تغيير إستاتيكى: قراءة في نتائج الانتخابات الرئاسية التركية
جرت الانتخابات في مناخ جيد، لم تسفر النتائج عن فوز سهل
أو اكتساح كما كان يأمل أردوغان. لتبقى خُططه للدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة من
أجل تعديل الدستور وتوسيع صلاحياته على المحك. على أية حال فقد برهن المواطن
التركي أنه يمتلك خبرة الممارسة الديمقراطية، بعد أن وصلت نسبة المشاركة حتى الآن
ما يقرب من 75% من جملة الناخبين، في هذا المقال، سوف نستعرض أهم النتائج على
مستوى المدن الكبرى، وعلى مستوى المناطق، ومحاولة استقراء دلالة هذه النتائج.
أولا: مناخ الانتخابات الرئاسية
جرت الانتخابات في مناخ متوتر، وعلى خلفية الفوز الكبير
لحزب العدالة والتنمية، بالانتخابات البلدية التي سبقت هذه الانتخابات، مصدر
التوتر، ناشئ من تراجع مستوى الحرية، والتسلط الذي يبديه شخص رئيس الوزراء التركي،
بمناسبة وغير مناسبة على مؤسسات الدولة، خاصة مؤسستي القضاء والشرطة. ومخاوف من إقدام
أردوغان على تعديل الدستور، كي يبقى مهيمنا على مقاليد الأمور في تركيا. واستقر حزب
الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية، على انتهاج طريق ثالث، في محاولة لتحقيق انتصار
على العدالة والتنمية، أثمر عن توافق الحزبين – وأحزاب أخرى صغيرة- على تسمية
شخصية إسلامية مرموقة هو الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو، مرشحا لرئاسة
الجمهورية.
ثانيا: المرشحون الثلاثة
·
صلاح الدين ديمرطاش
محامي ونائب برلماني عن مدينة ديار بكر، يبلغ من العمر
41 عاما، ولد في ولاية إيلازيغ بمنطقة شرق الأناضول، ورئيس مشارك لحزب ديمقراطية
الشعوب، وهو من أحدث الأحزاب التركية التي تأسست أخيرًا، واستطاع أن يشكل مع أعضاء
حزب السلام والديمقراطية كتلة كردية داخل البرلمان تبلغ 19 عضوًا. وهو شاب طموح
يمتلك أدوات السياسي، له توجهات يسارية واضحة، ويوجه خطابه لكل المظلومين
والمقهورين في تركيا، ولكنه يبقى في النهاية مرشح الأكراد، الذين يمثلون ما يقرب
من 20% من أصوات الناخبين، ما يعني أن هذه الكتلة لا يمكن أن تقدم من داخلها مرشح
يمتلك حظوظ الفوز، ولكنها رمانة الميزان في ترجيح كفة أي مرشح من خارجها.
·
أكمل الدين إحسان أوغلو
أستاذ تاريخ العلوم، والأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي
لمدة عشر سنوات، يبلغ من العمر 70 عاما، ويعد من كبار المثقفين الأتراك، ويحتفظ
بعلاقات طيبة مع العالمين العربي والإسلامي على السواء، اتفق على ترشيحه أكبر
الأحزاب التركية المعارضة، ذات التوجه العلماني (حزب الشعب الجمهوري) والتوجه
العلماني- القومي (حزب الحركة القومية)، ما يمثل تغيرًا لافتا للنظر في طبيعة
البناء السياسي في تركيا، والذي ظل منقسما بين تيار علماني صريح، وتيار إسلامي
صريح، ويبدو أن ترشيح الأحزاب العلمانية للدكتور أوغلو، لا يرتبط فقط بمحاولة
استرضاء أكبر عدد من الناخبين، وإنما هو إقرار من الأحزاب العلمانية، أن السياق
الاجتماعي والثقافي التركي، يحول دون وصول أحزاب علمانية صرفة إلى سدة الحكم في
تركيا. وأنه قد آن الأوان لكي تنهج الأحزاب العلمانية التركية طريقا ثالثا، يحقق
طموحات المواطن التركي الذي يحترم العلمانية كوسيلة للتقدم، والعامل الديني كوسيلة
للمحافظة على خصوصية المجتمع التركي، المعركة صعبة للغاية على السيد أوغلو، بسبب
غيابه الطويل عن تركيا، وبسبب أن التوافق عليه جاء من أحزاب علمانية.
·
رجب طيب أردوغان
مرشح حزب العدالة والتنمية، وأقوى شخصية داخل الحزب،
يبلغ من العمر 60 عاما، انخرط في العمل السياسي عام 1976، ومر بمحطات سياسية مهمة
في حياته، أهمها انتخابه كرئيس لبلدية أسطنبول، الأمر الذي مكنه من تنفيذ أجندة إصلاحات
ثورية في المدينة، أعادت للمدينة رونقها ومكانتها العالمية، ما جعل الأنظار تتطلع
لأردوغان، وتوالت انتصاراته. يترشح أردوغان وفي جعبته قائمة من الإنجازات التي
حققها لتركيا على المستوى الاقتصادي، وإنجازات غير مسبوقة للتيار الإسلامي التركي،
تحققت خلال 12 عاما مدة رئاسته المتوالية لرئاسة وزراء تركيا. وعلى الجانب الآخر،
يخوض أردوغان الانتخابات، في ظل توتر ومخاوف كبيرين من المعارضة التركية، بسبب
السلوك الاستبدادي الذي يدير به أردوغان أمور الحكم، وخاصة في التعامل مع مؤسسات
الدولة، وخاصة الشرطة والقضاء. ولأن
الجميع في تركيا، يعلم أن الرجل لا يرضى بديلا عن الصدارة، والبقاء في دائرة
الأضواء وممارسة السطلة الفعلية، فإن لدى الجميع، مخاوف من أن يقوم أردوغان حال
فوزه، بالدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة، والحصول على أغلبية تتيح له تعديل
الدستور، ليمنح لمنصب الرئيس صلاحيات حقيقية.
ثالثا: تكتيكات الانتخابات الرئاسية
كانت الأحزاب السياسية المعارضة على يقين بأنه لا يمكن
هزيمة أردوغان إلا إذا تم جره إلى انتخابات الإعادة، لأنه من الصعب هزيمة مرشح
حزب، يتولى السلطة، وصاحب إنجاز اقتصادي غير مسبوق في تاريخ تركيا، ما يعني أن
تكتيكات الانتخابات
الرئاسية التركية، جرت بوضوح تام، فالمرشح الكردي يعلم أن حظوظه ضعيفة في الفوز،
وأوغلو يعلم أن حظوظه في الفوز من الجولة الأولى ضعيفة للغاية، وحزب العدالة
والتنمية، يسعى للفوز من الجولة الأولى، حتى لا يبقى مصيره معلقا بالأصوات
الكردية. وجرت الانتخابات في ظل نسبة المشاركة
نحو 74% ، وهي نسبة مثيرة للإعجاب، تبرهن على أن المواطن التركي، أصبح
يمتلك خبرات ديمقراطية محترمة. اتسمت المعركة بالندية والقوة في كافة المناطق
التركية، ويبدو من النتائج الأولية، أن المرشح الكردي هو الذي حال دون دخول
أردوغان وأوغلو جولة إعادة حاسمة. كما أن معركة المدن الكبرى كانت ساخنة لدرجة
كبيرة، ولولا نسبة الأصوات التي حصل عليها أردوغان في مدينة قونيا (منطقة وسط
الأناضول) لما تمكن أردوغان من الفوز من الجولة الأولى.
رابعا: معركة المدن الكبرى
تشير النتائج الأولية، أن المدن مليونية التصويت، والتي يبلغ عددها سبع
مدن، أن أردوغان لم يكمل نصاب الفوز بالأغلبية المطلقة (50% + صوت)، كما يلاحظ أن
إحسان أوغلو قد فاز بمجموع ستة مدن من السبعة (41,3% مقابل 38،6% ) تفوق أوغلو في
ثلاث منها (أضنة، أنطاكيا، إزمير)، ونافس بشراسة في ثلاث مدن (أنقرة، إسطنبول،
شناق كلية)، غير أن أردوغان توفق بفارق كبير ولافت للنظر في مدينة قونيا (74،6%
مقابل 22،3% )، وهي أقل نسبة حصل عليها أوغلو في المدن التركية جميعا.
على أية حال معركة المدن، كانت منافسة ديمقراطية قوية، مالت
فيها الطبقة الوسطى الحضرية، إلى ترجيح كفة إحسان أوغلو، أو على الأقل منحته
الفرصة في الإعادة وترتيب الأوراق، ولم يكن عسيرا على أوغلو أن يحصل على نسبة
معتبرة من الأصوات الكردية التي ذهبت لديمرطاش.
جدول (1) نتائج الانتخابات بحسب المدن الكبرى
المدينة |
المنطقة |
عدد الأصوات |
نسبة المشاركة |
أردوغان |
أوغلو |
ديمرطاش |
أضنة |
البحر الأبيض المتوسط |
1073989 |
75.7 |
38.9 |
50.4 |
10.7 |
أنطاكيا |
البحر الأبيض المتوسط |
1100128 |
73.4 |
41.6 |
53.1 |
5.3 |
إزمير |
بحر إيجة |
2357538 |
78.6 |
33.4 |
58.6 |
8 |
أنقرة |
وسط الأناضول |
2740087 |
77.7 |
51.3 |
45.2 |
3.5 |
قونيا |
وسط الأناضول |
1108346 |
80.9 |
74.6 |
22.3 |
3.1 |
إسطنبول |
مرمرة |
7159957 |
72.8 |
49.8 |
41.1 |
9.1 |
شناق كلية |
مرمرة |
1546473 |
79.4 |
54.9 |
41 |
4.2 |
جملة |
17086521 |
76.9 |
49.2 |
44.5 |
6.3 |
خامسا: معركة المناطق
تنقسم تركيا إلى سبع مناطق كبيرة، هي (البحر المتوسط، شرق
الأناضول، إيجة، جنوب شرق الأناضول، وسط الأناضول، البحر الأسود، مرمرة)، لكل
منطقة طابعها الثقافي والاجتماعي، وتحتفظ بتراث سياسي مميز. حيث يسيطر الأكراد على
شرق وجنوب الأناضول، بينما يسيطر التيار الإسلامي على وسط الأناضول ومنطقة البحر
الأسود، في حين يسيطر التيار العلماني على منطقة ايجة، ويتقاسم النفوذ مع التيار
الإسلامي في منطقة البحر المتوسط، وبحر مرمرة. وما حدث أن شرق الأناضول وجنوب شرق
الأناضول، صوتت بكثافة للمرشح الكردي. وبحسابات
النتائج، سوف يلاحظ القارئ أن ترشح ديمرطاش قلل من حظوظ إحسان أغلو في الوصول إلى
جولة الإعادة، حيث تكتيك حملة أوغلو هو كما ذكرنا، هو جر أردوغان إلى جولة الإعادة.
لأن النتيجة التي حصل عليها أوغلو في كلتا المنطقتين هزيلة بالقياس لنتائجه في
باقي المناطق (10% جنوب شرق الأناضول، 14% شرق الأناضول)، ما يعني أن المنافسة
كانت شبه محصورة بين المرشح الكردي، وأردوغان. ويبدو أن العداء التاريخي بين حزب
الحركة القومية المناصر لأوغلو، وبين الأكراد، حال دون حصول الأخير على أصوات في
منطقة الأكراد، ومع ذلك فإنه إذا استبعدنا نتيجة
إحدى المنطقتين اللتين منحتا المرشح الكردي 72%
من جملة الأصوات التي حصل في هذه الانتخابات،
في هذه الحالة سوف تنخفض النسبة التي يحصل عليها أردوغان إلى أقل من 50%.
جدول (2) نتائج الانتخابات بحسب المناطق
المنطقة |
عدد محافظات المنطقة |
عدد الأصوات |
نسبة المشاركة |
أردوغان |
أوغلو |
ديمرطاش |
البحر المتوسط |
8 |
5050479 |
78.7 |
44 |
48 |
7 |
شرق الأناضول |
14 |
2635299 |
74.3 |
52 |
14
|
32 |
إيجة |
8 |
5816566 |
82.3 |
42 |
52 |
5 |
جنوب شرق الأناضول |
9 |
3296433 |
75.6 |
50 |
10.3 |
39.7 |
وسط الأناضول |
13 |
6649430 |
79.1 |
59.5 |
37.5 |
2.1 |
البحر الأسود |
18 |
4193245 |
78 |
65.7 |
32.8 |
1.5 |
مرمرة |
11 |
12375099 |
79.8 |
50.6 |
45.4 |
4 |
الأمر الذي يعني أن المنافسة في هذه الانتخابات كانت
صعبة للغاية، سيطر فيها أردوغان على منطقتي البحر الأسود ووسط الأناضول، وشارك
المرشح الكردي في الأصوات وتفوق عليه في جملة مناطق الأكراد. ولم تتمكن حملة أوغلو
من التأثير في شرق وجنوب الأناضول، كما أنه خسر بفارق كبير في معركة مدينة قانيا
بوسط الأناضول. هذه النتائج لم تعط أردوغان الفوز السهل والاكتساح الذي كان يأمل
فيه، وبالتالي فإن خططه لتعديل الدستور، والدعوة لانتخابات مبكرة، ستكون على
المحك.
سادسا: ماذا بعد الانتخابات
يتضح من النتائج أن الهوية الإسلامية باتت أكثر قوة بعد
هذه الانتخابات، وانتقلت أحزاب المعارضة العلمية نقلة نوعية في إستراتيجياتها،
بحيث أصبحت أقرب إلى الأحزاب العلمانية الموجودة في بعض البلدان العربية (حزب
الوفد المصري مثلا)، التي لا تقطع الصلة بين الهوية الاسلامية الحضارية والتوجهات
العلمانية.
ويمكن أن يكون لهذه النقلة النوعية، أثرها على الحياة السياسية التركية في القريب،
خاصة إذا أقدم أردوغان على الإعلان عن انتخابات برلمانية مبكرة، من أجل الحصول على
أغلبية تتيح له تعديل الدستور، لأن
المواطن التركي، لن ينحاز لهذه التعديلات التي تخل بتوازن السلطات، من أجل تحقيق
رغبة شخصية لأردوغان، ولن يجد صعوبة في التصويت لأحزاب علمانية، برهنت بتوافقها
على الدكتور أوغلو كمرشح إسلامي معتدل، أنها لا تهدد الهوية الإسلامية التركية.
كما يمكن أن تقدم هذه النقلة، تحفيزا، لحزب الحركة
القومية، والأحزاب الكردية، من أجل مصالحة تاريخية، تستهدف وحدة جديدة في ظل تنوع
قائم.
أما من جهة العلاقات الخارجية، فإن فوز أردوغان لن يغير
شيئا في طبيعة العلاقات الخارجية التركية، خاصة مع الوطن العربي، وبالتالي فإن
العلاقات التركية- العربية لن يطرأ عليها تحسن ملحوظ، خاصة العلاقات مع مصر،
لأسباب ذاتية تخص أردوغان، تجعله لا يقدر حجم وتاريخ العلاقات المصرية- التركية، ويتجاوز
كل الأعراف والتقاليد الدبلوماسية في التعامل مع الشأن المصري.
على أية حال هذه الانتخابات جاءت قوية وديمقراطية، وأبقت
الحال على ما هي عليها.