المركز العربي للبحوث والدراسات : أزمة دستور الطبقة الوسطى: لماذا تهدد عدم المساواة الاقتصادية جمهوريتنا (طباعة)
أزمة دستور الطبقة الوسطى: لماذا تهدد عدم المساواة الاقتصادية جمهوريتنا
آخر تحديث: الأربعاء 04/10/2017 04:11 م بسمة سعد*
أزمة دستور الطبقة

تواجه الولايات المتحدة الأمريكية أزمة دستورية خطيرة إثر اتساع الفجوة بين الطبقات الاقتصادية المختلفة في المجتمع الأمريكي بشكل يهدد من بقاء الطبقة الوسطى، إضافة إلى تركز الثروة في أيدي قلة من كبار رجال أعمال واشنطن، وفي هذا الإطار؛ قدم استاذ القانون في كلية حقوق فاندربيلت وزميل أول في مركز التقدم الأميركي، والمنسق السياسي بحملة" إليزابيث وارن" الانتخابية في مجلس الشيوخ الأمريكى خلال الفترة (2011 -2013) والمحاضر في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، ومؤلف كتاب"Counterinsurgent‘s Constitution: Law in the Age of Small Wars"، الكاتب "جانيش سيترمان" الفائز في عام 2013 بجائزة "Palmer Civil Liberties"، مساهمته الجديدة تحت عنوان "أزمة دستور الطبقة الوسطى: لماذا تهدد عدم المساواة الاقتصادية جمهوريتنا؟"

حيث يحذر الكاتب من انهيار الطبقة الوسطى الأمريكية، لما يمثله الأمر من تهديد كبير على بقاء واستمرار الجمهورية الدستورية الأمريكية، كما يؤكد أستاذ القانون بجامعة هارفارد على أن خطر انهيار تلك الطبقة يفوق مخاطر تنامي نفوذ السلطة الرئاسية وتنامي دولة الأمن الوطني وزيادة الاستقطاب السياسي؛ حيث يمكن للدولة أن تتجاوز تلك المخاطر لكن من الصعب أن يكون هناك جمهورية دستورية أمريكية بدون طبقة وسطى قوية.

تفوق الدستور الأمريكي عن نظيره في أوروبا قديماً

أوضح الكاتب من خلال مساهمته بأن عدم المساواة الاقتصادية مثلت نقطة ضعف النظم السياسية منذ فترات زمنية طويلة تعود للديمقراطيات اليونانية القديمة والجمهورية الرومانية؛ حيثُ توقع القدماء بأن يؤدي هذا التفاوت حتماً لعدم المساواة السياسية التى ينتج عنها حالة من عدم الاستقرار التى يخلف عنها حرب طبقية تؤدى في النهاية لقيام ثورة شعبية، ولقد تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من تجاوز تلك الدوامة المفرغة ليس لعبقرية واضعي الدستور فحسب وإنما يعود ذلك بشكل أكبر للثروة الاقتصادية التي تتمتع بها واشنطن، فلقد كانت واشنطن مقارنة بأوروبا والعالم القديم مثال للمجتمع الذي يتسم بالمساواة الاقتصادية على الرغم من عدم تمتع النساء والعبيد بها في ذلك الوقت.

ولقد تمكن الأمريكيون من تجاوز خطر زعزعة استقرار الدولة نتيجة تفاوت الثروة بين أصحاب الأرض الارستقراطيين والفلاحين الفقراء والتى عانت منها العديد من الدول الأوروبية عندما اعترف واضعي الدستور الأمريكي بأن المساواة الاقتصادية كالحرية السياسية والاقتراع العام الذي يُعد ضمان لكفاءة الممثلين المنتخبين شعبياً إلى حد ما.

ولقد رأى الفلاسفة السياسيون الذين يرجع تاريخهم إلى العالم اليوناني القديم "أرسطو" والفلورنسي "كونيفر ماكيافيلي" أن عدم المساواة الاقتصادية تُشكل خطراً كبيراً على الدولة وأن النظم الدستورية وُضعت لحماية السلطة من الانتهاكات المتمثلة في مواجهة الطبقات الاقتصادية لبعضها البعض، وهو ما دفع الكاتب لتسمية تلك الدساتير بـ" دساتير الحرب الطبقية" التى أخذت بفرضية تعرض المجتمع لعدم المساواة الاقتصادية المهددة لاستقرار الحكومة والتى تدفع مسؤولي الدولة لإعادة ضبط هيكلها الدستوري.

أزمة الدستور الأمريكي الراهنة

أما بالنسبة للدستور الأمريكي وإلى أي مدى يعكس مصالح الطبقة الوسطى، فيشير الكاتب إلى أن الدستور الأمريكي دستور ذو طبيعة مختلفة لم يؤسس على فرضية حتمية حدوث الصراع الطبقي، فالدستور الأمريكي بخلاف "دساتير الحرب الطبقية" يفترض وجود المساواة الاقتصادية النسبية في المجتمع، وأن الطبقة الوسطى ستظل مهيمنة، كما يذكر الكاتب أن الدستور الامريكي لم يرد به نص واحد يرسخ بشكل واضح لبقاء طبقة اقتصادية في الحكومة على حساب باقي الطبقات الاقتصادية، كما لم يرد به نص يستثنى الفقراء من مجلس الشيوخ ولا يستثى الأغنياء من مجلس النواب، مثلما تنص دساتير الحرب الطبقية.

لكن على الرغم من ذلك، يركز الكاتب في مساهمته على أبرز مشكلة يواجها الدستور الأمريكى حالياً والمتمثلة في انهيار المساواة الاقتصادية النسبية في المجتمع الأمريكي والتى تُعد الركيزة الأساسية للدستور، فعقب مرور ثمانية سنوات على الأزمة المالية التى تعرضت لها واشنطن عام 2008، أثار التفاوت بين الطبقات الاقتصادية في المجتمع الرأى العام الأمريكي؛ حيث لم يجد العمال ذوو الدخول المتوسطة خلال العقد الماضي أى زيادة في دخولهم على الرغم من ارتفاع مستوى الانتاج الوطني، وبالتالي كان لذلك تأثيراً سلبياً على مستوى الأمن الاقتصادي لدى الفرد الأمريكي مما أثار غضب اليمين الشعبوي واليسار التقدمي، فلم يكن يتوقع الشعبويون خلال العقد الماضي أن تتغلب النخب الاقتصادية على النظام السياسي الأمريكي؛ حيث تمثل جماعات المصالح ذو الطابع الاقتصادي غالبية جماعات المصالح الأمريكية، وهو ما دفع الكاتب للتساؤل عن كيفية تجاوز النظام الدستوري الأمريكي لمشكلة انهيار الطبقة الوسطى؟

مدى التشابة بين واشنطن في القرن الـ21 والعصر الذهبي

ولقد استشهد الكاتب في اطروحته بالعديد من الشخصيات السياسية الأمريكية الكبرى عبر التاريخ المؤمنة بأهمية المساواة الاقتصادية من أجل الوصول للديمقراطية، فلقد حذر "دانيال وبستر" في عام 1820من مخاطر الديمقراطية القائمة على التراكم السريع للممتلكات في أيدي قلة كما توقع بأن الأمريكيين لن يسمحوا أبداً للحكومة بتقويض تلك المساواة، وعقب ما يقرب من قرن تقريباً، توصل الرئيس الأمريكي الأسبق" ثيودور روزفلت" الذي حكم واشنطن خلال الفترة (1901 – 1909) لنفس النتيجة؛ حيث أكد في عرضه لكتاب بعنوان"Drift and Mastery" للكاتب الأمريكي "والتر ليبمان"، على أنه لن يكون هناك ديمقراطية سياسية حقيقية، ما لم يكن هناك ديمقراطية اقتصادية، ولقد جاءت كتابات كل من "ليبمان" و"روزفلت" حينها على خلفية تصاعد البلوتوقراطية الأمريكية (حكم الاثرياء) في أواخر القرن التاسع عشر وهو القرن الذي سُمي بالعصر الذهبي، مما دفع قاضي المحكمة العليا "هنري براون" في عام 1895، للقول بأن "تأثير الثروة في أمريكا لم يكن أقوى أبداً مما هو عليه الآن"؛ حيث أنه بحلول أواخر القرن التاسع عشر، وصل التفاوت في الدخل إلى مستويات مماثلة لتلك التي نراها اليوم.

وأوضح الكاتب أنه نتيجة لتلك التطورات التي شهدتها واشنطن، قامت العديد من الحركات الإصلاحية بالعديد من الإصلاحات الهيكلية للحكومة، وهنا سلط الكاتب الضوء على إنجازات الحركة التقدمية التى كان أحد أهدافها ترويض عدم المساواة في المجتمع وهو ما تحقق من خلال إدخال اربع تعديلات دستورية خلال سبع سنوات شملت حظر ضريبة الدخل، وتوفير احتياطي نقدي مكن من تقديم آلية للتعامل مع الأزمات المالية دون الحاجة لتدخل الحكومة المدعومة من طبقة الأغنياء.

ولقد استشهد الكاتب بإحصائيات حديثة يوضح من خلالها حجم التفاوت الهائل بين طبقات المجتمع الأمريكي الاقتصادية في القرن 21 مقارنة بالعصر الذهبي؛ حيث أوضح انه في عام 1920، استحوذ 1% من الأمريكيين على ما يقرب من 24% من الدخل القومى للبلاد ثم انخفض هذا الرقم إلى ما يقرب 9% في منتصف السبعينات إلا أنه تزايد ووصل لـ 21% بحلول عام 2014، وفي أحدث استطلاع عام أُجري، أوضح استحواذ 20% من الأمريكيين على 59% من ثروة البلاد بينما أن النسبة الفعلية تعادل 84% وليس 59% كما أوضح الاستطلاع.

وانطلاقاً مما سبق، يكرر الكاتب تحذيره من عدم المساواة الاقتصادية ليس مجرد مسألة عدالة أو كفاءة اقتصادية بل يتعلق الأمر ببقاء النظام الدستوري الأمريكي؛ حيث أنه مع انهيار الطبقة المتوسطة تتركز السلطة في أيدي النخب الاقتصادية، وهنا يري الكاتب أن تسائل "جون أدمز" في خطاب لصديق له في عام 1776، هل الأمريكيون لم يعد لديهم الفضيلة العامة بشكل كاف لدعم الجمهورية؟ يُمثل تحدياً للأمريكيين الوطنيين الحاليين من أجل وضع الاصلاحات اللازمة لإعادة إحياء نموذج حكومة الجمهورية الأمريكية .

وفي النهاية، يستعرض "سيترمان" العديد من الإصلاحات القادرة على تقويض عدم المساواة الاقتصادية في المجتمع الأمريكي والتى تشمل إعادة توزيع الثروة بين طبقات المجتمع المختلفة وتفعيل قوانين مكافحة الاحتكار، إضافة للحد من تأثير المال في الحملات السياسية ومن نفوذ جماعات الضغط وإعادة تنشيط النقابات العمالية، إلى جانب العمل على إعادة بناء الطبقة الوسطى من خلال إدخال تعديلات على الضريبة التصاعدية، كما يضيف الكاتب ضرورة توفير نظام صحي أمريكي قادرة على الحد من التكاليف الضخمة للرعاية الصحية؛ حيث اتخذ الكاتب من تحكم ما يعادل 1400 جماعة ضغط في صناعة الأدوية الأمريكية في عام 2014، دليل على ضعف الخدمات الصحية المقدمة من الحكومة الأمريكية التى تفضي لمزيد من الضغوط على دخل المواطن الأمريكي.

*باحثة في العلوم السياسية