المركز العربي للبحوث والدراسات : روسيا وكأس العالم: القوة الناعمة تضرب بقوة (طباعة)
روسيا وكأس العالم: القوة الناعمة تضرب بقوة
آخر تحديث: الأربعاء 13/06/2018 08:32 م هاني دانيال
روسيا وكأس العالم:

تستضيف روسيا كأس العالم لكرة القدم في الرابع عشر من الشهر الجاري وحتى 15 يوليو القادم، بمشاركة 32 منتخبا من أرجاء المعمورة، في حدث دولي ينتظره الملايين من كل أنحاء العالم، وأنفقت من أجله المليارات كى تكون في أبهى صورة، والإصرار على تقديم صورة مشرفة عن القيصر الروسي، الذى أصبح في شبه عزلة نتيجة اتحاد المصالح الأمريكية الأوروبية.

طموح القيصر

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يهمه ان تظهر بلاده في صورة الدولة القوية التى لا تتأثر بأى مشاغبات من أي طرف، ولا تستسلم لمحاولات العزلة الجبرية التى تود الدول الغربية أن تفرضها على موسكو، وخطابات السياسية الأخيرة تدل على أنه ماض في طريقة نحو استعادة مجد الامبراطورية الروسية، وأنه لن يرضي بسياسية القطب الأوحد التي تفرضها واشنطن في السنوات الأخيرة.

الدور الروسي لم يتوقف في العقد الأخير عند مرحلة تخفيض الديون لبعض الدول، ولم تهتم بموسكو بالمضايقات الغربية وحلف الناتو بعد ضم شبه جزيرة القرم   في 2014، ودورة الألعاب الشتوية سوتشي 2014، التي حرص بوتين على أن تكون في أقوى صورة كى تلفت الأنظار إليها بالرغم من المشكلات السياسية التي كانت تعانى منها وقتنها بسبب الأزمة الأوكرانية، وإنما أظهرت قوتها في التواجد الفعال على المستوى الدولي، وتغيير مسار الأزمة السورية بعد الضربات الجوية التى شاركت بها منذ أكتوبر 2015 وما تبعه من تدخل على مستوى التحرك البري.

كدليل على الرغبة الروسية في فرض سطوتها وهيمنتها على أرجاء المعمورة، أنفقت حوالى 13 مليار دولار لاستضافة المونديال، لتأهيل المدن الـ 11 المضيفة، من خلال بناء ملاعب جديدة، وتطوير ما هو ممكن منها، بناء الكثير من الفنادق وملاعب التدريب، إلى جانب تطوير المطارات، وتحديث البنية التحتية التى لم تطال أيادى التطوير لها منذ عقود،  وربما تنظر روسيا للمستقبل بشأن كيفية استغلال هذه المرافق التي تم تطويرها بعد المونديال، بعد ان عانت مدينة سوتشي من الركود بعد دورة الألعاب الشتوية، في ظل وجود مرافق وبنى تحتية وفنادق بلا رواد.

القوة الناعمة الروسية

في 2016 تمكنت روسيا من الصعود لأول مرة في ترتيب الدول الأكثر امتلاكا للقوة الناعمة وصولا إلى قائمة الدول الـ30 الأقوى، وفقا للترتيب السنوي الذي تقوم به وكالة " Portland " البريطانية للعلاقات العامة، والتى تعتمد على مقياس قدرة دول مختلفة على التأثير على البلدان الأخرى عن طريق قيمها الاجتماعية بدلا من الأموال أو الأسلحة.

وحسب هذا التقييم احتلت روسيا المركز الـ27، بعد أن كانت في 2015 في قائمة الدول الـ50 الأكثر نفوذا من حيث "القوة الناعمة".

المقاطعة الغربية

حاولت بعض الدول فرض عزلة على موسكو، على خلفية أزمة الجاسوس الروسي المزدوج سيرجي سكريبال وابنته، الذى تعرض لعملية تسمم في بريطانيا، وهو ما ظهر في القرار الانجليزي بحظر سفر أى مسئول بريطانى لروسيا على هامش كأس العالم، وعملية طرد الدبلوماسيين المتبادلة بين البلدين،  وما ترتب على ذلك من قيام عدد من الدول الأوروبية بطرد عدد من الدبلوماسيين الروس، في عودة إلى أجواء الحرب الباردة، في الوقت الذى تتباين فيه المواقف الأمريكية تجاه موسكو، ما بين عداء شديد من أطراف بإدارة الأمريكية، ومحاولات ودية آخري لمنع قطع خطوط التواصل، حفاظا على المصالح المشتركة بينهم وخاصة في سوريا، ومنع وصول الأمر إلى حد العداوة الشديدة.

وبالرغم من أن ألمانيا لم تتخذ المواقف الحادة التى سارت عليها دول آخري، إلا أن هناك توجس غير مكتوم نتيجة التوغل الروسي في مختلف القضايا الدولية، واستغلال واشنطن للمشاكل الداخلية في ألمانيا لتقوية الحليف الفرنسي الجديد، ومحاولة تقديم ايمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي الشاب قائدا جديدا للقارة العجوز، ومحاولة جذبه في عدد من الملفات للانضمام للوصاية الأمريكية، وهو ما ظهر في التعاون الثلاثي بين واشنطن وباريس ولندن في ضرب دمشق منذ شهور، كبداية على أن هناك تحالفات جديدة قد تظهر على الساحة لمواجهة المطامع الروسية ومحاولة اذلال بوتين ودولته.

استعداد عالمي

كل المؤشرات تشير إلى أن روسيا سوف تنظم حدثا عالميا فريدا بالرغم من المقاطعة الغربية لبعض الدول، وبالرغم من التهديدات الارهابية التي أعلنت عنها الجماعات الارهابية وخاصة تنظيم داعش، والذى أصدر عدد من التحذيرات للمنتخبات المشاركة والجماهير متوعدا بعمليات استشهادية، وتراهن روسيا على أجهزة الاستخبارات القوية التى تتمتع بها، وتواجدها في سوريا جعلها تمنع وصول الجماعات الإرهابية إليها، وهو ما برز من تصريحات مجلس الأمن القومي الروسي بأن مشاركة القوات الروسية في سوريا حفاظا على الأمن القومي، ومنع الجماعات الارهابية من تنفيذ هجماتها داخل الأراضي الروسية، وإن كان اقليم الشيشان هو المكان الأكثر خطورة حتى الآن، ومؤخرا تم استهداف كنيسة على يد عناصر متطرفة، وبالرغم من عدم تواجد أى مباريات في هذا الإقليم، إلا أن مدينة جروزني عاصمة الإقليم تستضيف إقامة المنتخب المصري خلال فعاليات البطولة، ومن ثم ستكون تحت المراقبة طوال الوقت خشية نجاح العناصر الارهابية في تنفيذ هجماتهم.

الرئيس الروسي نفسه يري أن نجاح المونديال الكروي هو نجاح له شخصيا، وهو ما يظهر من الإشراف المباشر له على كافة التجهيزات، فقد شهد قرعة البطولة في ديسمبر الماضي وألقي كلمة ترحيبية ودعوة الملايين للاستمتاع بالمباريات، وتسهيل عملية قدوم المشجعين إلى روسيا، من خلال إصدار بطاقة مشجع لكل من يحمل تذاكر المباريات، والتي بموجبها يسمح لحاملها بدخول روسيا دون تأشيرة، إلى جانب استخدام وسائل المواصلات بين المدن المستضيفة أو بداخلها مجانا،  إلى جانب تسهيل كل الإمكانيات التي يطلبها الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" من أجل ضمان نجاح البطولة، وبموجبها ستعمل روسيا على غزو كل أرجاء المعمورة لما تتمتع به كرة القدم من شعبية طاغية.

الاعلانات.. والرهان الناجح

بعد تأهل منتخب مصر للمشاركة في كاس العالم لأول مرة بعد غياب 28 عاما، اجتاحت شاشات الفضائيات كثير من البرامج والمسلسلات والاعلانات تتحدث عن روسيا، وعرض لقطات من مناطق مختلفة بموسكو ومدن آخري، تكررت كلمة روسيا عشرات المرات على المشاهدين المصريين والعرب، فهناك مناظر تحمل مواقع تاريخية وأثرية ترسخت في الوجدان وأصبحت معروفة بانها من روسيا، وهناك كلمات وعبارات أصبح المشاهد العربي يبحث عن معانيها باللغة الروسية كي يتواصل مع الروس في حال السفر وتشجيع المنتخبات العربية، فاللغة الانجليزية نادرا ما يستخدمها المواطنين الروس، ومن ثم تظل اللغة الروسية هي وسيلة التواصل الأسهل.

المركز الثقافي الروسي وضع مزيد من الخطط لمخاطبة المشجعين العرب، ما بني تنظيم فعاليات رياضية وثقافية في البلدان العربية التي تأهلت منتخباتها للمونديال، وهو ما سرع من وتيرة التفاعل الثقافي، وتفعيل برامج التبادل الثقافي والدراسي وكلها أمور لم تكن تحت الضوء قبل المونديال الروسي.

ماذا بعد المونديال

هناك رواج سياحي متوقع، ونفوذ سياسي متزايد، وارتفاع لقيمة العملة الروسية "الروبل" نتيجة الاقبال الشديد من الجماهير العالمية على حضور المباريات وزيارة الأماكن السياحية، إلى جانب ارتفاع في حالات الارتباط والزواج من الفتيات الروسيات التي تصنف من أجمل الفتيات على العالم، وظهور القيصر الروسي بوتين في المظهر القوى الذى يرجوه أمام دول العالم، مما يمهد له تنفيذ ما تبقي من أجندته التي يتسلح به في ولاياته الرئاسية الثانية، وتمكينه من انتشال بلاده من الأزمات الاقتصادية التي عصفت بها في العقود السابقة، وسط تحالف قوى مع الصين يمكنه من تبديد أي محاولات لإضعافه من القوى الغربية، ومن ثم  تزداد عمليات بيع الأسلحة المتطورة ومزاحمة واشنطن على تحقيق طفرة هائلة من بيع الأسلحة، إلى جانب الحفاظ على التواجد الروسي في الشرق الأوسط، وعدم خسارة أى مواقع كما كانت تخطط واشنطن من قبل، في محاولتها الفاشلة لإبعاد موسكو من المشهد السياسي بالشرق الأوسط.

ولكن يبقي السؤال.. هل تصمد روسيا أمام المحاولات المستمرة من قبل الغرب لإضعافها وإبعادها عن مواقع النفوذ عالميا؟، أم تستغل موسكو تردد واشنطن والمشاكل الداخلية التى يعانى منها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتوجيه مزيد من الصفعات مستقبلا؟..