المركز العربي للبحوث والدراسات : القرصنة على المستلزمات الطبية.. هل تختفي القيم الإنسانية بفعل كورونا؟ (طباعة)
القرصنة على المستلزمات الطبية.. هل تختفي القيم الإنسانية بفعل كورونا؟
آخر تحديث: الإثنين 13/04/2020 07:34 م
نهال أحمد نهال أحمد
القرصنة على المستلزمات

أدى انتشار وباء كورونا لأزمة سياسية بين العديد من بلدان العالم، أبرزهم الصين والولايات المتحدة الأمريكية على خلفية اتهامات متبادلة بمن يقف وراء نشر الفيروس، وتفاقمت الأزمة فلم تعد تداعياتها مقتصرة على الجانب السياسي فحسب، ولم تقتصر أيضا على ضغوط لم تعد تتحملها القطاعات الصحية في غالبية دول العالم، لكنها امتدت لتمس الجانب الأخلاقي والإنساني، لتبرهن الأزمة الحالية بذلك مقولة " في الحرب لا أخلاق وفي الحرب البقاء دائما للأقوى".

كشفت أزمة فيروس كورونا عن تعري القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية للدول التي طالما تشدقت بها على مدار العقود الماضية ليصبح الطمع والجشع السمتين الأبرز اللتان تتحكمان في العالم، كما كشفت لنا صور كثيرة أنانية دول عظمى، وأظهرت طبيعة العالم المتحضر في زمن الوباء، فالسطو على شحنة كمامات في طريقها إلى ألمانيا وسرقة باخرة تحمل كحول ومواد مطهرة في طريقها إلى تونس وتوارد معلومات خطيرة عن إرسال الصين معدات طبية مفيرسة إلى إيطاليا، كل ما سبق من شأنه إثارة الرعب وطرح تساؤل هام، فهل عرت الكورونا الدول الكبرى وكشفت عن وجهها الحقيقي؟

سيكولوجية الأوبئة

مرت المجتمعات الإنسانية على مدار التاريخ بالعديد من الكوارث الطبيعية والأوبئة التي أودت بحياة مئات الآلاف من البشر وأصابت  ملايين آخرين، وكانت لتلك الأزمة تأثيرها المباشر على القيم الإنسانية التي سادت خلال الفترة الحالية، فقد كانت سببًا في تبديل القيم والأخلاقيات وتغير أولويات البشر كما أثارت العديد من الأسئلة الوجودية، حتى أن الأفراد الذين نجوا بأنفسهم لم يستطيعوا التعافي من الآثار النفسية والاجتماعية التي خلفتها تلك الأزمة، حيث تظل تلك الخبرة راسخة في العقل الجمعي ومكون أساسي في تاريخه تاركة تأثيرات نفسية لأجيال كاملة(1).

ويستشهد على ذلك من فاجعة الطاعون أو الموت الأسود التي قضت على أكثر من 25 % من سكان أوروبا في حين تناولت العديد من الأعمال الأدبية والفنية الخبرة الإنسانية للمجتمع خلال تلك الفترة، فالأوبئة مثلها مثل الحروب تتسبب في تغير الأنماط الحياتية اليومية للأفراد باستمرار كما أنها تعمل على استبدال ملامح الحياة الطبيعية بقيم أخرى يطغي عليها الخوف والقلق.

وبالنظر لفترة انتشار الأوبئة كالطاعون ووباء الأنفلونزا الإسبانية وكذلك في بداية انتشار مرض الإيدز نجد أن أكثر ما يميز تلك الفترة موجات الخوف الجماعي وظهور العديد من التناقضات القيمية، والتي ترجع إلى اعتبار تلك الأمراض جديدة نوعيًا ولا تتوفر بشأنها أي معلومات أو توقعات بكيفية انتشارها ومكافحتها.

أما عن التناقضات القيمية التي تشهدها فترة انتشار الأوبئة، تشير سيكولوجيا الأوبئة إلى وجود طبيعة مزدوجة للسلوك الإنساني، فظاهريًا يبدو الأشخاص أكثر عقلانية واتزانًا، لكن داخليًا تتصاعد مشاعر الخوف والارتياب والقلق سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، وبمرور الوقت ومع احتدام الأزمة يتم انتهاج سلوكيات متناقضة، والأغرب أنها تتعارض مع القيم الإنسانية، ويضاف إلى ما سبق الخوف من وقوع الشخص في دوامة الوباء ذاته، إما بنفسه أو بفقدان أحد من المحيطين به، وكلما طالت مدة تفشي الوباء زاد الضغط على الفرد.

ومن الأمثلة البسيطة على ذلك ما نشهده حاليا في ظل أزمة كورونا من حيث  انتشار حالة من الهلع حول شراء الاحتياجات وهو ما تسبب في أزمة تناقص بعض السلع، ويرجع هذا السلوك إلى حالة الخوف الداخلي التي تدفع الأفراد لهذا التصرف(2).

وبإسقاط هذا الأمر على سلوك الحكومات فإننا نلاحظ أن حالة القلق والخوف من ضبابية المستقبل دفعت بعض الدول نحو انتهاج سلوكيات منعدمة القيم الإنسانية أسفرت عن ظهور ما يعرف بالقرصنة على المستلزمات الطبية وهو ما تسبب في تضاعف أعداد الوفيات والإصابات في دول الوجهة الأصلية لشحنات المستلزمات الطبية.

القرصنة  على القوافل الطبية

وفقًا لسيكولوجيا الأوبئة فإن انتشار الأوبئة المجهولة تؤدي لانهيار القيم الإنسانية بشكل غير متعمد كنتاج لمشاعر الخوف والقلق المتصاعدة لدى المواطنين، وقد انعكس ذلك في وقائع احتيال دول على مستلزمات طبية خاصة بدول أخرى في ظل تفشي فيروس كورونا ليثير ذلك شكوك حول مدى صمود قيم التعاون والتضامن الدولي.

وفي هذا المحور يتم رصد أبرز وقائع القرصنة خلال شهر مضى منذ تفشي وباء كورونا ففي الـ24 من مارس 2020 تواردت أنباء عن اختفاء شحنة مكونة من ستة ملايين كمامة من طراز "أف أف بي 2 " كانت في طريقها إلى ألمانيا، ووفقًا إلى تقرير لمجلة دير شبيغل الألمانية فإن تلك الشحنة اختفت في إحدى المطارات الكينية بعدما اتفقت وزارة الدفاع الألمانية مع إحدى الجهات، بينما أفادت متحدثة باسم وزارة الدفاع الألمانية بأن شحنة الكمامات تشكل جزء رئيسي من إجمالي المستلزمات الصحية المطلوبة(3).

وبالنظر إلى دلالة التوقيت نجد أن اختفاء تلك الشحنة تزامن مع بداية انتشار الفيروس في بعض الدول الأفريقية، إلا أن معدلات انتشار الفيروس بأفريقيا بطيء نسبيًا وهو ما يثير علامات استفهام بشأن ماهية مصدر القرصنة، لذلك قررت السلطات الألمانية فتح تحقيق لمعرفة الطريق الثانية التي سلكتها شحنة الكمامات والتي كان من المقرر أن تصل البلاد في 20 مارس.

جدير بالذكر أن واقعة الاستيلاء على الكمامات لم تكن الوحيدة، فقد تعرضت دول أخرى للقرصنة الطبية، كإيطاليا التي تعتبر أكثر دول العالم تأثرًا بالفاجعة حيث سرق منها شحنة كمامات كانت قادمة لها من الصين، واعترفت جمهورية التشيك بقيامها بذلك واستيلائها على الشحنة التي تضم 680 ألف قناع وأجهزة للتنفس، في حين صرحت وزارة الداخلية التشيكية بوجود سوء فهم وأنه لا مجال لإعادة المعدات بعدما تم توزيعها على المستشفيات في البلاد.

وعقب اعتراف جمهورية التشيك بجريمتها ووسط امتعاض وغضب دولي إزاء هذا التصرف، تعرضت تونس لقرصنة مشابهة وذلك بعد أن تم السطو على باخرة تحمل مواد كحولية ومعقمات إلى جانب مستلزمات وأجهزة طبية حيث أفاد وزير التجارة التونسي محمد مسليني إن بلاده كانت تنتظر شحنة كحول، غير أنه جرى الاستيلاء عليها في عرض البحر وتم تحويل وجهتها لإيطاليا ما سبب نقصًا في تصنيع المعقمات الكحولية في تونس وزيادة أسعار المتاح منها، مضيفًا أن الدول الأوروبية تعيش اليوم حالة من الهستيريا، وبعضها تسرق معدات مكافحة الفيروس".

وتكمن المفارقة العجيبة في أن إيطاليا التي تعرضت لقرصنة على مساعدات طبية كانت موجهة لها من منظمة الصليب الأحمر، وصدر عنها بيانات شجب وإدانة، هي نفسها من تقوم بتلك القرصنة في تفعيل واضح لمقولة نفسي وبعدها الطوفان.

ولتجاوز تلك الأزمة اضطرت الحكومة التونسية لاستيراد صفقات جديدة من الكحول الطبي لزيادة إنتاج مصانع المعقمات التي تمد المستشفيات والهياكل الصحية بها، وهو ما يضيف مزيد من الحمل والضغط على الاقتصاد التونسي(4).

وفي سياق الحديث عن عمليات القرصنة نجد أن الصين بؤرة الفيروس وأكثر الدول تصنيعًا للمستلزمات الطبية لم تسلم أيضا من عمليات السرقة، حيث أفادت وسائل إعلام  صينية استيلاء مدينة دالي الواقعة بمقاطعة يونان جنوب البلاد على شحنة مستلزمات طبية مخصص لبلدية تشونغتشينغ التي بلغ عدد الإصابات بها حوالي 400 حالة، فيما طالبت سلطات تشونغتشينغ من حكام مدينة دالي إعادة الشحنة المكونة من 598 صندوقاً، فرفضوا بزعم أن الكمامات  تم توزيعها على المواطنين.

ماذا يحدث؟

لمعرفة أسباب حدوث تلك الأزمات لابد من تحليل اجتماعي وليس سياسي، فتكرار أعمال القرصنة على مواد طبية خلال الأزمات من شأنه تعرية المعدن الإنساني بزعم الدفاع عن حق الحياة، فقد أثبتت تجارب التاريخ أن فترات الحروب والأوبئة يصحبها دائما ارتفاع نزعات الأنانية وتنعكس مظاهرها في القرصنة والسرقة.

لذلك نجد أن التفكير في الذات والانطواء عليها من أبرز الخصائص الاجتماعية التي يتميز بها الأفراد ومن ثم الجماعات، ومن ناحية أخرى فالدول تحتاج للدفاع عن مواطنيها وهو ما يفسر تواتر حالات سرقة مواد طبية، أو احتكار المواد الغذائية، وهذا ما يمكن إسقاطه تماما على الوضع الحالي في ظل انتشار كورونا إذ يصبح الجار محل شك، وتتغير أنماط العلاقة بين الأفراد في العائلة نفسها، وهذا ما يؤسس بشكل واضح لعلوم جديدة على رأسها سيكولوجية البشر في أزمنة الأوبئة.

المثير للذعر أن انتشار الوباء بلغ مستوى مرتفع في دول  ذات أنظمة صحية قوية، كان يبدو لنا أنها لن تقهر أمام أي طوارئ لكن اعتقادنا حتى الآن في غير محله، فالنقص الحاد لم يعد يقتصر على عدد أسرة المستشفيات المجهزة للعناية المركزة وأجهزة التنفس الصناعية بل لمستلزمات أساسية مثل الأقنعة الواقية والقفازات الطبية، وحتى مواد التطهير العادية، ولا يمكن أن ننسى وفاة الطبيب الإيطالي على إثر إصابته بفيروس كورونا وهو يتعامل مع الحالات المصابة دون أقنعة أو قفازات(5).

لذلك نجد أن نقص المستلزمات الطبية البسيطة وعدم قدرة حكومات الدول العظمى على توفير حاجاتها منها يفتح الباب أمام عمليات التهريب والسرقة، حيث لن تجد الحكومة حرج في تعويض النقص من خلال اللصوص والمهربين، لتفقد القيم الإنسانية التي طالما تشدقت به تلك الدول معانيها وأهميتها وتتصدر الانانية والطمع المشهد.

المراجع

1 _ إيمان الحامدي، قرصنة مستلزمات طبية كانت في طريقها إلى تونس,العربي الجديد، 24/3/2020، متاح على الرابط: https://cutt.us/9VIv3

2 _ هالة الحفناوي، "سيكولوجيا الأوبئة": ماذا يحدث للمجتمعات عند تعرّضها لوباء مفاجئ؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 17/3/2020، متاح على الرابط:

https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/5379

3_ Britain pulls out of 5G contract with Chinese firm Huawei after test kits were found contaminated with Corona virus,voice of the nation organizer,6/4/2020,available at: https://www.organiser.org/Encyc/2020/4/6/Britain-pulls-out-of-5G-contract-with-Huawei.html

4 _ حرب الكمامات.. الضحايا كثيرون وواشنطن متهمة بـ"القرصنة"، موقع سكاي نيوز،5/4/2020، متاح على: https://cutt.us/sl47P

5_ KEITH JOHNSON, European Hopes for Coronavirus Relief Rise—and Then Fall Again The curve appeared to be flattening at last, but the latest numbers augur a longer crisis,foreign policym8/4/2020, available at: https://foreignpolicy.com/2020/04/08/europe-coronavirus-pandemic-flattening-curve-rise-cases/