبوى وشعبي.

 

ثانيا- حجب الحضور وأزمة القلق

إن نظرة تاريخية وسوسيولوجية وسياسية أكثر عمقاً تشيرُ لانتقال المسيحيين العرب وغيرهم من حالة حجب الحضور إلى أزمة القلق والخوف الجاثم حول الحضور التكوينى وكينونتهم فى الحياة الاجتماعية والسياسية العربية، ويعود ذلك فى تقديرنا إلى عديد من العوامل التى نذكر بعضها فيما يلي:

1- أدت التسلطية السياسية إلى نمط من التسلطية الدينية النقلية الداعمة لها، والتى مهدت البيئة الدينية والاجتماعية إلى ميلاد واتساع فجوات من عدم الثقة بين بعض المسلمين من الشرائح الاجتماعية الشعبية- فى الأرياف والمدن المريفة-، وبين المواطنين المسيحيين، من خلال هيمنة مفاهيم أهل الذمة، أو بعض أشكال وممارسات التدين الشعبى الجديدة ذات الوجوه المتشددة والتمييزية إزاء الآخر الدينى المسيحي.

2- التعبئة والحشد السياسى الدينى الذى مارسته الجماعات الإسلامية السياسية- الإخوان وبعض مشايخ الحركة السلفية، وجماعات إسلامية أخرى على أساس المعيار الدينى فى المراحل الانتقالية ـ فى مصر ـ وأثناء وضع التعديلات الدستورية، والانتخابات البرلمانية والرئاسية فى ظل حكم الإخوان المسلمين ومؤيديهم.

 

من ناحية أخرى كشفت السجالات السياسية والدستورية أثناء وضع دستور 2012 عن محاولة بعضهم تديين الدولة ومفهومها، بالإضافة إلى وضع قيود على السلطة الشارعة فيما يتعلق بتفسيرها للمادة الثانية من الدستور، من خلال المادة 219. إن استراتيجية الحشد السياسى من خلال التعبئة الدينية، أدت أيضاً إلى انقسامات رأسية فى المجتمع المصري، مما فاقم من الإحساس الجمعى القبطى بالغربة – والاغتراب- عن الدولة والنظام السياسى الذى رمى بعض الإسلاميين السياسيين إلى إعادة تشكيله فى مرحلتى الانتقال الأولى والثانية، لاسيما فى ظل ممارسات كثيفة للعنف إزاء الكنائس والدور الملحقة بها، وعلى الأفراد، والممتلكات.. الخ.

إن نسب الانتهاكات للحرية الدينية، والاعتداءات على الأقباط لم تحدث على هذا النحو الخطير الدلالة والانعكاسات فى تاريخ نظام يوليو كله. إن جوهر الأزمة الوجود والحضور المسيحى العربى وغيره تعود إلى الإخفاق فى عمليات بناء الدولة / الأمة فى بعض الدول والمجتمعات العربية، بكل انعكاسات ذلك السلبية على إعاقة عمليات بناء أسس ومؤسسات التكامل الوطنى الداخلي، ومن ثم تعطيل نمو وتشكل الحالة المواطنية، وتجسداتها الدستورية والسياسية والقانونية والاجتماعية ... إلخ.

تشير أوضاع المسيحيين إلى مخاطر جسيمة تهدد وجودهم التاريخي، وليس فقط أدوارهم، وربما يكون الاستثناء المصرى النسبى لا يزال يحمل بعض من الصلابة والعمق الوجودي

من أبرز الأمثلة على ذلك: (أ) الإخفاق التاريخى فى الحالة السودانية حيث عجزت الصفوة التقليدية – مؤسسة السيدين الميرغنية والمهدية – و"الحديثة" فى بناء الدولة / الأمة ومؤسساتها، بل تطورت الأوضاع إلى حرب أهلية ممتدة، وانفصال الجنوب السودانى عن شماله المسلم فى استفتاء تقرير المصير الذى جرى فى 9 يناير عام 2011، بل ونشوب نزاعات عرقية / دينية بين الإسلام العربى فى قبائل الوسط النيلى الثلاث الكبرى وفروعها مع الإسلام الإفريقى وقبائله الإفريقية فى إقليم دارفور. ولاشك أن فشل الصفوة العسكريتارية الإسلاموية السودانية وحزب المؤتمر الحاكم، أدى إلى محاولة شد عصب قبائل الوسط النيلى الكبرى من خلال الإيديولوجيا الإسلامية السنية المتشددة، وتعديل الدستور السودانى فى أعقاب تقرير مصير الجنوب وإعلان استقلاله واعتبار الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، واعتبار الإسلام العربى السنى هو هوية السودان، ومن ثم نفى الرئيس السودانى عمر أحمد حسن البشير الطابع التعددى العرقى وفى تشكيل هويات السودان المتعددة. إن الاستخدام العملى الذرائعى للإيديولوجيا الإسلامية السياسية المتشددة هو مسعى للهيمنة الإيديولوجية وقمع التعدد فى التركيبة الداخلية، الأمر الذى قد يؤدى إلى تجديد النزاعات الداخلية العرقية والدينية والمناطقية فى شمال السودان وغربه وشرقه. من الملاحظ أن هذا التوجه الإيديولوجى المتشدد سينعكس سلباً على الأقلية المسيحية السودانية فى الشمال. وثمة بعض عوائق وتمييزات جلية إزاء المسيحيين الأقباط فى الحالة المصرية، على سبيل المثال لا الحصر.

إن البنية الانقسامية، وتعدد المكونات الأولية الدينية والمذهبية والعرقية والقومية وتركزاتها وتوزيعاتها المناطقية فى العراق وسورية، أدى إلى هيمنة الهويات الخاصة لهذه المكونات، لاسيما فى ظل فشل الدولة التوتاليتارية، وإستراتيجية بوتقة الصهر من خلال سياسات القمع والقهر التى أدت إلى إضعاف عمليات توليد وتشكيل موحدات وطنية جامعة، وعدم التوافق على أسس التكامل الوطنى حول مشاركة سياسية فعالة فى إطار مؤسسات الدولة والنظام، حيث دمج النظام ونخبته البعثية- ذات الجذور والانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية والمناطقية- واختزالها فى النظام مما أضعف مفهوم الدولة "الحديثة" لصالح نخبة القوة عند قمة النظام وزبائنه. أن تحول الانتماء الدينى والمذهبى والإيديولوجي. والمناطقي... الخ إلى أداة للتمييز بين مكونات المجتمع الأساسية، ومن ثم إلى الفشل فى بناء تكامل وطنى حقيقى.

4- أدت البنية الطائفية إلى توليد مجال طائفى بالإضافة إلى بروز خطابات ذات وجوه مزدوجة داخل الطائفة، وفى المجال العام السياسى للتعدد الطائفى كما يبدو فى بعض ملامح النظام اللبناني، أو إلى إخفاء الطائفية والمذهبية الدينية فى النظام السورى وراء الأقنعة السياسية القومية/ العروبية، ولكن فى ظل مجموعة من التوازنات بين مكونات مذهبية وعرقية وطائفية أو من خلال سيطرة مذهب دينى أقلوى على المذاهب والمكونات الأخري، حيث هيمن السنة على تركيبة النظام البعثى فى العراق، وبعد الغزو والاحتلال الأمريكى وسقوط صدام حسين وحزبه الحاكم، ظهرت نظرية المحاصصة المذهبية والقومية فسيطر الشيعة على الحكومة، وهيمن الأكراد على شمال العراق، وتم تهميش دور السنة وهو ما فتح الأبواب أمام جحيم العنف المفتوح من «داعش» وسواها من الجماعات الإسلامية السياسية الإرهابية، ومورس ولا يزال العنف الوحشى إزاء المسيحيين العراقيين بتهجيرهم القسري، وتدمير دور عبادتهم وممتلكاتهم وآثارهم ووثائقهم النادرة، وذلك على نحو مأساوى كما تم فى الموصل.

5- بعض الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية وأشباهها ونظائرها ألقى خطابهم السياسى باللوم وبعض الاتهامات على المسيحيين بأنهم كانوا قوة دعم ومساندة للأنظمة الديكتاتورية والتسلطية، بوصفها الأكثر قدرة على تحقيق الأمن والاستقرار لوجودهم، وأنهم من ثم لم يشاركوا فى الانتفاضات الشعبية والثورية المجهضة لاسيما فى مصر إلا قليلاً، وهو أمر دحضدته مشاركتهم فى بعض العمليات الانتقالية، وتعرضوا للاعتداءات، وهو ما نتج عنه وقوع ضحايا كما فى أحداث ماسبيرو، وغيرها من عديد وقائع العنف الطائفى الدامية. ورغماً عن ذلك كانت مشاركتهم فاعلة فى أحداث 30 يونيو وما بعد.

 

إن انفلات العنف القاعدى والسياسى أدى إلى هجرة أعداد من الأقباط لكن ليست ضخمة يقال خطأ وعلى نحو مبالغ مائة ألف قبطي- كما يروج من بعضهم فى الإعلام الغربى لأهدافه فى هذا الصدد.

 

ثالثا- مستقبل الوجود المسيحي في المنطقة العربية

إن نظرة عامة على أوضاع المسيحيين العرب وغيرهم تشير إلى مخاطر جسيمة تهدد وجودهم التاريخي، وليس فقط أدوارهم، وربما يكون الاستثناء المصرى النسبى لا يزال يحمل بعض من الصلابة والعمق الوجودي، وبعضا من بقايا أسس الدولة/ الأمة الحديثة ومواريثها التى لا تزال حاملة لبعض الدينامية، ولكنها تحتاج إلى تجديد عميق لأسس الاندماج والتكامل الداخلي، وتنشيط الموحدات القومية، وذاكرتها، وتحفيز وإحياء الرأسمال التاريخى والرمزى للتوحد الوطنى المصري.

السؤال الذى نطرحه هل هناك مستقبل للوجود المسيحى العربي؟

إن بعض السيناريوهات المحتملة تبدو سوداوية، أو رمادية لارتباط الوجود المسيحى بتوافر الأمن والاستقرار والتحرر من العنف والإرهاب، ومواريث الطغيان والسلطوية السياسية وثقافة الإجماع الأحادية ذات الظل والسند الدينى التأويلي، وطبيعة الثقافة السياسية التسلطية، والقمع الممنهج للمبادرات "الفردية"، والجماعية... إن تعثر التطور الديمقراطى فى المنطقة، تضفى على أية سيناريوهات طابعاً معتماً باستثناء نسبى للوضع فى لبنان ومصر، وذلك بالرغم من انعكاسات الأوضاع الإقليمية وصراعاتها على أوضاعه الداخلية، لكن لوحظ تزايد عودة المسيحيين اللبنانيين فى السنوات الأخيرة.

من هنا يبدو أن المثال المصرى إذ تطور النظام نحو الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وتطوير النظام التعليمى الدينى الإسلامى والمسيحي، والمؤسسات الدينية وخطاباتها، قد يؤدى فى ظل سياسة تعليمية جديدة تواكب تطور نظم التعليم فى الدول الأكثر تطوراً، إلى تهيئة الأوضاع وتهدئة التوترات والمساعدة فى إعادة تجديد ثقافة الاندماج الوطنى والمواطنة، ويدفع الأقباط إلى مشاركة سياسية فاعلة، ومن ثم سيسهم ذلك فى ظل عمليات المقرطة وتطوير المؤسسات السياسية إلى تبلور نموذج مصرى جديد للاندماج القومى المصرى الذى يشكل الأقباط وغيرهم من المكونات الدينية المصرية المتعددة أحد معالمه البارزة مع مواطنيهم من المسلمين. من هنا قد يتبلور نموذج مصرى متميز وربما يشكل أحد التجارب الملهمة للمنطقة وسياساتها إزاء تعددية مكوناتها الدينية – المسيحية- والمذهبية الأخري.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟