المركز العربي للبحوث والدراسات : مسارات جديدة: اتجاهات النظام العالمي الرقمي (طباعة)
مسارات جديدة: اتجاهات النظام العالمي الرقمي
آخر تحديث: الثلاثاء 31/01/2023 08:34 م
مصطفى صلاح مصطفى صلاح
مسارات جديدة: اتجاهات

خلال جائحة Covid-19، نما عدد مستخدمي الإنترنت بسرعة عندما هاجر الناس والشركات عبر الإنترنت، وهو ما أدى إلى عملية تحول رقمي، ونتيجة لذلك، تقوم المنظمات والبنية التحتية من شبكات الكهرباء وشبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية وإدارات الشرطة إلى البنوك والمستشفيات والمدارس بتجميع كميات هائلة من البيانات لتوفير قيمة للمستخدمين.

وبينما تتيح التكنولوجيا الرقمية الاتصال والراحة والكفاءة، فإن الاستخدام الواسع لجمع البيانات والتحليلات في القطاعات الاجتماعية والمالية والصناعية والعسكرية قد كشف عن ضعف الفضاء الإلكتروني بطرق لم يسبق لها مثيل خاصة تهديدات الأمن السيبراني سواء من جانب فرد أو منظمة لديها القدرة على الإضرار بالمصالح الخاصة والعامة، وزعزعة استقرار النظام الدولي، وتعريض السلام العالمي للخطر.

ولا يزال يتعين على المجتمع الدولي التوصل إلى إجماع عالمي حول نظام رقمي يمكنه التعامل مع القضايا في هذا الفضاء المعقد بشكل متزايد، فبدون هذا الإجماع الذي يحكم الفضاء الإلكتروني، سيظهر اضطراب رقمي عالمي قريبًا.

اضطراب رقمي دولي

عند مناقشة الفوضى المحتملة نتيجة للمنافسة بين دولتين مثل الصين والولايات المتحدة الأمريكية تمتلكان الطاقة النووية، قال هنري كيسنجر، "لن يستخدم أي من الجانبين أسلحة الدمار الشامل لأن الخصم كان دائمًا قادرًا على إلحاق مستوى غير مقبول من الدمار ردًا على ذلك."  كان افتراض كيسنجر أن الدول تعرف من هم خصومها، ويمكنها حتى أن يكون لديها إشارات لهجمات محتملة وتستعد لهالذلك كانت استراتيجية الردع فعالة.

لسوء الحظ، لم تعد هذه العملية الحسابية تعمل في الفضاء الإلكتروني بعد الآن فالفضاء الإلكتروني موجود إلى حد كبير على الإنترنت ويتبادلون المعلومات بحرية في الفضاء الإلكتروني. ويمكن للمتسلل أو المنظمة التي تدخل بشكل غير قانوني إلى هذه الشبكات أن تتسبب في عواقب وخيمة؛ حيث يمكنهم الوصول إلى المجالات السيبرانية للحكومات أو الشركات لتعطيل البنية التحتية أو الشبكات الوطنية المهمة وربما تدميرها.

واستكمالًا لذلك، يمكن تحفيز الآخرين بالمال لسرقة البيانات للتداول في السوق السوداء أو المطالبة بفدية على سبيل المثال، في أستراليا، أدى هجوم إلكتروني على شركة الاتصالات Optus وعلى Medibank إلى اختراق البيانات الشخصية لما يقرب من 20 مليون شخص، بما في ذلك أسمائهم وأرقام هواتفهم وبياناتهم الصادرة عن الحكومة وغيرها من المعلومات الحساسة. ولعل التحدي الحقيقي يتمثل في أنه غالبًا ما يكون من المستحيل تحديد المتسللين أو نسبهم إلى أي دولة ذات سيادة.

ووسط تصاعد التوترات الجيوسياسية، يمكن أن تشن الدول أيضًا هجمات إلكترونية، والتي يمكن أن تهدد الأمن القومي لخصومها وتتسبب في تكاليف تعادل الحرب التقليدية باعتبار أن الفضاء الإلكتروني يكتسب أهمية كبيرة؛ حيث أصبح منطقة أقل تنظيماً ولا يوجد نظام دولي واضح ومتفق عليه يحكم سلوك الجهات الفاعلة - والتي تشمل الحكومات والمنظمات الخاصة والأفراد، وبشكل متزايد الأجهزة التي تدعم الذكاء الاصطناعي. كما أنه في ظل غياب مثل هذا النظام الرقمي الدولي، ستستمر الجهات الفاعلة في اتباع القواعد والمعايير الخاصة بها ، والنتيجة المحتملة هي الفوضى في الفضاء السيبراني.

السيادة الإلكترونية

من بين جميع القضايا المتعلقة بالنظام الرقمي الدولي، تبرز قضية سيادة الفضاء الإلكتروني، على الرغم من تعريف المفهوم بشكل غامض حاليًا وإن كان الإجماع الدولي هو أن السيادة الإلكترونية يجب أن تتبع قواعد السيادة المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، فمنذ إنشاء الأمم المتحدة، كان هناك إجماع على أن سيادة الدول هي أساس القانون الدولي بسبب الطبيعة المفتوحة والمتعددة للفضاء السيبراني، وفي ظل الصعوبات المحيطة بالتمييز بين انتهاكات القانون المحلية والدولية، لهذا السبب، لا يمكن تطبيق قواعد سيادة الأمم المتحدة بسهولة على الفضاء الإلكتروني إذا كانت السيادة الإلكترونية موجودة بشكل مستقل في عالم الإنترنت، فهل تعود السيادة الإلكترونية إلى كل دولة؟ أم أن هناك - أو ينبغي أن يكون هناك - هيئة عالمية فوق وطنية وفوق سيادة تحكم الجهات الفاعلة السيبرانية وأنشطتها؟

وضمن السياق ذاته، يتمثل التحدي المتمثل في بناء إجماع دولي حول السيادة الإلكترونية في أن الدول لديها وجهات نظر مختلفة واحتياجات مختلفة على سبيل المثال، عززت الصين منذ فترة طويلة القواعد الدولية لضمان سيادة الفضاء الاليكتروني حجة بكين هي أنه عندما تتعرض السيادة الإلكترونية لدولة ما للهجوم يمكن غزو أنظمتها الشبكية وسيتم اختراق البيانات المتصلة بالشبكة، وفي مثل هذه الحالات، بدون فهم مشترك للحدود القضائية للسيادة الإلكترونية، فهناك صعوبات تتعلق بمعاقبة المهاجم أو مواجهة الغزو.

وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت الولايات المتحدة في الترويج لمفهوم ما يعرف بــ "السيادة الفائقة للشبكة"، بحجة أن الدول ذات السيادة لديها القليل من الولاية القضائية السيادية على الإنترنت؛ حيث يجب أن تنتمي إلى سكان العالم وأن تكون منصة الحرية والديموقراطية ويتمثل جوهر هذه النظرية في معارضة سيادة الفضاء الإلكتروني من خلال تعزيز الهيمنة على الفضاء الاليكتروني والتي أرست الأساس لإطار سياسة الإنترنت الأمريكية.

وفي ظل الاتجاه نحو بلورة مفهوم للسيادة الرقمية ولبناء إطار عمل للحوكمة المشتركة، حولت الولايات المتحدة سياستها الخاصة بالإنترنت بعيدًا عن الدعوة للانفتاح والحرية واتبعت الحوكمة العالمية، ومع ذلك، فإن مستخدمي الإنترنت وممثليهم في البلدان التي ليس لديها قدرات إلكترونية مهيمنة لديهم فرصة ضئيلة للمشاركة في هذا الإطار.

تنافس القوى الكبرى في الفضاء السيبراني

تحمل المنافسة بين القوى الكبرى في الفضاء السيبراني بين الولايات المتحدة والصين أهمية استراتيجية هائلة لكلًا البلدين يتمثل الهدف الأساسي لواشنطن وبكين في هذه المنافسة في استخدام التفوق في القدرات الإلكترونية لصالحهما الجيوسياسي، وتكمن القدرة السيبرانية الأساسية في القوة التكنولوجية المتراكمة للدولة في رقائق أشباه الموصلات وأنظمة تشغيل الكمبيوتر وأدوات أتمتة التصميم الإلكتروني، والتي تمهد الطريق للحوسبة عالية الأداء والذكاء الاصطناعي والجيل التالي من شبكات الإنترنت والاتصالات المحمولة.

ولهذا السبب، فإن تصعيد التنافس بين القوى العظمى بين أمريكا والصين، من الحرب التجارية إلى حرب التكنولوجيا التي تركز على المنافسة في تلك التقنيات التأسيسية المتقدمة؛ حيث أصبحت موارد مهمة للسيادة الوطنية، والتنمية الاقتصادية، والأمن القومي. ولا تتعلق هذه المنافسة بالمقاييس التقنية فقط بل انتقلت أيضًا إلى الساحة السياسية؛ حيث يتصارع الطرفان على القواعد واللوائح الخاصة بإدارة عمليات نقل البيانات وتخزين البيانات.

ومن ناحية أخرى، فإن الولايات المتحدة لاحتواء تقدم الصين في مجال أشباه الموصلات هي مظهر واضح لهذه المنافسة؛ حيث سمحت القدرات السيبرانية المتنامية للصين بزيادة نفوذها في وضع المعايير ذات الصلة بتصميم وتشغيل الإنترنت في المستقبل، وتعزيز النظام الرقمي الدولي والذي يفسره الغرب على أنه يخدم الأهداف الجيوسياسية للصين، في حين طورت الولايات المتحدة استراتيجية كبرى تستند إلى  السياسة الواقعية الرقمية بهدف أساسي يتمثل في تعزيز الهيمنة الإلكترونية للولايات المتحدة والحد من نفوذ الصين التي تمثل خصمها الرقمي الرئيسي.

في النهاية:  فقد ساهمت المنافسة بين القوى العظمى على الفضاء السيبراني في زيادة خطر الانفصال في الأنظمة التكنولوجية وفي الفضاء السيبراني نفسه، ما لم يتم التوصل إلى توافق في الآراء بشأن بناء نظام رقمي دولي.