المركز العربي للبحوث والدراسات : الانتخابات الرئاسية في كولومبيا: أي مصير ينتظر اتفاق السلام مع "فارك"؟ (طباعة)
الانتخابات الرئاسية في كولومبيا: أي مصير ينتظر اتفاق السلام مع "فارك"؟
آخر تحديث: الجمعة 01/06/2018 01:00 ص نهال أحمد
الانتخابات الرئاسية

تشهد كولومبيا حالة من الحراك السياسي على خلفية الانتخابات الرئاسية الحالية، والتي أثارت جدلًا واسعًا؛ حيث تعد الأولى منذ إبرام اتفاق السلام مع الحركات اليسارية عام 2016، لتنتهي بذلك خمسة عقود من الحروب الدموية، ورغم ذلك لا تزال الأوضاع السياسية غير مستقرة نتيجة لحالة الانقسام والتشرذم التي يعاني منها المشهد السياسي، في سياق الاعتراضات المتنامية من قبل بعض الأطراف السياسية داخل التيارات اليمينية على بعض بنود الاتفاق، الأمر الذي يمكن أن ينعكس بشكل عميق على مسار  السلام في حالة فوز مرشح اليمين.

أولاً- ديناميكيات الصراع بين حكومة "بوغاتا" والجماعات اليسارية

بداية النزاع الكولومبي

تعتبر الحرب الأهلية الكولومبية أطول الحروب وأكثرها دموية على مدى التاريخ، فقد بدأت في منتصف الستينيات واستمرت قرابة 52 عامًا، بين القوى اليسارية الشيوعية ممثلة في كلًا من القوات المسلحة الثورية الكولومبية "فارك" وجيش التحرير الوطني من جهة، والحكومة الكولومبية المعادية للشيوعية من جهة أخرى، ما أسفر عن مقتل ما يقرب من 250 ألف شخص، وتهجير حوالي 5 مليون مواطن.

وقد تميزت الحروب الأهلية بكونها لم تقتصر على الحكومة الوطنية، والجماعات المتمردة فحسب بل شملت أطراف خفية قدمت دعمًا ماديًا ومعنويًا، تجلت في  الدعم الأوروبي والأميركي والكندي للحكومة الوطنية على المستوى الخارجي، إلى جانب تلقيها دعمًا داخليًا من كبار عصابات الاتجار بالمخدرات التي كان لديها مصالح مباشرة مع الحكومة الوطنية.

في المقابل؛ حصلت الجماعات اليسارية المتمردة على دعم خارجي من قبل الدول ذات الأنظمة الشيوعية كفنزويلا وكوبا والاتحاد السوفيتي، إلى جانب اعتمادها على تمويلات من قبل ميليشيات مسلحة "كجيش التحرير الشعبي"، وحزب "العمال الثوري الكولومبي"، وكذلك عوائد اتجارها بالكوكايين.(1)

تطور مراحل المفاوضات وصولًا إلى اتفاق السلام

وعُقدت خلال الفترة من 1984 وحتى توقيع اتفاق السلام في أغسطس 2016، العديد من مفاوضات السلام، كانت أولها مفاوضات عام 1984، حينما قررت حركة "فارك" الاستجابة للضغوط والتفاوض مع الحكومة إلى جانب تعهدها بوقف اطلاق النار، وبالفعل استمرت تلك الهدنة قرابة 3 سنوات، أعقبتها الحركة باغتيال المرشح الرئاسي حينها "لويس كارلوس جالان" ما أدى لدحض كافة الآمال في استمرار الهدنة، وعودة الصراع مرة أخرى بين الفصائل المتنازعة.

                وفي أغسطس 2012 أعلن الرئيس الكولومبي حينها "خوان مانويل سانتوس" عودة المفاوضات من جديد التي استمرت على مدار أربع سنوات تولت رعايتها كل من (فنزويلا، تشيلي، وكوبا)، وتم خلالها اتخاذ العديد من الإجراءات التي أدت في نهاية المطاف إلى وقف اطلاق النار وإنهاء الحرب الأهلية، وذلك بالتوقيع على اتفاق السلام التاريخي بين الحكومة الكولومبية الوطنية، والحركات الشيوعية المتمردة.(2)

ماهية اتفاق السلام بين الحكومة الوطنية و"فارك"

جسد اتفاق السلام الآلية الحقيقية القاضية بإنهاء ما يزيد عن نصف قرن من الحروب الأهلية، وتمثلت أهم مضامين هذا الاتفاق في إنهاء الاقتتال ونزع أسلحة المتمردين، في حين تقدمت الحكومة الوطنية بتعهدات بعدم ملاحقة المتمردين السابقين، كما نص الاتفاق أيضًا على تقديم تعويضات لأهالي الضحايا ومعاقبة المسؤولين عن الانتهاكات الحقوقية، وعُرضت مضامين الاتفاق على استفتاء شعبي نال الموافقة المطلوبة لإقراره، وبالفعل تم نزع السلاح من منظمة "فارك" وتحولت إلى حزب سياسي.(3)

مهددات اتفاق السلام:

ورغم المجهودات المبذولة والمبادرات التي تم تقديمها للتوصل إلى حل شامل من أجل وقف القتال داخل المجتمع الكولومبي إلا أنها لم تلقَ قبولًا من بعض القوى السياسية؛ حيث عارضته غالبية الفصائل اليمينية عقب فترة من التوقيع عليه، وكانت أبرز مبرراتهم في هذا الصدد أن القوات المسلحة الثورية الكولومبية "فارك" لم تلتزم ببنود الاتفاق فيما يتعلق بإمداد السلطات بمزيد من المعلومات حول طرق تهريب المخدرات وأهم عصابات الاتجار بها، إلى جانب تجاهل الاتفاق لفكرة محاكمة المتورطين في ممارسات لإنسانية بحق المواطنين أثناء فترة الحرب الأهلية الممتدة.

ثانياً- الاستحقاق الرئاسي وتناحر تياراي اليمين واليسار الكولومبي

تعتبر الانتخابات الرئاسية الحالية بكولومبيا من أخطر وأهم الدورات الانتخابية، لما لها من خصوصية تتعلق بالأوضاع السياسية الحالية وتوتر العلاقات ما بين تياري اليمين بموقفه المتشدد من اتفاق السلام مع "فارك" من جهة، والتيار الشيوعي من جهة أخرى، وبنظرة سريعة على مسار الانتخابات نجد أبرز المتنافسين في تلك الانتخابات وهما رئيس بلدية بوجوتا سابقًا "جوستاف بترو" وهو مرشح يساري كان عضوًا سابقًا في مجموعة المتمردين، ويرتكز برنامجه الانتخابي على تحقيق طفرة في المجال الاقتصادي بالاعتماد على تفعيل استراتيجية مصادرة العقارات الكبيرة، واتخاذ إجراءات اقتصادية صارمة ضد كبار ملاك الأراضي إلى جانب سعيه لإصلاح ضريبي آخر يهدف إلى رفع الرسوم على أرباح الشركات وإلغاء الإعفاءات الضريبية للمستثمرين الكبار، بينما يعكس وصوله مؤشرًا هامًا في سير كولومبيا على مسار التحول الديمقراطي الصحيح.(4)

وعلى الجانب الآخر، نجد مرشح اليمين "إيفان دوكيه" الذي يجسد الخطر الحقيقي على اتفاق السلام، وقد ارتكز برنامجه الانتخابي على تعديل السياسات الاقتصادية لصالح المستثمرين وهو ما يخالف بشكل كبير تطلعات مرشح اليسار، إلى جانب تأكيده المستمر على قيامه بإجراء تعديلات مناسبة لاتفاق السلام، أو إلغاؤه تمامًا في حالة عدم الوصول لصيغة توافقية، وكذلك نيته إنشاء محاكم لمعاقبة المتمردين سيما أعضاء "فارك" الذين انتهكوا الأوضاع الحقوقية للمواطنين خلال عقود الحرب الأهلية.

ويستدل على ذلك من تصريحات "دوكيه" المستمرة التي يؤكد خلالها على أن "أعضاء فارك مكانهم في السجن وليس في البرلمان"، إلى جانب تأكيد أنصاره على واقعة القائد السابق بالقوات المسلحة الثورية "يسوع سانتريتش" الذي تطالب الولايات المتحدة بتسليمه بعد اتهامه بتيسير صفقة مخدرات أبريل 2017، ومن ثم يشكل فوز مرشح اليمين تهديدًا حقيقيًا على استقرار الدولة الكولومبية في حالة قيامه بتقويض هذا الاتفاق.

وبالنظر إلى النتائج الأولية للجولة الأولى للانتخابات فقد أظهرت عدم حصول أي من المرشحين على نسبة أعلى من 50%، ما يعني خوض المرشحين الأكثر خطورة وهما "دوكيه" و"بيترو" لجولة الإعادة في يونيو المقبل، وذلك بعدما حصل "دوكيه" على 39% وهو مؤشر أكثر خطورة لما يعكسه من احتمالية فوزه في الجولة الثانية، بينما حصل "بيترو" على 25% من إجمالي الأصوات، وفي هذا السياق تجدر الاشارة الى أن استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات عكست اتجاه الناخبين الكولومبيين بعد التوقيع على اتفاق السلام  نحو التركيز على الأمور الاجتماعية والقضايا المتعلقة بالمساواة والفساد كبديل لاتجاههم سابقًا نحو التركيز على القضايا الأمنية، وهو ما يقتضي وضعه في الحسبان عند تحليل نتائج الانتخابات فيما بعد.(5)

ثالثاً- السيناريوهات المتوقعة بشأن مستقبل اتفاق السلام

ومن هذا المنطلق، تعكس المؤشرات الأولية تقارب نسبي بين جملة الأصوات التي تحصل عليها كل من "دوكيه" و"بيترو"، وهو ما يثير تساؤلًا بشأن مستقبل اتفاق السلام. وفي هذا الصدد تتعدد السيناريوهات، ففي حالة فوز مرشح اليمين "إيفيان دوكيه"، يصبح هناك احتمالين: الأول إجراء تعديلات في بنود الاتفاق، خاصة تلك التي تتعلق بحظر محاكمة الأعضاء في صفوف الحركات التمردية، وكذلك إعادة النظر في عدد المقاعد التي تتحصل عليها حركة "فارك" في المجالس النيابية، والسعي نحو تقليصها قدر الإمكان. فيما يتمحور الاحتمال الآخر حول الاعتراض التام على كل بنود اتفاق السلام ومن ثم إلغاؤه كلية، وفي كلا الوضعين سيؤدي هذا السيناريو إلى تصاعد السجال ما بين التيارين اليميني واليساري وينتهي الوضع بتكرار مأساة الحرب الأهلية .

وعن سيناريو فوز مرشح اليسار، يصبح هناك احتمالين أيضًا، وهما استجابة الكتلة اليسارية لمطالب التيار اليميني بإجراء تعديلات لبعض بنود الاتفاق لكن هذا الاحتمال يكاد يكون أضعف الاحتمالات المتوقعة، فيما يتمثل الاحتمال الآخر وهو الأكثر منطقية في رفض النظام السياسي حينها إجراء أي نقاشات بشأن اتفاق السلام، ما ينذر بحدوث احتكاكات بين الكتلتين تفضي في نهاية المطاف لنفس مأساة الحرب الأهلية.

وسيناريو ثالث يتمثل في تدخل قوى دولية وإقليمية مؤثرة، بحيث تقوم بوضع صيغة توافقية تحظى بقبول الطرفين سواء ما يتعلق بصياغة التعديلات الخاصة ببعض بنود الاتفاق أو حتى طرح اتفاق جديد يحظى بقبول من كافة القوى السياسية، وفي اعتقادي يعتبر هذا السيناريو هو الأنسب لتوترات الوضع الحالي الذي لن يتقدم فيها أي طرف بتنازلات لصالح الطرف الآخر.

وختامًا؛ فإن مسار الوضع الكولومبي ومصير اتفاق السلام يتوقف على ما ستؤول إليه نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التي ستشهد استقطابًا واضحًا للأصوات، يصعب معرفة لصالح من ستصب هذه الأصوات, لكن الأمر الأكثر وضوحًا هو استمرار ضبابية المشهد لحين الإعلان عن المرشح الفائز. حينها ستنذر الأوضاع إما بحرب أهلية في حالة تعنت الطرفين وعدم الالتفاف حول مشروع سياسي واحد يحقق تطلعات المواطنين، وإما نجاح التيارين اليميني واليساري في الوصول لصياغة مُجمع عليها تساهم في تجاوز مرحلة الانقسامات، والالتفاف حول مصلحة الدولة القومية.

المراجع:

(1) Wesley Tomaselli, Colombia’s presidential race heads to run off, washingtonpost, May 27,2018,available at: https://www.washingtonpost.com/world/the_americas/colombians-vote-in-first-round-of-presidential-election/2018/05/27/0f410bf2-5dbf-11e8-b656-236c6214ef01_story.html?noredirect=on&utm_term=.c98d6eabf64f

(2) Alan Yuhas, "Colombia's half-century of conflict that led to historic peace deal" ,the guardian ,23june2016,available at: https://www.theguardian.com/world/2016/jun/23/colombia-timeline-farc-civil-war-peace

(3) Colombia's government formally ratifies revised Farc peace deal, the guardian,1dec,2016,available at: https://www.theguardian.com/world/2016/dec/01/colombias-government-formally-ratifies-revised-farc-peace-deal

  (4) Christine Armario," Colombia’s presidential election spawns fear division",washingtonpost, May 25,2018:available at: https://www.washingtonpost.com/world/the_americas/colombias-presidential-election-spawns-fear-division/2018/05/25/faadaf28-6049-11e8-b656-236c6214ef01_story.html?utm_term=.dbc842e01a5f

(5)اليمين واليسار في مواجهة تاريخية على الرئاسة بكولومبيا، جريدة الشرق الأوسط،29/5/2018، متاح على:

https://aawsat.com/home/article/1283201/%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%A7%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A8%D9%83%D9%88%D9%84%D9%88%D9%85%D8%A8%D9%8A%D8%A7