المركز العربي للبحوث والدراسات : الفرص والتحديات: اتجاهات الوساطة الصينية في الأزمة الأوكرانية (طباعة)
الفرص والتحديات: اتجاهات الوساطة الصينية في الأزمة الأوكرانية
آخر تحديث: الإثنين 13/03/2023 01:31 م
مصطفى صلاح مصطفى صلاح
الفرص والتحديات:

عاودت الصين التأكيد على متانة علاقتها بروسيا، وفي الوقت نفسه عرضت التوسط من أجل تحقيق السلام. فقد اعتبر وزير خارجية بكين وانغ يي أن العلاقات الصينية-الروسية هي "العلاقة الثنائية الأكثر أهمية في العالم إذ من شأنها أن تفضي إلى السلام والاستقرار والتنمية في العالم"، مضيفًا أن الصين سترسل مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا وهي "على استعداد للعمل مع المجتمع الدولي للقيام بالوساطة اللازمة".

وقد عرضت وزارة الخارجية الصينية مقترح الصين للسلام في أوكرانيا، وذكر المقترح ضرورة احترام سيادة الدول كافة، ونبذ عقلية الحرب الباردة، ووقف القتال والصراع، وحل الأزمة الإنسانية. وأنه من ضمن المقترح الحفاظ على سلامة المحطات النووية، وضمان تصدير الحبوب، والتخلي عن فرض العقوبات أحادية الجانب، وإعادة الإعمار بعد النزاع، وضمان استقرار سلاسل الصناعة والإمداد. بالإضافة إلى التأكيد على ضرورة استئناف الحوار المباشر بين روسيا وأوكرانيا في أسرع وقت ممكن.

بنود الوساطة

تتكون هذه الوثيقة، من 12 بندًا من أهمها البند الأول والذي ينص على ضرورة احترام سيادة كافة الدول وأن جميع الدول متساوية، بغض النظر عن حجمها أو قوتها أو ثروتها، وأنه يجب تطبيق القانون الدولي بشكل موحد والتخلي عن المعايير المزدوجة.

والبند الثاني يطالب بنبذ عقلية الحرب الباردة، مشيرا إلى أنه لا يمكن ضمان أمن دولة ما على حساب أمن الدول الأخرى، ولا يمكن ضمان الأمن الإقليمي من خلال تعزيز الكتل العسكرية وتوسيعها، وأنه من الضروري احترام المصالح المشروعة والهواجس الأمنية لجميع البلدان ومعالجتها بشكل مناسب.

والبند الثالث يدعو إلى وقف القتال والصراع. وأوضحت بكين في هذا البند أنه لا رابح في الصراعات والحروب، وأنه يجب على جميع الأطراف التحلي بالعقلانية وضبط النفس، وعدم صب الزيت على النار، وعدم السماح بمزيد من التصعيد وخروج الأزمة الأوكرانية عن السيطرة، مؤكدة الحاجة إلى استئناف الحوار المباشر بين موسكو وكييف في أسرع وقت. وتجب الإشارة إلى أنه ومنذ بدء الحرب في أوكرانيا، وجدت بكين نفسها في وضع دبلوماسي صعب إذ رفضت إدانة موسكو، حليفتها المقربة، بعدما روجت الشهر لشراكة استراتيجية "لا حدود لها" بين البلدين، وقد جاءت هذه المبادرة بهدف تفعيل الدبلوماسية الصينية في حل الأزمة التي جعلت بكين هي الأخرى في توتر متزايد مع الغرب.

البحث عن الثقة

شككت الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وألمانيا، في جدية مخطط السلام الذي قدمته الصين على شكل وثيقة في 12 نقطة ضمن مسعى لتغليب لغة الحوار لاحتواء أزمة الحرب الروسية ـ الأوكرانية التي دخلت عامها الثاني، وسط مؤشرات على إطالة أمدها.

فغداة نشر الصين لما قدمته على أساس أنه مخطط السلام" لإنهاء الحرب في أوكرانيا، اعتبر مستشار الأمن في البيت الأبيض، جاك سوليفان، أنه يمكن التوقف عند النقطة الأولى من هذه الوثيقة التي تتعلق بـ "احترام سيادة كل الأمم"، مضيفًا بأنه "يمكن للحرب أن تنتهي غدًا، إذا توقفت روسيا عن مهاجمة أوكرانيا وتسحب قواتها".

وباستثناء هذه النقطة التي ركز عليها المسؤول الأمريكي، فهو يرى أن الصين التي باشرت منذ أسابيع، في لعب دور الوسيط في هذا الصراع المسلّح وباعتبارها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن الدولي تقع على عاتقها مسؤولية ضمان احترام قيم ومبادئ وأهداف الأمم المتحدة في مجال الحرب والسلم.

وضمن السياق ذاته، وإذا كانت الولايات المتحددة شككت ضمنيا في نوايا الصين في لعب دور الوسيط، فإن الرئيس الألماني، فرانك ـ ولتور ستاينماير، عبّر صراحة عن شكوكه في الدور البنّاء الذي يمكن للصين لعبه من أجل السلام في أوكرانيا. وهو نفس الموقف الذي عبّر عنه أيضا الأمين العام لحلف "الناتو" جينس ستولتنبورغ، الذي قال بأن الصين ليس لديها الكثير من المصداقية فيما يتعلق بأوكرانيا، معبّرًا عن شكوكه في اقتراحات بكين لإنهاء الحرب.

وقبلها اعتبر رئيس الدبلوماسية الأوروبية، جوزيب بوريل، الوثيقة الصينية بأنها لا تمثل مخططًا للسلام، ولكن مجرد موقف جددت من خلاله الصين مواقفها المعبّر عنها منذ البداية دون أن يشير إلى رفض المقترح الصيني.

وعلى نقيض مواقف الأطراف الغربية سالفة الذكر من المبادرة الصينية، فقد سارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يبحث عن دور لبلاده على الساحة الدولية، إلى الترحيب بالتزام الصين للعمل من أجل إنهاء الحرب. وبغض النظر عن الشكوك الأمريكية والألمانية، فقد اعتبر الرئيس ماكرون، أن التزام الصين في جهود السلام في حد ذاته أمر جيد، معلنًا في السياق عن زيارة رسمية سيقوم بها إلى بكين بداية شهر أبريل 2023.

وبينما أبدى الرئيس الأوكراني، فلودومير زيلنسكي، استعداده للعمل مع بكين، معلنًا نيته في لقاء نظيره الصيني شي جين بنغ، على الجانب الآخر، قالت روسيا، إنها تقدّر الجهود الصينية في نفس الوقت الذي شددت فيه على ضرورة اعتراف الغرب بضمها للمناطق الأوكرانية الأربعة التي أعلنت انفصالها عن كييف لصالح موسكو.

الفرص والقيود

إن المبادرة التي كشفت عنها بكين لا يمكن اعتبارها وثيقة سياسية بالمعنى التقليدي المتعارف عليه، فهي أقرب إلى بنود عامة وأطر أولية يمكن الاستناد عليها لانطلاق عملية التفاوض والمباحثات، دون وضع خطة أو جدول زمني للتنفيذ، أشبه بما قدمته أنقرة قبل ذلك حين استضافت طرفي الحرب ووسطاء دوليين على طاولة النقاش لديها أكثر من مرة، وكان من مخرجاتها الإفراج عن شحنات القمح والذرة العالقة في المخازن الأوكرانية.

وضمن السياق ذاته، فإن مستوى التحديات فالخبرة غير الكافية للصين ربما تعيقها عن القيام بهذا الدور، باعتبار أن الوساطة أحد مستجدات الدور الخارجي للإمبراطور الآسيوي الذي كانت تتمحور سياسته الخارجية في الأساس على المصالح الاقتصادية، مسخرًا لذلك قوته بنوعيها، الناعمة والخشنة.

وهنا يبقى السؤال مطروحًا حول حظوظ نجاح المبادرة الصينية، خاصة وأن الغرب لا يزال يتّهم بكين بدعم روسيا حتى من حيث إمدادها بالأسلحة الأمر الذي نفته السلطات الصينية بشكل قطعي، وليس ذلك فقط، فالصين التي تبقى في نظر الغرب الشريك الاستراتيجي لروسيا امتنعت عن التصويت في الجمعية العامة الأممية على لائحة تطالب بالسحب الفوري للقوات الروسية من أوكرانيا، حتى أنها عطّلت إصدار بيان مشترك لوزراء المالية للدول الأعضاء في مجموعة الـ20 المجتمعين بالهند.

من جانب آخر، رفضت الصين الاتهامات الغربية، وقالت إن الولايات المتحدة ليست في موقف يسمح لها بتوجيه انتقاد لموقف الصين لأنها مع الدول الغربية قدمت أسلحة بمليارات الدولارات لكييف. وإذا صدقت التقارير الأطلسية حول نيّة الصين التخلّي عن الحذر والتحفّظ والتوجّه نحو دعم روسيا عسكريًا في حربها مع الأطلسي على الأرض الأوكرانية، لماذا تُطلق الصين مبادرة سلام وتضع نفسها في دور الوسيط المُحايد؟ فهل تُطلق الصين النداء الأخير، وتُقيم الحجّة على الولايات المتحدة أمام المجتمع الدولي قبل أن تأخذ قرار الاصطفاف إلى جانب روسيا في الحرب؟ وهل الردود المُتعجرفة والسقوف العالية التي تدفع بها الدول الأطلسية سوف تشجع بكين على اتخاذ قرار الدعم العسكري النوعي لموسكو؟

واستكمالًا لهذا السياق، تم طرح فرضية أن روسيا تقوم حربًا بالوكالة عن الصين ضد أمريكا والناتو بالتحديد، ومع تبعات الأحداث والتطورات في الصراع الروسي الأوكراني، اتضحت بعض الخيوط التي تؤكد بأن بكين قامت بحسابات محكمة بشأن الدعم الروسي كجزء من الاستثمار في العلاقات الدولية؛ حيث تُدرك الصين أنها الهدف الأول قبل روسيا على قائمة اهداف الاحتواء الأمريكي، وأن هزيمة روسيا أمام الدول الأطلسية في الحرب سيكون له تداعيات كبيرة وتأثيرات عميقة على الصراع الذي تخوضه مع الولايات المتحدة في شرق آسيا، وإن افشال الدول الغربية للمبادرة الصينية لن يكون عابرًا، لذلك قد تلجأ الولايات المتحدة إلى إجهاض المبادرة من دون رفضها مُباشرة، ويبقى الحكم الأخير في مصير الحرب لمعركة الربيع المُنتظرة.

ومن أبرز تلك العقبات الشكوك التي يواجهها الرئيس الصيني شي جين من واشنطن ودول العالم بدعمه المتزايد لموسكو وتزويد بوتين بالمساعدات العسكرية والسياسية والاقتصادية التي ساعدته على البقاء في المعركة طيلة هذا العام، وهو ما شوه صورة بلاده التي يسعى لتحسينها خلال المرحلة المقبلة من خلال القيام بدور الوسيط، خاصة بعد خسارة الرهان على حسم موسكو المعركة مبكرًا، حسبما ذهب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة تايبيه الوطنية، غوان مينغ، الذي كشف عن فخ الازدواجية الذي وقعت فيه الصين بسبب موقفها من الحرب، فهي التي أمضت عقودًا في الادعاء بأنها تعتبر مبدأ السيادة ووحدة الأراضي أمرًا مقدسًا، لتخالف اليوم بدعمها الروس في تلك المعركة ما ادعته من شعارات.

في الختام: يمثل دخول الصين على ساحة الصراع الروسي الأوكراني تهديدًا فعليًا لمجريات الأحداث وهي ورقة تفاوضية، أما القبول بالعرض الصيني بمبادرة السلام أو الدخول في حرب يشترك فيها الناتو وواشنطن والصين، ومن هنا تشتعل فتيل الحرب العالمية الثالثة بشكلها التقليدي، وأن المناورة السياسية للصين هدفها تغليف مشاركتها في الصراع لأنها هي المستفيد الأكبر من استمراره وإن كان مجاراة الصين بتلك المبادرة وقبولها هي أفضل خيار بالوقت الراهن، والأجدر من البيت الأبيض أن يتعاون مع الصين إن أراد يلعب لعبة الهيمنة. كما أن ترجمة بنود الوثيقة والتغيرات المحتملة في موقف بكين من تحفظات الدول المترقبة وإعادة النظر في توجهاتها إزاء طرفي الأزمة، والخطوات المتخذة في هذا الشأن، ستكون معايير الاختبار الحقيقية التي يمكن من خلالها تقييم الوثيقة واحتمالية تطبيقها، أما دون ذلك فليس إلا محاولة لتجميل وجه الصين وتفتيت سهام النقد الموجهة إليها.