المركز العربي للبحوث والدراسات : احتجاجات نظام التقاعد..اختبار جديد للرئيس ماكرون (طباعة)
احتجاجات نظام التقاعد..اختبار جديد للرئيس ماكرون
آخر تحديث: الثلاثاء 17/12/2019 12:26 ص
ريم عبد المجيد ريم عبد المجيد
احتجاجات نظام التقاعد..اختبار

بدأ عمال القطاع العام الفرنسي إضرابًا على مستوى البلاد بسبب خطط إيمانويل ماكرون لإصلاح نظام التقاعد الفرنسي، في أكبر تحد للرئيس منذ اندلاع احتجاجات "سترة صفراء" العام الماضي 2018.  وكان عمال السكك الحديدية والمعلمون وطاقم غرفة الطوارئ من بين أولئك الذين انضموا إلى الاحتجاجات، التي تهدد بشل فرنسا لعدة أيام. كما أضرب بعض العاملين في القطاع الخاص احتجاجًا على إصلاحات المعاشات التقاعدية. وفي هذا التقرير سيتم تناول مظاهر تلك الاحتجاجات، وأسباب صعوبة تغير نظام التقاعد، وتداعيات ذلك على الرئيس ماكرون.

الاحتجاجات ضد إصلاح نظام التقاعد

صرح ماكرون أنه يريد ماكرون إنشاء نظام معاشات فردي قائم على النقاط يعمل فيه كل يوم يكسب نقاطًا للحصول على معاشات تقاعدية للعامل في المستقبل. ورأى أن هذا الإصلاح، الذي سيبسط نظام التقاعد الحالي، سيجعل نظام التقاعد الوطني أكثر عدلاً واستدامة من الناحية المالية. تقول الحكومة إنها لن ترفع سن التقاعد الرسمي البالغ 62 عامًا، لكن من المتوقع أن تتضمن الخطة الشروط المالية لتشجيع الناس على العمل لفترة أطول. وقد أُشير إلى أن تلك التغييرات ستكون تدريجية.

 ومع ذلك، ترى نقابات القطاع العام أن هذه الخطة تشكل تهديدًا لحقوق العمال والذين يمكنهم التقاعد الآن قبل 62 عامًا خاصة وأن النظام الحالي يعوض عن النقص الكبير بين المساهمات والمدفوعات في القطاع. وتشعر النقابات أيضًا بالقلق من أنها ستفقد رأيها في المساهمات والمزايا في ظل نظام قائم على النقاط مركزيًا كونها تحصل على امتيازات من النظام القديم تمكن العمال من التقاعد قبل السن المحدد مع الحصول على معاش كبير.  لذا قامت النقابات الإعلان عن بدء إضراب طويل الأمد تعبيرًا عن رفضهم لتلك التغييرات. وبالفعل بدأت في 5 ديسمبر حركة إضراب واحتجاجات جماعية ضد إعادة تصميم نظام التقاعد ودعت النقابات كافة المواطنين إلى التجمع يوم 10 ديسمبر . وأشير إلى أن الإضراب شمل 800000 متظاهر بما يجعله الأكبر  في فترة ولاية ماكرون. وقد تضمن الإضراب 44% من  موظفي EDF (المرافق)، و 80٪ من موظفي RATP (الحافلات)، بالإضافة إلى 55٪ من عمال SNCF (السكك الحديدية). ولم تتمكن بعض الطائرات من الإقلاع بسبب نقص أجهزة التحكم في الحركة الجوية. هذه التعبئة العمالية جعلت الإضراب ينجح في في شل جزء من البلاد، وخاصة منطقة باريس، بسبب النقص شبه الكامل في النقل وإغلاق العديد من المؤسسات التعليمية الوطنية.(1)

ردًا على تلك الاحتجاجات حاولت حكومة ماكرون امتصاص غضب الشارع بالتأكيد على تفهمهم غموض الإصلاح بالنسبة لهم، وأشارت وزيرة النقل إلى وجود مساحة للتفاوض حول طرق تنفيذ إصلاح نظام التقاعد. وقد حاولت الحكومة إقناع النقابات بأن إصلاحها يهدف إلى الحد من عدم المساواة لأنه إذا كانت هناك تفاوتات حالية بين الموظفين من القطاعين العام والخاص أو الرجال والنساء، فإن الإصلاح لن يفيد كثيرًا في كثير من الناس باستثناء ميزانية الدولة.

وبالرغم من هذه الاحتجاجات، أشار استطلاع رأي إلى تأييد الفرنسيين لتغير النظام الحالي، وهو ما قد ينذر بوجود تضارب في موقف الرأي العام حول هذه القضية. فأُشير إلى أن 55٪ من الفرنسيين يرون أنه، من الناحية المالية، لا يمكن لنظام التقاعد الحالي الاستمرار في العمل في السنوات القادمة. 34٪ منهم يعتقدون عكس ذلك و 11٪ لا يعرفون. وكان الاعتقاد بأن النظام لا يمكن أن يستمر في العمل هو الغالب في معظم الفئات الاجتماعية باستثناء الفئة العمرية 18-24 (46 ٪) والطبقة العاملة (46 ٪). ويؤيد ما يقرب من ثلثي الشعب الفرنسي إنشاء نظام قائم على النقاط، فأشار الاستطلاع إلى أن 64٪ من الفرنسيين يؤيدون إنشاء نظام واحد يعتمد على النقاط للعاملين في القطاعين العام والخاص والعاملين لحسابهم الخاص. وبشكل أكثر تحديدًا، 22٪ يدعمون بدرجة كبيرة، و42٪ يدعمون إلى حد ما، و 21٪ يعارضون إلى حد ما و 14٪ يعارضون بشدة. (2)

أزمة نظام التقاعد

يكلف نظام التقاعد الفرنسي الدولة الكثير حيث يحصل المتقاعدون في المتوسط ​​على 61 ٪ من الأرباح السابقة، قبل الضرائب - أقل مما كانت عليه في إيطاليا (83 ٪) ولكن أكثر بكثير من ألمانيا (38 ٪). وهذا يفرض ضغوطًا على المال العام حيث تنفق فرنسا ما يقرب من 14 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي على المعاشات التقاعدية ، أقل قليلاً من إيطاليا المثقلة بالديون (16 ٪)، ولكن أكثر من ألمانيا (10 ٪) وأكثر بكثير من متوسط ​​8 ٪ في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهو ما يدفع النظام الفرنسي إلى فرض الضرائب على عمال الحاليين لدفع معاشات كبار السن. ولكن بسبب عدم وجود عدد كافي من المساهمين الحاليين لدفع تكاليف التقاعد للمتقاعدين، حدث عجز في المعاشات العامة من المتوقع أن يرتفع إلى 10 مليار يورو في 2022. كما يوجد عجز في الموازنة لأن الدولة تجبر بسبب نقص المساهمين على تعويض المتقاعدين كل عام بعدة مليارات يورو. (3)

وتمثل الحل لسد هذه الفجوة في رفع سن التقاعد بعد أن كان الفرنسيون يتقاعدون في وقت أبكر من العمال في أي دولة أخرى بسبب ارتفاع متوسط ​​العمر المتوقع في فرنسا حيث يمكث العمال متوسط ​​ربع قرن في وظائفهم. لذا قام الرئيس السابق نيكولا ساركوزي برفع الحد الأدنى لسن التقاعد من 60 إلى 62 عامًا، وسن الحصول على معاش تقاعدي كامل من 65 إلى 67 عامًا، رغم هذا التعديل ظل نظام التقاعد يسمح للموظفين بالتقاعد قبل هذا السن.

بجانب معضلة سن التقاعد يوجد معضلة أخرى تتمثل في وجود عدة أنظمة تقاعدية مختلفة في فرنسا –للمزارعين، موظفي الخدمة المدنية، عمال السكك الحديدية، مهندسي المناجم، الخ- هذا التعدد جعل القواعد التي تحكم حقوق المعاشات والاشتراكات تختلف بشكل كبير فيما بينها بما يصعب من عملية دمجها في نظام واحد يطبق على الجميع.

وقد قام الرئيس ماكرون بالتصريح بأنه يشرع في تعديل نظام التقاعد رغم تعهده في عام 2017 بعدم تعديل سن التقاعد، بما يعني أنه سيحاول دمج كافة الأنظمة التقاعدية المختلفة في نظام واحد، وهو ما صرح به، حيث أشار إلى أنه سيضع نظامًا واحدًا يقوم على النقاط، في ظله يعامل جميع العمال على قدم المساواة. وبجانب صعوبة إجراء هذا الدمج، توجد معضلة أخرى تواجه مساعي ماكرون الإصلاحية تتمثل في عدم وجود دعم لهذه المساعي.

تحدى أمام ماكرون

في ظل الغضب الدولي من الرئيس ماكرون بسبب انتقاده لحلف الناتو يواجه الآن غضبًا داخليًا يمثل تحديًا على المستوى الداخلي والخارجي. فبعد أن تخلى عن المليارات العام الماضي لتهدئة احتجاجات "السترات الصفراء"، يجب عليه الآن أن يظهر أنه قادر على إصلاح فرنسا وتجاوز هذه الأزمة، حتى لو كان ذلك بشكل رمزي في ظل رفض المواطنين للخطة المقترحة بجانب تشكيك الاقتصاديين في منطق الإصلاح وجوهره حيث يرون أن نتائج الإصلاح المقترح لن يكون لها أي تأثير على الميزانية قبل عام 2025.  وفي هذه المرحلة، لإحداث تغيير في الوضع المالي للبلد، ينبغي على الحكومة أن تحاول تحسين إنتاجية عمالها، بدلاً من ساعات العمل بما يغطي عجز الموازنة. فإذا لم يتمكن من المضي قدمًا في إصلاح نظام التقاعد بتوافق عمالي عليه، فسيواجه صعوبة في النصف الثاني من ولايته، وكذلك صعوبة في تحقيق الدور القيادي الذي يتطلع إليه أوروبيًا.

بالإضافة لهذا الاختبار ، يمكن للاحتجاجات ضد إصلاح نظام التقاعد أن تصبح نقطة انطلاق للتحالفات السياسية الجديدة معارضة له. فقد ظهرت حركات مضادة مثل السترات الصفراء، ويعيد المعارضون التقليديون تنظيم أنفسهم، كما وقفت النقابات العمالية وأتباع مارين لوبان في أقصى اليمين واليسار، بما يجعل الاحتجاجات سببًا في ظهور تلك التحالفات المناهضة لنظام ماكرون في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية التي ستجرى عام 2020، بما يؤثر على فرص ماكرون في الفوز لولاية ثانية.

الهوامش

(1) Aline Robert, “Strong mobilisation against pension reform puts French government to the test”, Euractiv, 6/12/2019, available at: https://www.euractiv.com/section/economy-jobs/news/strong-mobilisation-against-pension-reform-puts-french-government-to-the-test/.

 (2) “SURVEY:How do French people perceive Emmanuel Macron's pensions reform?”, Institut Montaigne, 4/12/2019, available at: https://www.institutmontaigne.org/en/blog/survey-how-do-french-people-perceive-emmanuel-macrons-pensions-reform.

 (3) “Emmanuel Macron faces the rage of the aged: Another French president tries pension reform”, Economist, 12/9/2019, available at: https://www.economist.com/europe/2019/09/12/another-french-president-tries-pension-reform.