المركز العربي للبحوث والدراسات : هل تتكرر نوبة الغضب التي ضربت الأسواق الناشئة في عام 2013؟ (طباعة)
هل تتكرر نوبة الغضب التي ضربت الأسواق الناشئة في عام 2013؟
آخر تحديث: الجمعة 28/05/2021 11:56 م
سنية عبد القادر نايل سنية عبد القادر نايل
هل تتكرر نوبة الغضب

إن الترابط بين الأسواق المالية العالمية، والموقف السائد للولايات المتحدة والدولار الأمريكي، يجعل بقية العالم، وخاصة الأسواق الناشئة، حساسة لأي حدث مالي يحدث في الولايات المتحدة، أو أي تغييرات في السياسة النقدية لبنك الاحتياطي الفيدرالي. كما شوهد هذا آخر مرة في عام 2013 من حدوث ما يسمي ـ"نوبة الغضب التدريجي" "Tapper Tantrum"؛ فتصف العبارة، نوبة الغضب، الارتفاع المفاجئ في عوائد سندات الخزانة الأمريكية عام 2013 الناتج عن إعلان مجلس الاحتياطي الفيدرالي عن تقليص سياسة التيسير الكمي؛ حيث أعلن بنك الاحتياطي الفيدرالي أنه سيقلل من وتيرة مشترياته من سندات الخزانة، لتقليل كمية الأموال التي كان يضخها في الاقتصاد؛ مما نتج عنه في النهاية ارتفاع العوائد على السندات الأميركية. وبالعودة إلى عام 2013، نجد أن الأمور كانت تسير على ما يرام للأسواق الناشئة مع استمرار التدفقات القياسية إلى محافظ الأوراق المالية للأسواق الناشئة في الوقت الذي كانت فيه أسعار الفائدة تحوم حول مستويات صفرية في الولايات المتحدة؛ مما جعل المستثمرون يجدون ضالتهم في تلك الأسواق بحثا عن تحقيق عوائد جيدة.

وقد استمرت موجة هروب الأموال من الأسواق الناشئة منذ بداية مايو وحتى سبتمبر من عام 2013 فيما أطلق على تسميته بالـTaper Tantrum، في إشارة هروب رؤوس الأموال الذي عانت منه الأسواق الناشئة في تلك الفترة بفعل هروب المستثمرين. ويبن شهري يونيو وأغسطس عام 2013، خرج نحو 64 مليار دولار من الأسواق الناشئة. علاوة على ذلك، قد انخفضت تدفقات رأس المال إلى الأسواق الناشئة بنسبة 30% بين شهري مايو وسبتمبر 2013. وقد ترتب على ذلك ضغوط على عملات دول مثل البرازيل والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا وتركيا؛ فكانت تلك الدول، هي الأكثر تضررًا من جراء تلك الأزمة حيث واجهت جميعها الأزمة في ظل ضغوط مبالغ فيها مثل: سعر صرف مبالغ فيه، وعجز كبير في الحساب الجاري؛ فبعد بضعة أشهر من نوبة الغضب، أعلنت إندونيسيا أن نصيب عجز الحساب الجاري ارتفع إلى 4.4٪ من الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة إلى انخفاض توقعات النمو الاقتصادي لتلك الدول.

                في حين انخفضت عملات الأسواق الناشئة بنسبة 5% إلى 6% وهو ما يحدث دائمًا في أزمات الأسواق الناشئة؛ فبينما ترتفع أسعار الفائدة في العالم المتقدم؛ تتراجع عملات الأسواق الناشئة مقابل الدولار ولا يمكنهم دفع التزامات سنداتهم المقومة بالدولار. والنتيجة هي "العدوى"، بحيث يواجه بلدًا بعد آخر انخفاضًا قيمة العملة وعجزًا عن سداد الديون. وفي ذلك الوقت، ضغطت العوائد الأعلى على الدول التي تعاني عجزًا أكبر في الحساب الجاري. كما أن تركيا والأرجنتين، أولى الدول التي تضررت بسبب هذه المشاكل، فكانتا تعانيان عجزا يزيد على 3%. وتبددت الصعوبات في الأسواق الناشئة بعد نوبة الغضب لأن البنوك المركزية عملت على تقليص برامج التحفيز.

وتتمثل المشكلة في أن معظم الاقتصادات الناشئة تعتمد على تدفق الدولارات إلى أسواقها المالية؛ مما يشجعها على بتأخير حتى الإصلاحات الاقتصادية المحلية التي هي في أمسّ الحاجة إليها. فعندما تواجه الاقتصادات المتقدمة صعوبات، تتدفق الدولارات نحو الأسواق الناشئة، ولكن مع أول بادرة للتحسن، تعود تلك الأموال إلى موطنها الأصلي.

وقد عادت نوبة "الغضب التدريجي" التي هزت أسواق الأسواق الناشئة في عام 2013 تثير المخاوف من تكرارها، مع تعافي الاقتصاد الأمريكي هذا العام الذي يشكل مصدر قلق كبير بين المستثمرين؛ فمع ارتفاع توقعات التضخم في الولايات المتحدة بسرعة ارتفاعًا من 1.7٪ في منتصف عام 2020؛ فبدأ يلوح في الأفق خطرًا صغيرًا يتمثل في أن أسواق السندات قد تصاب بالفزع في الأشهر القادمة. وفي المقابل، يمكن أن يؤدي هذا إلى انحدار حاد في منحنى العائد وتشديد الظروف المالية القائمة على السوق، مما يلقي بثقله مرة أخرى على الأسواق الناشئة. ومع ذلك، هناك اختلافات رئيسية بين الآن وبين عام 2013، والتي من الممكن أن توفر دعمًا أكبر قليلاً للأسواق الناشئة. وقد تحرك البنك الاحتياطي الفيدرالي العام الماضي بتيسير سياسته النقدية وخفض أسعار الفائدة لتخفيف حدة آثار جائحة "كوفيد-19" السلبية على الاقتصاد الأمريكي وهو ما تسبب في بيئة صفرية لأسعار الفائدة تكالب معها المستثمرون على ضخ استثماراتهم في الأسواق الناشئة لتحقيق عوائد أفضل

                ومع بداية تولي "جو بايدن" رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية قد مهد ذلك الطريق لتحفيز مالي كبير للاقتصاد الأمريكي. وشهد ذلك ارتفاع عائد سندات الخزانة لأجل 10 سنوات بمقدار 20 نقطة أساس إلى ما يقرب من 1.14٪ في غضون أسبوع - وهو الأعلى في عام 2020 - حيث أدى احتمال التعافي الاقتصادي الأسرع، جنبًا إلى جنب مع ارتفاع التضخم والديون، إلى تكهنات بأن سيضطر بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى تقليل سياسة الدعم الكبير في وقت أقرب مما كان متوقعًا. كما أكد أحدث تقرير لصندوق النقد الدولي، أن سرعة نشر اللقاح في الولايات المتحدة وإقرار حزمة التحفيز المالي بقيمة 1.9 تريليون دولار أمريكي، أدت إلى تعزيز التعافي الاقتصادي المتوقع للولايات المتحدة، وسجلت أسعار الفائدة الأمريكية الأطول أجلًا ارتفاعًا سريعًا، حيث زاد العائد على سندات الخزانة لأَجَل عشر سنوات من أقل من 1% في بداية العام إلى أكثر من 1.75% في منتصف مارس الماضي. ومع استمرار موجة صعود قياسية لعوائد السندات الأميركية ونمو قوي متوقع للاقتصاد العالمي في 2021 وسط مؤشرات على التعافي من تبعات جائحة "كوفيد-19"، بدأ يلوح في أفق الأسواق الناشئة مخاوف من تكرار ما حدث في العام 2013 حينما تحرك الفيدرالي الأميركي للمرة الأولى منذ الأزمة المالية العالمية وقام برفع أسعار الفائدة.

وفي حين أن العديد من الأسواق الناشئة لا تزال تعاني من عجز مزدوج، إلا أن هناك اختلافات رئيسية بين الوقت الحالي وبين عام 2013، مما يشير إلى أن القطاع الخارجي في العديد من الأسواق الناشئة قد يكون أكثر مرونة قليلاً في مواجهة الارتفاع المحتمل في النفور من المخاطرة على المدى القصير، لكن تتوقع وكالة "فيتش" أن تتدهور تلك المرونة بسرعة؛ حيث أن العجز المالي وأعباء الديون في الأسواق الناشئة أصبح أعلى مما كانت عليه في عام 2013. ومع ذلك، يرتبط جزء كبير من تلك الزيادة بالتداعيات السلبية لجائحة "كوفيد-19"، وما نتج عنها من حوافز لتعويض الانخفاض الكبير في الطلب الخاص، والديناميكيات المالية المتدهورة. فعلي سبيل الذكر، الديون الحكومية الضخمة في جنوب إفريقيا وخاصة البرازيل تجعلها عرضة لأي قفزة في أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وهروب رؤوس الأموال منهما.

وربما تصبح الإجابة أن هناك عوامل تتسم بها الأسواق الناشئة الأن تجعلها أقل عرضة لحدوث نوبة "غضب تدريجي" أخري مثل التي كانت في عام 2013. ومن حيث سعر الصرف الفعلي الحقيقي، تعتبر عملات الأسواق الناشئة أكثر جاذبية حاليًا مما كانت عليه في عام 2013، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الانخفاضات في عام 2020، نتيجة التداعيات السلبية للجائحة. في عام 2013، كانت عملات الأسواق الناشئة مقومة بأعلى من قيمتها الحقيقية، في حين أنها حاليًا 12.2٪ مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية. ومع ذلك، هناك تباين كبير. شهدت البرازيل وتركيا وروسيا وماليزيا أكبر انخفاض في قيمة العملة وهي الآن مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية مقارنة بعام 2013، في حين أن الهند الآن مرتفعة قليلاً في قيمتها عن 2013، ولكن بشكل هامشي فقط.

بالإضافة إلى ذلك، تُظهر المقاييس الأخرى التي تساعد في قياس الحساسية تجاه هروب رأس المال، مثل حصة الملكية الأجنبية لديون العملة المحلية، وغطاء الاستيراد وتقييم العملات، أن هؤلاء الأسواق الناشئة في وضع أفضل قليلًا لتحمل بعض النفور من المخاطرة. مما كانت عليه قبل عدة سنوات؛ حيث تبلغ عائدات السندات الحقيقية لمدة عشر سنوات - والتي تساعد على قياس العائد الذي يحصل عليه مستثمرو السندات الأجنبية بعد تعديل التضخم المحلي - حوالي 2.2٪ في المجموع، مقارنة بـ 1.3٪ في عام 2013، مما يدل على عوائد أعلى. ومع ذلك، نلاحظ أن هذا التحسن في العوائد الحقيقية يرجع إلى حد كبير إلى انخفاض التضخم بوتيرة أسرع في الأشهر الأخيرة.

                ومن المرجح أيضًا أن يتعامل بنك الاحتياطي الفيدرالي بحذر أكبر مما فعل في عام 2013. هناك بالطبع علامات استفهام حول المدة التي يمكن أن يحتفظ بها الاحتياطي الفيدرالي حقًا بعوائد السندات المنخفضة للغاية مع تعافي الاقتصاد. وهناك دائمًا خطر أن يؤدي سوء الاتصال من قبل أعضاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة إلى إثارة قلق المستثمرين في مرحلة ما في المستقبل. ومن المتوقع أن تظل عائدات السندات الحقيقية في الولايات المتحدة ستظل سلبية لبعض الوقت لدعم الطلب على الأصول الخطرة مثل تلك الموجودة في الأسواق الناشئة.

بالإضافة إلى أن انخفاض تدفقات رأس المال إلى الأسواق الناشئة في السنوات الأخيرة؛ فتلك التدفقات لم تكن كما كانت عليه في السنوات الأربع أو نحو ذلك بعد الأزمة المالية العالمية. لذلك مع الهروب الشديد لتلك التدفقات مع حدوث صدمة خارجية مثل ارتفاع عوائد السندات الأمريكية. فتشير التوقعات إلى وجود مخاطر أقل لحدوث نوبة غضب؛ حيث كلما قل رأس المال الذي يتدفق إلى الأسواق الناشئة، كلما قلت تلك المخاطر بهروب تلك التدفقات.

وختامًا، فإن العديد من الاقتصادات الناشئة في حالة أفضل اليوم مما كانت عليه في عام 2013، ولكن هذا لا يعنى أن الأسواق الناشئة محصنة تماماً الآن، لكنها تتسم بظروف اقتصادية تساعد في تفسير سبب عدم ارتفاع ضغوط انخفاض قيمة العملة.