المركز العربي للبحوث والدراسات : الأخبار الكاذبة والتفكير النقدي (طباعة)
الأخبار الكاذبة والتفكير النقدي
آخر تحديث: الجمعة 25/08/2017 01:38 م د. محمود أحمد عبدالله
الأخبار الكاذبة والتفكير

تحيطنا طول الوقت الشائعات والأخبار الكاذبة والتصريحات المفبركة، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي والصحف الإليكترونية أو في وسائل الإعلام التقليدية كالتلفزيون والصحافة الورقية. وكثيرا ما تجعلنا تحيزاتنا وتوجهاتنا السياسية المسبقة مندفعين دفعا للوقوع فريسة لمثل هذه الشائعات والأخبار الزائفة. والمشكلة الحقيقية التي قد تواجهنا أن هذه الأخبار الزائفة أحيانا ما تنشأ في وقت يصعب معه التحقق منها مع غزارة المعلومات وتدفقها، كما هو الحال في الانتخابات العامة.

        والواقع أن المشكلة الحقيقية التي تواجه الحكومات من جراء نشر هذه النوعية من الأخبار هو تفشي حالة من عدم الثقة. أحيانا ما يسعى البعض لإحداثها. فنشر أخبار كاذبة على لسان المسئولين أو المتحدثين الرسميين، ناهيك عن البلبلة التي تحدثها، فإنها في النهاية إن لم تصحح أو تواجه، على النحو السليم، ستؤدي إلى نشوء مناخ من عدم الثقة في الحكومات وسياساتها. بل وإن المشكلة الأكبر تتولد حين تسعى بعض الحكومات لتبنى سياسات قمعية، كتجريم الأخبار والتصريحات والبيانات التي يثبت عدم صحتها تحت دعوى الحفاظ على الاستقرار والسلم الاجتماعي.

        بطبيعة الحال فإن قيام المتلقين بمشاركة هذه الأخبار والمعلومات المغلوطة يبقى شاهدا على التوجهات الفكرية، ودليلا حينا آخر على طموحاتنا وآمالنا المكبوتة التي نتمنى حدوثها، وآلية للتعبير عن مواقفنا من الآخر المغاير لنا، أو وسيلة للتعبير في الوقت الذي تنهار فيه جسور الثقة، أو تختفي فيه وصول التواصل الرشيد بين الحكومات والمجتمع، ويسود مناخ من السرية والتكتم والتخوفات.

 

أمثلة متنوعة

ويمكن أن نضرب أمثلة كثيرة على الدور الذي تقوم به الأخبار المضللة في المجال العام. ففي الحروب النفسية كما هو معروف تستعمل الأخبار المزيفة وسيلة لتضليل الرأي العام وإدخال المخاوف في قلوب الخصوم والأعداء. والأمر قد يتجاوز ذلك لاستخدام السلطة نفسها لهذه الشائعات والمعلومات المزيفة لاختبار قراراتها السياسية والاقتصادية الكبيرة، أو لتضليل الجماهير عن الحقائق أو لتمرير قرارات صعبة.

        وقد ازداد استعمال هذه النوعية من المعلومات المغلوطة في العمل العام، كما رأينا في الانتخابات الأمريكية. إذ بحسب الفيلسوف الأخلاقي بيتر سينجر، قام أحد الأشخاص بنشر فيديو قبل أسبوع تقريبا من الانتخابات الرئاسية الأمريكية على موقع تويتر. ويبين هذا الفيديو أن السيدة هيلاري كلينتون تدير شبكة لدعارة الأطفال. وانتشرت بعدها الشائعة عبر وسائل الإعلام الجديدة. كذلك قام أليكس جونز، وهو إعلامي يدير أحد البرامج الحوارية، بأن هيلاري كلينتون متورطة في إساءة معاملة الأطفال وأن رئيس حملتها شارك في طقوس شيطانية. وشوهد الفيديو أربعمائة ألف مرة. بل واشتعل الخيال للقول بأن أحد المطاعم التي يرتادها رئيس حملة هيلاري هو المكان الذي تدار من خلاله شبكة الدعارة، ما دفع البعض للاتصال بإدارة المطعم وتوجيه السباب والإتهامات، وهو ما دفع ما مدير المطعم للجوء للشرطة التي رفضت التدخل بحجة أن الشائعات تندرج تحت بند حرية التعبير المحمية دستوريا. وفي الآن ذاته، قام أحد الأشخاص الموتورين بمهاجمة المطعم حاملا بندقية نصف آلية ومسدس وسكين، واقتحم المكان، وكاد أن يحدث كارثة لولا تدخل الشرطة.

        الأمر نفسه ينطبق على محاولات تبرير شن الحروب. يمكننا هنا تذكر حالة غزو العراق. فقد اعتمدت الإدارة الأمريكية والبريطانية على معلومات مزيفة وغير حقيقية تفيد باحتمال امتلاك العراق لسلاح نووي. وهو ما اعترف به رئيس الوزراء البريطاني فيما بعد.

  كذلك الحال ما شاهدته الثورة المصرية من محاولات لتضليل الرأي العام. فقد أنشئت صفحات شخصية خصيصا على مواقع التواصل الاجتماعي للقيام بذلك. وسميت الظاهرة بظاهرة اللجان الإليكترونية. وقد حلل باحث فرنسي بعض الممارسات التي تقوم بها هذه اللجان لتضليل الرأي العام، وطبق دراسته على اللجان الإليكترونية التابعة لجماعة الإخوان المسلمين. لقد تبين للباحث أن هناك أسلوبا خاصا لهذه اللجان تقوم بإتباعه لممارسة التضليل. منها مثلا استخدام عبارة "أنا لست إخوان ولست متعاطفا معهم" كعبارة استهلالية أو عبارة ينهي بها المتكلم عباراته، أو إنشاء صفحات لأشخاص ليس لهم مشاركات على الشبكة حتى يصعب على المتتبع معرفة انتمائه الأيديولوجي، وغير ذلك من الطرق والممارسات التي يمكنك كقارئ اكتشافها بسهولة إن جربت تتبع أصحاب الصفحات التي تعلق على الأخبار الملفتة.

        وقد كشفت الصحفية اللبنانية لونا صفوان عن أشكال متنوعة لاستخدام الصور والفيديوهات المزورة في الانفجار الذي حصل في مدينة "مانشيستر" خلال حفل للمغنية آريانا جراندي. منها ما يتصل من نشر مناصرين لتنظيم داعش لتغريدات تحتفل بالهجوم على الرغم من عدم تبني التنظيم للحادث بشكل رسمي. كذلك انتشرت صورة لأحد الأفراد يقول بأنه محتجز داخل مستشفى، وأن مسلحاً يترصّد بالمدخل الرئيسي، ودعا الناشر الجميع إلى الابتعاد عن المنطقة. ثم تبين بعد دقائق أن الخبر غير صحيح. وعادت الصحيفة التي نشرت الصورة لتقدم اعتذاراً عما نُشر، فيما قامت الشرطة بالتحقق من وجود مخاطر بمحيط المستشفى ونشر تغريدات تؤكد أنها لم ترصد أي خطر. كذلك نشرت صورة للمغنية البريطانية التي كانت موجودة بالحادث مغطاة بالتراب والغبار خلال مغادرتها ليتبيّن أن الصورة المنشورة التُقطت لها خلال تصويرها لفيلم قصير عام 2015، وليس بعد تفجير "مانشيستر". كما عمد عدد كبير من المراهقين إلى نشر تغريدات مع صور لا تمت للواقع بصلة عن "أقرباء مفترضين لهم فقدوا التواصل معهم" وذلك بهدف حصد عدد كبير من إعادة التغريد والانتشار.

آليات المواجهة

        ينبغي التأكيد على أن سياسة المواجهة ليست من جانب واحد. فالدولة تتحمل جزءا من المسئولية، وجانب آخر تتحمله قوى المجتمع المدني، والأفراد العموم، علاوة على دور القائمين على أدوات التواصل.

        فمن جهة على الحكومات بناء جسور التواصل والثقة، من خلال تحسين جودة التواصل بين الحكومة والجماهير، باختيار متحدثين رسميين يجيدون فن التواصل، وتأهيل كوادر قادرة إن تولت مواقع ومناصب حكومية أن تجيد هذا الفن وتتقنه. كما أن عليها أن تخصص جهازا للرد على الشائعات وصفحة رسمية متخصصة تتولى ذلك، وأن تتخذ كافة الوسائل التي تمكنها من ذلك.

        كذلك فقد بذلت جهود من جهة المواقع والقائمين على أدوات التواصل الجديدة. فقد أطلقت شركة جوجل ميزة جديدة لمراقبة نوعية المحتوى، عبر إضافة "علامات" التحقق من الحقائق في الأخبار ونتائج البحث. كما عملت الشركة مع غيرها من مطوري مواقع التحقق، مثل PolitiFact  وSnopes، للتحقق من محتوى الملايين من الأخبار والمقالات. وستعمل الشركة على إضافة علامات الجودة التي تقيم الأخبار، ونتيجة لذلك، ستشجع على إتاحة المزيد من الدقة لنوعية المصادر. ومن المثير للاهتمام أن التحرير لن يكون تحت سيطرة لجنة أو شركة واحدة. وفي الواقع، تسمح هذه الميزة للكتاب والناشرين بتقييم وتحرير عمل أقرانهم، ما يتيح للمستخدمين إمكانية التشكيك في البيانات التي يختلفون معها، وخاصة على مواقع مثل ويكيبيديا. كما تخطط الشركة إلى جعل عملية تقصي الحقائق أكثر وضوحا في نتائج البحث، حيث سيعمل المستخدمون على مراجعة وتقييم الأخبار المختلفة، والإدلاء بآرائهم الخاصة بهم. وقد طرحت الشركة هذه الميزة الجديدة أولا في الولايات المتحدة وبريطانيا، ثم قامت بتعميمها حتى أصبحت متاحة على مستوى العالم. كذلك أطلقت مجموعة مكونة من 37 وسيلة إعلام فرنسية ودولية، بدعم من شركة جوجل، منصة التحقق من الأخبار المفبركة، للكشف عن المعلومات الوهمية التي يمكن أن تؤثر على الانتخابات الرئاسية الفرنسية.

وعلى نفس المنوال قام موقع فيسبوك بنشر إعلان بصحيفة الجارديان البريطانية يحدد فيه مجموعة من الإرشادات التي يقدمها للقراء لتجنب الوقوع ضحية للأخبار المزيفة، وتمثلت هذه الإرشادات في عشرة: أولها ضرورة التشكك في العنوان، فكلما كان العنوان غير منطقي وغريبا يفضل عدم الوثوق به. وثانيها التحري من رابط الخبر. فهناك مواقع تحاكي المواقع الأصلية. أي أن هناك مواقع مزيفة تحاكي المواقع الأصلية. وثالثها التحقق من مصدر الخبر، ويفضل الاعتماد على مصادر الأخبار المجربة وذات المصداقية. ورابعها تحري تنسيق الخبر. فالأخبار المزيفة بها أخطاء لغوية وعلامات في التنسيق تدلل على عدم صحة الخبر. وخامسها التدقيق في الصور المنشورة، حيث تحتوى الأخبار المزيفة على صور أو فيديوهات مجلوبة من غير سياقها. وقد انتشر هذا النموذج في السياق العربي كثيرا. وسادسها تحري تاريخ الخبر. وسابعها التأكد من الشواهد المقدمة في الخبر، أو التأكد من المصادر المعتمد عليها في الخبر، كما هو الحال في الاستناد في الخبر لخبراء دون ذكر أسمائهم للتحري منهم إذا ما كانوا قد أدلوا بالخبر من عدمه، أو القيام مثلا بإعادة تحوير نص المنطوق المقدم من أحد الخبراء. وثامنها التأكد من نشر الخبر في أكثر من مصدر. فتعدد المصادر دليل كاف على صحته. وتاسعها التأكد من أن الخبر ليس مزحة أو محاكاة ساخرة، بالنظر في تفاصيل الخبر، ونبرة اللغة المستعملة في نقله. وعاشرها ضرورة التحري من منطقية الخبر المنشور، وعدم نشر أي خبر لم يتم التأكد من مصداقيته.   

        وفيما يتصل بدور المجتمع المدني يشار هنا للتجربة الأوكرانية في هذا المجال. فقد تم تنفيذ مبادرة هدفت لتعليم الأوكرانيين مهارات تجنب الوقوع في براثن التلاعب بالعواطف والأهواء. وقد تعلم بناء على هذه المبادرة خمسة عشر ألف أوكراني مهارات ملموسة في تجنب التلاعب العاطفي، والتحقق من المصادر والوثائق، واستكشاف المحتوى المدفوع والخطاب المحرض على الكراهية، وفضح مقاطع الفيديو والصور المزورة. وكانت النتائج مبهرة؛ فقد تمكن المشاركون من تحسين قدرتهم على التمييز بين الأخبار الجديرة بالثقة والأخبار الزائفة بنحو .%24 والأفضل من هذا أنهم قاموا بعد ذلك بتدريب المئات من الناس على كشف التضليل، وبالتالي مضاعفة التأثير الإجمالي للمبادرة.

وفي السياق العربي، هناك محاولة وحيدة. وتتمثل في موقع "تأكد"، وهو موقع يهدف إلى تحري إلى الأخبار المكتوبة والمصورة، إذ يقوم بعرض الصور والفيديوهات الأصلية وكيفية استخدامها تغيير دلالتها ومعناها في سياق جديد. والهدف الأول الذي تسعى مجموعة "تأكد" إليه هو رصد الأخبار المتعلقة بالشأن السوري والتنبه لكل ما قد يبدو غير دقيق خاصة من جهة إعادة نشر الفيديوهات والصور القديمة التي قد تتسبب بالأذى لمجتمعات بكاملها، في ظل النزاعات والحروب القائمة.

        ويبقى في الأخير التأكيد على الدور الذي ينبغي أن يتولاه الأفراد أنفسهم كل في مجاله. حيث ينبغي أن يتعلم الأفراد ويعلمون غيرهم عبر شبكة الإنترنت، الآليات والطرق التي ينبغي تعلمها لتجنب تصديق الأخبار والمعلومات غير الموثقة. إن أفضل السبل لتحقيق ذلك هو التأكيد على ضرورة الاعتماد على التفكير النقدي الخلاق. فمن خلال التفكير النقدي يمكن لمتلقي الأخبار تفحص الروابط التي يحصلون عليها وقرائتها بدقة متناهية قبل القيام بمشاركتها على الشبكة. والتفكير النقدي مهارة ينبغي أن تكون محورا أساسيا في التعليم العام. إذ ينبغي أن نعلم أطفالنا ألا يتقبلوا المعلومات التي يحصلون عليها دون تفكير، بل عليهم مراجعتها ونقدها، بما يصلون إليه من حقائق مغايرة لها. بهذه الطريقة يمكن بناء جسور الثقة.