المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

الوضع الثابت: فلسطين في قلب ثورة 23 يوليو

الأحد 03/أغسطس/2014 - 11:14 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. محمد السعيد إدريس

تعتبر ثورة 23 يوليو 1952 واحدة من أهم نقاط التحول الرئيسية فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وهى كذلك وبنفس القدر والقيمة بالنسبة للأمة العربية، فهى تمثل نقطة تحول مهمة فى تأكيد عروبة مصر وتطور فكرة القومية العربية فيها بل وترسيخ هذه الفكرة وإكسابها قاعدة شعبية عريضة، تجاوبت مع توجهات الثورة العربية، حتى أصبحت هذه الفكرة هى السائدة على الساحة المصرية بلا منازع.

علاقة الارتباط بين ثورة 23 يوليو ونضج الوعى والانتماء للقومية العربية فى مصر وغيرها من الدول العربية حقيقة مؤكدة، لكنها أخذت مراحل تطور مهمة فى التاريخ المصرى حتى قامت ثورة 23 يوليو التى كانت العروبة وقضاياها وبالذات قضية فلسطين من أهم دوافعها ومحفزاتها. وهناك وعلى رمال فلسطين وسط بحور دماء الشهداء من العسكريين المصريين كان الميلاد الحقيقى لوحدة المصير والدم والمستقبل، مستقبل مصر ومستقبل العروبة ومستقبل فلسطين. لقد تجاوزت العلاقة بين فلسطين ونكبتها عام 1948 وبين مصر حدود التأثير والتأثر وتحولت إلى صنع المستقبل والمصير، مستقبل مصر ومصير فلسطين، ومعهما مستقبل الأمة العربية.

وانطلاقاً من هذا الوعى المبكر وضع زعيم هذه الثورة جمال عبد الناصر القانون السياسى الحاكم للصراع العربى – الإسرائيلي: تحرير القدس رهن بتحرير القاهرة ومعها كل العواصم العربية، تحرير القرار السياسى وتحرير الإرادة الوطنية والقومية هما الشرطان اللازمان لخوض صراع حقيقى ينتهى ليس فقط بتحرير فلسطين بل وبتحقيق الوحدة العربية ومن ثم الانخراط فى تأسيس مشروع حضارى نهضوى للأمة العربية وكانت الثورة هى أداة تحقيق هذه الانطلاقة.

لقد انحازت طلائع ثورة 23 يوليو 1952 من الضباط المصريين الأحرار لقضية الشعب الفلسطينى قبل ثورتهم بخمس سنوات.

ففى سبتمبر 1947 قررت لجنة الضباط الأحرار مساندة حركة المقاومة العربية فى فلسطين، وأرسلت بعض أعضائها كمتطوعين، وانضم بعض هؤلاء من دمشق إلى جيش الإنقاذ العربى بقيادة فوزى القاوقجي، وقال جمال عبد الناصر لزملائه: « لو فرض القتال فى فلسطين فإن ذلك لن يكون مجرد حرب فى أرض عربية بل سيكون واجباً مقدساً للدفاع عن النفس»، وهكذا أدخل جمال عبد الناصر مبكراً قضية فلسطين إلى عمق قلب وروح مصر ليصبح الدفاع عن فلسطين دفاعاً عن النفس.

جمال عبد الناصر لزملائه: لو فرض القتال فى فلسطين فإن ذلك لن يكون مجرد حرب فى أرض عربية بل سيكون واجباً مقدساً للدفاع عن النفس

وعندما وصل الجيش المصرى إلى فلسطين فى مايو 1948 كان من بين مقاتليه كثيرون من الضباط الأحرار الذين تأثروا باستهانة الحكومة المصرية فى الإعداد لهذه الحرب وبسوء العتاد والذخائر، وكانت مأساة هذه الحرب هى الشرارة التى عجلت بانطلاق الثورة فى مصر يوم 23 يوليو 1952.

كان هدف تحرير مصر هو الهدف الأهم والأكثر حيوية بالنسبة لقادة ثورة 23 يوليو، فتحرير مصر مفتاح تحرير فلسطين وكل الدول العربية، وإطلاق ثورة التحرر الوطنى العربية لتحقيق الاستقلال وبناء حلم الوحدة، ولذلك فإن هدف تحرير مصر الأرض والإرادة والإنسان كان محوراً لكل الأهداف الستة التى قامت الثورة من أجلها، ولكن الوعى القومى بالعروبة وبالوحدة كان مستحكماً فى عقل قائد الثورة. لقد كانت الهوية العربية لمصر، هى الحقيقة الأهم التى حرص عبد الناصر على إبرازها فى كتابه الأول المبكر «فلسفة الثورة» الذى أشار فيه إلى ثلاث دوائر يجب على مصر أن تتحرك بسياستها فيها هي: الدائرة العربية، والدائرة الأفريقية، والدائرة الإسلامية.

ويخلص عبد الناصر من هذه الاستنتاجات بالتأكيد على الاتجاه القومى العربى للثورة ويقول: ما دامت المنطقة واحدة وأحوالها واحدة، ومشاكلها واحدة، ومستقبلها واحد، والعدو واحد مهما يحاول أن يضع على وجهه من أقنعة مختلفة فلماذا تتشتت جهودنا؟

هذا السؤال وإجابته يعدان انطلاقة فاصلة فى الوعى العربى والانتماء العربى لمصر قبل وبعد الثورة، فليس هناك من فى مقدوره أن يزعم أن ثورة 23 يوليو هى التى خلقت هذا الوعى أو أكدت هذا الانتماء، فالوعى قائم والانتماء مؤكد قبل الثورة بقرون طويلة، وهذا ما أكده جمال عبد الناصر عندما تحدث عن المستقبل الواحد والمصير الواحد للأمة العربية، لكن الجديد الذى قدمته ثورة 23 يوليو للوعى والانتماء العربى لمصر هو إكساب هذا الوعى والانتماء مسئولية نضالية من أجل تحقيق أهداف الأمة.

لقد أدركت ثورة 23 يوليو 1952 فى مصر منذ قيامها أهمية توحيد النضال العربى من أجل تعزيز القومية العربية وتحقيق وحدة العرب، وكان جمال عبد الناصر يرى ضرورة الوصول إلى جبهة عربية واحدة تقوم خطتها على حمل الأمة العربية على أن تدرك مدى قوتها وطاقاتها وإمكاناتها، ولذلك قال: «ولسوف أظل دائماً أقول أننا أقوياء، ولكن الكارثة الكبرى اننا لا ندرك مدى قوتنا، إننا نخطئ فى تعريف القوة فليست القوة أن تصرخ بصوت عال، وإنما القوة أن تتصرف إيجابياً وبكل ما تملك من مقوماتها».

إذا كانت وحدة مصر وسوريا قد انتهت إلى الانفصال، فإن أهم إنجازاتها أنها جعلت الوحدة العربية تخرج إلى حيز التنفيذ، وأنها هدف قابل للتحقيق

أولا: وحدة الأمة: الانتماء والدور

هاجس هذا الدور كان مستحكماً بجمال عبد الناصر وجاءت صياغته لهذا الإدراك معبرة أشد التعبير فيما كتبه فى «فلسفة الثورة» وقال فيه «... لست أدرى لماذا يخيل إلى دائماً أن فى هذه المنطقة التى نعيش فيها دوراً هائماً على وجهه يبحث عن البطل الذى يقوم به، ثم لست أدرى لماذا يخيل إلى أن هذا الدور الذى أرهقه التجوال فى المنطقة الواسعة فى كل مكان حوله وقد استقر به المطاف متعباً منهوك القوى على حدود بلادنا يشير إلينا أن نتحرك وأن ننهض بالدور ونرتدى ملابسه فإن أحداً غيرنا لا يستطيع القيام به».

«وأبادر هنا فأقول ان الدور هنا ليس دور زعامة إنما هو دور تفاعل وتجاوب مع كل هذه العوامل يكون من شأنه تفجير الطاقة الهائلة الكامنة فى كل اتجاه من الاتجاهات المحيطة بها ويكون من شأنه تجربة لخلق قوة كبيرة فى هذه المنطقة ترفع من شأن نفسها وتقوم بدور إيجابى فى بناء مستقبل البشر».

«إن هدف حكومة الثورة أن يكون العرب أمة متحدة يتعاون أبناؤها فى الخير المشترك: هى تؤمن بأن الموقع الذى يحتله العرب بين قارات العالم وخدماتهم العظيمة للحضارة ومواردهم الاقتصادية القيمة واتصالاتهم بالشرق الإسلامى وبالشرق كله يرشحهم لمكانة كبيرة تتيح لهم التأثير فى شئون العالم».

«وتؤمن الثورة أيضاً بأن مشاكل العرب هى مشاكل كل المصريين أو إذا كانت مشكلة الاحتلال قد استنفدت وإلى الآن الجزء الأكبر من جهد المصريين فإنها لم تصرفهم أبداً عن المشاركة فى كل جهد عربى يبذل من أجل تحرير العرب ولاشك أن المستقبل سيشهد صوراً جديدة من تعاون المصريين والبلاد العربية».

هكذا كان الوعى مبكراً عند عبد الناصر ليس فقط بأصالة الانتماء العربى لمصر بل وأيضاً بالدور وبالرسالة التى يجب أن تقوم بها من أجل تحقيق الأهداف وصنع المستقبل للأمة العربية كلها، وهذا ما عاد إلى تأكيده عام 1962 فى ميثاق العمل الوطنى عندما قال: «إن أعظم تقدير لنضال الشعب العربى فى مصر، ولتجربته الرائدة هو الدور الذى استطاع أن يؤثر به فى حياة أمته العربية، وخارج حدود وطنه الصغير إلى آفاق وطنه الأكبر».

هنا نلحظ وعى جمال عبد الناصر للعلاقة الجدلية بين دور مصر العربى وبين النجاح الداخلى فى مصر، فكلما استطاعت مصر أن تلعب دوراً مميزاً فى خدمة أهداف النضال العربى استطاعت أن تحقق النجاحات على المستوى المصرى الداخلي، والعكس صحيح تماماً فانكفاء مصر عن دورها القومى العربى وعن التزاماتها العربية يؤدى إلى انتكاسات فى الأداء الداخلى فى كل مجالات العمل الوطني، كما أن نضال الشعب العربى يبقى نضالاً عاجزاً ومحدوداً فى غياب الدور المصرى ولذلك وكما يقول الميثاق «فإن الشعب المصرى مطالب اليوم بأن يجعل انتصاره فى خدمة قضية الثورة الشاملة فى بقية شعوب الأمة العربية».

هنا بالتحديد تتجلى إضافة ثورة 23 يوليو على المستوى القومى العربي، فإذا كانت الثورة لم تخلق عروبة مصر فإنها أكدتها بربط نضال الشعب المصرى بنضال الشعب العربي، فى توحيد ثورة الشعب العربى فى مصر بالثورة العربية الشاملة من أجل تحقيق الأهداف العليا للأمة.

وعى قادة الكيان الصهيونى مبكراً العلاقة بين تحرير فلسطين والمشروع الناصري، لذلك صمم بن جوريون على غزو مصر فى سنة 1955 لتوسيع رقعة «إسرائيل»، وتحجيم جمال عبد الناصر

ثانيا: فلسطين وهدفا الوحدة والتحرير

أعطت ثورة 23 يوليو كل الأولوية من أجل استكمال حركة التحرر الوطنى العربية ومحاربة الاستعمار واعتبرت أن المعركة ضد الاستعمار معركة واحدة، فالانتصار عليه وعلى الأرض العربية بالذات يعد انتصاراً لحركة التحرر الوطنى العالمى كما أن الانتصار عليه فى أى مكان من العالم هو انتصار عليه على الأرض العربية.

وتعتبر الفترة التى أعقبت قيام الثورة عام 1952 وحتى حرب السويس 1956 هى تلك المرحلة الوطنية التى أنجزت فيها الثورة هدف ومهمة تحرر الوطن وبنت استقلاله الوطني، كما أن الفترة التى أعقبت هذه الحرب وبدأت بالوحدة المصرية السورية (22 فبراير 1958) والتلاحم – وليس الدعم – بين الثورة العربية الأم فى مصر وبين حركات التحرر العربى هى بداية تشكل تلك المرجعية العربية لثورة يوليو.

وقد قدمت ثورة يوليو الناصرية نموذجاً سياسياً فريداً بين تجارب التحرر الوطنى فى العالم، حيث لم تسع إلى تحرير مصر فقط من الاستعمار البريطانى إنما سعت أيضاً إلى تحرير الوطن العربى بل وكل شعوب العالم الثالث وهنا تجلى التداخل بين هدفى التحرير والوحدة.

وقد امتلكت ثورة 23 يوليو على المستوى النظرى والعملى مرجعية عربية مثلت محور حركتها السياسية وتعرضت نتيجة لها إلى انتقادات فى الداخل من زاوية الدخول فى معارك لصالح «العرب» وليس مصر، وأيضاً فى «الخارج» على اعتبار أن حركتها مثلت تدخلاً فى الشئون الداخلية لهذه البلدان.

وفى الحقيقة فإن القيمة العليا للثورة تتكشف فى أنها انطلقت من نسق عربى للفعل السياسي، فدعمت ثوار اليمن وثوار الجزائر ليس من أجل بناء نفوذ مصرى هناك إنما من أجل خلق نظام عربى قادر على مواجهة الاستعمار وعلى بناء مشروعه المستقل.

وقد أطلقت ثورة يوليو مفهوماً للوحدة قائم على عملية تواصل خلاّق بين الجوهر الثقافى والحضارى للأمة العربية وبين احترام الخصوصيات الإقليمية لكل شعب عربى على حدة، لكنها ظلت شديدة الارتباط بهدف التحرير والاستقلال الوطنى والقومى الذى لم ينفصل عن هدف تحقيق الحرية الشاملة على المستويين الوطنى والقومي.

فشعار الثورة الخالد كان الحرية والاشتراكية والوحدة بما يعنى ضرورة إجراء إصلاح سياسى واجتماعى داخل كل قطر عربى وإعطاء فرص كبيرة للتفاعل المؤسسى بين الشعوب العربية قبل تدشين الوحدة العربية.

وقد مثلت قضية الوحدة العربية فى فكر ثورة يوليو المرجعية الثقافية التى احتضنت أى فعل سياسي، ولكنها لم تعتبرها فى ذاتها مشروعاً للاستهلاك السياسي، فطرحت مثلاً الحركة العربية الواحدة كمشروع سياسى وثقافى عام للوحدويين العرب، ولم تشرع فى بناء تنظيم قومى واحد يختزل الوحدة فى الأداء السياسى والحزبي، ويتجاهل الفروقات الثقافية والاجتماعية بين كل قطر عربى على حدة.

فمشروع الوحدة العربية يجب أن يتضمن بعدين رئيسيين: الأول متعلق بالجانب الجوهرى الخاص بالتاريخ والحضارة والثقافة واللغة المشتركة والخبرات السياسية المتشابهة فى النضال من أجل الاستعمار، ولكنه يتضمن أيضاً الفعل المؤسسى من ديمقراطية سياسية تضمن انطلاق العمل الأهلى والحزبى بشكل سلمى وديمقراطي، وتجانس فى القوانين وبرامج التعليم والتفاعل الاقتصادى وحركة العمالة ورأس المال وغيرها.

وفى الحقيقة نجد أن ثورة 23 يوليو مارست عملية الدمج هذه بصورة جديرة بالإعجاب، فهى اضطرت تحت ظروف استثنائية إلى أن تقبل بالوحدة بين مصر وسوريا لوعيها بأن الجانب الثانى لنجاح أى مشروع وحدوى لم ينضج بعد، وحين حدث الانفصال واعتبر بعض القوميين فى الوطن العربى أن الثورة قد أخطأت لعدم حفاظها على الوحدة بتصفية الانقلاب الانفصالى كان وعى جمال عبدالناصر بأن هذه التصفية ستعنى فى نهاية المطاف أن هناك دماء مصرية سالت فى مواجهة أخرى سورية وأن هناك فروقات بين الشعبين كانت ستدفع الجزء الغالب منهما إلى الانحياز لمرجعيته الإقليمية.

لقد وعت ثورة 23 يوليو أكثر من غيرها بالفروقات الإقليمية واحترمتها ولم تستخف بها – على عكس ما فعل الكثيرون – واعتبرت أن مشروعها هو مشروع تاريخى للوحدة عليه أن يعتمد أولاً على «التفاعل المؤسسي» والأفقى بين الشعب العربى ويحترم خصوصية كل قطر قبل أن يقرر السياسيون وحدة رأسية تفرض من أعلى ويكون مصيرها الفشل. فى نفس الوقت الذى آمنت فيه الثورة بأن الوحدة العربية هى مشروع أجيال لابد بأن تسبقه خطوات تمهيدية كثيرة.

ففى خطابه أمام مجلس الأمة بمناسبة إعلان الوحدة مع سوريا يوم 22 فبراير 1958 وقيام الجمهورية العربية المتحدة، أبرز جمال عبدالناصر أن الوحدة هدف ثابت للأمة العربية، وأن قيامها هو حتمية طالما توافرت دعائمها. وعندما وقع الانفصال فى 28 سبتمبر 1961 لم يتراجع عبدالناصر عن التمسك بالوحدة كهدف. فإثر نكسة الانفصال حرص عبد الناصر على أن يوجه بياناً إلى الأمة جمعاء باعتبارها كلاً واحداً، أكد فيه إيمانه بتحقيق انتماء مصر العربى وحتمية الوحدة العربية قال فيه: «إننى لأثق فى حتمية الوحدة بين شعوب الأمة العربية ثقتى بطلوع الفجر مهما طال».

وإذا كانت وحدة مصر وسوريا قد انتهت إلى الانفصال، فإن أهم إنجازاتها أنها جعلت الوحدة العربية تخرج إلى حيز التنفيذ، وأنها هدف قابل للتحقيق، ثم، وهذا هو الأهم، أنها ربطت وبقوة وعن تجربة بين هدف الوحدة وهدف التحرير والاستقلال الوطنى والقومى بمعناه الواسع والشامل، سواء كان تحرير القرار الوطنى داخل كل قطر عربى أو تحرير الإرادة الوطنية والقومية فى مواجهة القوى الخارجية المعادية لوحدة الأمة واستغلالها. وجاءت نكسة يونيو 1967 لتؤكد عمق هذا الارتباط، فالقوى التى تآمرت على الوحدة هى نفسها القوى التى دبرت لعدوان يونيو 1967 من أجل كسر إرادة الأمة نهائياً وحرمانها من الحرية والوحدة، ومن هنا جاء الارتباط بين الحرية والوحدة فى المشروع القومى لثورة 23 يوليو.

لقد ارتبط المشروع الوحدوى لثورة 23 يوليو الناصرية بمشروعها التحرري، ذلك لأن النضال من أجل تحرير الأقطار العربية من الاستعمار كان يتم تحت راية العروبة والنضال من أجل عزتها وكرامتها، وكان يستمد قوته من الطموح نحو الوحدة انطلاقاً من وحدة النضال ووحدة المصير ووحدة الأمل فى غدٍ عربى أفضل، وهنا بالتحديد نجد أن فلسطين وقضيتها قد فرضت نفسها وبقوة على جوهر ومحتوى هذا المشروع وهى التى جسدت تلك العلاقة الجدلية بين التحرير والوحدة.

فإذا حاولنا أن نربط بين فلسطين بعد نكبة 1948 ومشروع ثورة 23 يوليو الناصرية، سنجد أن هدف تحرير فلسطين هو العامل المشترك الذى يربط بين الأهداف الثلاث للنضال الوطنى والقومى التى تمثل مرتكزات هذا المشروع الذى تطور فيما بعد إلى مشروع قومى عربى فى مواجهة المشروع الصهيوني.

هذه الأهداف والمرتكزات هي: الحرية والاشتراكية والوحدة. أى التحرر الوطنى والاستقلال وبناء مجتمع الكفاية والعدل، أى المجتمع القادر على تحقيق التقدم الاقتصادى والاجتماعي، ومجتمع العدالة الاجتماعية، وتحقيق الوحدة العربية. ويعد هدف تحرير فلسطين هو الشرط الحاكم - كما يراه المشروع الناصري- لتحقيق هذه الأهداف الثلاث وبالذات هدف الاستقلال والتحرر الوطنى والقومى وهدف تحقيق الوحدة العربية.

فقضية فلسطين هى من ناحية قضية استقلال قومي، باعتبار أن إسرائيل دولة احتلال استيطانى عميل للإمبريالية الغربية (الأوروبية – والأمريكية) وبدون تحرير فلسطين يبقى الاستقلال العربى ناقصاً.

وقضية فلسطين هى حائل دون تحقيق وحدة الوطن العربى بين شطريه فى المشرق وفى المغرب. ففلسطين بعد احتلالها من جانب العصابات الصهيونية تحولت إلى خنجر مغروس فى ظهر الوطن العربى يستحيل معه تحقيق الوحدة إلا بعد استرداد الأرض السليبة.

ولأن تحرير فلسطين يتطلب خوض صراع شامل فإن بناء «الإقليم القاعدة» كما يسميه الدكتور صلاح البيطار بكل ما يحتويه من تقدم صناعى وزراعى وقدرات عسكرية يبقى شرطاً أساسياً من أجل خوض معركة تحرير فلسطين.

وهكذا ظل الكفاح من أجل الحرية والاشتراكية والوحدة من المنظور الناصرى كفاحاً من أجل تحرير فلسطين، وظل الكفاح من أجل تحرير فلسطين كفاحاً من أجل الحرية والاشتراكية والوحدة، فى جدلية شديدة التماسك.

لقد وعى قادة الكيان الصهيونى هذه العلاقة مبكراً بين تحرير فلسطين والمشروع الثورى الناصري، لذلك صمم ديفيد بن جوريون على غزو مصر فى سنة 1955 لتوسيع رقعة «إسرائيل» من ناحية، وتحجيم جمال عبد الناصر الذى كان يعتبره «أتاتورك العرب» من ناحية أخري. وقال بن جوريون فيما بعد أمام «الكنيست» (البرلمان الإسرائيلي): «كنت أخشى دائماً قيام شخصية كتلك التى قامت من بين الحكام العرب فى القرن السابع أو مثل (كمال أتاتورك) الذى قام فى تركيا بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الأولي. فقد رفع معنوياتها وحوَّلهم إلى أمة مقاتلة. لقد كان لا يزال هناك خطر أن يكون ناصر هو هذا الرجل».

لقد حددت «إسرائيل» مبكراً وبالتحديد منذ نهاية سنة 1954 أن مصر هى العدو الرئيسى بعد نجاح مصر فى التوقيع على اتفاقية جلاء الـ 80 ألف جندى بريطانى من شواطئ قناة السويس. بعدها لجأت إلى التخريب داخل مصر، فيما عرف بـ «فضيحة لافون»، ثم كان العدوان الغادر على غزة عام 1955، ثم شن هجوم عنيف ضد القوات السورية قرب بحيرة طبريا. وجاءت سنة 1956، ومنذ بدايتها، لتشهد الإعداد الإسرائيلى الحقيقى لشن عدوان كبير ضد مصر من خلال توقيع اتفاقيات واسعة للتسليح.

ونستطيع أن نلحظ أن القوى التى سلحت إسرائيل لتشن الحرب ضد مصر خلال تلك الفترة هى التى دبرت للحرب وشنتها بجانب القوات الإسرائيلية التى غزت شبه جزيرة سيناء أى بريطانيا وفرنسا فى عدوان 1956 وبعدها بدأ مسلسل الحروب الإسرائيلية ضد مصر لمنعها من تحقيق هدف توحيد العرب وبناء قوتها الذاتية القادرة على تحدى المشروع الصهيوني.

ولقد شهدت السنوات الممتدة من عام 1956 وحتى حرب أكتوبر 1973 ثلاثية كبرى فى تاريخ الحرب العربية - الإسرائيلية التى كانت مصر الطرف الفاعل الرئيسى فيها، وكان مقدراً على مصر أن تدفع الثمن باهظاً فى الأرواح والمعدات وفى الاقتصاد المصرى الذى ظل مرتهناً بجولات الحرب التى خاضتها مصر مع «إسرائيل» وحلفائها طيلة تلك السنوات.

الأهم من ذلك أن هذه المعارك الثلاث، والالتزامات المصرية بخوض الصراع، كان لها تأثيرها المباشر على أهداف النضال المصرى الثلاث. فقد جعلت مصر موقف الدول من الصراع العربى – الإسرائيلى معياراً لعلاقة الصداقة أو العداوة، حدث هذا مع الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة التى تحولت بعد رفض عبد الناصر لمشروع أيزنهاور عام 1957 إلى حليف استراتيجى لإسرائيل وعدو مباشر لمصر. كما أن السعى من أجل الوحدة العربية لم يتم بمعزل عن القوى الرئيسية فى الصراع العربى الإسرائيلى وتفاعلها. فالقوى التى كانت تقف مع الوحدة هى القوى التى واصلت رفع الشعار ضد «إسرائيل»، أما القوى التى أظهرت موقفاً معادياً من الوحدة كانت تقف حجر عثرة أمام هذا الصراع، وكانت مصر فى هذا كله تخوض صراعاً واحداً من أجل الوجود ومن أجل إنجاح المشروع العربي، صراع مع إسرائيل والاستعمار، صراع فى صف حركة التحرر الوطنى فى العالم، صراع من أجل الوحدة ضد التجزئة والتقسيم.

فى العدوان الثلاثى ضد مصر عام 1956 تأكدت معالم الصراع، لكن المعارك التالية وبالذات معركة السد العالى من أجل البناء الاقتصادى والاجتماعي، ومعركة الوحدة مع سوريا وما تلاها من معركة الانفصال، ثم التورط العربى فى حرب باردة امتدت مع حدوث الانفصال وحتى مؤتمر الخرطوم عقب نكسة يونيو 1967، كل هذه المعارك أفرزت ما يمكن أن نسميه على المستوى الوطنى المصرى بـ «قوى الثورة وقوى الثورة المضادة»، كما أفرزت على المستوى القومى العربى معسكر قوى التحرر والوحدة ومعسكر التبعية والتجزئة، ووسط هذا الفرز كانت فلسطين والصراع من أجل فلسطين هى العامل المحدد لقوى كل من هذين المعسكرين، وهو ذات الفرز الذى أكدته الثورة المصرية فى 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 والذى تعيش مصر الآن أهم معاركه.

لقد استطاعت ثورة 23 يوليو أن تؤسس، بهذا الفرز لقوى الصراع وأطرافه على المستوى العربي، حركة تحرر عربية قادت نضال الأمة من أجل الحرية والاشتراكية والوحدة، ولكنها استطاعت أيضاً أن تؤسس وتقود حركة تحرر عالمية مع قوى التحرر الناهضة فى العالم الثالث ابتداء من المؤتمر الآسيوى الأفريقى فى باندونج (إندونيسيا 1955) ثم مؤتمر بريونى (يوغسلافيا – يوليو1956)، وبعده مؤتمر بلجراد 1961 وما تلاها من مؤتمرات وضعت حركة التحرر فى العالم وجهاً لوجه ضد قوى الهيمنة والاستعمار.

إن هذه الحركة العربية التحررية تعتبر من أهم إنجازات ثورة 23 يوليو الناصرية، فهذه الحركة هى البلورة الشاملة للثورة الناصرية، وهى لم تنشأ من فراغ ولكنها كانت وليدة التفاعل الجدلى بين الأهداف الثلاث الكبرى للثورة الناصرية والمعارك التى خاضتها والتى فرضت عليها داخل مصر وعلى المستويين العربى والعالمي.

 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟