2- بعض الخبرات
الدولية للدور التنموي للمؤسسة العسكرية:
تستعرض الدراسة في هذا الجزء أهم الخبرات الدولية
لدور المؤسسة العسكرية في التنمية، وقد اعتمدنا في اختيار حالات الدراسة على
اختيار بعض النماذج من الدول المتقدمة، والدول النامية على حد سواء.
أ-
الولايات
المتحدة الأمريكية: الإسهامات العسكرية لدعم
الاقتصاد الأمريكي تكمن أساسًا في قطاعين؛ المبيعات العسكرية الخارجية، والمناقصات
الإنشائية. وفيما يتعلق بالمبيعات العسكرية؛ فتشترك المؤسسة العسكرية مع المصانع
المدنية في إنتاج نظم التسلح الأمريكية، وهي بذلك تحقق عائد اقتصادي كبير للدولة،
علاوة على عائد سياسي من خلال توظيفها في المعونات الخارجية لحلفاء الولايات
المتحدة كأحد أهم أدوات السياسة الخارجية الأمريكية، أما بالنسبة للمناقصات
الإنشائية فهي مثال لما يقوم به سلاح المهندسين في الجيش الأمريكي، سواء داخل
الولايات المتحدة، خاصة في المشروعات الكبيرة للبنى التحتية، أو ما يقوم به خارج
الولايات المتحدة، مثل إنشاء المطارات والقواعد العسكرية، وهو ما يحقق عائدًا
اقتصاديًا مهمًا للدولة، أو يخصص لدعم ميزانية القوات المسلحة خصمًا من احتياجاتها
من ميزانية الدولة.
ب-
المؤسسة
العسكرية في بريطانيا: لعبت المؤسسة العسكرية البريطانية أدوارًا كبيرة،
على فترات تاريخية مختلفة، في بناء الدولة وتنمية المجتمع في المملكة المتحدة،
ولقد كان لها السبق في مجال التدريب والتعليم في المجتمع البريطاني، كونها تمتلك
واحدة من برامج التعليم الأكثر شمولًا وفعالية، بما يتضمنه ذلك من قدرتها على
تقديم العديد من الفرص للمؤهلات المدنية، الأكاديمية منها والعملية. وتهدف المؤسسة
العسكرية من ذلك غرس صفات الوفاء، الانضباط، والشعور بالهدف والمسئولية، وتنمية
قيم الانتماء، والهوية، والأسرة، وتعظيم الرغبة في التعلم وتطوير الذات. وأوجدت المؤسسة
العسكرية، أساليب مبتكرة لتحسين وتثقيف جميع الشباب، من خلال "برامج إشراك
الشباب" الذي قامت بتعميمه. وما يجعل هذه البرامج فريدة من نوعها هي أنها
أثبت ملاءمتها لجميع الطبقات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، وجميع مستويات
الذكاء والقدرة الفردية، ومع الشباب من جميع الخلفيات العرقية والثقافية.
ت-
المؤسسة
العسكرية في باكستان: دخلت المؤسسة العسكرية في
الاقتصاد من خلال المشاريع التجارية ومجالات الرعاية الاجتماعية، وهذه المشاريع
التي أنشئت لرعاية الجنود المتقاعدين والمعوقين، تعمل اليوم على مجموعة واسعة من
الأنشطة التجارية، التي كثيرا ما تتقاطع فيها المصالح الاقتصادية والجيوستراتيجية،
وهي من أكبر التكتلات التجارية في باكستان. ويدير الجيش الباكستاني محفظة
استثمارية قيمتها 20 مليار دولار، ويملك 7% من أصول الدولة في باكستان، واستثمر في
فترة قريبة 10 مليار دولار في تصدير غاز ومصانع سكر وشركات خدمات أمن. كما أن المؤسسة
العسكرية أسهمت في مجال تطوير الهياكل الأساسية، وفي ميادين الهندسة والاتصالات،
وأنشأت قوات الدفاع، ولا تزال تدير جزئيًا، مصانع السكر، وتصنيع أغذية الإفطار
والمطاط والأحذية.
ث-
جيش الدفاع
الإسرائيلي: طبيعة بناء وتكوين جيش الدفاع الإسرائيلي يعتمد على
بناء الدولة من القواعد، تزامنًا مع خوض الحرب، ومشاركة الجيش في المجالات
الاقتصادية والتنموية قد يكون جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية بناء الدولة في حد
ذاتها. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى خصوصية نموذج إسرائيل، وهو يتشابه نوعيًا
مع جنوب أفريقيا، حيث تقوم القوات المسلحة بعدد من الوظائف الاجتماعية خاصة في
مجالات التعليم والتنشئة والتكامل فضلًا عن مجالات الإنشاء، وتمثل المؤسسة
العسكرية المجتمع السياسي الكلي للمستوطنين حيث تسهم في خلق التماسك والتكامل
بينهم.
ج-
الجيش
البتسواني: استخدمت بتسوانا المؤسسة العسكرية في حماية الحياة البرية، حيث
تمتلك بتسوانا ثروة بيئية من الحيوانات البرية الكبيرة وكانت هناك حاجة قوية
لحمايتها من عصابات الصيد المسلحة. كما
أنها تلعب دورًا كبيرًا ومتناميًا في خطط الدولة للتنمية الاقتصادية في قطاع الأمن
البيئي والاقتصادي، وهنا كان التلاقي والتعاون كمصلحة وطنية مهمة. هذه المهمة
العسكرية هي فريدة من نوعها في أفريقيا، وهي مهمة غير تقليدية بالمقارنة بالأدوار
التقليدية للعسكريين داخل القارة.
ح-
المؤسسة
العسكرية في السنغال: تم تكوين الجيش لمساعدة
الدولة في عدد من الأنشطة، مع إيلاء اهتمام خاص للقضايا المتصلة مباشرة بالتنمية؛
وتشمل الصحة، وتطوير البنية التحتية، والزراعة، والتعليم، وإدارة الحدود، وحماية
البيئة. ويقدم الجيش استجابة كبيرة وأدوارًا وملموسة للشعب ويشارك في مشاريع طويلة
الأجل مثل المساعدة في بناء الهياكل الأساسية وبرامج الوقاية من الأمراض، ويقوم الجيش
السنغالي بذلك جنبًا إلى جنب مع وزارات مثل البيئة والصناعة.
خ-
القوات
المسلحة الأردنية: تعدى دور المؤسسة العسكرية
الأردنية ذلك إلى الدور التنموي المتمثل في دفع حركة التنمية والمشاركة في تنفيذ
المشاريع الاقتصادية والبنية التحتية. وتقوم القوات المسلحة الأردنية بدورها
التنموي من خلال المشاركة في تخطيط العديد من المشاريع التنموية وتنفيذها، ومن
أبرز مجالات هذه المشاركة مجال التعليم والثقافة، والمجال الصناعي، والصحي،
والزراعة والبناء والتعمير، والإنقاذ والإخلاء.
د-
المؤسسة
العسكرية الإيرانية: قامت المؤسسة العسكرية
النظامية في إيران بأدوار عدة، تنوعت بين الدور التثقيفي للمدنيين، والذي اتخذ شكل
تدريب وتجهيز الموظفين للتدريس في المدارس التي كانت تشرف عليها المؤسسة العسكرية،
ومساهمة بعض الأفراد في المؤسسة العسكرية للعمل كمستشارين ومنسقين للعمل التعليمي
والتنموي، وخاصة في المجتمعات الريفية، حيث العمل على تنظيم برامج لتعليم الأطفال
ومحو أمية الكبار، وتعزيز النظافة الصحية والأنشطة الترفيهية، لكن سرعان ما حمل
هذا الدور الحرس الثوري الإيراني الذي قلل من تكلفة العقوبات الغربية والأمريكية
واستطاع التكيف وأن يوسع أدواره ويدعم اقتصاد الدولة في وقت واحد.
ثالثًا- الدروس
المستفادة
انتهت
الدراسة بأن مساهمة المؤسسة العسكرية في عملية التنمية هي واقع تشترك فيه الدول
المتقدمة مع الدول النامية بأشكال ودرجات مختلفة، فقد أصبح دور المؤسسة العسكرية
الاقتصادي والاجتماعي مرتبطًا بوجودها وتطورها، وبخاصة مع تراجع الحروب التقليدية
والتغير النسبي في مفهوم الوظائف الدفاعية.
وفي
الخبرة العربية في السنوات الأخيرة، لم تستطع الدول الاستجابة بالشكل الكافي
لمطالب وطموحات الشعوب، علاوة على العوامل الخارجية التي ضغطت في اتجاه عدم
الاستقرار، وبذلك فقد فرضت المعطيات ضرورة تحمل المؤسسات العسكرية دورها في تلك
الفترة الخطيرة، من أجل القفز على حالة الاضطراب السائدة، ومدفوعة كذلك بغرض تحقيق
مستوى تنمية يتوافق مع رغبة الشعوب، حيث أصبحت مهمات مثل مواجهة الفقر ورفع معدلات
التنمية ضمن اعتبارات الأمن القومي ومن متطلبات الوظيفة الدفاعية.
وفي هذا الإطار استخلصت الدراسة عدد من الدروس
المستفادة من الخبرات التي تم مناقشتها في هذه الدراسة، وهي: -
§
إن الصورة النمطية
التقليدية الشائعة داخل بعض البلدان العربية من تضخم الأدوار التنموية للمؤسسة
العسكرية، ليست هي الصورة الدقيقة والوحيدة المعبرة عن دور ومساهمات المؤسسات
العسكرية، حيث إن العديد من الخبرات الدولية، مثلما في الولايات المتحدة الأمريكية
وبريطانيا، قد أثبتت أن الدور التنموي للمؤسسة العسكرية لا يتعدى الحدود الطبيعية
للتأثير، ولا يتضخم ويعظم منافعه على حساب المصلحة الوطنية أو على حساب إضعاف القطاع
الخاص، إنما هو موازن ومكمل له في ضوء علاقات التعاون والتكامل وتحقيق التنمية،
ذلك أن هناك قواعد وضوابط قانونية مؤسسية عرفية قد استقرت داخل ممارسات المؤسسة
العسكرية في تلك الدول.
§
إن دور المؤسسة العسكرية
يمكن أن يكون أكثر جدوى إذا ما وجه إلى مشروعات البنية الأساسية التي تتجه لصالح
المجتمع كله، ولا تهدف لتحقيق ربح.
§
إن من يتولى إدارة
المشروعات الاقتصادية والاجتماعية من داخل المؤسسة العسكرية لابد أن يكون مؤهلًا
للقيام بهذا العمل من حيث النظام والشعور بالواجب.
§
إن مساهمة المؤسسة
العسكرية في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية يجب ألا يتداخل مع المهام
الرئيسية لها، وهي تلك المتعلقة بالدفاع وحماية الأمن، كما أنها لا يجب أن تحل على
المدى الطويل محل الاقتصاد المدني.
§
أضحت المؤسسة العسكرية
الداعم الأساسي والرئيسي لبعض منظمات المجتمع المدني، ولبعض المشروعات الاقتصادية
والخدمية، بما يسهم في تعزيز العلاقة بين الدولة والمجتمع والمواطنين، وبما يسهم
في تواري النظرة التقليدية السلبية للمؤسسة العسكرية، وبخاصة في خبرات دول العالم
الثالث.
وهذا
الوضع يستدعي الحديث عن عقد جديد في العلاقات المدنية-العسكرية قائم على التشارك
ومواجهة التحديات وبناء الدولة بعيدًا عن النظريات الصراعية التي حكمت تلك
العلاقات وتتمحور حول القفز على السلطة، والتي أرهقت الدول النامية وتوارى بسببها
أفق التنمية؛ فالمؤسسة العسكرية وكما هو الحال في الدول التي خطت بعيدًا في هذا
الأمر واستقر فيها نمط العلاقات بين المؤسسة العسكرية والمؤسسات المدنية، تقوم
بأدوارها التنموية في ظل قواعد وحدود واضحة، وكونها أحد أهم مؤسسات الدولة تقوم
بدورها كأي مؤسسة أخرى، في معادلة متوازنة دون بسط نفوذها أو تقليص قدراتها، وضمن
معايير من الشفافية.