مصر في مفترق
طرق. ولذلك فإنها كمجتمع ومؤسسات وجماعات وأفراد يجب أن تحدد بدقة مسارها القادم،
وإلا فإنها قد تضل السبيل ليس لسنوات وإنما لعقود مقبلة، وهو ما لا يجب أن يقبل به
أحد يخلص لهذا البلد، لأن ذلك ينطوي على إهدار للطاقات وللموارد، ويتسبب في ضياع
الفرص المتاحة لاستعادة الدور الذي دأبت مصر على القيام به إنطلاقاً من مقومات
القوة التي تتمتع بها، سواء القوة المادية التقليدية (الصلبة) أو القوة المعنوية
غير المادية (الناعمة). ونتيجة لأن مصر في تاريخها الطويل تمتعت بإمكانات القيام
بدور فاعل سواء على المستوى الاقليمي، أو المستوى العالمي؛ فقد اعتاد بعض
السياسيين أو الأنظمة محاولة "تقمص الدور" أو الإيهام بأنهم يقومون
بدور، بينما هم في الحقيقة يهدرون الوقت والموارد.
ونتيجة للدور
الموهوم فإنهم يتسببون في صدم الوعي والوجدان الوطني بخيبة أمل أو خيبات أمل
متتالية تقود إلى شيوع ظاهرة "الإحباط السياسي"، وهي الظاهرة التي تؤدي
فيما بعد إلى ما أطلق عليه أنا تكريس
الروح المجتمعية المتآكلة depleted
societal spirit وتمثل الروح
المجتمعية المتآكلة الكابح أو (الفرامل) الذي يوقف حتى مجرد التطلع إلى مستقبل
أفضل وبالتالي إلى شلل كل أو معظم محركات القوة في المجتمع، وتكون النتيجة أن دور
القوى الفاعلة في المجتمع يتوقف عند حدود إنتاج ما يساعد على استمرار البقاء ليس
إلا، بعيداً عن أي رغبة أو قدرة على اقتحام ميادين المنافسة المتنوعة على
المستويات المحلية والإقليمية والعالمية. إن شيوع الروح المجتمعية المتآكلة أو
ظاهرة تآكل الروح المجتمعية لا يعني موت المجتمع أو الدولة، ولكنه يعني خمود
مقومات القوة، وتفكك وتدهور قوة المؤسسات المكونة للدولة.
والحقيقة أن
هذه ليست بظاهرة جديدة على مصر؛ فقد مرت بها في عصور الإنحلال الفرعوني وعصور الانحطاط
المملوكي وهي العصور التي تبع كل منها خضوع مصر للسيطرة الأجنبية بسبب فقدان دور
محركات القوة في المجتمع. ولذلك، فإن حقيقة أن مصر دخلت إلى مفترق طرق استراتيجي
(سياسي واقتصادي واجتماعي) تفرض علينا إعادة دراسة مقومات القوة بجوانبها وأشكالها
المختلفة لغرض فهم إمكانات محركات النمو الكامنة وكيفية تشغيلها وتوظيفها للخروج
من مفترق الطرق إلى طريق صحيح، وبناء الأسس لممارسة دور يتناسب مع إمكانات محركات
القوة، مع العمل في الوقت نفسه على تطوير هذه المحركات وتنمية قدراتها.
وسوف نقتصر في هذه
الدراسة على عرض إطار نظري لفهم موضوع "القوة الناعمة" مدعماً ببعض
الأمثلة التي قد تساعد على هذا الفهم (1).
ما هي القوة؟
يعتبر موضوع "القوة"
واحداً من الموضوعات التي شغلت الفلاسفة والمفكرين في فروع العلوم الاجتماعية منذ
وقت مبكر في تاريخ الفكر البشري. وقد اهتم بهذا الموضوع فلاسفة الإغريق مثل
أفلاطون وأرسطو والفلاسفة العرب وعلى رأسهم عبد الرحمن بن خلدون، كما اهتم بها
مفكرو عصر التنوير والنهضة مثل جون هوبز وفلاسفة عصر الثورة الصناعية وما بعدها
مثل ماكس ويبر وتالكوت بارسونز وصولاً إلى عصر الحرب الباردة مثل جورج كينان وهنري
كيسنجر وروبرت دال حتى عصر ما بعد الحرب الباردة مثل إسهامات جوزيف ناي.
والحقيقة أن
دراسات القوة في الوقت الحاضر تعتمد إلى حد كبير على الإسهامات التي طورها كل من
روبرت دال Dahl وجوزيف ناي Nye ، فقد استخلص
دال مفهوماً واضحاً ومحدداً للقوة منذ العام 1957، ولم يكتف بذلك، بل إنه استمر في
تطوير هذا المفهوم على ضوء المناقشات وإسهامات غيره من علماء السياسة حتى وفاته
عام 2014. أما جوزيف ناي فإليه يرجع الفضل في سك مفهوم "القوة الناعمة" Soft Power ثم
"القوة الذكية" Smart Power. ولقد أسهمت كل من المناقشات بين علماء السياسة والإضافات التي
أجراها ناي نفسه في تطوير مفهوم القوة الناعمة والقوة الذكية حتى تجاوز كل منهما
الصيغة الأولية التي كان قد نشأ بها.
وتعود أهمية
الدراسات في موضوع "القوة" حالياً إلى التغيرات الشديدة التي تجتاح
العالم والتي أسفرت عن تغييرات في بنية القوة على النطاق العالمي وتوازنات القوى
مقارنة بما كان عليه الحال بعد الحرب العالمية الثانية أو خلال فترة الحرب
الباردة. ويعتبر كتاب ناي الأخير (مستقبل القوة) The Future of Power (2011) من
أهم الإسهامات في ميدان دراسة تلك التغيرات وبيان أثرها على مستقبل السياسات
الخارجية للدول الكبرى القديمة والجديدة.
ومع ذلك، فإن
أهمية دراسات القوة في الوقت الحاضر تمتد كذلك لتغطي أثر التغيرات في موازين القوى
على المستويات الإقليمية خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط التي تحتوي على ثلاثة أنظمة
فرعية مختلفة للقوة على الأقل (شرق البحر المتوسط، والخليج، وشمال أفريقيا) تتداخل
فيها أدوار القوى العالمية والإقليمية وأدوار الحكومات والجماعات غير الحكومية
(المسلحة على وجه الخصوص). ولا تقتصر أهمية دراسات القوة بمعناها الواسع على فهم
التغيرات التي تجري في بنية القوة على المستويين العالمي global والإقليمي regional ، بل إنه
يمتد ليشمل دراسة التغيرات التي تجري في بنية القوة على المستوى الوطني في كل بلد national خصوصاً إذا رجعنا إلى ما توصل إليه روبرت دال
بخصوص العلاقة بين الجماعات والمؤسسات داخل الدول وعلاقات القوة التي تحكم التطور
السياسي الداخلي في كل بلد. إن روبرت دال يعتبر بحق أستاذ دراسات الديمقراطية في
العالم بما أضافه إلى مفاهيم الممارسة السياسية والعلاقات بين الأفراد والجماعات
داخل المجتمع الواحد.
وقد تأثرت
دراسات "القوة" في الوقت الحاضر إلى حد كبير بالتغيرات التي طرأت على
مفاهيم وممارسات القوة في العالم خلال العقود القليلة الماضية، وارتبطت هذه
الدراسات إلى حد كبير بمفهوم ودور القوة في العلاقات بين الدول أو على مستويات
السياسة الخارجية بشكل عام. وفي هذا السياق تم تطوير مؤشرات لقياس القوة، خصوصاً
مكونات القوة الناعمة وذلك بغرض إلقاء الضوء على المؤثرات الفاعلة في صناعة
السياسة الخارجية والعلاقات بين الدول. وتعتبر جداول "القوة الناعمة 30"
Soft Power 30 Index الذي طوره جوناثان ماكلوري Jonathan McClory إضافة
تطبيقية شديدة الأهمية لنظرية جوزيف ناي في القوة الناعمة؛ فهذه الجداول التي بدأ
ماكلوري إصدارها بالتعاون مع مركز دراسات الديبلوماسية العامة في الولايات المتحدة
USC Center on Public Diplomacy منذ العام 2015 ثم انضم إليهما مركز دراسات
الديبلوماسية العامة في جامعة جنوب كاليفورنيا (اعتباراً من العام 2017) تمنح
مفهوم "القوة الناعمة" قوة نظرية وتطبيقية هائلة لأنها توفر اساسا لقياس
تأثير ظواهر صعبة القياس أو غير قابلة للقياس على دور الدولة وقدرتها على تحقيق
النفوذ. وبفضل تقرير القوة الناعمة فإنك تستطيع بنظرة واحدة معرفة ترتيب أكثر 30
دولة تقدما في مؤشرات القوة الناعمة على مستوى العالم.
وبناء على دراسات روبرت دال وفي مقدمتها دراسته الأساسية
عن مفهوم القوة (2) The Concept of
Power فإننا نستطيع أن نستنتج الملامح التالية لمفهوم القوة، فالقوة هي:
- مفهوم نسبي مقارن وبعيد تماما عن المعنى المطلق خصوصا
في الزمن الطويل والمتوسط.
- وهي مفهوم متغير باختلاف مكونات القوة خصوصاً مع
التطور التكنولوجي.
- وهي مفهوم مركب يكتسب طابعاً أكثر تقدما مع مرور الزمن.
- وهي مفهوم يحتوي على عدة أوجه مجتمعة في وقت واحد،
يمكن تجميعها في مجموعتين: القدرات capabilities والممارسات أو السلوك behavior
ويعرِّف روبرت
دال القوة على أنها قدرة طرف أو لاعب على التأثير في أفعال غيره من الأطراف
واللاعبين بما لم يكن يمكن تحقيقه بشكل آخر. وهذا التعريف الذي أطلقه دال يمكن أن
ينطبق في حال استخدام وسائل قوة الترهيب والإجبار coercive power كما يمكن أن ينطبق أيضاً في حال تحقيق تغيير في
سلوك الآخرين بوسائل قوة الترغيب persuasive power ولذلك، فإن
جوزيف ناي (3) في تعريفه للقوة يبني على المفهوم الذي صاغه دال مع فارق
جوهري ألا وهو التأكيد على تحقيق النفوذ بواسطة الترغيب وقوة الجذب المعنوية وليس
عن طريق قوة الضغط والإكراه ولا حتى عن طريق الترغيب باستخدام وسائل مالية.
وقد استمر
جوزيف ناي في تطوير مفهومه عن "القوة الناعمة" ليفارق بمفهومه ما استقر
عليه مفهوم القوة لدى روبرت دال. ومنذ نشر ناي كتابه الأول عن القوة الناعمة (4)
فإنه لم يتوقف عن الاشتباك مع غيره من علماء السياسة بشأن طبيعة ذلك المفهوم وأيضاً
بشأن إضفاء أكبر قدر من المرونة عليه بحيث يكون قادراً على تجنب الجمود أو العجز
عن تفسير أوجه القوة في الوقت الحاضر. وقد بلغ الجدل بشأن مفهوم "القوة
الناعمة" حد أن ناي نفسه وجد نفسه غريباً على المفهوم كما يجري تداوله بين
علماء السياسة. (5)
ما هي القوة
الناعمة؟
القوة الناعمة
إذن تعتمد على إحراز النفوذ بواسطة الإقناع والترغيب وتوفير مقومات التقدم والرقي
وتقديم النموذج الجذاب الذي يغري الآخرين بالحذو حذوه وتقليده، بينما القوة الصلبة
(المادية) تعتمد على فرض النفوذ بواسطة القوة المسلحة والعقوبات المادية، وقد ينتج
عن استخدامها في معظم الأحوال الكثير من الدمار والخراب والتأخر. إن القوة الناعمة
بتعبير آخر هي القدرة على خلق حوافز لتشجيع إقامة شبكات من العلاقات التعاونية
التي تعود بالفائدة على أطرافها، بصرف النظر عن معايير المكاسب أو المنافع النسبية
لكل طرف والتي قد تختلف بالنسبة لطرف عن غيره
من الأطراف. إنها علاقة win-win بين طرفين أو أكثر في سياق سلمي ينتج وفرة للجميع في
الآثار الكلية الناجمة عنه.
وبسبب طبيعتها
التي تختلف عن القوة الصلبة (المادية)، فإن القوة الناعمة تعتمد أكثر ما يكون على
مقومات تختلف عن تلك التي تعتمد عليها القوة الصلبة. إن استخدام القوة العسكرية
وهي الأداة المطلقة لفرض النفوذ يتطلب قرارات من مؤسسات رسمية مثل البرلمانات
والحكومات وقيادات الجيوش، لكن استخدام القوة الناعمة لم يعد يحتاج للإعتماد على
الحكومات والمؤسسات الرسمية، وإنما يعتمد أكثر ما يكون على الهيئات والمؤسسات غير
الحكومية مثل منظمات المجتمع المدني والشركات المتعددة الجنسية وحتى الأفراد. فقد
أدى انتخاب إيمانويل ماكرون في فرنسا إلى صعود بلاده في عام 2017 إلى قمة جدول
القوة الناعمة على مستوى العالم، بينما هبطت الولايات المتحدة إلى المركز الثالث
بسبب انتخاب دونالد طرامب! ولا شك أن شعار الحملة الإنتخابية لطرامب "أمريكا
أولاً" قد ترك صورة سيئة عن الولايات المتحدة في الخارج، وتأكدت هذه الصورة
عندما أعلن طرامب خروج بلاده من معاهدة باريس للمناخ. كذلك فقد أدى عزل الرئيسة
ديلما روسيف من كرسي الرئاسة في البرازيل عام 2016 إلى تراجع موقع البرازيل على
جدول القوة الناعمة العالمي لتهبط إلى المركز 29
مقارنة بالمركز 23 قبل عزل روسيف (6).
وقد ساعدت
تكنولوجيا الإتصالات الحديثة الأفراد على كسر الحواجز الجغرافية التي كانت تقوم
حائلاً بينهم وبين القدرة على التواصل، وهكذا نشأت شبكات وغرف تعارف ومحادثات بين
أفراد من بلدان ومناطق جغرافية مختلفة، ومن ثم فقد أصبح وعي الأفراد يتشكل بعيداً
عن وسائل الإعلام الرسمية التي تكرس بشكل أو بآخر نفوذ المؤسسات الرسمية مهما قيل
عن استقلال مؤسسات الإعلام التقليدي. وبذلك أصبح للأفراد دور أكثر أهمية في
التأثير على نظرة الآخرين إلى السياسات المحلية في بلدانهم، وهذه النظرة أو الصورة
التي تتكون لدى الآخرين تسهم بقوة في تشكيل مفهوم الآخرين عن قوة البلد أو حكومته
أو مدى رشاد وصلاح سياسته.
ومع ذلك، فإن
المؤسسات التقليدية تظل جزءاً من مقومات القوة الناعمة من حيث كفاءة وفاعلية
الأداء، وليس من حيث الحجم أو الثروة. ومن أهم مقومات القوة الناعمة التي ترتبط
بالمؤسسات الرسمية كفاءة وفاعلية ومهارة الديبلوماسية، وكفاءة ومهارة وفاعلية
السياسات العامة التي تعتمدها المؤسسات الرسمية وتعمل طبقاً لها في ميادين التجارة
والثقافة والرياضة والعلاقات العامة مع المجتمعات الأخرى بما في ذلك تنظيم
المهرجانات والمعارض والمسابقات وتشجيع الإبتكار والإختراع والدراسات والتطبيقات
التكنولوجية المتقدمة. إن جزءاً مهماً من نجاح مفاوضات إيران مع الدول الكبرى على
سبيل المثال يعود إلى "المهارة الديبلوماسية"، وهو ما ساعد على التوصل
إلى إبرام اتفاق يضمن حق إيران في مواصلة برنامجها النووي باستثناء مكونه العسكري
المتعلق بإنتاج سلاح نووي. في حين أن دولاً أخرى مثل ليبيا وسورية اضطرت إلى
التسليم في الجولة الأولى وتخلت عن برامجها في إنتاج أسلحة متطورة بدون مفاوضات
تقريباً.
كذلك، فإن
مصادر القوة الناعمة تتضمن مقومات تاريخية، مثل التاريخ والحضارة الفرعونية في حالة
مصر، ومثل مثيلاتها في بلدان مثل اليونان والصين والهند. ومن مصادر القوة الناعمة
كذلك مقومات جغرافية وهبات طبيعية مثل الموقع كما هو الحال في مصر التي تقع في
ملتقى طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب، ومثل الشواطئ المشمسة الخلابة على
شواطئها المطلة على البحرين الأبيض المتوسط والأحمر.
وعلى ذلك، فإن
مصادر القوة الناعمة تنقسم بين مقومات نوعية بشرية مثل المهارة والميل للتعارف مع
الآخرين والإختلاط بهم، وبين مقومات نوعية مؤسسية، وبين مقومات تكنولوجية ومقومات
ثقافية ومقومات تاريخية ومقومات طبيعية. التجسس السياسي والعسكري والصناعي
والتكنولوجي من مصادر القوة الناعمة.
ويحتاج استخدام
القوة الناعمة عموماً إلى الصبر وإلى الاتصال في التخطيط والتنفيذ وليس الانقطاع؛
فبسبب طبيعة مصادر القوة الناعمة، يحتاج الحصول على نتائج استخدامها أو توظيفها
إلى وقت أطول. وفي هذه الحالة، فإن نوعية الإدارة أو السياسة وطبيعة الإجراءات
التنفيذية للحصول على النفوذ من استخدام مصادر القوة الناعمة تحكم إنتاجية استخدام
مصادر القوة الناعمة. أما بالنسبة للقوة الصلبة، فإن استخدامها لفرض النفوذ لا
يحتاج للأجل الطويل، وإنما يتحقق ذلك أو يفشل مباشرة بعد توظيف واستخدام مصادر
القوة الصلبة في الأجل القصير. فالحروب قد تستغرق أياماً أو حتى سنوات، لكنها
تنتهي في أغلب الأحوال إلى نتائج مادية واضحة ومكشوفة، وذلك على العكس من استخدام
القوة الناعمة الذي لا تظهر نتائجه إلا عبر الزمن ومن خلال تراكمات بطيئة. فإذا لم
تتوفر شروط الصبر والاتصال والاستدامة، فإن استخدام مصادر القوة الناعمة يفشل في
تحقيق الأهداف المرجوة.
لقد سك جوزيف
ناي Joseph Nyeتعريف "القوة الناعمة" لكنني أعتقد أن ناي استفاد كثيراً من
كتابات جورج كينان George
Kennan (1904- 2005) الذي وضع أسس سياسة الإحتواء containment ضد الإتحاد
السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية، وأدرك بسرعة قوة القيود المفروضة على
استخدام القوة العسكرية بعد أول حرب نووية يشهدها التاريخ. لقد أدرك كينان أن
استخدام القوة ضد الإتحاد السوفييتي الذي يملك هو الآخر أسلحة نووية يمكن أن يؤدي
إلى دمار العالم. ومن ثم، فإنه دعا بدلاً من ذلك إلى استخدام أسلوب "الحرب
السياسة الشاملة" ضد الإتحاد السوفييتي والتركيز على ضرب "الأيديولوجية
السياسية" التي يقوم على أساسها الإتحاد السوفييتي. ومن ثم فقد وضع كينان
اللبنة الأولى لاستراتيجية التحول من الإعتماد على القوة الصلبة إلى الإعتماد على
القوة الناعمة، وكانت بداية الحرب الباردة تعتمد على إقامة علاقة توحد أو تخلق
تشابها وتطابقا بين "الشيوعية" التي تروجها موسكو وبين
"النازية" التي هزمتها الدول الحليفة بما فيها الاتحاد السوفييتي.
وباستمرار ترويج هذه المطابقة بين "الشيوعية" و"النازية" تحولت العقيدة السياسية
التي يقوم عليها النظام السوفييتي بعد فترة من الوقت إلى عقيدة مكروهة تدريجياً في
العالم الغربي، فتم وقف تقدم الحزب الشيوعي الإيطالي، ثم وقع الزلزال الكبير في
دول أوروبا الشرقية بسقوط سور برلين ومن بعده سقوط نفوذ الحزب الشيوعي داخل
الإتحاد السوفييتي نفسه حتى سقط النظام بأكمله بدون استخدام للقوة الصلبة.
لكن كتابات
جوزيف ناي لعبت بلا شك دوراً مهما في تطوير أسلحة المواجهة باستخدام مصادر القوة
الناعمة في السنوات الأخيرة بعد سقوط النظام السياسي في الاتحاد المسوفييتي وفي
دول المعسكر الاشتراكي. وتنامى تأثير أفكار جوزيف ناي بتأثير العولمة وانتصار
التكنولوجيا وفتح الأسواق على سياسات الحماية والإحتكار.
وفي كتابه
مستقبل القوة The Future of Power (2011) عرض
ناي لتفاصيل اثنين من أكبر وأعمق التغيرات التي تعصف بالنظام العالمي وبهياكل
القوة في دول العالم بسبب التحولات المصاحبة لعصر المعرفة والتجديد التكنولوجي،
هذه التغيرات التي يجب أن تؤدي إلى إعادة النظر في مفهوم القوة وفي خريطة توزيع
القوة في العالم. وقد استنتج ناي أن محور القوة يشهد حالياً انتقالاً من الغرب إلى
الشرق power shift كما يشهد في الوقت نفسه تغييراً عميقاً في طبيعة
توزيع القوة من التركز إلى الإنتشار power
diffusion مما ينقل القوة من مراكزها
التقليدية في المؤسسات الحكومية إلى وحدات غير حكومية وهو ما يكرس مظهراً جديداً
من مظاهر العولمة حيث تتكاثر تلك القوى التي تأكل من دور الدولة القومية التقليدية
nation state وتقلل من
قوتها داخلياً وخارجياً.