ورقة عمل مقترحة للسياسة الثقافية لمصر (2- 2)
تناولنا فى الحلقة الأولى الملامح الأساسية للمجتمع المصرى بعد
ثورة 25 يناير، مع تقديم عرض موجز للأوضاع الاجتماعية والثقافية الراهنة، وفي هذه
الحلقة ندخل فى صميم الموضوع بالتركيز على
التنمية الثقافية الجماهيرية باعتبارها الفلسفة التى تقوم عليها السياسة الثقافية
المقترحة، وبعد ذلك نركز على الأهداف الأساسية للسياسة الثقافية، وأخيراً نقدم
مقترحات محددة بمجموعة برامج ثقافية أساسية يدرس فيما بعد طرق تنفيذها.
ثالثاً: التنمية الثقافية الجماهيرية
باعتبارها أساس السياسة الثقافية المقترحة
استقر الرأى بين علماء الاجتماع المعاصرين بعد دراسة
وتحليل عديد من تجارب التنمية فى العالم القصور الشديد لصيغة التنمية من فوق Development From above والتى تعتمد
على الخطط التى يضعها السياسيون والاقتصاديون على مكاتبهم، بغير أن يولوا أدنى اهتمام
للمطالب الجماهيرية.
ومن هنا اقترحوا صيغة جديدة هى «التنمية من أسفل» Development from below التى أطلقنا
عليها «التنمية الجماهيرية».
وقد شاركت فى تطبيق هذا المفهوم عملياً فى إطار بحث
سوسيولوجى تم فى إطار جهاز تنظيم الأسرة فى عهد الدكتور «عزيز البندارى» لتنمية
مجموعة من القرى أبرزها «برج نور الحمص». وتشكل فريق بحث علمى شارك فيه الدكتور
«نادر فرجانى» والمرحوم الدكتور «عبد الباسط عبد المعطى» والفنان التشكيلى «عز
الدين نجيب» الذى حصل هذا العام على جائزة الدولة التقديرية.
نزلنا إلى القرى التى اختيرت للدراسة وأجرينا مقابلات
متعددة ومتعمقة مع الفلاحين وتعرفنا على مطالبهم الأساسية، وحددنا احتياجاتهم
الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وتبين لنا أن أول مهمة ينبغى أن نبدأ بها هى محو الأمية
وفق أسلوب جديد غير ما تقوم به الهيئات البيروقراطية الحكومية فى هذا المجال. وكلفنا
«عز الدين نجيب» بتأليف كتاب لمحو الأمية فى ضوء نظرية عالم الاجتماع الكبير «ﭙاولو
فريرى» الذى أبدع نظرية تعليمية شهيرة عمادها أن التعليم جوهره رفع الوعى
الاجتماعى والسياسى للمتعلم.
ونظمنا فصولا ناجحة لمحو الأمية أقبل عليها الفلاحون
والفلاحات، إلا أن «مباحث أمن الدولة» أدركت أن هذه – فى نظرها- محاولة يسارية
لرفع وعى الفلاحين، ومن ثم قامت بجمع نسخ الكتاب وأعدمتها وصدر قرار بإيقاف البحث.
تعمدت أن أذكر هذه الخبرة لأبين أن علاقتى بالتنمية
الجماهيرية تقوم على البحث الميدانى وليس على القراءة النظرية فقط.
كيف نطبق ما أسميه «التنمية الثقافية الجماهيرية»؟ لابد
أن نجرى مسوحاً اجتماعية وثقافية تخترق الكتل المليونية من الأميين والفقراء وسكان
العشوائيات، لإكتشاف المواهب الكامنة لمن يصلحون -بعد تدريبهم فى وزارة الثقافة-
موجهين ثقافيين شعبيين بحكم صلتهم العضوية بالجماهير.
وأتصور أن هذه المسوح الاجتماعية والثقافية عليها أن
تعتمد على «قصور الثقافة» كمحور للبحث والتقصى. والمفروض أن قصور الثقافة المنتشرة
فى البلاد تقوم بأنشطة متعددة تستطيع من خلالها – وفق خطة منهجية محكمة وبعد تحديد
المواصفات الضرورية- أن تكتشف هذه المواهب لتخضع من بعد لبرامج تدريبية مدروسة.
غير أن التنمية الثقافية الجماهيرية – أهم من ذلك- عليها
أن تهتم باكتشاف كيف يبدع المجتمع المصرى ثقافته فى الريف والحضر؟
لأن هناك وهما مؤداه أن وزارة الثقافة هى التى تبدع
الثقافة! وليس هذا صحيحاً على الإطلاق. لابد أن نفهم كيف يشبع المصريون حاجاتهم
الروحية، ولماذا ينضمون إلى الطرق الصوفية وكيف يبدعون فنونهم الشعبية. هذه معرفة
ضرورية حتى يتاح لنا أن نصوغ سياسة ثقافية رشيدة.
موضوع التنمية الثقافية الجماهيرية يحتاج إلى دراسات
وتحليلات أعمق ولذلك اكتفينا بهذه الإشارات الموجزة.
رابعاً: الأهداف الأساسية للسياسة الثقافية
لابد من أن نحدد تحديداً واضحاً للأهداف الأساسية التى
تهدف إلى تحقيقها السياسة الثقافية الجديدة. وفى تقديرنا أنه فى مقدمة هذه
الأهداف:
1- تكوين العقل النقدى:
ويتطلب ذلك فى الواقع ثورة تعليمية شاملة تحاول إلغاء
عملية التعليم التلقينية السائدة والتى تصوغ عقولاً ابتاعية عاجزة عن الإبداع، ولا
تستطيع أن تحل المشكلات بحلول مبتكرة.
غير أنه بالإضافة إلى الثورة التعليمية المرجوة ينبغى
على وزارة الثقافة- فى سلاسل الكتب المختلفة التى تنشرها- التركيز الشديد فى مجال
الكتب المؤلفة والمترجمة على فئات الكتب التى تحض على التفكير والمساءلة فى مختلف
فروع المعرفة، وسواء ذلك فى العلوم الطبيعية أو الاجتماعية أو الإنسانيات.
وفى هذا المجال لابد من الاهتمام بالمراجع الأساسية فى
حقول ثلاثة: ( تاريخ العلم ، فلسفة العلم، سوسيولوجيا العلم).
وقد سبق للمركز القومى للترجمة أن ترجم كتبا هامة فى هذه
الحقول، غير أنه مطلوب إعداد خطة شاملة.
2- نشر ثقافة التجدد المعرفى الدائم:
وذلك فى ضوء المسلمة السائدة الآن فى العالم وهى أهمية
«التعليم مدى الحياة»، بعبارة أخرى التقاليد البالية التى تقضى بنهاية التعليم مع
الحصول على الشهادة -أياً كان نوعها- انتهت فى العالم المتقدم.
وأصبحت هناك مسئولية ثقافية على عاتق الرواد فى المجتمع
من الأكاديميين والساسة والمثقفين والمفكرين وهى التجدد المعرفى الدائم.
وذلك لأن عصر العولمة بما انطوى عليه من استحداث شبكات
التواصل الاجتماعى وفى مقدمتها شبكة الإنترنت، قد أدت إلى انفجار المعرفة فى كل
الميادين، وأهم من ذلك سهولة الحصول على المعرفة الجديدة لحظة تبلورها.
وذلك يفرض مسئولية كبرى على المجتمع المعاصر لكى يساعد
أفراده من مختلف الطبقات على أن يتفاعلوا مع المعرفة المتجددة.
3- تجسير الفجوة بين التعليم الدينى
والتعليم المدنى لأن التعليم الدينى فى مصر يقوم على النقل ولا يقوم على العقل، والتعليم المدنى يقوم على
التلقين وحفظ قشور المعرفة العلمية.
لابد للقضاء على ظاهرة الانفصام الثقافى الخطيرة أن نجدد
فى برامج التعليم الدينى من ناحية، وأن نعيد النظر كلية فى مناهج التعليم المدنى
بما يتفق مع تطورات العالم المعاصر.
4- تتردد كثيراً هذه الأيام الدعوة لإنتاج
«خطاب إسلامى وسطى» حيث يقوم الأزهر بمكانته الحالية فى الدور الأكبر فى هذه
العملية الضرورية والهامة.
غير أننا ننطلق من رؤية ثقافية مغايرة لهذا المطلب
البالغ الأهمية.
وجوهر هذه الرؤية أن ترك المجال للمتخصصين فى الدين
للقيام بعملية التجديد قد لا تكون مجدية بحكم تطبيقهم بالضرورة لقواعد معرفية
موروثة فى مجال التفسير والتأويل قد تعوقهم عن تخطى الحدود الجامدة للمعرفة
الدينية السائدة.
وينبغى أن نلتفت إلى حقيقة هامة هى أنه لا كهانة فى
الإسلام. وتقتضى هذه القاعدة ألا تترك عملية التفسير والتأويل لمن يتخصصون فى
الدين فقط، بل ينبغى أن تفتح لكافة المفكرين المؤهلين للدخول فى عملية تجديد الفكر
الإسلامى بما يلائم حاجات العصر، وخصوصاً إذا كانوا قد درسوا بعمق «أصول الفقه”
والتى يمكن اعتبارها هى مناهج البحث الإسلامية.
ومن الحقائق المعروفة أن علم «أصول» الفقه يدرس فى كل
كليات الحقوق فى مصر، وقد ألف فيه أساتذة فضلاء فى مقدمتهم أستاذنا الشيخ «أبو
زهرة» والشيخ «عمر عبد الله» والشيخ «خلاف» وأخيراً الشيخ «على جمعة».
ومن هنا يمكن اقول إن لدينا قاعدة عريضة من الحقوقيين
الدارسين لأصول الفقه مما يسمح لهم بالاجتهاد الفكرى – وفق خطة مدروسة- فى مجال
تجديد الفكر الدينى وربما كانت كتب المستشار «سيد العشماوى» نماذج ساطعة على أهمية
الاجتهادات القادمة من خارج المؤسسات الدينية التعليمية.
5- تغيير
الاتجاهات المتطرفة:
هناك فى علم النفس الاجتماعى مبحث خاص عن مناهج وطرق
تغيير الاتجاهات السلبية، ويندرج تحت هذا الموضوع تغيير اتجاهات التعصب والتطرف
والنزوع إلى الإرهاب.
ونحتاج فى هذا المجال إلى نشر سلسلة كاملة من الكتب فى
هذا المجال، بالإضافة إلى ابتداع وسائل متعددة فى مجال الندوات الفكرية والبرامج
التليفزيونية سعياً وراء تحقيق هذا التغيير.
6- تجديد القيم المصرية:
من الملاحظات المهمة فيما يتعلق بالتغيرات الكبرى التى
حدثت فى مصر للمجتمع بعد ثورة 25 يناير ظهور أزمة حادة فى مجال القيم، وهذه الأزمة
سبق لعلم الاجتماع العالمى أن درسها وأطلق عليها ظاهرة الـ “anomie” أو «اختلال» القيم، بمعنى عجز
أفراد المجتمع عن التمييز بين السلوك المشروع والسلوك غير المشروع.
وهذه الأزمة لها مؤشرات متعددة، لعل أهمها الخلط بين
الثورة والفوضى، وهو ما أدى إلى صدامات دامية بين فئات من النشطاء السياسيين مع
قوات الأمن، سقط فيها عشرات الشهداء ومئات المصابين.
ولعل جذر هذا الموضوع هو ما أشرنا إليه من قبل فى
القراءة التحليلية لخريطة المجتمع المصرى بعد ثورة 25 يناير من الخلط بين الشرعية
الثورية والشرعية الديمقراطية، أو بين شرعية الميدان وشرعية البرلمان!
وتبدو الأزمة فى أن ائتلافات شبابية متعددة تريد أن
تواصل المظاهرات فى أى وقت احتجاجاً على أى وضع لا ترضاه، بزعم أن «شرعية الميدان»
ينبغى أن تبقى قائمة إلى الأبد مهما كانت الأوضاع الدستورية قد استقرت.
ومن مظاهر أزمة القيم أيضاً نسف التراتبية الاجتماعية Social Stratification بمعنى عدم
الاعتراف بالمديرين والرؤساء وشرعية الانقلاب عليهم ومحاصرتهم فى مكاتبهم والدعوة
إلى فصلهم أو تغييرهم. بعبارة مختصرة عدم الاعتراف بالمكانات الإدارية والاجتماعية
بزعم أن هذه من أخلاقيات الماضى.
ومن المظاهر الحادة للأزمة محاولة نفى الأجيال القديمة
باعتبار أن أوانها قد انقضى، ولعل شعار «تسقط دولة العواجيز» تعبر عن هذا الاتجاه
خير تعبير.
ومعنى ذلك أن النشطاء السياسيين -ربما بغير وعى منهم-
يدعون إلى صراع مفتوح بين الأجيال بدلاً من أن يقيموا حواراً فعالاً بين الأجيال»،
تنقل فيه الخبرة بهدوء وسلاسة من الأجيال القديمة إلى الأجيال الشابة.
وأزمة القيم تدعو إلى أن يكون «تجديد القيم المصرية»
هدفاً أساسياً من أهداف السياسة الثقافية.
وفى هذا المجال لابد من التركيز على «مدنية الدولة» فى
ضوء برنامج متكامل يهدف إلى تأصيل الثقافة السياسية Political culture ، وفى هذا
المجال المهم ينبغى التركيز على ترسيخ قواعد الحوار الديمقراطى واحترام الاختلاف
فى ضوء احترام مبدأ التعددية.
وذلك بالإضافة إلى إعلاء قيمة النقد الذاتى ونشر الكتب
المهمة فى هذا المجال وسواء فى ذلك النقد الذاتى الذى قام به مفكرون أو النقد
الذاتى للمؤسسات (الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى).
والاهتمام بترسيخ قاعدة الانفتاح النقدى على العالم
بتياراته السياسية والاقتصادية والثقافية والمعرفية.
ونحتاج إلى تجسير الفجوة بين النظر والعمل كقيمة عليا،
بمعنى ضرورة التفاعل مع الشارع والنزول إلى مستوى القواعد الجماهيرية.
ومن ناحية أخرى لابد من التركيز على نشر ثقافة التطوع
وتشجيع مؤسسات المجتمع المدنى ودعمها وخصوصاً تلك التى تقوم بأدوار تنموية
وثقافية.
7- السياسة الثقافية فى عصر العولمة:
أهمية نشر ثقافة المعلوماتية وفهم قوانين ووسائل التفاعل
الاجتماعى والثقافى فى شبكة الإنترنت، والاهتمام بتحليل تراث المدونات، والتحليل
النقدى لوسائل التواصل الاجتماعى لمعرفة اتجاهات الشباب ورؤاهم للعالم (الفيس بوك
والتويتر).
وفى هذا المجال -ولأننا نعيش فى عصر «الصورة»- لابد من
استخدامها كوسيلة أساسية للتثقيف والتنوير (أفلام وثائقية وتسجيلية وحية) ويمكن
القول إن «المواقع الإلكترونية» الإخبارية والثقافية أصبحت وسيلة ذائعة للتواصل،
ويقبل عليها الشباب، ومن هنا أهمية أن تكون لهيئات وزارة الثقافة المختلفة «مواقع
الكترونية متعددة، واستخدامها فى نشر الثقافة ومتابعة تطوراتها وأخبارها.
خامساً: برامج ثقافية أساسية
1- إحياء
الذاكرة التاريخية المصرية (الحقبة الفرعونية والحقبة القبطية والحقبة الإسلامية).
وذلك من خلال سلاسل مدروسة من الكتب والأفلام.
2- إحياء الذاكرة الثقافية العربية.
وذلك من خلال سلاسل خاصة تعيد نشر إبداعات النهضة
العربية الأولى والنهضة المصرية الليبرالية ابتداء من «رفاعة الطهطاوى» و»محمد
عبده» وصولاً إلى أهم رموز الفكر الليبرالى الحديث مثل «أحمد لطفى» السيد «طه
حسين» و»سلامة موسى» وغيرهم.
3- رسم خريطة معرفية متكاملة للفكر العربى الحديث والمعاصر
يرصد بصورة نقدية التيارات الإسلامية التجديدية، والتيارات الليبرالية، والتيارات
اليسارية، على مستوى الدراسات النقدية الكلية وعلى مستوى الشخصيات البارزة.
وفى هذا المجال نقترح أن تتبنى وزارة الثقافة إعادة طبع
كتاب الدكتور «حسن حنفى» وعنوانه «حوار الأجيال» لأنه أهم كتاب نقدى صدر عن تاريخ
الفكر المصرى.
خاتمة:
لقد عالجنا فى هذه الورقة البحثية المعالم الرئيسية
لسياسة ثقافية جديدة تقوم على أساس التنمية الثقافية القاعدية، وقنعنا برسم
الملامح البارزة دون الدخول فى التفصيلات.
والورقة مطروحة للنقاش، وأتوقع أن تكون الملاحظات
النقدية التى ستوجه لها أساسية فى إعادة صياغتها، لتكون أساساً للمناقشة فى المجلس
الأعلى للثقافة.